أبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتملف العدد 60

حرب المياه

مراد حسن

مراد حسن 

تعتبر المياه العنصر الأساس لوجود الحياة (بكل أصنافها) على وجه المعمورة، وكانت المياه منطلقاً أساسياً لنشوء وبناء الحضارات، بدءاً من حضارة مزوبوتاميا مروراً بالحضارة الفرعونية في مصر على ضفاف نهر النيل وليس انتهاءً بالحضارات المتنوعة التي تشكلت على ضفاف الأنهر في بقاع عدة من كوكبنا الأخضر.

فالماء هو هِبةٌ وهبَها الله سبحانه وتعالى للأرض وكان مصدراً لإحياء الأرض كما ورد في قوله تعالى: «وجعلنا من الماء كل شيء حيَّ أفلا يؤمنون»، فكما كان الماء قاعدةً أساسية لبناء وتقدم الحضارات كان أيضاً سبباً وعاملاً رئيساً لانهيارها، فالقدسيّة المحيطة بالماء حوّلها إلى مركز للاستقطاب والتجمع وبالتالي النقطة الأولى لشرارة النزاعات.

فمنذ الزمن الأزل كان الصراع البشري حول الماء ومصادره موجوداً، على الرغم من أنّه من النادر ما كانت تنشب الحروب التقليدية بسبب المياه فقط، إلا أنّها؛ (أي المياه) كانت تاريخياً مصدراً للتوتر وعاملاً في النزاعات التي تبدأ لأسباب أخرى، وهذا الصراع الأزلي تفاقم أكثر في الآونة الأخيرة مع ظهور مشكلة تغيّر المناخ وارتفاع درجة حرارة الأرض والبحار والمحيطات وتقلبات الطقس مما أثّر بشكل كبير على كمية الأمطار الهاطلة، وبالتالي نقص المسطحات المائيّة وشحّ المياه الجوفية.

ذهبت اللجنة الدولية للتغيرات المناخية بأن درجة حرارة الأرض آخذةٌ في الارتفاع وستظل ترتفع نحو ( 5,8) درجة مئوية مع نهاية القرن الحادي والعشرين, أي ضعف ما تنبأ به التقرير الصادر في عام 1995 , وسيعمل هذا الارتفاع غير المسبوق في درجات الحرارة على إتلاف المحاصيل الزراعية وندرة المياه وتفشي الأمراض وكذلك حدوث الفيضانات والانهيارات الصخرية والأعاصير, هذه المشكلة توازت مع مشكلة أخرى أكثر خطورةً؛ ألا وهي ازدياد عدد سكان الأرض الذي بلغ (8 مليار نسمة في عام 2022 م ومن المتوقع أن يصل العدد لـ 10 مليارات نسمة في عام 2050م) وما زاد الطين بلةً هو تجمع هذا العدد الهائل من البشر في النصف الشمالي للكرة الأرضية، وفي نقاط محددة على وجه الأرض مما مهّد لنشوء الصراعات على مصادرٍ مستدامة للمياه , فهناك 20% من سكان الأرض يتمتعون وحدهم بحوالي 80% من الموارد الطبيعية للكرة الأرضية، ما يعني حرمان 80% من سكان الأرض من نصيبهم العادل في مواردها، وفي مقدمتها المياه, ومن أخطر ما يرد في ذلك هو أنّ الجفاف ليس كارثة طبيعية كما يتردد، بل هو كارثة غير طبيعية أو مصطنعة، أي بفعل فاعل، والفاعل هو التكنولوجيا الحديثة انطلاقاً من مقولة << إن مياه الأنهار تهدر في البحر >> .

وعلى أية حال فإن الصراع على الموارد الطبيعية ظل منذ الأزل سمة بني الانسان ولكن هذا الصراع ظل يتطور ويتغير من جيلٍ الى جيلٍ، وهذا الصراع _ و إن لم توجد أسبابه_ فإن الدول ذات المصالح الخاصة تسعى وتعمل إلى خلق ذلك الصراع وبأي أسلوب وبأي ثمن.

والنزاع على المياه كما عرّفته الأمم المتحدة هو مُصطلح يصف النزاع بين دول أو ولايات أو مجموعات للحصول على الموارد المائية , وتعتبر الأمم المتحدة النزاع على المياه نتيجةً للمصالح المتعارضة لمستخدمي المياه، سواء كانت شخصية أو عامّة , وتظهر نزاعات المياه بشكل كبير عبر التاريخ بالرغم أنه من النادر ما كانت تنشب الحروب التقليدية بسبب المياه فقط ( كما أسلفنا سابقاً)  وتنشأ النزاعات على المياه لعدة أسباب، تتضمن النزاعات الإقليمية والقتال من أجل الموارد، والأفضلية الاستراتيجية, وبهذا الخصوص طوّر معهد المحيط الهادي للدراسات في التنمية والبيئة والأمن قاعدة بيانات شاملة فيما يخص النزاعات المتعلقة بالمياه «التسلسل الزمني لنزاعات المياه» حيث تضمن الجدول العنف الحاصل بسبب المياه خلال ما يقارب 6000 عام الماضية .

تشمل هذه النزاعات الصراع على الماء العذب والماء المالح بين الدول أو ضمن حدودها, وتحدث النزاعات في الغالب على المياه العذبة, وذلك بسبب ضرورة موارد المياه العذبة وندرتها، فهي أساس نزاعات المياه الناشئة بسبب الحاجة لمياه الشرب والرّي وتوليد الطاقة، ولأنّ المياه العذبة موردٌ طبيعي حيوي موزع بشكل غير متساوٍ، فإنّ توفرها يؤثر غالبًا على الظروف المعيشية والاقتصادية للدولة أو لمنطقة ما , يمكن أن يضع نقص خيارات إمدادات المياه ذات الكلفة المناسبة كما هو في مناطق الشرق الأوسط والذي يعتبر عنصرًا من عناصر المشاكل المرتبطة بالمياه.

وإن توسّعنا أكثر في الحديث عن هذه الحرب (حرب المياه) نجد أنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أكثر المناطق عرضةً لهذه الحرب لأسبابٍ عدة: أولها؛ أنها تقع في نطاق المناطق الجافة أو شبه الجافة, عدا أنّها من أكثر البؤر توتراً من الناحية الأمنية والسياسية في العالم، وبالتالي فالصراع والتنافس على المسطحات المائية سواء أكانت مالحة (البحار والمحيطات) أو العذبة ستكون القشة التي ستكسر ظهر البعير, ووفقاً لكلام العلماء والخبراء فالعالم سيشهد في القرن الحادي والعشرين صراعاً حاداً على المياه يشبه الى حد كبير الصراع على النفط, ويعتقد أنّ أكثر من مليار نسمة في العالم قد يعاني من آثار نقص المياه خصوصاً مع ازدياد حالة الجفاف وزيادة الطلب على المياه، لذلك فليس من المستبعد أن تشهد كلّ من آسيا وأفريقيا حروباً هدفها السيطرة على مصادر المياه، ينفخ في هذه الحرب ويسعّر لهيبها أصحاب المصالح والاحتكارات ومصاصو دماء الشعوب.

وبناءً على ذلك فمن أهم الأمور التي يتم التركيز عليها الآن خصوصاً لمنطقة الشرق الاوسط وشمال إفريقيا في (دوائر صنع القرار الغربية ) هو الصراع على المياه, ويتم إعداد مسرحية لذلك منذ زمنٍ ليس بالقصير عن طريق الحديث عن أزمة المياه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا, ووفقاً لورقة تقييم المخاطر التي أعدتها وكالة الاستخبارات الامريكية ( سي أي أيه ) أنّ هناك – على الأقل – عشرة مواقع في العالم يمكن أن تنفجر فيها الحرب بسبب تناقص مصادر المياه المشاركة بين دولها وتقع معظم هذه الأزمات والمواقع المحتملة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

أهم الأزمات التي جرت في الشرق الأوسط والدول المحيطة بها بسبب التنافس على المياه:

  • خلاف ونزاع سوري عراقي مع دولة الاحتلال التركية حول حصة الدولتين من مياه نهري الفرات ودجلة.
  • توتر بين العراق وسوريا في عام 1975 بسبب تراجع منسوب المياه في الجانب العراقي.
  • النزاع بين السنغال وموريتانيا في 1989 حول الحقول المائية في نهر السنغال.
  • الصراع العربي الإسرائيلي حول مياه نهر الأردن والذي كان سبباً مباشراً لحرب عام 1967, على الرغم من أنّ (3%) فقط من مجرى نهر الأردن يقع ضمن حدود إسرائيل إلا أنّ إسرائيل تستغلّ مياه النهر لتغطية (60%) من احتياجاتها المائية، بالإضافة إلى النزاع الإسرائيلي مع كل من سوريا ولبنان حول مياه مرتفعات الجولان ومياه نهر الليطاني في لبنان.
  • نزاع الباكستان والهند حول حوض نهر السند والري في إقليم كشمير المتنازع عليه.
  • التوتر بين السودان ومصر حول حصة كل بلد من مياه نهر النيل.
  • أزمة مصر و السودان مع إثيوبيا (والمستمرة إلى يومنا هذا) حول سد النهضة وحصة الطرفين من مياه نهر النيل.

على الرغم من أنّ هناك ( 3600) معاهدة واتفاقية حول الحقوق المائية وكيفية تقاسمها صادرة من الأمم المتحدة , وتتمحور معظم تلك الاتفاقيات والمعاهدات حول مبدأين أساسيين وهما: الاستخدام العادل والرشيد للمياه، ومبدأ عدم الإضرار بالغير, إلّا أنّ كلّ طرف بات يفسر المبدأين آنفَين الذكر حسب مصالحها الخاصة, فمن المتوقع في عام 2025 أن تكون هناك (56) دولة حول العالم تعاني نُدرة المياه، علماً أنّ الرقم في عام 1998 كان حوالي (28) دولة، وسوف يكون هناك (817) مليون نسمة يعاني نُدرة المياه في السنة نفسها، بينما كان العدد (131) مليوناً في سنة 1990.

 

احتكار تركيا لمياه نهري الفرات ودجلة :

 

في عام 1987 وقّعت الدولة السورية اتفاق تقاسم مياه مع تركيا تعهدت أنقرة بموجبه أن توفر لسوريا (500) متر مكعب في الثانية كمعدل سنوي من المياه, لكن هذه الكمية انخفضت بأكثر من النصف منذ أوائل 2021، وذلك بسبب بناء تركيا لعدد من السدود على مجرى نهر الفرات ضاربةً كل الاتفاقيات الدولية حول تقاسم المياه بعرض الحائط، حيث وصلت كمية المياه في فترات معينة إلى (200) متر مكعب في الثانية, وأدى ذلك الاحتكار إلى أدنى مستوى لنهر الفرات على الإطلاق، مما تسبب في أسوأ موجة جفاف منذ عام1935 وهو تراجع تاريخي ومخيف في منسوب المياه نظراً لأن هذا النهر هو المصدر الرئيس لمياه الزراعة والاستهلاك المنزلي وإنتاج الكهرباء لعموم سوريا, ويهدد الانخفاض الكبير في مخزون المياه  للسدود الموجودة على النهر على الإنتاج الزراعي , فأكثر من (200 ألف هكتار) من الأراضي المروية مهددة بالجفاف والقحط  في حال استمرّ انخفاض منسوب مياه نهر الفرات، ونتيجة لذلك فقدَ المزارعون المحليون 80% من محصولهم , ناهيك عن تأثير الثروة الحيوانية بذلك الاحتكار حيث يضطر المزارعون إلى بيع مواشيهم بسبب نقص العلف نظراً لندرة العشب، أو عدم قدرتهم على شرائه لزيادة التكلفة بنسبة (200%).

إضافة إلى ما ذكر آنفاً فإن توفير المياه الصالحة للشرب (وهو العنصر الأساسي) معرض للخطر أيضاً، حيث يتم تقنين مياه الشرب في مختلف أنحاء البلاد، ما يجبر الناس على الاعتماد على مصادر المياه غير الآمنة أو اختيار خدمات نقل المياه الخاصة المكلفة الشاحنات (كما يحصل في محطة علوك التي تروي مدينة الحسكة التي تتعرض بين فينةً وأخرى للانقطاع من قبل مرتزقة الاحتلال التركي).

إنّ السدود الثلاثة على نهر الفرات توفر نحو 70% من الكهرباء المستهلكة في سوريا, حالياً لا تعمل سوى أربعة توربينات من أصل ثمانية في سد الطبقة بسبب نقص المياه منذ عام 2021، ما انعكس بشكل سيء على الشعب السوري بمختلف مكوناته.

 

 

صورة جسر الرقة والانخفاض الواضح في منسوب مياه نهر الفرات

 

يرتبط الأمن الغذائي لأيّ دولة أو أي شعب ارتباطاً وثيقاً بكميات المياه المتوفرة، سواء كانت خارجية أو باطنية، ويشكل نهرا دجلة والفرات ورقةً حاولت تركيا دائماً استخدامها لنيل مآربها من شعوب المنطقة.

إنكار حروب المياه بدأت بالفعل لكن القابضين والمتحكمين بزمام الأمور في العالم لا يريدون الاعتراف بذلك، بل يغلفونها بالقول إنها حروب وصراعات حول الهوية أو المعتقد الديني وربما حول العرق (كما هو الحال فيما يسمى بالصراع العربي الاسرائيلي), أما في الشرق الاوسط فإن الصراع على المياه ربما يكون سمة المستقبل ذلك أن تحقيق الامن المائي يعتبر من أهم الاولويات في المرحلة المقبلة لذلك فإنّ النزاع على المياه قد يكون من العوامل المضافة الى العوامل الموجودة المسببة لعدم استقرار المنطقة , وهنا نتذكر حديث الكاتب الأمريكي جول كولي في كتابه حرب المياه حيث قال: (إنّ الشرق الأوسط بعد نضوب النفط سوف يشهد حروباً بسبب الصراع على المياه، ذلك أن خطط التنمية في المنطقة سوف تعتمد على المياه فقط).

ظل الماء وما زال وسوف يستمر من أهم الموارد الطبيعية على الإطلاق ذلك أنه عصب الحياة والعمود الفقري لها فبدونه لا يمكن لكائن حي أن يعيش وبشحه تتدنى كل الفعاليات الاقتصادية والأنشطة البشرية الاخرى، فالماء ضروري في المعيشة اليومية من مأكل ومشرب ونظافة ناهيك عن الأمور الأخرى مثل الزراعة والصناعة وتسيير عجلة الحياة لذلك فإن الماء هو أغلى مركب يتعامل معه الإنسان في حياته العامة والخاصة.

المصادر والمراجع :

حروب المياه …. الصراعات القائمة في الشرق الأوسط : فاندانا شيفا

حرب المياه : جول كولي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى