احمد داليأبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتملف العدد 64

الفنون والثقافة أدوات لمحاكاة الواقع ومفاتيح للغور إلى أعماق المجتمعات

أحمد دالي

أحمد دالي

أحمد دالي
أحمد دالي

مدخل

في الحديث عن مجال متنوع الأطر وواسع الآفاق مثل الفنون والثقافة؛ لا بدّ للقارئ من أن يتوقف لوهلة أمام مفردتين لطالما كان الإقحام من نصيبهما رغبةً أو عنوةً في القضايا الاجتماعية والحياتية صغيرها قبل كبيرها, الكلمتان هما (الضرورات والكماليات), فما أكثر ما نسمع أن هذا الشيء يُعتبر من ضرورات الحياة سواء بالنسبة للأفراد كحالة شخصية أو للمجتمعات كحالة جماعية, وذلك شيء كمالي وأيضاً بالنسبة للأفراد والجماعات, ولكن ثمة  تساؤل ما ـ في اللحظة نفسها التي تراودنا فيها هذه الأفكار ـ يطفو على سطح تفكيرنا عن آلية وكيفية تحديد كل من الضرورة والكمال, وما هي المعايير والموازين التي يمكن أن تُقاس عليها القضية, وما مدى ارتباط تلك الضوابط أو المعايير بالأخلاق والواقع.

أليس من المنطقي أن يكون مطلب ما ضرورياً وملحّاً في مكان ما وكمالياً ترفيهياً في مكان آخر؟ تبدو المسألة خاضعة لمقياس المستوى الذي لا يمكن أن يكون واحداً ومنضبطاً في الزمان والمكان المختلفين, لأن تفاوت القيم الاجتماعية واختلاف المستويات المعيشية والمعرفية في ذات الوقت, هي التي تحدد في النهاية ما هو ضروري وما هو كمالي.

أريد الوصول من خلال هذه المقاربة إلى حقيقة أن من يسعى وراء لقمة العيش التي قد لا تتوفر له بسهولة ويسر, لا شكّ وأن جميع أشكال الفنون وضروب الثقافة ستكون ـ ربما ـ بعيدة المنال ولو إلى حين, وأقول ربما لأنه ثمة حالات فردية جامحة كسرت هذه القاعدة وحطّمتها أمام رغبة إثبات أن الألم يولّد الإبداع, وأن الجوع والحرمان يولّدان المتعة, ولكن تبقى الحالات الفردية عاجزة أمام تحوّلها إلى ظاهرة عامة, لأن القياس يكون على العامّ الغالب وليس الفردي النادر.

أمام مسألة حقيقة الفنون وقدرتها على التأثير في الحياة الاجتماعية والغور إلى ثنايا حياة الأفراد التي تتشابك لتعطي نسيجاً مجتمعياً؛ أمام هذه المرآة تتولّد فكرة امتلاك أدوات محاكاة الواقع والوقائع,  وحيازة مفاتيح التعامل معها بواقعية وعقلانية ومنطق سليم من شأنه أن يدفع بالفنون ولو خطوة إلى الأمام, على طريق اعتبارها شيئاً مهمّاً يمكن لها أن ترتقي إلى مصافي الأمور الحياتية والمجتمعية الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها, وتجاوز فكرة أنها مسائل ترفيهية كمالية وأنها خاصة بفئات دون غيرها ولو بنسبة ضئيلة, مع الأخذ في الاعتبار ظروف الزمان والمكان والمستوى المعرفي للمجتمعات الإنسانية المتنوعة.

الأمر ذاته ينطبق ويحضر في الميادين الثقافية المتنوعة, وخاصة مع علمنا أن ثقافات الشعوب هي نتاج تراكمي وليست طفرة تاريخية, فالمجتمعات القديمة التي عرفت تهجين وترويض الحيوان وأتقنت فنون الزراعة, لا بدّ أن تكون على دراية ومعرفة كافية بعلوم الفلك والأجواء والطقس, دافعها إلى ذلك هو الحاجة والضرورة إلى إنجاح العمليات الزراعية وفنون الصيد للمحافظة على الحياة والاستمرار, ففي هذه الحالة امتزجت الضرورة بالكمال, وتلوّنت الحاجة بالرفاهية, لأن حاجتهم إلى معرفة ما يحيط بهم لتأمين حياتهم, دفعهم إلى البحث والمعرفة ببيئتهم سواء على الأرض أو بعلوم الفلك والفضاء, وكذلك الحاجة إلى الإبحار والملاحة دفعتهم إلى الخوض في علوم البحار والمدّ والجزر والمسافات والاتجاهات, وغيرها الكثير من المسائل المعرفية التي قد تبدو من الوهلة الأولى أنها خارج اهتمام الإنسان وأن لا حاجة ولا ضرورة لها, ولكنها سرعان ما تتحول لتصبح ضرورية لا غنى عنها, ولا يمكن أن تستقيم الحياة وتستمر من دونها.

فإذاً للثقافة دور ريادي وطليعي في إسهامها في تعزيز الهوية الاجتماعية وتمييزها عن غيرها من الثقافات المختلفة, كما أنها تعمل على تشجيع وتحفيز التفاعل الاجتماعي وذلك عن طريق خلق الروابط المتينة والقوية بين الأفراد حتى يظهروا على شكل جماعة متماسكة, لأنها تعطي صورة عن الطباع والسلوكيات والأنماط المتشابهة والمشتركة من التقاليد والفنون والملبس والميول وغير ذلك. ومن ناحية أخرى تلعب الثقافة المجتمعية دوراً حاسماً وبارزاً في تشكيل المعايير الأخلاقية ومدى تأثيرها في سلوك وتفاعلات أفراد المجتمع, فهي بذلك تقف عند تحديد القيم والضوابط التي يتّبعها أفراد كل مجتمع على حدة, إذ أن هناك علاقة وطيدة بين ثقافة المجتمع كحالة جمعية, والمواطن الفرد الذي يعيش في إطار تلك الثقافة الجمعية, لأن ولادة الفرد ضمن جماعة ما يعني بالضرورة ولادته في ثقافة معينة, وبالتالي فإن هذه الشخصية لا بدّ لها أن تنمو ضمن هذه البيئة التي ستشكل لها الإطار الاجتماعي والحيّز الثقافي والبعد المعرفي, ونتيجة لكل هذا فإن الفرد سيتأثر بما حوله من ناحية ولادة الاتجاهات والميول والأفكار لديه, وهذا بمجموعه سينعكس على تكوين مهاراته وتشكيل القناعات لديه وطرق التعبير عن انفعالاته ورغباته.

ولا يكاد الأمر يختلف كثيراً على ساحة المعتقدات الدينية وطقوسها المختلفة وشعائرها المتنوعة, ففي فترة زمنية ليست بالقريبة كانت الآلهة محلّ رهبة لدى مختلف الشعوب التي كانت تسلك مثل هذه المسالك في عدم قدرتها على الاستقلال عن مفاهيم مثل القوى الخفية والطبيعية, وبالتالي كان التقرّب إليها يُعتبر أمراً ضرورياً وحاجة ملحّة لتفادي شرورها وغضبها, فكان تقديم القرابين لتلك الآلهة أو تلك القوى التي يؤمنون بقدرتها على إحداث الفوارق وإلحاق الأذى بهم أو تقريب الخير إليهم وتحقيق رغباتهم؛ كانت تلك الأفعال والتصرفات المتمثلة في تقديم الأضاحي يُعدّ شيئاً ضرورياً يفوق كل ضرورات حياتهم, حتى بلغ بهم الأمر في فترة زمنية ـ لدى بعض الشعوب ـ إلى تقديم أولادهم كقرابين تفادياً لشرور وانتقام الآلهة منهم من ناحية, ولنيل رضاهم واستحسانهم من جهة ثانية.

مشكلة البحث

تكمن مشكلة البحث في طبيعة البيئة المكانية التي تدور في خضمّها الفنون والثقافات والآداب, وتبرز المشكلة أكثر عندما تتقهقر هذه المجالات المهمة من حياة الأفراد والمجتمعات فتتوقع في زاوية المهملات, وبذلك تخرج من حيّز الأولويات سواء من جهة الفرد كحالة أو المجتمع كظاهرة, وهذا الأمر يتفاقم أكثر فأكثر حين يُصاب الفنان والمثقف والأديب بالداء نفسه, فيبدأ بإهمال اختصاصه ووظيفته الاجتماعية, ويتراجع بعد ذلك عن السير في مضماره الثقافي والفني, بسبب انعكاس الظاهرة المجتمعية العامة السائدة والراكدة على الحالة الفردية والشخصية بعد أن كانت متوهّجة وفاعلة.

أهمية البحث

قد يكون من الجدير إبراز أهمية بحث من هذا النوع على الأقل من ناحية إيصال فكرة أن الثقافة والفنون ليست بالضرورة أعمالاً ترفيهية كمالية, وبالقدر نفسة ليست حكراً على طبقة اجتماعية دون أخرى, ولكن على ما يبدو أن القيم الاجتماعية والمشكلات الفكرية والقيود الدينية والقبلية التي تتسيّد المجتمع, هي التي تتحمّل جانباً كبيراً في دفع الموضوع بهذا الاتجاه, وخاصة في بيئة شرق أوسطية كما هو الحال في عموم سوريا ودول المنطقة العربية والإسلامية.

أسئلة البحث وبواعث الدراسة فيه

ـ إذا كان الشرق الأوسط يمتلك تاريخاً ناصعاً من حيث انطلاق البدايات الأولى لاستقرار البشرية, فلماذا لا يعيش حياة مستقرة هانئة تليق بمستوى ذلك التاريخ؟

ـ اكتُشفت الزراعة أيضاً في منطقة الشرق الأوسط, وكانت السبب في الاستقرار والازدهار, ولكن لماذا نرى اليوم أن أعداداً كبيرة من بعض الدول في المنطقة تعيش تحت خط الفقر, وتفتقر حتى إلى مقوّمات الحياة التي تنتجها الزراعة وعلى رأسها القمح؟

ـ هذه المنطقة كانت النقطة التي انطلقت منها الشرارة الأولى نحو العلوم والمعرفة, إذ كانت محور تلاقي الديانات, لكن السؤال هو: هل حققت دول الشرق الأوسط بحكوماتها وشعوبها, وبمراجعها ومنابرها الدينية, هل حققت شيئاً من ذهنية قبول الآخر المختلف دينياً أو مذهبياً؟

ـ من أهم سمات المنطقة تعدّد الأعراق وتنوع الشعوب واختلاف الديانات والمذاهب, وهذه اللوحة متعددة الألوان والأشكال قد تعايشت عبر تاريخها الطويل بين علاقات سلم وتجاور وأمان حيناً, وتوترات وصراعات أحياناً أخرى, فلماذا لم تتمكن حالة التنوع الطبيعية تلك من أن تخلق السلام والوئام الدائم بين شعوب المنطقة؟

ـ باكورة الكتابة انطلقت من هنا, من شرقنا, حيث كان اكتشاف الأبجدية نقطة تحوّل تاريخية حقيقية, وعلى الرغم من ذلك نجد اليوم أن الأمّية تجتاح مجتمعات بأكملها في الشرق الأوسط, أما كان بإمكان حكومات وسلطات الدول في المنطقة أن تقضي على هذه الآفة الاجتماعية؟   عن الجهل والأمية أتحدث.

ـ إذا كانت الفنون والآداب أدوات للتعبير عن الواقع ومحاكاته, فهل يتوفر للفنان والأديب والشاعر هامش من الحرية للتعبير عما هو ملحّ وضروري؟ أم أن لسان حالهم جميعاً أن السكوت من ذهب؟

ـ ألم يشفع الأنبياء والرسل جميعاً من أبناء المنطقة, لتكون هذه البقعة من العالم منارة علم ومعرفة, وهداية وسلام, واستقرار وأمان؟

ـ علماء موسوعيون بالعشرات  أو بالمئات كانوا من أبناء هذه الرقعة الجغرافية, ومن مختلف الاختصاصات الضرورية من المنطق إلى الرياضيات والفلك والكيمياء والعلوم الطبيعية واللغة, ومع ذلك يبدو أن الجهل والتخلف ما يزال حاضراً فيها.

ـ كيف يمكن لأمم تتغنى بتاريخها البعيد قبل القريب أن تتجاوز أزمة إنكار تاريخ أمم أخرى تشاركها الجغرافيا والعقيدة؟

هذه الأسئلة وغيرها تدفع بشكل جامح إلى البحث والكتابة, إنها حقاً تثير الشفقة على الوضع المزري الذي تعيشه المنطقة على الرغم من كل الأشياء الإيجابية التي تم ذكرها آنفاً, فأين تكمن المشكلة؟ هل تكمن في الشعوب أم تكمن في الحكومات؟ أم أن نظرية المؤامرة حاضرة؟.

أهداف البحث

والحال هذه؛ أعتقد أنه من الضرورة تقديم الحالة الثقافية والفنية في مجتمع أو بلد ما وخاصة من قبل المتخصصين, على أنها ليست من محرّمات الدين, وأنها ليست كذلك من محظورات القيم الاجتماعية, وبالقدر نفسه ليست حالة أرستقراطية محصورة في طبقة اجتماعية بذاتها, وإلى جانب هذا ينبغي الاطمئنان إلى أن تطوّر الحالات الثقافية والفنية والأدبية هي أدوات إضافية نحو تقدّم المجتمعات, فهي تنمّي القيم الأخلاقية, وتعمل على فتح قريحة الفرد ومواهبه, وبالنتيجة فهي عمل إنساني خلاّق جدير بالاحترام.

منهج البحث

تعتمد هذه الدراسة البحثية على منهجين؛ المنهج الوصفي الذي يقوم على تقديم الحالة من حيث التوصيف والتشريح, والمنهج التحليلي من أجل الدخول في ثنايا موضوع البحث والمشاكل المتعلقة به, وتحليل الحالة الثقافية من ناحية تأثيرها في المجتمع وتأثرها بالقيم السائدة فيه, ويتم الاستناد في بعض الأحيان إلى المنهج البرهاني عند الضرورة بهدف طرح التساؤلات التي تخيّم في سماء المشكلة, والتي تطرح نفسها بإلحاح.

مجتمع وبيئة البحث

لقد تطرّقت إلى بيئة البحث بشكل سريع, فالبلدان الشرق أوسطية وخاصة العربية والإسلامية منها, وجميع الشعوب التي تعيش في هذا الحيّز الجغرافي تعاني من مشاكل جمّة في تعاطيها مع الفنون, ولا تولي ذلك الاهتمام الكافي بالحقل الثقافي, وهذا الأمر ينعكس تلقائياً على العاملين في الثقافة والفن, ولذلك تجدهم على هامش الحياة في بعض الأحيان إن لم نقل في غالبها, فتسير بالبعض منه الحال إلى هجر الفن والعزوف عن ممارسة النشاطات الثقافية والفنية والأدبية.

إن هذا البحث يتطلب تقسيمه إلى مباحث حتى يقدّم المرجوّ منه:

1ـ المعرفة أسيرة ورهينة أدواتها

2ـ الفنون أدوات لمحاكاة الواقع والغور إلى أعماق المجتمعات

3ـ الثقافة الإنسانية أم الحضارة الإنسانية

4ـ كيف يمكن للفنون والثقافات أن تكون من ضرورات الحياة الإنسانية

5ـ دور النخبة المثقفة في قراءة المجتمع ومحاكاته والغور إلى تفاصيله

6ـ الثقافة ما بين الاستقلالية والتحولات السياسية والاقتصادية

1ـ المعرفة أسيرة ورهينة أدواتها

لأن الإنسان القديم كان محكوماً بأدوات المعرفة الضحلة والبدائية, وجدنا أن محاكاته للطبيعة ومفهوم الإله كان مبنياً على التضحية بكل شيء حتى بالنفس, كل ذلك من أجل الحصول على رضا واستحسان الآلهة, ولكن في مرحلة زمنية متقدمة إلى حدّ ما نجد أن تلك الرغبة في التقرّب قد انتقلت أشخاص بشريين مثل كهنة المعابد, لتنتقل بعد ذلك مع مرور الزمن إلى شخصية الحاكم الذي ادّعى الألوهية الكاملة في مراحل من الزمن, ثم مع ازدياد الوعي المعرفي الجمعي في المجتمعات الإنسانية نجد أن الحاكم الإله يتنازل عن جزء من ربوبيته وألوهيته لصالح الشعب, فيكتفي بادّعائه أنه نصف إله, ومع التقدم المعرفي والتطور الثقافي, ونتيجة جهود رجال العلم وخاصة في مجالات مثل علوم الاجتماع والقانون والمنطق, يصل الأمر إلى اعتبار الحاكم شخصاً إنسياً طبيعياً يستمدّ سلطته من الجماهير بموجب عقد اجتماعي يحدد مسؤولياته وواجباته, وبالتالي تحوّل الحاكم من نصف إله متسلّط يستمدّ قوّته من الآلهة إلى إنسان طبيعي يستمدّ شرعيته من الشعب, فنزل من عرش الألوهية إلى خادم للشعب.

فإذاً؛ كانت الأدوات الثقافية والمعرفية هي الدافعة والحاضرة وراء هذه القفزات التاريخية, فلولا تطور تلك الأدوات لبقيت المستويات المعرفية والثقافية رهينة العبودية لآلهة من البشر يدّعون إمدادهم بالسلطة من السماء ولا من مشكّك في سلطتهم تلك.

وعلى غرار الأدوات المعرفية فإن الفنون هي الأخرى تطورت أدواتها لمحاكاة الواقع وكيفية فهمه والتعاطي معه وطرق الاستجابة لمتغيراته ومستجداته, فأصبحت الفنون في مراحل مختلفة ونتيجة لما طرأ على أدواتها العلمية والمعرفية ـ وعلى مختلف وصورها وهوياتها في الدرجة الأولى من الناحية الوظيفية ـ أدوات معرفية تعمل على استجلاء الظواهر الاجتماعية وانعكاساتها المختلفة في أبهى تجلّياتها، وبناءً على هذه الوظيفة الاجتماعية نجدها على تماس مباشر بطبيعة كل مجتمع، بل تكاد تكون المرآة العاكسة له, حتى أطلق بعضهم على هذه الحالة “نظرية الانعكاس في الفن”, وليس من الغريب أن نقول إن الفنان والأديب أصبحا بمثابة مهندس اجتماعي يقرأ خارطة الحياة الاجتماعية أولاً, ثم يحاول الغور في أعماق قضايا تلك الخارطة سعياً إلى كشف الهموم والمشاكل ومن ثم البحث عن الحلول, ونتيجة لهذه الرؤية الواقعية لكل من الفن والأدب رأينا أن قضايا مثل (الفقر والجهل والتخلف والطفولة والمرأة والبطالة) أخذت شيئاً فشيئاً تتصدر المشهد الثقافي, وتبعاً لهذه النتيجة فإن المجتمعات باتت تنتج فناً يشبه بيئتها وواقعها, لتظهر في مرحلة لاحقة مقولة (الفنون بنات بيئتها) والأمر نفسه ينطبق تماماً على النتاجات الأدبية, وهذا الربط بين البيئة والفن والأدب لا شكّ سيقودنا للسؤال عن النشأة الأولى للفنون, وعن الارتباط الوثيق بين الفن والإنسان وقدرته على الغوص إلى أعماق المجتمعات والبيئات المكانية والزمانية وظروفها الموضوعية, بحسب الشعوب التي تتراقص في أفلاكها تلك الفنون, أو تنشط  في ميادينها تلك الآداب, أو تنمو في ربوعها تلك الثقافات, أو ربما من حيث الوظيفة الاجتماعية التي من المفترض أن تضطلع  بها, ومن الجدير هنا أن نشير إلى أنه ثمة توافق وإجماع على أن جميع المجتمعات الإنسانية لا تخلو من فنون وثقافة خاصة بها, وهذا الأمر بشكل أو بآخر ينعكس على بناء الشخصية الإنسانية التي تتباين من مكان لآخر تبعاً للبيئة الثقافية التي بلورت تلك الشخصية, وهي التي تشكّل في نهاية المطاف جزءاً مهمّاً في تشكيل الهوية الإنسانية.

إن شغف النفس الإنسانية بالفنون ما هو إلا بحث عن شيء يرضيه أو يزرع في نفسه الطمأنينة والسكينة, أو بغية الحصول على صور للأشياء تكون أجمل مما هي  عليها في الحقيقة والواقع من حوله, ومن الواضح أن الكثيرين ممن يُقبلون على ممارسة الفنون على مختلف أشكالها يلوذون إلى عالم الفنون عندما تقسو الحياة في وجوههم, فيلجؤون إليها لمحاولة نسيان أو تجاهل حقيقة ما, أو لتصويرها بشكل فني وتغليفها بأبعاد جديدة وتحميلها على قالب فني قادر على نقل تلك الصورة إلى الآخرين, سواء بشكلها الحقيقي الواقعي أو بشكل رمزي وضبابي يبعث على الرضا والطمأنينة أكثر من صورتها الحقيقية المؤلمة.

لكن من المهم التأكيد على أن تطور هذه الفنون وهذه الحضارة الإنسانية لم يأتِ دفعة واحدة, ولم يكن طفرة تاريخية, بل استغرقت العملية مئات الألاف من السنين بحسب المصادر والأبحاث التاريخية, وهذا أمر معلوم لدى الجميع, والفضل يعود في ذلك إلى تجدّد الحاجات الإنسانية وانفتاح الأفق المعرفية.

2ـ الثقافة والفنون أدوات لمحاكاة الواقع والغور إلى أعماق المجتمعات

تنبع خصوصية الثقافة من إمكانيتها تحريكَ مسار الأفراد وتوجيههم, وإعادة صياغة الحياة المادية والفكرية في المجتمع, وبلورة التكوين الإنساني بشكل تنويري بصفتها إرثاً بشرياً متوارثاً, ومن ثم إعادة إنتاج الأفق الفكرية والمعرفية, والسعي إلى الارتقاء بالقيم الأخلاقية للفرد والمجتمع معاً, والعمل على الارتقاء الفكري والعلمي والفني والأدبي مجتمعين, بحيث تصبح جميعاً أدوات وآليات يمكن من خلالها فتح الأبواب الموصدة والمنغلقة على ذاتها في المجتمع, والانغماس في حياة الناس وسبر القضايا الفردية التي تتراكم فيما بينهم فتتحوّل إلى مسائل ومشاكل اجتماعية, لأن الفرد نواة المجتمع, ومتى ما صلُح الفرد صلح المجتمع برمّته, والمجتمع السليم هو الذي يحتوي في داخله أفراداً سليمين قويمين أسوياء.

لقد ارتبطت الثقافة من جهة اعتبارها نتاجاً فكرياً وإبداعياً وإرثاً بشرياً مشتركاً, ارتبطت بمراحل تطور المجتمعات وانتقالها عبر قفزات تاريخية معروفة من العبودية إلى الإقطاعية فالرأسمالية والاشتراكية, وهذا الأمر أضفى شيئاً من المخاطر من ناحية الاستغلال والاستثمار في الثقافة, لأنه بحسب التصنيفات الطبقية وفق مراحل التطور والانتقال التي أتينا عليها, فإن فئات ضيقة كانت تتسيّد المشهد الثقافي وتتحكم به وتلوي ذراع الثقافة والعلوم والمعارف بحسب المصالح والأهواء, ولكن على الرغم من ذلك بقيت الثقافة في جوهرها مفهوماً علمياً ومعرفياً على طريق الحركة التنويرية والإبداعية, وبقيت كذلك تشتمل على القيم الفكرية والمادية في آن واحد, وتحتضن في كينونتها الفنون والمعتقدات والعلوم والمعارف والفلسفة والقوانين والآداب والأعراف والتقاليد.

إن مصطلح الثقافة بحدّ ذاته يمكن التعامل معه من ناحيتين؛ إذ يمكن تناوله كحالة فردية على أن الثقافة الفردية ترتبط بالعلم والمعرفة والانفتاح, ولكن الثقافة بالنسبة للمجتمع ترتبط بمجموعة من المميّزات الاجتماعية التي ربما تكون بعيداً عن كونها معرفية أو ذات دلالات علمية, فالثقافة المجتمعية بالدرجة الأولى هي تلك التي تستطيع أن تعكس هوية المجتمع, وأن تميّزه عن غيره, وهذا يتولّد من مجموع الممارسات والأفعال الفكرية والمادية والتقاليد والأعراف والقيم والمعتقدات والديانات, وعلى ذلك فإن أفعالاً مثل التسامح والاعتذار والتعاون, هي التي تضفي على المجتمع طابعاً معيناً.

لا يمكن اعتبار الثقافة بشكل مطلق مقياساً لتقدم الأمم وتحضّر المجتمعات, لأنه من الخطأ الفصل بين النهضة الثقافية والنهضة الأخلاقية, فما قيمة التنوير الثقافي في ظل الانحلال الأخلاقي, وما قيمة النهضة الثقافية مع التقهقر الاقتصادي, ثم أين هي القيمة الثقافية في مجتمع عاجز عن الإنتاج المعرفي والإبداعي؟ إن هذه المجالات بحاجة إلى التكامل فيما بينها حتى تعطي الوجه الناصع للثقافة في أمة أو مجتمع ما, لأن مظاهر الثقافة ليست وقفاً على المصطلح, بل هي انعكاس للفلسفة والدين والنظريات الفكرية والعلوم والتراث والأدب الشعبي والفن الشعبي, ومن هنا كان على الأديب المثقف والفنان المثقف أن يكون عالماً بخفايا الحياة الاجتماعية وقادراً على الولوج إليها, وهذا يتطلب من المثقف أن يكون على تماس مباشر مع هموم الناس وقضاياهم الأساسية, وأن يكسر الحواجز بينه وبينهم, وأن يجعل منهم مادته الرئيسة في الدراسة عن همومهم والبحث عن حلول لمشاكلهم.

3ـ الثقافة الإنسانية أم الحضارة الإنسانية

يمكننا اعتبار الثقافة بالنسبة للأمم والمجتمعات عنوان هويتها, فالثقافة هي روح الأمة وهوية المجتمع, ولكل هوية جوهر وخصائص متفرّدة تميّزها عن الأخرى, وتنبثق عنها القيم العليا والمُثل السامية والأصالة الإنسانية, كما يُعتبر مفهوم الثقافة في علم الاجتماع من أكثر المفاهيم الجدلية بين علماء الاجتماع, وبناءً على ما تقدّم فإن آراء الدارسين والباحثين ليست واحدة من حيث النظر إلى الثقافة والحضارة الإنسانية بشكل مطلق وشامل, ففي حين يرى البعض منهم أن الحضارة الإنسانية ليست واحدة ثابتة, بل إن هناك حضارات مختلفة باختلاف الشعوب التي أنتجتها, وأن هذه الحضارات يمكن أن تتجانس أو تتصارع فيما بينها؛ فإن فريقاً آخر يرى عكس هذه النظرية, ويقول إن الحضارة الإنسانية هي واحدة راسخة باعتبارها نتاج الإنسانية جمعاء, في حين أن الثقافات متنوعة ومختلفة وقد تشكلت عبر تاريخها وسيرورتها الحياتية والمجتمعية, ولطالما كانت المساعي الإنسانية نحو مسالك الحياة وطرق العيش والرغبة في البقاء والتطور واحدة, فإن هذا من شأنه أن يرسم قيماً إنسانية متقاربة, وبالتالي فإن الحضارة الإنسانية هي حضارة واحدة, ولكن هناك ثقافات إنسانية متنوعة.

تتنوع الثقافات بالنظر إلى البيئات الاجتماعية التي تساهم في تكوين الإنسان الفرد, ولهذا لا نجد نُسخاً متشابهة تماماً بين الناس في بيئات مختلفة, لا نجد أن ميول الأفراد هي ذاتها مع اختلاف البيئة الجغرافية مثلاً, ففي المناطق الباردة يكون الميل إلى ممارسة الهوايات مختلفاً تماماً عن ميول أبناء المناطق ذات البيئات الحارة, ففي الوقت الذي يكون التزلج على الجليد وقضاء الأوقات الطويلة تحت الثلج سائداً في مكان, نرى الخروج إلى البراري لممارسة صيد الطيور الجارحة هواية ومهنة في مكان آخر, وهذا الأمر لا يتوقف عند حدّ ممارسة الهوايات التي تدخل في كماليات الحياة كما بدأنا في البداية, ولكن يتطور الموضوع ويدخل مجال الضرورات الحياتية مثل الصناعة والزراعة والتجارة, وهذا لا شكّ أنه يؤثر على بناء العلاقات الاجتماعية, فالعلاقات في المجتمعات الزراعية والرعوية مختلفة تماماً عن تلك التي تنشاً في المجتمعات الصناعية أو التجارية الصرفة, وهذا بدوره يؤدي إلى الاختلاف في تشكيل القيم الإنسانية وبناء السلوك, وتختلف نظرة أفراد المجتمع تبعاً لما تقدّم إلى القضايا والمسائل التراثية والقيم الاجتماعية القديمة المتوارثة, فيكون تمسك أبناء البيئة الزراعية والريفية أكثر بتلك القيم والعادات والتقاليد المتوارثة عن الآباء والأجداد, في حين أن أفراد البيئات التجارية والصناعية الصرفة ونتيجة انشغالهم بالظروف الحياتية التي تفرضها عليهم طبيعة البيئة التي يعيشون فيها ويخضعون لها, يكون على مسافة أبعد من تلك القيم المتوارثة والقديمة, والسبب في ذلك عوامل كثيرة من أهمها العلاقات المادية وضيق الوقت وبرامج العمل وغيرها من الأمور التي تؤثر في سيرورة حياتهم واستمرارها بشكل مبرمج, وقد يصل إلى شكل آلي يغدو فيه الإنسان مجرد آلة لأداء مهامّ معينة رُسمت له من قبل من يملك رأس المال ويدير الإنسان ويوجّه المجتمع.

هذه التراتبية التي توسّعنا فيها قليلاً ستؤدي في نهاية الطريق إلى ولادة أنماط مختلفة من الفنون والثقافات, وينشأ عن ذلك علاقة جدلية بين المجتمعات والفنون والثقافات المنبثقة عنها, فهل كان المجتمع نتاج تلك الثقافة أم أن ثقافة معينة هي التي أنتجت ذلك المجتمع, ومن ثم يغدو طريق الفنون والثقافة شائكاً للغور إلى العمق المجتمعي الصافي النقي, وتصبح المحاكاة عملية أشبه بالمعقدة.

4ـ كيف يمكن للفنون والثقافات أن تكون من ضرورات الحياة الإنسانية

عندما يتم النظر إلى الموادّ الفنية على أنها من مكمّلات الجوانب الأخلاقية, ومصاحبة للقيم الإنسانية النبيلة, ورديفاً لبناء الشخصية الإنسانية السليمة والسوية إلى جانب المواد العلمية والأدبية في المنابر التعليمية بدءاً من المراحل الأولى وحتى المرحلة الجامعية؛ حينها يمكننا الحديث عن اعتبار الفنون من الضرورات وليس الكماليات.

عندما ينظر المجتمع إلى الفنان والأديب نظرة لا تقلّ عن نظرته إلى المهندس والمحامي والطبيب؛ حينها يمكن أن تصبح الموسيقا والمسرح والشعر مسائل حياتية ضرورية.

حين يرتفع الوعي الاجتماعي إلى مستوى إدراك أن الفنون يمكنها أن تقود الإنسان في لا وعيه وتتحكم به, وأن توجّه السلوك الإنساني إلى الفطرة البدائية السليمة, حينها لا بدّ أن تأخذ الفنون مكانتها في مصافي الحياة الاجتماعية, أسوة بباقي مجالات ومناحي الحياة, ولكن في المقابل يجب ألاّ نغفل عن الدور الحقيقي والإيجابي للمثقف, فليس مقبولاً منه أن يغلق على نفسه جميع الأبواب, ثم يفتح لنفسه زاوية صغيرة لتوجيه النقد فقط, وإذا ما أنتج نتاجاً فنياً أو أدبياً, أن يكون على دراية ويقين بالقضايا الاجتماعية الضرورية والملحّة, وليس اللجوء إلى برج عاجيّ ينظر من أعلاه إلى الإنسانية وهي تحترق دون أن يتخذ موقفاً مما يرى.

هناك أمور حياتية واجتماعية لا يمكن للمرء أن يدركها وأن يستوعبها عن قرب إلا إذا أتينا بالنقيض المعاكس للفكرة بشكل فجّ ومباشر, فمثلاً الطريق مخصص لسير السيارات والأرصفة مخصصة للمشاة, ولكن الكثير من الناس يمشون في الشارع وهو المكان المخصص للسيارات ويتركون المكان المخصص لهم, ولا يبدو هذا الأمر مثيراً للانتباه, أو لنقل خارج المألوف, ولكن ماذا لو أن سيارة أخذت بالسير على الرصيف تاركة مسارها المخصص لها, ماذا ستكون ردود الفعل وقتها من كل من يرى ذلك المشهد؟ أليس الأمر هو نفسه عندما يترك الناس السير على الرصيف ويأخذون بالمشي في المسار المخصص للسيارة نفسها؟ إذاً فلماذا هذا الاستغراب وهذه الدهشة في هذه الحالة المعكوسة؟ الأمر متعلق هنا بعنصر الصدمة والمفاجأة, فإذا كانت الثقافة المجتمعية ترفض هكذا سلوك فإنه ينبغي أن تكون تلك الثقافة إحدى أهم ضرورات الحياة, لا مجرّد مسألة ترفيهية كمالية.

5ـ دور النخبة المثقفة في قراءة المجتمع ومحاكاته والغور إلى تفاصيله

ترتبط الثقافة ارتباطاً وثيقاً بالمعرفة, وبالتالي فإن إطلاق تسمية أو صفة المثقف ترتبط هي الأخرى بالكمّ والمخزون المعرفي للأشخاص, وعلى هذا فإن جميع من يعملون في الحقل المعرفي مثل الكتّاب والفنانين والشعراء يُعتبرون من الطبقة المثقفة, ولكن يتوقف دور الطبقة المثقفة والنخبة الفنية في هذه المضمار على مستوى انخراطهم في المجتمع, ومدى قدرتهم على التفاعل مع همومه وقضاياه, وقربهم الحقيقي من تلك القضايا, واعتبار نفسه جزءاً مما حوله وفرداً في بيئة تجمعه مع بقية أفراده متواضعاً منسجماً, لا فوقياً متعالياً, وهذه الصفة “المثقف” تكسب صاحبها احتراماً في مجتمعه, ولكن لا ينبغي أن يكون هذا الاحترام مجاناً, لأن الطبقة المثقفة الواعية عليها أن تتحمّل مسؤوليتها عن المساهمة في الثقافة العامة للمجتمع, وأن تحمل على عاتقها الهموم والقضايا الاجتماعية والمعيشية والسياسية والدينية والتعليمية للناس, وفي هذا الحقل يشير الناقد المصري “محمد مندور” إلى أن الأديب الملتزم لم يعد مقبولاً منه أن يقف على الحياد تجاه قضايا الإنسان والمجتمع, لأن المجتمع ينظر إلى المثقف كمدافع عنه وحامل لقضاياه.

“نجيب محفوظ” وانغماسه في قضايا مجتمعه مثال على هذه النخبة, فمحور كتاباته الأدبية هو بيئة المدينة المصرية التي عاش فيها, وبيئة الريف المصري الذي لامس همومه وقضاياه, فكان من الطبيعي أن تلقى نتاجاته الأدبية كل ذلك الصدى والبعد, فهو يحاكي الفرد في آلامه وأوجاعه وأحلامه وآماله, ثم ينطلق من الفرد إلى تقديم صورة أوسع عن المجتمع المصغّر الذي ينمو فيه هؤلاء الأفراد, وكيف أن تلك البيئة ساهمت في تكوين تلك الشخصيات, ثم كيف عملت الظروف الواقعية على تربيتهم نفسياً وثقافياً.

والكاتب الروسي “فيودور دوستوفيسكي” في رواية (المقامر) نجده يرمي بالمقامرة على مقصلة الفكر والأدب الاجتماعي بعد أن غدت تلك العادة آفة اجتماعية, حيث تدور أحداث هذا العمل الأدبي في أفلاك متعددة من كاتب فيلسوف, منها محاربة الفجوة الطبقية التي حدثت في بنية المجتمع الروسي آنذاك, وما نتج عن ذلك من التفكك الأسري والمجتمعي وهبوط في القيم الاجتماعية, ويتطرق أيضاً إلى نبذ الأفكار الأجنبية الغريبة التي بدأت تتسرب إلى المجتمع الروسي. يقدّم الكاتب من خلال بطل روايته وهو المدرّس الفقير مادياً, مثالاً عن الصراع النفسي الداخلي بين الشخص وذاته, وهو الإنسان المتعلم الراقي المقبول في مجتمعه والحاصل على شهادة دراسية, ولكن فقر الحال قد نال منه, فيدفعه واقعه المزري هذا إلى امتهان القمار والدخول في عالم المقامرة.

لا يمكن على الإطلاق تجاهل أو تناسي دور الثقافة والمثقفين في بناء الوعي الجمعي والقيام بالدور التنويري, ولكن في الوقت نفسه لا ينبغي تحميل المثقف أكثر مما يحتمل, لأنه في النهاية أحد أفراد المجتمع, والجهود الرامية إلى التطوير والتنوير ينبغي أن تكون جهوداً جماعية لا فردية, ثم إن المثقف هو أحد أفراد المجتمع, وهو نفسه قد يعاني ما يعانيه كل فرد في بيئته الاجتماعية, وهذا يفتح الآفاق للعمل في إطار الجمعيات والمنتديات الثقافية والتركيز على العمل الجماعي إلى جانب الجهود الفردية.

6ـ الثقافة ما بين الاستقلالية والتحولات السياسية والاقتصادية

تعيش البشرية في حاضرها كما في ماضيها أزمة في مفهوم الاستقلالية, ففي الوقت الذي تنشط فيه الحركات السياسية والنظريات الاقتصادية والرؤى والأفكار الثقافية, فإن مسألة الارتباطات والأجندات تفرض نفسها في كل ميدان, بحيث لا يمكن الحديث بشكل مطلق عن شيء اسمه الاستقلالية الكاملة والحيادية المطلقة, إذ لا يمكن التوصل إلى إعلام مستقل بشكل كامل, أو مثقف محايد بشكل كلي, أو أدب مستقل بنسبة تامة, لأنه من الناحية الشخصية للأديب الملتزم فإنه يرى في نفسه مسؤولاً أمام الجماهير وقضاياه المصيرية, في حين أن المثقف الثوري هو الآخر يرى في نفسه المدافع عن القيم والقضايا الجماهيرية والإنسانية بشكل عام في مواجهة أنظمة سياسية متسلطة, ونظريات اقتصادية مجحفة,  لذا نراه في سعي دائم إلى مناهضة تلك الممارسات التي تتنافى مع القيم الثقافة الثورية التي ترمي إلى تحقيق العدالة وترسيخ المساواة, والأمر نفسه ينطبق تماماً على الفنان الملتزم, الذي يكرّس نتاجاته الفنية في خدمة النهوض بمصير الإنسان والدفع بقضاياه الجوهرية إلى الأمام في وجه المظالم والآلام التي تحيط به جرّاء سيطرة قوى الهيمنة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

هذا الأمر يدفعنا إلى أن نتساءل وأن نفكر بصوت مرتفع حول وجود ثورة ثقافية عبر التاريخ, فإذا علمنا أن الثورة السياسية بمفهومها المعروف لدى الجميع, تمثّل القطيعة الكاملة لوضع سياسي قائم وإحلال وضع جديد بدلاً منه, فإن الثورة الثقافية ـ إن وُجدت ـ ليست على تلك الصورة, إذ لا ينبغي لها أن تقوم على اعتماد القطيعة, لأنه لا يصحّ قطع أوصال وسيرورة الحالة الثقافية المتوارثة, فالحالة الثقافية حالة تراكمية وليست وليدة جهة معينة أو فريق محدد من الناس كما هي الحال في الثورات السياسية أو الاقتصادية, لذلك فإن الحالة الثقافية تشكل أرضية أو إصلاحاً تحتياً, ومن هنا فإن كل حالة سياسية أو اقتصادية جديدة تريد أن تُظهر نفسها إلى الوجود, لا بدّ لها من الاستناد إلى الحالة الثقافية بصفتها النواة والأرضية لولادة كل جديد, بمعنى أن الإصلاحات السياسية لا يمكن أن تتكلل بالنجاح ما لم يكن هناك تأسيس لإصلاحات ثقافية أفقية بين الفئات الاجتماعية كافة.

حين تسعى المجتمعات إلى التحرر وإلى التغيير السياسي في بنية الدولة وفي القيم والمبادئ السياسية والمنطلقات الفكرية والنظرية السائدة التي تشكّل البنية الفوقية في المجتمع, وفي محاولة سعيها إلى إطلاق الحريات العامة وتحرير المرأة وتحقيق تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية,  فإنها تصطدم بأنواع مختلفة من العراقيل والمقاومة, منها:

ـ مقاومة أصحاب النفوذ والتسلط والمصالح, وهي الفئة المستفيدة من الوضع القديم السائد, لأنهم يخشون أن يجرّدهم الوضع الجديد من امتيازاتهم تلك التي يجنونها على حساب المجتمع بمختلف شرائحه, وفي الأدبيات السياسية يُطلق على هذه الفئة “مراكز مقاومة التغيير”.

ـ الفئة الثانية هي التي تمثّل المقاومة الثقافية التي تنبع من المجتمع ذاته, ولكن هذه مقاومة مبطّنة بدوافع سياسية, تدفع بها الزعامات السياسية لعرقلة المشروع الثقافي الجديد الذي يرون فيه تهديداً للخارطة الثقافية التي رُسمت بأقلامهم خدمةً لمشروعهم السياسي.

في هذه الحالة تبرز فكرة إمكانية استقلالية الثقافة وحيادية المثقف أمام الواقع السياسي والاقتصادي القائم, ومدى انخراط الثقافة في مجال العمل على التغيير لصالح المجتمع.

خاتمة

من الواضح أن الثقافة تساهم بشكل فاعل في توجيه أفكار وسلوك الشعوب سلباً كان ذلك التوجيه أم إيجاباً, ومن المفروض أن يكون هذا التأثير إيجابياً من حيث المبدأ والنتائج, إلا إذا تم تحريف المقصود من الثقافة نفسها وتم إخراج المقاصد المرجوّة منها من مسارها السليم والمنطقي, وهذا يتوقف بشكل حاسم على نوع وطبيعة الثقافة السائدة في الوسط الاجتماعي, لكن الثابت هو أن الفنون والثقافة تلعب دوراً إيجابياً في التنمية البشرية والدفع بها قُدماً إلى الأمام, والسير بها نحو نوافذ الإبداع ومسالك التميّز والرخاء الفكري والغنى الحضاري, بالطبع كل هذا بفضل إضفائها طابعاً مرناً ومفهوماً حضارياً وراقياً على السلوك الفردي والجماعي معاً, ومن الضروري هنا أن تلعب المؤسسات الفكرية ومراكز الأبحاث والدراسات ودور النشر دوراً ملفتاً وبنّاءً في هذا الميدان.

ليس من الغريب أن الحديث في الفنون والثقافات يطرح على الدوام تساؤلات عن قيمتها الجمالية ووظيفتها الاجتماعية, وهل بالفعل يمكن اعتبار الحواس الإنسانية الخمس صاحبة الاختصاص, بمعنى أن يكون البصر صاحب القدرة في الحكم على جمالية الفن التشكيلي, وأن يكون السمع هو الآخر من يمتلك مفاتيح الحكم على الذوق والارتقاء الموسيقي؟.

ما من شكّ كذلك في أن موضوعاً مثل هذا يتطلب طاقة روحية فوق الطاقة الحسية, وبناء على هذا يمكن القول إن جميع البشر بإمكانهم أن يتذوقوا الفنون ولكن  بدرجات متفاوتة تبعاً لمستوياتهم المعرفية والفكرية, وأيضاً بالنظر إلى ميولهم ورغباتهم, وهذا ما يجعل بعض الأشخاص يمرّون على الأعمال الفنية بشكل عابر ولا يتذوّقونها, بينما هناك فئات من الناس يقرؤون في العمل الإبداعي ما لم يستطع غيرهم قراءته, ويستكشفون ما لم يقدر الآخرون رؤيته وسماعه, فالبصيرة غير متوقفة على المشاهدات الحسية فحسب.

ولا ننسى من جانب آخر أنه ثمة اختلاف كبير ما بين ممارسة العمل الفني بشكل عملي وبين الدراسات الفنية النظرية التي تستند إلى التاريخ, وكذلك الأمر بين الدراسات الاجتماعية التي تتمحور حول الدور الاجتماعي والإنساني المنوط بالثقافات والفنون, وما المطلوب من الفنان والمثقف.

 

 

 

 

المراجع

ـ الفنون في الشرق الأوسط: مجلة الشرق الأوسط الديمقراطي ـ العدد 53

ـ مقالة “دور الثقافة في تطوير المجتمع وتوجيهه” ـ ساجدة عبد الحليم

ـ فنون الشرق الأوسط والعالم القديم: د. نعمت إسماعيل علا م

ـ فنون الشرق الأوسط في العصور الإسلامية: د. نعمت إسماعيل علّام

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى