أبحاث ودراساتافتتاحية العددليلى موسىمانشيتملف العدد 59

المنطقة الأمنة.. شرعنة للميثاق الملي

ليلى موسى

المنطقة الأمنة.. شرعنة للميثاق الملي

ليلى موسى

 

كانت الأزمة السوريّة أحد الحواضن، والفرص الذهبية للدولة التركيّة بتحقيق استراتيجيتها وأحلامها التوسعيّة الاحتلاليّة عبر إعادة إحياء أمجاد العثمانيّة البائدة، والمتمثل بما يعرف “الميثاق الملّي”.

لذا كانت من الدول السباقة التي تدخلت في الشأن السوري مع بداية الحراك الثوري عبر خطاباتها الغوغائيّة والديماغوجيّة، وتسخير كافة الأدوات والتكتيكات وكل ما من شأنه يساهم في تحريف مسار الحراك الثوري السلمي وعسكرته وايصاله لحالة بما يعرف بالأزمة من الصعب حلها والعمل على إطالة أمدها.

فكانت السياسات التركيّة القائمة على الإدارة بالأزمة السوريّة أحد الفواعل الأساسية لمآلات الأزمة السوريّة مكتسبةً المزيد من الوقت والفرص لتمرير أجنداتها الاحتلاليّة في سوريا إلى جانب تسخير فعاليتها في الأزمة السوريّة كورقة ضغط تتفاوض بها في ملفات أخرى.

وعلى هذا الأساس برمجت جميع تحركاتها الداخليّة والخارجيّة ورسمت الاستراتيجية وكيّفت الأدوات والوسائل لتطبيق وشرعنة الميثاق الملّي. وكانت أولى هذه الخطوات عبر طرح أردوغان مشروع المنطقة الأمنة في أيار عام 2013 أثناء زيارته واشنطن ولقائه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بذريعة حماية المدنيين السوريين الفارين من جحيم الحرب، وحماية حدود تركيا وشعبها من التهديدات الإرهابية.

ولكنه عاد خالِ الوفاض، لكن لم يثنيه ذلك من المضي قدماً للعمل على تنفيذ مشروعه. وتجلى ذلك بوضوح عبر فتح حدود بلاده على مصرعيها لاستقبال السوريين، بل وتشجيعهم على الهجرة من قبيل نصرة الشعب السوري ومنحهم في بادئ الأمر بعض الحوافز، حتى باتت تركيا حاضنة لأكبر عدد من اللاجئين السوريين مقارنة مع الدول الأخرى.

حتى أضحت قضية اللاجئين السوريين ورقة ضغط قوية رجحت كفة الميزان لصالح الجانب التركي على طاولة التفاوض في العديد من المناسبات، لتتمكن تركيا عبرها الحصول على العديد من التنازلات والمكاسب.

ظل المطلب التركي بإقامة المنطقة الأمنة الحاضر الغائب في جميع اللقاءات والاجتماعات في المحافل الدولية، بالتزامن مع ذلك، العمل الحثيث على دعم التنظيمات الإسلامويّة بمختلف تسمياتها ذات المنبع الايديولوجي، وكانت أعتى تلك التنظيمات ما يعرف بـ “داعش” لتأسس دويلة إسلاموية على الشريط الحدودي السوري الشمالي.

وبعدما فشلت في تحقيق مسعاها عبر التنظيمات الإرهابيّة بفضل المقاومة البطوليّة لقوات سوريا الديمقراطيّة مع شركائها في التحالف الدولي. ومع كل انتصار كانت تحققه قوات سوريا الديمقراطيّة على الإرهاب والتطرف، وبالتالي كان يشكل تهديداً جدياً على الأمن الوجودي التركي وحلمها التوسعي في سوريا.

معادلة التفوق السوري هذه مقابل الانحسار التركي في ظل التطورات والمستجدات المتسارعة على الساحة الدوليّة والإقليميّة ورسم خرائط وتحالفات، وحتمية التغيير التي تفرضها نفسها بقوة في بنية الأنظمة السياسيّة بعد مئوية اتفاقية سايكس بيكو وحدودها المصطنعة المناهضة لتطلعات الشعوب.

سارعت تركيا عام 2016 بذريعة مكافحة ربيبتها داعش باحتلال إعزاز وجرابلس والباب بعد فشلها بتحقيق مآربها عبر أدواتها من الفصائل والتنظيمات الإرهابيّة لضمان الحفاظ على أمنها الوجودي في سوريا، وقطع الطريق أمام قوات سوريا الديمقراطيّة بعد تحرير مدينة منبج من إرهاب داعش، وتهيئة الأرضيّة لتطبيق الميثاق الملّي حتى عام 2023.

ولم تكتفِ بذلك مع قرب القضاء على داعش في أخر معاقله وعبر اتفاقية مشؤومة تكللت بمقايضة الغوطة مقابل عفرين، دخلت مرحلة جديدة فرضت على المجتمع الدولي خطوة ثانية في تنفيذ المنطقة الأمنة بعد احتلالاتها عام 2018 متسببة بالتهجير الجماعي لسكان عفرين الأصلاء وتوطين فصائل إسلامويّة وعوائلهم فيها، وارتكاب انتهاكات منافية لجميع الأعراف والمواثيق الدوليّة، عبر ممارسة عمليات هندسة تغيير ديمغرافية وجينوسايد بحق أهالي عفرين الأصلاء، وبناء مستوطنات بتمويل من الجمعيات الإخوانية القطريّة والكويتيّة والفلسطينيّة.

ظل الطرح التركي بإقامة المنطقة الأمنة والعودة الطوعية للاجئين وإعادة توطينهم فيها قائمة في كل مرة تشعر بتهديد على أمنها الوجودي في سوريا، والطرح عاد مجدداً بعد القضاء على ما يسمى بدولة الخلافة في بلاد الشام والعراق لتعيد سيناريو احتلال عفرين باحتلالها لكل من سري كانيه وكري سبي.

وبعد جميع محاولاتها التي باءت بالفشل، والعمل على إنقاذ عناصر وعوائل تنظيم داعش، للعبث بأمن واستقرار وضرب مكتسبات الإدارة الذاتية وبالتالي كسب المزيد من الوقت لاستكمال مشروعها الاحتلالي.

على خلفية مسرحية استنبول المفبركة بشن عملية جوية ما تسمى “مخلب السيف” تمهيداً لشن عملية عسكرية برية لإنشاء منطقة أمنة لإعادة توطين مليون ونصف مليون لاجئ فيها.

وما إصرار تركيا هذه المرة على العملية العسكرية، إلا لكونها أمام مرحلة مفصلية تاريخيّة يتحدد بموجبها مصير حكومة العدالة والتنمية 2023، أمّا تركيا الأردوغانيّة العثمانيّة، أو أن تكون تركيا بمنظومة سياسيّة جديدة مواكبة للتطورات والمستجدات الإقليميّة والعالميّة وتطلعات الشعب التركي كغيره من الشعوب المنطقة التواقة إلى الحرية والعدالة الاجتماعيّة والديمقراطيّة.

مرحلة الوجود من عدمه للسلطات التركيّة، باتت واضحة المعالم من خلال حالة التخبط التي تعيشها عبر تصريحات متناقضة بخصوص تفجير استنبول، ولم تتمكن من إقناع حتى الجاهل بروايتها، إلى جانب الإفصاح صراحة عن نواياها عندما صرّح وزير خارجيتها سليمان صويلو “بأنّ (62%) من اللاجئين السوريين في تركيا قد جاؤوا من أراضي حدود الميثاق الملّي”، معتبراً بأن ذلك سبباً يخوّلهم الأحقيّة في أن يصبحوا أتراكاً”، وهو ما كشف عن رؤية رسمية تركيّة تنبئ عن عدم الاعتراف بحدودها السياسيّة الحاليّة بموجب معاهدة لوزان 1923.

ما تدعيه تركيا بإقامة منطقة آمنة لتأمين حياة المدنيين، تسبب بتهجير الآلاف من المدنيين العزل من مناطق سكناهم الأصليّة. يبدو في العملية الأخيرة تحت مسمى “مخلب السيف” أن عامل الزمن فاصل ومصيري في تحقيق مآربها بأقصر فترة زمنية، وفرض وقائع جديدة على المجتمع الدّولي مستغلة الصمت الدولي بذريعة حماية أمنها القومي، وقامت باستهداف المرافق الحيويّة والخدميّة بحيث تعمل على شل الحياة، كمحطات الكهرباء والمدارس والمشافي ومعامل الغاز وآبار النفط. ولنشر المزيد من الإرهاب والترهيب وقصف السجون ومخيمات عناصر تنظيم داعش لتسهيل فرارهم، وإجبار الشعب على الهجرة والنزوح. ربما كانت تلك الممارسات التركية بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وفضحت ادّعاءاتها الكاذبة. أطماع تعرض الأمن والسلم الدوليين للمخاطر والتهديدات الجديّة. لذا سارعت العديد من الدول إلى إصدار بيانات تنديد واستنكار وتحذير من مغبة القيام بأي عملية عسكرية برية لا يحمد عقباها.

حيث لم يعد خافياً للمتابع في الأزمة السوريّة حجم التناقضات بين الطرح التركي وما تطبّقه على أرض الواقع. ففي الوقت الذي تدعي فيه إعادة اللاجئين وحماية أمنهم عبر إقامة منطقة أمنة، تسبّبت بتهجير الملايين من الشعب من مناطق سكناهم الأصليّة.

منذ الأيام الأولى من الحراك الثوري عملت تركيا بشكل ممنهج على تفريغ سوريا من الشعب والمتاجرة بقضية اللاجئين السوريين، ويبدو بعدما فشلت بتمرير أجنداتها الاحتلاليّة، يبدو أن ورقة اللاجئين التي بحوزتها ستستثمرها وتتاجر بها إلى أقصى حد في بازاراتها بالمحافل الدوليّة، لشرعنة احتلالاتها عبر إقامة منطقة أمنة بغطاء دولي مقونن، مستغلة سياسة “تصالح المصالح” كما هو معروف في العرف السياسي.

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى