أبحاث ودراساتابراهيم المحمدافتتاحية العددمانشيتملف العدد 62

خطاب الكراهية في شمال وشرق سوريا تاريخيّاً

إبراهيم الحمد

إبراهيم الحمد

لم تفارق الكراهية منطقة شمال شرق سوريا، منذ عام 1958 أي إبان الاتحاد السوري المصري والذي ترأسه الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي يعدّ داعية الاتحاد القومي.

فبعد الوحدة استلم عبد الحميد السراج وزارة الداخلية في الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة، وكان عبد الحميد قبل الوحدة قد عيّن رئيساً للمخابرات (المكتب الثاني، المباحث).

اهتم عبد الحميد السراج ومن ورائه جمال عبد الناصر بمنطقة شمال شرق سوريا ذات التنوع الديموغرافي الكبير, ولم يكن الاهتمام إيجابياً بل كان سلبياً يهدف إلى صهر المكونات الموجودة في هذه المنطقة في بوتقة القومية الواحدة. لكن السراج لم يكرر تجربة الفرنسيين الذين أيدوا الحرب الأهلية التي استمرت من عام 1945 إلى عام 1946 بين البدو والكُرد, والتي انتهت دون أن يتغلب طرف على الآخر, فتمت المصالحة بين العشائر الكردية المتناحرة.

بل قام السراج وجمال عبد الناصر برسم خطة التغيير الديموغرافي، وكانت الخطوة الأولى سبر أغوار المجتمع استخباراتياً, فقام عبد الناصر بإرسال مدرّسين من مصر بحجة التدريس في منطقة شمال وشرق سوريا, يعملون لدى المباحث ويحرّضون المكونات ضد بعضها البعض على أسس قومية عرقية، ثم الخطوة الثانية جاءت بتهجير قريتين من الساحل السوري ومن منطقة طرطوس بالتحديد وإسكان هاتين القريتين في الجزيرة، وهاتان القريتان هما (الزهيرية، وتوينة) ولكن انفصال 1961 حال دون تنفيذ الغاية الكبرى والتي كان عبد الناصر ينوي ترحيل سكان من مصر وإسكانهم في الجزيرة, ولكن إذا الانفصال حال دون تنفيذ الغاية؛ فإن الفكرة لم تنفصل عن أذهان السياسيين, ففي عام 1975 تمّ تهجير عدد كبير من ضفاف الفرات بعد إقامة سدّ الفرات هناك، وإسكانهم في منطقة الجزيرة.

أما الرد الناصري على المكون الكردي والذي جاء قاسياً, فكان سببه فشل التمرد الناصري الذي قاده عبد الوهاب الشواف ضد نظام عبد الكريم قاسم في العراق, وتذرع عبد الناصر بأن الكُرد في العراق قد أفشلوا التمرد لاسيما في الموصل, فاعتبرهم ضد الوحدوية واتهمهم بالانفصاليين.

وأنا أعتذر عن التكلم بهذه المواضيع وهذه المسميات التي تلامس الأعراق وخصوصاً في بحث يحمل عنوان خطاب الكراهية, ولكنني مضطر لسرد هذه الحقبة الزمنية والتعقيب على أحداثها التي تسببت بتشظي المجتمع في هذه المنطقة بسبب الخطاب السياسي الذي عزف على وتر العرق, مما أصدر ألحاناً شاذة مازالت تزعج أسماعنا حتى اليوم.

فالمجتمع القبلي الذي كانت تسوده الأعراف والعادات والتقاليد المشتركة والتي تنوب مناب القانون المدني لم يبتلع الآخر حين النزاع, بل كان النزاع يُحلّ وفق أعراف العشائر, ولكن مع امتداد القانون الذي من سماته العدل أصبحت الخلافات خلافات وجود.

أصبحت الخلافات تمسّ مبدأ الهوية المقدس عند جميع البشر, بل هو تابو لا يقبل المساس به. فما بالك أن تمس هوية قومية بأكملها. ولسان حال الخطاب القومي يقول: “لا وجود سوى لقومية واحدة في هذه البلاد”. ولكل فعل رد فعل.

لم تكن ردة الفعل عن طريق العنف بل أخذت طابعاً مسالماً, بل تشد بالقومية التي أصبحت في خطر الانصهار. لم تعد الأرض التي تم مصادرتها وتوزيعها هي الشغل الشاغل, بل الأهم الهوية والوجود, ومن هذا المنطلق لم يتوقف يوماً خطاب الكراهية في هذه المنطقة.

لم يعد التعايش بين المكونات سوى اسمياً والعلاقات الاجتماعية قائمة على أسس عرقية أو دينية أو عشائرية أو مناطقية, ولم يعد الاختلاط الثقافي كما كان من قبل، بل أصبح هناك شرخ وخوف وحقد يورثه الآباء للأبناء.

وإذا أردنا أن نعود إلى سابق عهدنا علينا أن نمتاز بالشفافية, بأن لا نختبئ خلف إصبعنا, وعلينا أن نضع إصبعنا على مكامن الخلل الذي تسبب لنا بهذه المآسي. يجب أن لا نجمّل صورة تاريخ أو حاضر لا يستحق التجميل، بل لابد من إظهار كل شيء كما هو, عندها يمكننا أن نتلافى الأخطاء التي ارتكبت والاستفادة من التجارب.

الفرع الأول: تأثير خطاب الكراهية على التنوع الثقافي والديني

لم يكن الخطاب الديني ذا تأثير على المنطقة بالذات على خلاف باقي المناطق في سوريا, فكان التأثير القومي أكثر عمقاً لوجود عدة قوميات تسكن هذه المنطقة, وحتى هذا التأثير القومي حديث العهد كما أشرنا سالفاً جلبه الفكر السياسي الشمولي.

أما سبب انعدام الحساسية الدينية رغم تعدد الأديان, فأنا أرجئه إلى الميل الصوفي في العقائد الدينية المنتشرة في منطقة شمال وشرق سوريا, والطريقة الصوفية متسامحة إلى أبعد الحدود مع باقي الأديان, فهي تعتبرها على أنها واحدة ما دامت تعبد رباً واحداً ولا تهمّ الطريقة في عبادته.

والمذهب الصوفي ليس مذهباً عند دين واحد, أي هو ليس حكراً على دين بعينه بل هو طريقة عقائدية تجنح إليها كل الأديان, لذلك لم تسجل أي حادثة نزاع دينية في تاريخ هذه المنطقة أبداً, رغم وجود الكثير من الأديان المتجاورة في هذه المنطقة لاسيما في القامشلي والحسكة وتوابعهما, لذلك لا يتحمل الخطاب الديني ولو جزءاً بسيطاً من الشرخ الاجتماعي والثقافي الذي فكك المجتمع, إنما السياسة القومية والنزاعات القبلية هي التي تسببت بالتردي الثقافي في هاوية القوميات والتحالفات والأحزاب والأيديولوجيات الموازية. ودائماً كنا نسمع نغمة اللحمة الوطنية والوحدة الوطنية والتعايش المشترك في سوريا، ولكن لم يكن الوضع الاجتماعي والثقافي كذلك في يوم من الأيام.

سوريا فسيفساء اجتماعية لا تُحكم بسياسة اللون الواحد, وهذه السياسة جعلت كل طائفة أو قومية أو مذهب أو أثنيّة أو قبلية أو ملة أو نحلة تنغلق على نفسها حفاظاً على خصوصيتها من الضياع, فتحولت سوريا إلى مجموعة من الدوائر الاجتماعية المغلقة المتوازية اللا مندمجة مع ما يجاورها من دوائر, فأصبحت لغة الشارع مغايرة تماماً للغة الدائرة, والضرورة الأمنية والسياسة غير غافلة عن هذه الحقيقة, ولكنها على أهبّة الاستعداد في حال تقاطعت الدوائر, فمن الضروري للسياسة الشمولية أن يتجزأ المجتمع وأن تتناحر هذه الدوائر لكي يسهل السيطرة عليه, لذلك لم تكن الوحدة الوطنية سوى شعار، لا السياسة تطمح لتطبيقه ولا المجتمع مستعد للمواجهة لتطبيقه، وعندما ظن المجتمع استعداده للتطبيق عام 2011 ورفع شعار “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد” في بداية الحراك, عندها أيقن أنه لم يكن يوماً واحداً وبأن هذا الشعار يحتاج للتطبيق برزخاً من المعاناة وبحراً من الوعي المجتمعي.

هنا أصبحت الثقافة الاجتماعية والسياسية للمجتمع الثائر على المحكّ، فقد كان حراكاً عفوياً دون نظرة مستقبلية لما ستؤول إليه الأمور السياسية مستقبلاً، لغياب الوعي السياسي في المجتمع ـ الذي من شأنه لو وُجد ـ لجنّب البلاد والعباد مغامرة القفز في المجهول.

هنا كشفت الستارة عن مزاعم اللحمة والوحدة الوطنية والتعايش المشترك، فبعد نصف سنة تقريباً من الهتافات في الشوارع خطف السلاح أمل الثائرين السلميين, وبدأ دور الخطابات العنصرية الداعية للكراهية على أسس دينية وقومية وحزبوية ومناطقية وعشائرية وأثنيّة, والشمال الشرق السوري كان وعلى الدوام برميل بارود مستعد للانفجار, وليس بحاجة سوى لشرارة, ولكن هذا البرميل صمد وكأنه أفرغ محتواه ولم يتأثر.

تشكلت جماعات مسلحة في هذه المنطقة ولكنها كانت شكلية, أغلبها أسِّس على مبدأ قبلي أو أثنيّ أو قومي للحماية أكثر مما هي للهجوم, وفي ليلة وضحاها انقلبت الطاولة وظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام, ولن نسرد أحداث حرب هذا التنظيم لأن الجميع كان شاهداً على الأحداث.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان شعب هذه المنطقة أبعد ما يكون عن التطرف الديني، فكيف قبل الكثير من أفراده القتال تحت لوائه؟.

سأبقي السؤال مفتوحاً ولن أستطيع الإجابة عليه في هذا البحث.

ولكن النتائج التي صاحبت الأحداث كانت كارثية بكل المقاييس, ففي منطقة متعددة الأعراق والأديان والقبائل كان أملها في الحراك الخروج من دوائر الأعراف والأديان والأيديولوجيات, وجدت نفسها في دوائر أضيق، والسبب هو الوهن الثقافي الذي لم يقم بدوره لفقدانه البوصلة التوعوية المناط بها لتقريب وجهات النظر بطريقة ترضي الجميع, وبقيت الفكرة تحارب نقيضتها ولم تدخلا في جدل ديالكتيكي، الذي كان من شأنه إنتاج فكرة ثالثة متفق عليها, لكن إيمان كل طرف بامتلاكه الحقيقة وشيطنة الطرف الآخر عبر الخطابات البغيضة, زادت وتزيد الطين بلة، فالثقافة الطائفية والقوموية الرديكالية المتطرفة, أقصت التعقل والمنطق وسادت بدلاً منها غريزة القطيع، وراح كل طرف يسعى لإلغاء الآخر نهائياً, لأن وصوت السلاح عندما يعلو على صوت العقل؛ ستكون الدماء حكم المتخاصمين والدم يُسيل الدم ولا يحقنه ولن يحقنه أبداً.

وبعد انتهاء هذه الحروب نحن بحاجة لمصالحة شاملة مع أنفسنا, وأقول بعد انتهاء الحرب لأننا الآن في مرحلة إيجاد الهوية, نحن في مرحلة البحث عن الذات, وعندما نجدها نتصالح معها فقط لأن الإنسان إذا تصالح مع ذاته تصالح مع العالم ككل.

لأن هذه الحرب قد أماطت اللثام عن الكثير من المسائل التي كانت  غامضة، وعن الكثير من الجهل عن الآخر الذي كان قريباً غريباً, وانفتح المجتمع مجدداً على السياسة الاجتماعية التي من شأنها أن تشرح وجهات النظر بشكل سلمي بين مكونات الشعب, الذين لهم البقاء مهما تعددت الأحزاب والسياسات والسيطرات المسلحة, والتي من شأنها التبدل والتغير وربما الزوال، ولكن البقاء للشعب, والحوار المفضي إلى النقد واختلاف وجهات النظر أفضل ألف مرة من الصمت المؤدي إلى الحقد.

الوطن يتسع للجميع، وجماله يزيد بتنوع ثقافاته، فلماذا الخوف من الثقافات والعقائد؟.

إنّ من يخاف على هويته الحضارية في خضم المجتمع المنفتح تكون أسسه التي يقيم عليها هويته هشّة لا تقاوم الانفتاح لعدم أصالتها فتذوب, ومن يخاف على عقيدته الدينية من الزوال فهذا دليل على عدم قناعته هو بعقيدته, لذلك يهرع إلى العنف ما إن يسمع بخطاب الدفاع عن الدين. إنّ المبدأ الحق لا يحتاج إلى العنف للدفاع عن مصداقيته، لأنه أصيل يستمد حقيقته من العقل ومن المنطق, ويفرض نفسه على الواقع، أما المبدأ الزائف، فهو الذي يحتاج إلى السيف للدفاع عن صدقه بعد انهزام العقل في الدفاع عنه.

لذلك يقول ابن رشد في كتابه فصل المقال: “الحق لا يضاد الحق”.

يكفي صراع سياسي مؤدلج مرة بشعار قومي، ومرة أخرى بخطاب ديني, والغاية معروفة لذوي الألباب.

لقد تركت هذه الحرب شرخاً اجتماعياً كبيراً, ولا يرأب هذا الصدأ سوى الوعي والتعالي على الكراهية والبغض، وكما يقول بيتر صاموئيل: (الدين لله والوطن للجميع) حتى هذه العبارة التي قالها السياسي البريطاني صاموئيل هناك راديكاليون كفّروا من يتلفظ بها, وحجتهم ألا تساوي مع باقي الأديان.

إنّ الحديقة عندما تزرع بصنف واحد من الورود تفقد جمالها, وإن لوحة الفسيفساء إذا عُبث بأحجارها شُوِّهَت.

 

الفرع الثاني: تأثير خطاب الكراهية على التعايش المشترك في شمال وشرق سوريا

عندما يسود خطاب الكراهية فإن التعايش المشترك يتحول إلى معترك.

والآن تتجاذب منطقة شمال وشرق سوريا ثلاث فئات مسلحة لا توفر أية واحدة منها إبراز مساوئ الآخرين وشيطنتهم وتقديم نفسها على أنها الأفضل, وبصرف النظر عمّن هو الأفضل ومن هو الأجدر, فإن المهم هو لجم الخطابات التي تدعو للكره والبغضاء والتمييز والشيطنة. فحتى للحرب أخلاقيات يجب مراعاتها.

ويجب مراعاة مشاعر المجتمع لأن المشاعر السياسية سريعة التعافي, فعدوّ اليوم قد يغدو صديق الغد والعكس صحيح، ولكن مشاعر المجتمع بطيئة التعافي وتحتاج إلى وعي وثقافة مفقودين في ظل ثقافة السلاح السائدة, يحتاج تعافي المجتمع إلى عقل بارد يشرح بشفافية الذنب الذي أدى إلى المقصلة.

تجاذب رأي المجتمع عن طريق الكره للآخر وتخوينه وتهديده، لا يحل مشكلة أبداً, لأن هذا الأسلوب اللا واعي يكون في حالة حرب دنكيشوتية لا طائل منها؛ لأن لكل فئة من يدعمها فلا الذخيرة تنفد ولا هم مستسلمون.

ونظرية نحن الأكثرية وهم الأقلية وما يترتب عليها من فرض النير في عنق الآحز لن تجدي نفعاً, لأن الأقليات على مرّ التاريخ دائماً تكون الأقوى, لأنها مجتمعات موحدة ومغلقة وبأعلى الجهوزية للدفاع عن وجودها بشتى الوسائل الممكنة.

وأقول هذا ليسمع من لديه فكرة الأكثرية والبلد لنا ومن هذا القبيل, فالبلد للجميع أو ليس لأحد. وهذا قانون ديموغرافي إما أن يكون البلد للجميع أو لن يكون لأحد, وأخص بالذكر سوريا وذلك بحسب الظروف الدولية والإقليمية التي تتلاعب بها.

لن يكون هناك تعايش مشترك  إذا نظرنا إلى الآخر على أنه دخيل وليس أصيلاً, ولن يكون هناك مستقبل لأولادنا إذا نقلنا البغض والكره إلى عقولهم، لأن مصيرهم سيكون كمصير معاناتنا من جراء أحقادٍ ورثناها, ولن يكون هناك تطور على كافة الأصعدة إذا لم يضع الجميع أيديهم ببعضها, ومهما كانت السلطة الأساسية منفتحة لن ترتقي بمجتمع متنافر.

إنّ الأحقاد تورّث الأحقاد, وهكذا حتى يأتي يوم يُفسح فيه المجال لهذه الأحقاد للانفلات من عقالها, فتولد أحقاداً أكبر منها, حالها حال كرة الثلج.

إنّ التعايش المشترك ليس بالمسألة التعجيزية وليس نظاماً مستورداً غير أصيل، بل هو الحل الأمثل النابع من الواقع المعاش، هو تجربة سياسية اجتماعية اقتصادية ثقافية قائمة في زمان ومكان واقعيين, وليس افتراضياً, وهي ليست بالتجربة المستحيلة إذا ما تعرّف الجميع على وجهات نظر بعضهم البعض. ولكن تتطلب هذه التجربة انتزاع الأحقاد والنظر إلى الآخر على أنه شريك وليس عدوّاً، ليصبح الآخر أنا وأنا الآخر, ومن يستطيع صنع العدو قادر على صنع الصديق, ولن يستطيع أحد إلغاء الآخر بل يجب عليه تقبّله، هذا إذا كان الحقد ملازماً صاحبه, والزمن والانفتاح والتعامل والتعرف على الآخر كفيل بوأد الأحقاد.

لقد تقولب المجتمع وتحزّب وتأدلج وفق اتجاهاته السياسية التي لم يكن يوماً رأيُ هذا المجتمع فعالاً أو مسموعاً في أوساطها، لأنها سياسات مفروضة عليه سواء قبلها أو كرهها, ويتوجب عليه التفاعل معها.

تنوع الثقافات في هذه المنطقة يعطيها مخزوناً غزيراً من التنوع الذي من شأنه أن يرتقي بالوعي المجتمعي, ويوسّع أفقه المعرفي الذي يستقي من هذه الينابيع التجربة الحية من خلال الاحتكاك, وأن يكون هذا التنوع مبعث محبة لا كره, دافع إعجاب لا حسد, ولذلك يجب توسيع الصدور بعد أن امتلأت القبور.

لقد عاش أجدادنا آلاف السنين متآخين على هذه الأرض, لم يتقاتلوا كما تقاتلنا, والمشكلة أنه قتال بالنيابة عن غيرنا لفرض مصالح وسياسات ليتها تخدمنا, وهذه نتيجة طبيعية من وجهة نظري, فالجهل يجعل من صاحبه أداة, ومجتمعنا بحاجة للعلم والمعرفة والبعث الجديد لكي يستطيع أن يعايش المختلف. نعم نحن لا نطلب الاحتواء بل التعايش.

وهنا يبرز دور المثقفين والحكماء والمنابر الموضوعية لكي تقوم بدورها للارتقاء بالمجتمع, وبناء جيل جديد لا ينظر إلى المختلف على أنه شاذّ, بل ينظر إليه على أنه مكمّل لوجوده.

وهنا دور الأسرة التي يجب أن تجنب أولادها الكره والتهجم على الآخرين وزرع بذور الاستعلاء واحتقار الآخرين في نفوس الأولاد, لكي لا تزرع بذور الأمراض النفسية في نفوس بريئة من الأحقاد الموروثة عبثاً, فالمجتمع القائم على المحبة هو المجتمع الذي لا يهاب المكائد.

 

المبحث الثالث

المطلب الأول: طرق الوقاية وآليات تحجيم خطاب الكراهية

لقد نشر “مركز اعتدال” المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف على تويتر خريطة طريق لتحجيم خطاب الكراهية ومحاصرة دعاته, تضمنت هذه الخريطة ست خطوات:

ـ الخطوة الأولى: سن تشريعات لتجريم الكراهية, وقد سنت هذه القوانين ولكنها مازالت في طور التطبيق, لأن تطبيقها مرهون بوعي الناس بهذه الظاهرة الخطيرة.

ـ الخطوة الثانية: تشجيع الناس للإبلاغ عن جرائم الكراهية, أي عدم التزام موقف محايد من قبل المجتمع إزاء ظاهرة الكراهية, التي تبدأ مع الآخر وتنتهي في بيتك. لذا لابد من مكافحتها قانونياً واجتماعياً وثقافياً من قبل المجتمع.

ـ الخطوة الثالثة: إيجاد مؤسسات مجتمع مدني للتدخل القانوني, وهنا لا بد من تخصيص مؤسسات تختص بالرقابة ورصد مبعث الكراهية في المجتمع, ومكافحته بالحوار والنقاش أولاً, ثم بالقانون إذا استعصى مكافحته بالعقل والمحبة.

الخطوة الرابعة: إطلاق مبادرات لنشر قيم الاعتدال, وهنا على جميع مؤسسات المجتمع الدينية والثقافية والاجتماعية والعسكرية وغيرها, العمل التوعوي انطلاقاً من منابرها بنبذ التطرف والتعصب ونشر المحبة والاعتدال بين أفرادها وجماعاتها.

الخطوة الخامسة: تعزيز دور التعليم في دعم التعايش الإنساني, وإبداع مناهج دراسية تعتمد العدالة الاجتماعية مبدأ لها دون تفرقة أو تمييز بين البشرية جمعاء.

الخطوة السادسة: تجفيف منابع الكراهية, وتسليط الضوء على الفكر المتطرف الذي يعتمد إفشاء الكراهية ومعالجته بالطرق المناسبة, ومتابعة تحركاته التي تضرّ بالمجتمع ككل مع استمرارية التدخل لإحباط مخططاته.

ويرى الكاتب الصحفي ضياء رشواني أن القوانين المحلية لديها القوة لتحجيم وسائل الإعلام التي تخرج عن إطار القواعد المتعارف عليها في خطاب الكراهية والتمييز الذي برأيه لا يحل إلا بالحل المجتمعي.

ومن بين الدول العربية كانت الجزائر سبّاقة للوقاية من التمييز وخطاب الكراهية ومكافحتهما, وإنشاء مرصد وطني للوقاية منهما، ونشر القانون في الجريدة الرسمية.

أما في تونس فإن منظمة المادة 19 تعمل بالشراكة مع وزارة التربية لنشر الوعي بين التلاميذ المعرّضين للانجذاب لخطاب الكراهية، وراحت هذه المنظمة تقوم بتدريب كادر يهدف إلى إعداد دليل بيداغوجي ينطلق منه المدرسون في تعليم التلاميذ حرية التعبير والكشف عن خطاب الكراهية للوقاية منه. ثم لا بد من العودة للمجتمع كونه الغاية والهدف.

انطلاقاً من:

أولاً – الفرد : على الفرد أن يبتعد عن التعميم والنظرة الشمولية والأحكام المسبقة التي يطلقها على الآخرين, وأن يكون أكثر موضوعية ومنطقية بما يخص الحكم على سلوكيات الناس, وأن يترك مجالاً للتعارف والاطلاع على ثقافة الآخرين, ليتسنى له الحكم عن معرفة وليس عن جهل, فيكون بذلك قد جنّب ذاته الوقوع في فخّ الإشاعة التي يبني الكثير من الناس أحكامهم على أساسها, فيكونوا ضحية للأحقاد والكراهية المبنية على الجهل.

ثانياً – الأسرة: إن الأسرة تبدأ في زرع أولى البذور التي تكوّن شخصية الإنسان, فإما تبذر المحبة وقبول الآخر واحترامه, وإما تبذر الكراهية والعنصرية البغيضة التي تتحكم مستقبلاً في سلوك الشخص ونظرته لمن حوله, فدور الأسرة ليس مقتصراً على توفير المأكل والمشرب والمسكن والملبس والرعاية الطبية وحسب, بل يقع على عاتقها تشكيل الشخصية السليمة وبثّ الصور الذهنية الصحيحة تجاه الآخر, واحترام التنوع والاختلاف على أنه خير للمجتمع لا العكس.

ثالثاً – المؤسسة التعليمية: هي العامل الثاني في التأثير على شخصية الإنسان, حيث يقضي في هذه المؤسسة ساعات طويلة يتلقى المعلومات التي تشكل عقليته وسلوكه, وللأسف نحن نعاني كثيراً من أزمة في المناهج الدراسية التي تتجلى فيها التفرقة بين مكونات المجتمع والخطاب العدائي تجاه الآخر, بسبب الدين أو العرق أو الجنس, وهذا ما أنتج عقولاً قد تشبّعت بالعنصرية والكراهية.

ويكمن الحلّ في مراجعة المناهج الدراسية وتنقيح ما تلوّث منها بالكراهية، وتضمينها موضوعات وأنشطة تعمل على تعزيز ثقافة قبول الآخر واحترام الخلاف والتعددية, وتبتعد عن إثارة النعرات والطائفية, وكذلك وضع أدلة مرجعية للمعلمين تعينهم على تحصين الطلبة ضد الكراهية وكافة أشكال التمييز, وتركز على إبراز أن الاختلاف والتنوع هو سنة كونية, وأن البشر فيما بينهم يتكاملون ويتعاونون من أجل عمارة الأرض وصلاحها مهما اختلفت عقائدهم أو أعراقهم أو أجناسهم.

– آليات تحجيم خطاب الكراهية (لغوياًـ منطقياًـ إعلامياً)

إن خطاب الكراهية خطاب لفظي, واللفظ في علم اللسانيات يخضع لقواعد الخطاب والتخاطب لفهم مقصد المتكلمين من خطابهم.

وللحد من خطاب الكراهية وتحجيمه علينا العودة إلى قواعد اللغة وقواعد الألفاظ، فاللغة هي التي تترجم مشاعر الإنسان وثقافته للآخرين, ومن خلالها يستطيع الإنسان التميز وإبراز ذاته. وبين هذه المفردات تُدسّ الآراء والأفخاخ المراد نشرها, وأغلب الأفعال قبل أن تنفذ كانت أقوالاً.

لذلك لابد من قواعد تضبط الكلام كي يكون موزوناً, وبنفس الوقت يجب أن تكون هناك قواعد تحليلية لأفعال الكلام.

وكوننا نتحدث هنا عن اللغة؛ فلا بد من التطرف للفيلسوف جو أوستن صاحب نظرية أفعال الكلام.

والذي قسم أفعال الكلام إلى ثلاثة أقسام:

أولاًـ الفعل اللفظي: الجملة المفيدة التي تتفق مع قواعد اللغة.

ثانياًـ الفعل غير اللفظي: الأمر والنصيحة.

ثالثاًـ الفعل المترتب عن النطق, تأثير العقل اللغوي في المتلقي، طاعة الأمر, الاقتناع بالنصيحة وتصديق المتكلم أو تكذيبه.

كما قسم الجمل إلى ثلاثة أقسام للتفريق:

ـ خبرية: تستعمل للإعلانات والتصريحات والدعاوى وسرد القصص.

ـ استفهامية: لطلب إجابة لفظية من المخاطب.

ـ طلبية: إصدار الأوامر والاقتراحات.

هذه النظرية التي غايتها تحليل الكلام وفق قواعد اللغة من أجل استقراء المعاني، تثبت أن اللغة ليست للإخبار فقط, بل تؤدي وظائف كثيرة أهمها التأثير الاجتماعي عبر الصيغ الإنشائية, فهي تصدر أحكام الطلاق والزواج والأحكام العدلية وعقود البيع والشراء…. إلخ وتحولها إلى فعل, ولكن يجب ألا تكون هذه الصيغ الكلامية نافذة إلا إذا صدرت من متكلم معين لمخاطب معين في زمن معين ومكان معين وظرف معين.

فبحسب أوستن (إذا أبصرت سفينة قيد الإنشاء والتركيب والبناء فقصدتها، وأخذت الزجاجة المعلقة في محل مخصوص من هيكلها وكسرتها على مقدمة السفينة وصرّحت إشعاراً بأنني أسمي هذه السفينة السيد ستالين.(18)

ولا بد لنا من أن نتفق على أن:

  • هذه السفينة لم يحصل لها تسمية بهذه الطريقة.
  • وأن هذا فعل يُخجِل ومأسوف عليه.

لقد قمت هنا بالإجراءات الشكلية وأنا أسمي السفينة, ولكن فعلي عديم الأثر وكأن لم يكن, لأنني لست الشخص الموكل إليه وليست لدي الصفة الأهلية لإنجاز هذا الفعل، وهذا نوع من التقليد الممسوخ كالتزاوج مع القردة).(19)

لقد أطلق أوستن على هذا الفعل الخروج عن مقتضى الحال.

وماذا لو أسقطنا هذا على واقعنا المعاش من حيث التصريح والإشعارات التي تنشر في كل لحظة من الإعلام والسوشيال ميديا وغيرها, هل هي مطابقة لمقتضى الحال يا ترى؟.

القول بحسب “جون روجرز سورل” وهو تلميذ أوستن هو شكل من أشكال السلوك الاجتماعي الذي تضبطه قواعد محددة. (20)

بناءً على ما سبق: هل توجد قواعد ضابطة لخطاباتنا أم هي خطابات أسمّيها مجازاً سريالية ناتجة عن اللاوعي وكيفما اتفق دون المبالاة بنتائجها, أم هي خطابات متعالية على القواعد وممنهجة هادفة غائية؟.

وهناك خطابات تندرج على أنها وقعت في الكراهية من دون قصد من الإعلامي أو الصحفي, وهذا لا يبرر وإن كان غير مقصود؛ لأن هذا يدل على قلة الخبرة, وقلة الخبرة أحياناً ترقى إلى مستوى الجريمة لأن نتائج فعلها قد تؤدي إلى جرائم.

أما بالنسبة إلى الخطاب الممنهج الهادف إلى الكراهية, فيمكن دراسته وتحليله من خلال ألفاظه, لأن علماء النفس اعتبروا الأفعال الكلامية شرطاً أساسياً لاكتساب اللغة كلها والتمكن من الغوص بعيداً في سيكولوجيا النفس البشرية. (21)

وبدراسته ـ الخطاب الممنهج ـ بعمق وفق ضوابط وقواعد أفعال الكلام, يمكننا أن نسبر أغوار أعماقه ونتوصل إلى نتائج تفيدنا بالوقاية منه وإدراك أهدافه وغايته, لأن هذا الخطاب مازال قولاً وقبل أن يصبح فعلاً يمكن تدارك نواياه قبل تنفيذها.

بهذه الحالة يمكننا أن نقطع الطريق على الخطاب بفضحه وإبطال فعله, فعن طريق التحليل السيكيولوجي لنفسية صاحب الخطاب, يمكننا أيضاً معرفة حالته النفسية ومكامن الضعف والقوة التي يتصف بها, كما نستطيع من خلال دراسته النفسية التسلل إلى اللاوعي الذي دفعه لإنشاء هذا الخطاب وبهذا الشكل بناء على ألفاظه.

أمّا الخطاب الذي يقع في الكراهية دون قصد, فيجب عليه التزام مهنية نقل الخبر لئلا يتسبب بالأذى, ويعرض “دليل تجنب التمييز وخطاب الكراهية” في الإعلام الذي أصدره معهد الجزيرة للإعلام والذي أعده الصحفي محمد خمايسة, عدة خطوات لتغطية حدث ما:

دليل تجنب التمييز وخطاب الكراهية في الإعلام. معهد الجزيرة والإعلام.

الخطوة الأولى ـ التخطيط للقصة

  • بناء على خلفية معرفية عن الحدث.
  • تحديد مصادر القصة (كافة المصادر).
  • التحقق من المعلومات قبل استخدامها.

الخطوة الثانية ـ إنتاج القصة

  • وضع الأسئلة المناسبة لكل مصدر أو طرف.
  • النزول إلى ميدان الحدث لمشاهدة الحدث عن كثب وليس مشاهدته بعين المصادر فقط.
  • فهم خصوصية المجتمعات ومراعاة السياقات الثقافية والاجتماعية والدينية.
  • عند مقابلة أو متابعة تصريحات شخصية لها سلطة في مجالها ويمكن أن تحدث تأثيراً, يجب التفكير إذا كانت تلك التصريحات تنطوي على تحريض أو تمييز أو حضّ على الكراهية والعنف، ومن ثم عدم التعامل معها إلا إذا كان هناك مسوغ تحريري وجيه, وأخذ ردّ من الأطراف المتأثرين.
  • التأكد من تقييم مضمون المحتوى سواء أكان تصريحاً أو صوراً أو مقاطع فيديو, والتفكير بعواقب استخدامها.
  • الاطلاع على القصص الصحفية المنشورة في وسائل الإعلام حول الموضوع الذي ترغب بمعالجته في فصل, واستنتاج الجوانب التي تم إغفالها أو تم تغطيتها بشكل منقوص أو غير مهني, ومحاولة استدراكها في فصل.

الخطوة الثالثة ـ كتابة القصة

  • الابتعاد عن التعميمات أو استخدام المصطلحات التي تطلق أحكاماً أو صوراً نمطية تجاه جماعات أو فرد.
  • عدم التعامل مع المعلومات على أنها حقائق غير قابلة للشك.
  • الابتعاد عن الاستنتاجات الشخصية.
  • تجنب التوقعات والأحكام المسبقة.
  • استخدام المصطلحات الموضوعية المفرغة من المواقف.
  • منح صوت للأقلية بشكل مكافئ للصوت المهيمن.
  • موازنة المعلومات وعدم الاكتفاء بآراء طرف دون الطرف الآخر.
  • التحقق من تطابق المعلومات.
  • تقييم حساسية الصورة لئلا تهتك حقوق أفراد أو جماعات محددة.
  • تقييم القصة من قبل المحررين (سيمينار) لئلا تنتهك أخلاقيات أو وجود معلومات حساسة.

الخطوة الرابعة ـ تقييم القصة الصحفية أخلاقياً

  • افتراضاتي الشخصية حول الناس الذين أكتب عنهم.
  • هل أرحب بقبول أفكار وقصص تتجاوز وجهة نظري الثقافية؟
  • هل أمتلك أي موقف متحيز للقضية التي أعمل عليها؟
  • هل الإشارة إلى اللون أو العرق أو المظهر الخارجي في القصة له صلة وثيقة بالموضوع؟
  • هل استخدمت المصطلحات الصحيحة لوصف الأفراد أو ثقافتهم؟
  • هل استشرت الزملاء ذوي الخبرة عن الموضوع؟
  • هل لجأت إلى استخدام آراء ومصادر شاملة بما فيها الأقليات؟
  • هل تنبثق القصة انطلاقاً من الاتجاه السائد؟ هل قمت بالتشكيك بهذا الاتجاه؟
  • هل تأكدت من أن القصة لا تعكس صوراً نمطية؟
  • هل راعيت احتياجات الأشخاص المعنيين بالعمل بصورة مباشرة؟
  • هل أخذت بالاعتبار تأثير القصة أو الصورة المستخدمة فيها على حياة الآخرين؟

لقد وضع “دليل تجنب التميز وخطاب الكراهية” هذه الخطوات ليكون العمل الصحفي أو الإعلامي أكاديمياً ذا مصداقية, وموضوعياً لا يتحيز لطرف ضد طرف, وأن يكون بعيداً عن التحريض والتمييز وخطاب الكراهية.

إذاً نحن بحاجة لكوادر إعلامية أكاديمية لنقل الحدث كما حدث وليس كما يجب أن يحدث.

وفي زحمة الإعلاميين والصحفيين الذين أتاحت لهم مواقع السوشيال ميديا النشر من دون رقيب, تتهافت علينا الآن آلاف القصص والأحداث، منقولة بمنتهى التحيز واللاموضوعية, وحتى إذا وضعنا ضوابط مهنية للإعلام الرسمي، فكيف سنعالج داء الإعلام الافتراضي؟.

هل نتجاهله؟ إذا كان التجاهل حلاً فعلينا توعية المستخدمين للشبكة الافتراضية ووضع دليل توعوي يحدّ من هذه الخطابات التي ما زالت تنخر في المجتمع.

أم نعتبرها غير خارجة عن مقتضى الحال مثلها مثل الذي أعطى اسماً للسفينة من دون أن يكون له صفة تؤهله لتسميتها؟.

 

المعوقات

أوّلاًـ كما أن هناك لبس بين خطاب الكراهية وحرية التعبير، فقد كان خطاب الكراهية محصناً بقانون حرية التعبير, إلا أن خطاب الكراهية ظهر في الإعلام لأول مرة في الولايات المتحدة عام 1989 وُوضع له تعريف لإزالة اللبس بينه وبين حرية التعبير, ولكن حتى اليوم مازال هذا الخطاب يندرج تحت قانون حرية التعبير رغم رفضه بشكل شبه جماعي من قبل دول العالم.

كما أنّ هناك فرقاً بين التمييز وخطاب الكراهية, فالتمييز هو التفرقة أو استبعاد أو تقييد أو تفضيل يقوم على أسس عنصرية.

ثانياًـ كما أن هناك التحيز الذي هو إخلال بالمعايير المهنية للصحافة والإعلام بحسب دليل تجنب التمييز وخطاب الكراهية, فإن هناك ثلاثة أشكال للتحيز في الإعلام:

  • التحيز التحريفي (تحريف الحقيقة).
  • التحيز المتعلق بالسياق (إبراز صوت تيار على حساب الآخر).
  • التحيّز في اتخاذ قرار التحرير, إي اتخاذ موقف معين تجاه القصة يتبع محتوى متحيزاً.

ثالثاًـ كما أن هناك معوقات ناتجة عن التشريعات الحكومية وضغوط رجال السياسة وخاصة في الدول غير الديمقراطية, فتنتج مادة إعلامية تدعو إلى الكراهية رغماً عن الصحافة والإعلام.

وهذا نعاني منه كثيراً في الشرق الأوسط إذ أغلب الإعلام والصحافة تحت منصة الحكومات.

كما أن هناك الأجندات التي يفرضها المموّل على المؤسسة الإعلامية وكذلك المعلنون لإنتاج الخطاب المراد.

ولا ننسى المواقف الشخصية, فكل هذا يؤثر سلباً في المهنية الإعلامية أو الصحفية ويعيق إيصال الحدث كما حدث, وقد ترتكب أغلاطاً ناتجة عن اللاموضوعية أو التمييز أو التحيز تؤدي بها إلى الوقوع في الكراهية.

وأخيراً فالدواء لمكافحة خطاب الكراهية يكمن في الداء ذاته، فكل العناصر والوسائل التي تعتبر في الأساس سبباً في نشر خطاب الكراهية, هي نفسها العلاج لهذا الخطاب إذا ما تم تصحيح مسارها وتحويلها من وسائل لنشر خطاب الكراهية، إلى وسائل لنشر المحبة والوئام وقبول الآخر.

 

الفرع الثاني ـ الافتراضات القبلية

وهنا ندخل إلى البرمجة اللغوية العصبية، والتي من شأنها أن تكون حصناً في وجه خطاب الكراهية والتمييز العنصري، لما تقدمه من معرفة باطنية للنفس البشرية, والبرمجة اللغوية العصبية بحسب كارل هارس مؤلف كتاب (عناصر البرمجة اللغوية العصبية) هي فضول وهي دليل استخدام العقل أو دراسة التجريب الموضوعي، وهي برامج تشغيل العقل أو دراسة التفوق الإنساني… وهي القدرة على بذل قصارى جهدك أكثر فأكثر … وهي الطريقة الجبارة والعملية التي تؤدي إلى التعبير الشخصي… وهي تكنولوجيا الإنجاز الجديدة.

كما أن هناك تعريفاً أكثر دقة وصحة من الناحية العلمية، وضعه مؤسسو البرمجة اللغوية العصبية وهو أكثر تثقيفاً وتنويراً:

“البرمجة تشير إلى أفكارنا ومشاعرنا وتصرفاتنا, حيث من الممكن استبدال البرامج المألوفة بأخرى جديدة وإيجابية”.

اللغوية: هي المقدرة الطبيعية على استخدام اللغة الملفوظة أو غير الملفوظة, وغير الملفوظة هي لغة الوصفيات والحركات والعادات التي تكشف عن أساليبنا الفكرية ومعتقداتنا.

العصبية: وهي تشير إلى جهازنا العصبي, وهي سبيل حواسنا الخمس التي من خلالها نرى ونسمع ونشعر ونشم.

فالبرمجة اللغوية العصبية (هي علم الوصول بالإنسان لدرجة الامتياز البشري التي يستطيع أن يحقق أهدافه, ويرفع دائماً من مستوى حياته)(22).

وكان عنوان فقرتنا الافتراضات القبلية, فما هي الافتراضات القبلية؟ وما علاقتها بالوقاية من خطاب الكراهية وتحجيمه؟

الافتراضات القبلية: هي الافتراضات المسبقة, وهي مجموعة من الافتراضات المسلم بصحتها والتي تحدد تشكيل ومميزات السلوك وجمع المعلومات والتقييم الشخصي(23).

ولكي تكون لنا هذه الافتراضات دليلاً إيجابياً تجاه الآخرين, لابد من أن نبدأ بأنفسنا, فالتغيير بحسب البرمجة اللغوية العصبية يبدأ من الذات, وبحسب الدكتور إبراهيم الفقي: “لكل البشر مجموعة من القيم والمعتقدات تحدد أنماط سلوكهم, وقد يبدو لك شخصاً آخر وكأنه تحدٍّ لك، إذا صممت على تغييره للشكل الذي تريده أنت”.(24)

مثال: شخص متزمت ديناً أو قومياً، هذا الشخص هو بالأصل ضحية ثقافة اجتماعية ما، عندما أحاول تغييره يجب أن أراعي ثقافته التي أنتجت هذا السلوك, وإلا لن يتقبلني, وسأزيد لديه هذا التزمّت عندما اصطدم به ولن يسمع مني شيئاً، ولكن إن غيرت من سلوكي بما يتناسب وعقليته, عندها أستطيع الولوج إلى عقله بسلاسة وحواره على أسس المحبة والوئام وليس من منطلق الكره والاصطدام الذي لن يزيده إلا كرهاً.

يقول مارج بيرس: “إن الحياة هي الهبة الأولى والحب هي الثانية والتفاهم الثالثة، فاجعل من ذلك قاعدة لحياتك، أقدم على محبة وفهم الآخرين وسوف تعيش حياة أسعد”.(25)

لأن التشابه في كل شيء لا ينتج إلا اللون الواحد الذي لا معنى لوجود الكثير منه, أي “إذا تشابه فردان في كل شيء فلا حاجة لوجود واحد منهما”.(26)

هي دعوة معرفية تبدأ من الذات التي تحدد العلاقات مع الآخرين بحسب البرمجة اللغوية العصبية والنظر إلى الآخر على أنه مهم مهما كان مختلفاً ومدى عمق هذا الاختلاف، والأهم هي الكلمة الطيبة التي هي مفتاح التفاهم مع الآخرين. “ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك”. “والتمس لأخيك سبعين عذراً”.(27)

مثال: شخص يعمل في مجال النصب والاحتيال على الآخرين، هل سأعامله على أساس أنه شاذّ في التقاط رزقه وعلى أنه مجرم وبأنه لا قيمة له اجتماعياً؟ الجواب طبعاً لا, لأنني لو تعاملت معه على هذا الأساس أكون قد وقعت في الكراهية, فتحقير الناس مهما كانت جرائمهم يعتبر خطاب كراهية ومن مبدأ:(من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر). هنا لا بد من احترام هذا الإنسان ومعاملته على أنه مهمّ, ثم ارتقِ معه إلى الحوار عن الذنوب التي كلنا نرتكبها ومناقشة سلوكه بكل احترام وشفافية, والابتعاد عن شخصية الواعظ الأخلاقي التي قطعاً ستستفزّه، وهنا أستطيع أن أستفيد من تجربته الحياتية وأفيده من تجربتي, وهنا يحصل التغيير المبني على حوار المحبة.

والحقيقة ليست واحدة يمتلكها فرد دون الآخر, لأن الحقيقة نسبية وليست مطلقة, فما أعتبره أنا حقيقة هي ليست كذلك عند غيري, لأن لكل إنسان خريطة لا تشابه خريطة الآخر, ولكلٍّ بصمته الخاصة, فمن غير الممكن أن نجعلها واحدة، ولو استطعنا ذلك عن طريق التخويف, لا يفتأ يعود إلى سابق عهده إذا ما زال الخوف الذي هو أفشل الحلول, فالحل هو الانطلاق من الذات, فمن الصعب أن يحس إنسان يعيش في برجه العاجي بمتسوّل في الشارع، لابد له من النزول إلى الشارع متخلياً عن رفاهيته لأجل المعرفة, والتغيير الذاتي ليس بالمسألة السهلة, فتغيير السلوك المعتاد النمطي جداً صعب ولكن للعيش الإيجابي لابد من مواجهة المصاعب ونشر هذا الفكر الذي من شأنه أن يغير سلوك الإنسان إلى الأحسن إلى الأفضل من خلال إبراز طاقاتهم الإيجابية. وأية محاولة تغيير لا تنطلق من الذات هي بمثابة إعلان حرب على الآخر الذي سيقاوم حتماً هذا التدخل غير المبرر في حياته.

التغيير الإيجابي للذات لابد له من الاعتماد على تاريخ الإنسان والأحداث الإيجابية التي مر بها, والابتعاد عن استعادة الذكريات السلبية التي من شأنها أن تقف عائقاً أمام التغيير الإيجابي, والابتعاد عن الأحكام المسبقة تجاه الآخرين والنظر إلى القضية من جهة واحدة ومن بعد واحد. فليس عادلاً أن نعامل سارقاً مثلاً بقسوة قبل الاطلاع على الأسباب التي دفعته للسرقة, فهناك سرقة عن مهنة وهناك سرقة بدافع الحاجة, فربما كان شخصاً سرق ليطعم أطفاله.

تبقى السرقة جريمة ولكن هناك أسباب لفعلها, أحياناً نتعاطف مع من قاموا بها لأنهم بالأصل ليسوا سارقين, ولو وفر المجتمع عملاً لهم لما أقدموا على السرقة, هنا يجب محاسبة السلطة والمجتمع اللذين هما الجلاد, والسارق هنا هو الضحية. نحن نعرف هذه التفاصيل عندما نتواصل مع هذا السارق ونحاوره, أما إذا أخذنا منه موقفاً معادياً وسددنا آذاننا عن الإصغاء وكلنا ثقة بأن السجن سوف يغير هذا السارق ويجعله إنساناً قويماً نكون مخطئين، لأن السجن أو العقوبة التي سوف يتلقاها حتماً ستجعله مؤمناً بفعله, وحتماً سيصبح سارقاً عن مهنة في المستقبل، ونكون نحن من دفعه إلى هذه الهاوية بجهلنا وتكبرنا وتحصيننا لذواتنا بسلوكنا النمطي, فلكل قضية عدة أوجه لا بد من الاطلاع عليها قبل النطق بالحكم.

إذاً؛ لابد من أن يعمل عقلنا الواعي على برمجة عقلنا اللاواعي لكي يوجهه ويضبط سلوكه ولكي لا تبدر منه سلوكيات بهيمية.

والسارق والقاتل والمرتشي والمغتصب وكل من ارتكب جريمة بحسب البرمجة اللغوية العصبية يستحق الحوار والنقاش؛ لأن كل إنسان خيّر بطبعه. هذا ما تؤمن به البرمجة.

فالبرمجة اللغوية العصبية لا تهتم بالفعل بقدر ما تهتم بالدوافع التي دفعت لارتكابه.

ومن الظلم أن نعتبر أي إنسان غير سوي لأنه لا يقوّم سلوكه, لا أبداً, فربما التجارب التي مر بها هذا الإنسان أو ذاك كانت غير موفقة فأثرت سلباً على إرادته وانعكست على سلوكه, فهذا الإنسان بالتحديد بحاجة إلى التركيز على الإيجابيات التي مر بها وأن نصرف ذاكرته عن السلبيات التي أدت إلى اعتلال سلوكه. “لأنه ليس هناك فشل بل نتائج وخبرات.(28)

والمرونة هي عنوان النجاح كما أن انعدام المرونة هو عنوان الإحباط.

فالمرونة قوة؛ لأن الإنسان المرن يستطيع التأقلم والنجاح في جميع الظروف, أما التعصب والجمود إذا ما تبدلت الظروف التي كان يحقق شيئاً من النجاح فيها, فسيكون مصيره الإحباط والضعف والوهن, لأنه لا يملك روح المرونة التي إذا سدّ باب بوجه صاحبها يطرق الآخر والآخر حتى يجد المنفذ إلى النجاح.

المرن لا يعرف اليأس على خلاف غير المرن الذي سينعكس ضعفه الداخلي إلى جسده, لأن العقل والجسم يؤثر كلاً منهما على الآخر وبشكل سريع وقوي, فمن يعتبر نفسه ضعيفاً سرعان ما ينعكس هذا الضعف على جسده, ومن يعتبر نفسه بخير حتى وإن كان عكس ذلك ينعكس هذا إيجابياً على جسده, لأن العقل الباطن لا يميز بين الحقيقة والخيال.

وبالتالي نستطيع أن نجعل هذه المعرفة دليلاً لسلوكنا للتعامل مع الآخرين بشكل إيجابي, وإذا طبقت سنجد رداً إيجابياً من الآخرين بالتأكيد لأن كل إنسان فيه سلبيات وإيجابيات, والبرمجة اللغوية العصبية تحاكي هذه الإيجابيات وتعمل على توسيع نظامها على حساب السلبيات.

 

الفرع الثالث ـ الاتحاد والانفصال / المواقع الثلاثة

الاتحاد: Associution

الانفصال: Dissociution

لكل حالة من الحالتين استعمالات وفوائد في البرمجة اللغوية العصبية, (في حالة الاتحاد تتخيل نفسك وأنت تعيش الحدث وتتفاعل معه, فترى وتسمع وتحس بما يحيط بك، فتكون استجابتك مباشرة للحدث, أما في حالة الانفصال فأنت تراقب الحدث ولا تعيشه بالرغم من كون الشخص الذي تراه هو أنت, ولذلك فإن استجابتك تكون ضعيفة أو معدومة)(29).

والاتحاد والانفصال يتبعان لمواقع الإدراك المكانية.

إنّ البرمجة اللغوية العصبية NLP يمكن أن تكون وسيلة علاج نفسي سلوكي ذاتي عن طريق النظرة الإيجابية التي ننظر بها إلى الآخرين, أي الاتصال بالعالم الخارجي على نحو إيجابي, ومساعدة الذات على التغيير نحو الأفضل بهدف النجاح ومساعدة الآخرين في التغلب على مشاكلهم ودفعهم نحو النجاح بتوسيع مجال التفاؤل على حساب اليأس, والقوة على حساب الضعف والنجاح على حساب مشاعر الفشل.

والاتحاد والانفصال هما وسيلتان ذهنيتان تساعدان على تنظيم السلوك عن طريق المواقع الثلاث: الذات، والآخر، والمراقب.

ففي حالة الاتصال تكون المشاعر مرافقة للحدث أو الواقعة أو الذكرى التي يقوم الشخص باسترجاعها, وكأنه يعيش اللحظة بكامل تفاصيلها. أما في حالة الانفصال فيكون الإنسان منفصل المشاعر التي رافقت الحدث أو الواقعة أو الذكرى, وهنا كأنه يشاهد الحدث بحيادية وكأنه يرى فيلماً سينمائياً, ووجوده في هذا العالم يكون منفصلاً عن مشاعره على عكس الاتصال. أي أنه يشاهد الحدث ويشاهد نفسه داخله، كأنه يرى صورة أو فيلم.

والاتصال والانفصال هما قدرة من قدرات العقل الواعي ،واللاواعي لا يميز بين الاتصال والانفصال؛ لأن العقل الباطن لا يميز بين الحقيقة والخيال. ولكي تكون سلوكيات الشخص مضبوطة مع المجتمع في حالتَي الاتحاد والانفصال, لابد من مواقع الفعل الثلاثة (جمع المعلومات).

إن مواقع الإدراك الثلاث تفسح المجال لجمع المعلومات قبل الشروع بالفعل المراد، وهذه المعلومات من شأنها أن تغير مواقع الإدراك الزمكانية والمنطقية, كما تفيدنا في تحقيق التوازن بين وجهات نظرنا ووجهات نظر الآخرين.

وهذه المواقع الثلاث هي: الذات، والآخر ، والمراقب.

– الذات: من الخطأ أن تنظر الذات إلى الموضوع من بعد واحد, فلا بد من النظر إليه من ثلاثة أبعاد، المستقبل الذي أنوي الشروع به والحاضر الذي يمثل المنطق، والماضي الذي يمثل التجارب السابقة التي مررت بها أو تعلمتها من تجارب الآخرين.

مثال: شخص مختلف عني دينياً، إذا نظرت من بعد واحد إلى هذا الشخص؛ أي من خلال ذاتي فقط، سأجده على خطأ، لأنني اعتبر معتقدي هو الأصح وكل ما عداه هو على خطأ، هنا ستنمو لدي الكراهية تجاه هذا الشخص الذي لا يعير اهتماماً بصحيحي وهو مستمر بالإيمان بخطئه، وهذه النظرة ذات البعد الواحد، (التقوقع على الذات) هي المحرك الأول للكراهية والتطرف والتزمّت؛ لأنها نظرة ضيقة لا تعير انتباهاً للآخر, فتنتج الكراهية وتورثها. لذلك لابد من الارتقاء إلى البعد الثاني حيث يتيح رؤية أكثر وضوحاً، وهي النظر إلى الموضوع من وجهة نظر الآخر.

– الآخر :عندما أضع نفسي مكان هذا الشخص ذاته المختلف عني دينياً، ستتغير لدي مواقع الإدراك؛ فهذا الآخر يجد عقيدته هي الأصح وبأنني على خطأ, وهذا الآخر مؤمن بصحيحه, ولو كان لديه شك بما يؤمن به لتركه وانضم إلى عقيدتي, فهو لديه الحق في الإيمان بمعتقده والدفاع عنه من الزوال مثلي تماماً، هنا نظرت إلى القضية من بعدين فتوضحت لدي الصورة أكثر وزالت الكراهية من مشاعري تجاهه. وهذا يغيب عن عقلية المتطرف التي مازالت ذاته متقوقعة على صحيحها ولا تنظر من البعد الآخر, لأن الحقيقة لدى المتطرف ذات بعد واحد وهذه نظرة كارثية مفادها “أنا وحدي أمتلك الحقيقة وغيري على باطل والحق ضد الباطل, إذاً كل من على باطل هو عدوي”. وأحيانا لا تتضح الرؤية لدي بشكل جيد من بعدين فأرتقي بنظري إلى درجة المراقب.

– المراقب: في نظرة أعمق أنظرها إلى هذا الشخص ذاته المختلف عني دينياً, حيث أنفصل عن ذاتي وعن الآخر, وأقوم بمراقبة موضوعية حيادية وكأنني أنظر إلى ذاتي وعقيدتها وثقافتها وسلوكياتها وكأنني أراقب شخصاً آخر وكذلك أفعل مع الآخر، فأنظر إليهما من وجهة نظر محايدة وكأنني أتابع ذاتي والآخر في فيلم سينمائي. هنا أيضاً ستزداد لدي المعلومات وستتغير مواقع الإدراك, فما غاب عني في النظرة الذاتية والنظرة من وجهة نظر الآخر, سيتضح لدي في نظرة المراقب الحيادي الموضوعي, وسأقيّم سلوك الأثنيّن وستتضح لدي مكامن الشذوذ في سلوكياتهما. وهنا أكون ملماً بالموضوع ناظراً إليه من أبعاده الثلاثة, متجاوزاً الأخطار التي تنتج عن النظرة إلى الموضوع من بعد واحد أو بعدين.

فبهذه الطريقة نكون قد نظمنا سلوكنا وأصبح الآخر بالنسبة لنا هو المكمل لنا وليس نقيضنا.

ونستطيع رسم المواقع الثلاثة على شكل ديالكتيك:

 

 

 

 

 

 

 

وأخيراً يمكن القول: لا يجب أن يبقى الإنسان متقوقعاً على ذاته فيصبح مغروراً أنانياً, ولا أن يبقى واضعاً نفسه مكان الآخر دائم الإحساس بهم متجاهلاً نفسه، كمن يساعد الناس في بناء منازلهم وبيته مهدم. كما لا يجب أن يبقى الإنسان في موقع المراقب دائماً وهو على الهامش لا يفكر لا بنفسه ولا بالآخر, فيكون عرضة للنفور من الحياة والتفكير في الانتحار.

وصفوة القول أنه في الذات حتى أعرف حق نفسي فلا أحرمها من مباح, وفي الآخر حتى لا أعتدي على أحد وأساعد الآخرين وأشعر بهم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).(30)

في المراقب: هو موقع علوي ينظر إلى الأمور من فوق، لا ينجذب شعورياً لجهة فيسمو بنظرته إلى الأعلى وينظر بتجرد)(31).

ربما تكون هذه الطريقة ناجعة في الحد من خطاب الكراهية الذي يأكل عقول البشر ويحجمه بعد أن ينظر الجميع إلى بعضهم البعض على أنهم ذوات تكمل بعضها بعضاً, وليست عوالم متوازية تؤدي إلى انفجار إذا ما اجتمعت.

وأخيراً, للحدّ من هذا الخطاب نستنبط من هذا البحث:

التوصيات:

– يجب أن ننطلق من نفسنا نحو المحبة والوئام؛ ونبذ الكره والخصام، وعلى هذه الأرض الطيبة عاش أجدادنا وسنورثها لأحفادنا، علها تكون لهم حصناً ضد الشتات وغربة التراب، وهذا البلد يتسع للجميع بكل اختلافاته العرقية والدينية والمذهبية والأثنيّة, التي تشكل درعاً مزركشاً من الجواهر النفيسة, تقي جسد هذا المجتمع من طعان رماح الفتن.

– في الأسرة تربينا ونربي، وبالأسرة تنسج خيوط السلوك التي تلبسها الشخصية فتتأثر وتؤثر في من حولها، فعندما يكون الاحترام حاضراً في الأسرة وقبول الآخر والمحبة أسلوباً في التعامل مع بعضهم ومع الآخرين، نكون قد قطعنا شوطاً كبيراً في محاصرة الكراهية ونبذ التمييز على مستوى الأسرة وخارجها وفق ما يلي:

* يجب أن لا تميز الأسرة بين أفرادها، لأن التمييز يبعث الكراهية.

* يجب أن تراعي الفوارق الذهنية والسلوكية بين الأولاد.

* تقديم الدعم اللازم للفرد الذي يعاني من مشكلة ما؛ لئلا تتحول هذه المشكلة إلى عقدة نقص ومرض نفسي مع مرور الأيام.

* المجتمع يسير على ساقين نحو الرقي، هما الذكر والأنثى, فلا يمكن لمجتمع أعرج أن يلحق بركب الرقي والنماء على كافة الأصعدة.

* زرع مبدأ المحبة وتقبّل الآخرين في نفوس أفراد الأسرة، على أساس المختلف هو مكمل لنا وليس شاذّا عنا.

* تجنيب الأولاد المشاكل العائلية والأحقاد الموروثة وإعفاؤهم من كراهية الآخرين التي من شأنها أن تؤثر على سلوكهم بالتعامل مع مجتمعهم في المستقبل.

* تجنيب الأولاد الخلاف بين والديهم (الخلافات الأسرية) لأنها تؤثر سلباً على شخصيتهم في كافة مجالات الحياة، فعندما تكون الأسرة مثالية تنتج أولاداً مثاليين والعكس صحيح.

* يولد الطفل صفحة بيضاء، وأول من يخط على هذه الصفحة الأسرة، فيجب أن تحسن الكتابة، لأن خطوط اليوم هي أطروحة الغد.

– المؤسسات التعليمية: المدارس والمعاهد والجامعات والمراكز الثقافية، لها دور كبير في الحد من خطاب الكراهية أو تنشيطه، فهي تزرع ثقافة في عقل الطالب، فأحياناً تكون هذه الثقافة مبنية على التمييز على أسس معينة، من شأنها أن تزرع بذور الكره بين الأفراد، فالاهتمام بالثقافة التعليمية واجب على الجهات المعنية لئلا يسود الكره بين المتعلمين الذين هم مستقبل ثقافة البلد، فبدلاً من التكتلات التي نلاحظها في مؤسساتنا التعليمية المبنية على القوميات والأديان والطوائف والأثنيّات، الأفضل أن يجتمعوا على محبة هذا البلد والاحترام والفخر بنسيجه الاجتماعي المختلف الذي هو خزان ثقافي يستسقي الكل من معارفه.

– العنف ليس التعدي بالضرب أو الحرب على الآخرين فقط، العنف يأخذ أشكالاً كثيرة منها التهجم على الآخر بالقول، فالقول هو فعل مؤجل، وأحياناً ينفذ هذا القول إلى فعل من قبل أناس غير المتلفظين به، وهذه تسمى الفتن، والفتن طريقة ناجعة في تفكيك المجتمع لأجل غاية ما، فقبل القيام بالفعل ليتنا نتأكد من مصداقية القول أو الإشاعة وما هي أبعادها، ونحن اليوم في عصر الأنترنت عصر السرعة الخارقة في نشر الأخبار والمعلومات غير الخاضعة إلا لرقابة ضمير الناشر.

– البشر مختلفون، وهذه ظاهرة اجتماعية صحية، هم مختلفون في كل شيء ظاهراً وباطناً من الناحية الفيزيولوجية, كما هم مختلفون بالوعي وباللاوعي سيكيولوجياً، خلق البشر على هذا الاختلاف؛ هكذا وجدوا خلقهم، وهذا الاختلاف جعلهم يبدعون بشتى مجالات الحياة, وسبب هذا الإبداع هو اختلافهم، فلو كانوا صنفاً واحداً من كل النواحي، قطعاً لن يبدعوا في شيء، لأن التشابه بكل شيء هو أن يفكر الجميع بنفس الطريقة وهذا مدعاة للجمود, بينما عندما يكون المختلف موجوداً، فإن احتكاك الأفكار يولد الإبداع، وكلما كان التنوع كثيراً كان النجاح والإبداع موازياً لهذا التنوع.

– المختلف عنا ليس عدونا، والمختلف عنا ليس صاحب إعاقة أو تشوّه ثقافي أو عقائدي أو عرقي، فالمختلف عنا هو ابن حضارته وثقافته وهو مكمّل لثقافتي وحضارتي، فأنا أتعلم منه وهو يتعلم مني، فكيف لي أن أكره من يزيد معرفتي أو أشوّه معرفة قُدِّمت لي وألغيها لمجرد اختلافها.

– تتغير السياسة بتغير الوعي، والوعي ابن المعرفة، فكلما نمت المعرفة أثمرت وعياً من شأنه أن يصنع سياسة بحجم معرفته، والوعي المبني على محبة الآخرين حتماً سيعطي ازدهاراً، فمن غير المعقول أن ننشد الازدهار في ظل وعي غائب.

– لن يساعدنا أحد على النهوض، لِنستنهض بعضنا ونبني ما هدمه جهلنا.

 

 الخاتمة:

وفي ختام بحثنا هذا يمكننا القول: لم يتآمر علينا أحد, ولم يهضم حقنا الحضاري والاجتماعي والسياسي والديني والثقافي أحد، نحن من تآمرنا على أنفسنا, ونحن من مشى بلا عنوان كمن يمشي وهو نائم, نبحث عن المارتون الحضاري الذي سبقنا أثناء انشغالنا بسفاسف الأمور, والعالم المتحضر اليوم يغزو الفضاء ونحن مازلنا نروي غزوات الزير وعنترة ونتفاعل معها.

مازالت حرب داحس والغبراء وحرب البسوس وسيرة بني هلال ومراجل أبو زيد الهلالي عامرة بعقولنا، مازالت العقلية القبلية تنهش ثقافتنا محاكين بها جاهلية درست منذ قرون.

وعندما نتطلع إلى الحضارة العالمية وازدهار العلم والمعرفة, نمد أصبع الاتهام إلى هذا وذاك ونحمّله سبب جهلنا وتخلفنا, ونهرب من الحاضر إلى الماضي بحالة نكوص حضارية متغنين بمآثر الأجداد, وننسج الحكايات والملاحم حول شخوصهم وبطولاتهم التي ندافع من خلالها عن حاضرنا التعيس.

جهلنا عدونا، أميتنا عدونا، كرهنا عدونا، فما نحن فيه يعجز أي دخيل أن يحققه, لأنه فظيع ومن صنع أيدينا, فنحن أعداء أنفسنا (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

 

الهوامش:

(1)+(2)+(3)+(4) موسوعة ويكيبيديا.

(5) الشرائع :منتسكيو, ترجمة: عادل زعيتر, مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة صفحة (19).

(6) من مقالة د. عامر صالح عن :الاشروكية والشراكوة وسيكولوجيا خطاب الكراهية

. https://m.annabaa.org/arabic/community/20074

(7) مفهوم خطاب الكراهية في الشرعية الدولية

https://mana.net/archives/2501

(8)خطاب الكراهية آخر تعديل لهذه الصفحة كان يوم 16 مارس 2020، الساعة 08:38.ويكيبيديا

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D8%A9 هامش

(9) مقابلة حول مكافحة خطاب الكراهية مع المستشار الخاص المعنيّ بمنع الإبادة الجماعيّة

أطلق أمين عام الأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريس، في حزيران/ يونيو 2019

https://www.ohchr.org/AR/NewsEvents/Pages/InterviewSpecialAdvisoronGenocideAdamaDiengonHateSpeech.aspx

(10-11) موسوعة ويكيبيديا.

(12) من مقالة القانون الدولي والقانون المقارن ، حول خطاب الكراهية.

(13)+(14)فرويد, علم النفس الجماهير وتحليل الأنا, صفحة(15).

(15)+ (16)كارل ماركس، نقد فلسفة الحق عند هيغل، الحوار المتمدن.( مقالة).

(17)+(18) الأسرة ل محمد عدنان القماز، مقالة.

(19)+ (20) أفعال الكلام في التداوليات عند سورل- لحسين بشوط.

(21) +(22)+ (23)+(24)+(25)+(26) +(28)موسوعة مقالات مؤهلات النجاح, محمد بن علي شيبان العامري، مقالة.

(27) سورة آل عمران صفحة 159

() حديث نبوي عن أنس بن مالك. رواه البخاري ومسلم

(31) +(29) البرمجة اللغوية العصبية, مواقع الإدراك,علوم ما وراء العقل.

(29) باقي المصادر والمراجع اعتمد عليها في الحصول على المعلومات التي تثري البحث.

 

المصادر والمراجع:

 

5- فرويد, علم النفس الجماهير وتحليل الأنا, ترجمة وتقديم: جورج طرابيشي, رابطة العقلانيين العرب – دار الطليعة للطباعة والنشر, بيروت.

6 – أمين معلوف الحروب الصليبية كما رآها العرب-ترجمة :د:عفيف دمشقية,دار الفارابي للطباعة والنشر, دمشق.

7- نظرية الأفعال الكلامية, محمد مدور, مجلة الواحات للبحوث والدراسات العدد16(2016)

8- دليل تجنب التمييز و خطاب الكراهية في الإعلام, معهد الجزيرة للإعلام.

9- أوستن: نظرية أفعال الكلام العامة, كيف ننجز الأشياء بالكلام,ترجمة: عبد القادر قينيني, إفريقيا الشرق.

10- روح الشرائع :منتسكيو,ترجمة:عادل زعيتر, مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.

11- هيجل, العقل في التاريخ،المجلد الأول, ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام, دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت.

12- خطابات الكراهية…وقود الغضب, مركز هردو لدعم التعبير الرقمي.

13- المشاعر الدينية: بين الغريزة والعقلانية والمحبة, رأي خريستو المر- 7آب 2019.

14- التداعيات النفسية والاجتماعية لظاهرة التعصب(التطرف)، مجلة النبأ, د:  اسعد الاماره،2019.

15-الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية, شفيق شقير-23-11-2014.

16- خطاب الكراهية والسؤال المؤلم-مقاربة فلسفية(أنطونيوس نادر 6أكتوبر,2019)

17- البرمجة اللغوية العصبية, مواقع الإدراك,علوم ما وراء العقل.

18- موسوعة مقالات مؤهلات النجاح, محمد بن علي شيبان العامري.

19-  مقالة القانون الدولي والقانون المقارن حول خطاب الكراهية.

20- كارل ماركس، نقد فلسفة الحق عند هيغل، الحوار المتمدن.( مقالة).

21- تعريف الأسرة ل محمد عدنان القماز آخر تحديث 3، 56 دقيقة 22، ديسمبر

22- أفعال الكلام في التداوليات عند سورل- لحسين بشوط.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى