افتتاحية العددجمال الحرازمانشيتملف العدد 59

الغرامشية ودفاتر السجن

جمال الحراز

الغرامشية ودفاتر السجن

جمال الحراز

 

ربما كان الفیلسوف اليوناني كورینلیـوس كاسـتریادیس الوحيد الـذي صـاغ لنـا أجوبـة ملائمة لواقعنا وملائمة للخطاب الغرامشـوي, حیـث كتـب فـي فقـرة أسـماها براكسـیس ومشـروع ًفي كتابه القیّم “تأسيس المجتمع تخیلیاً “، نحـــن نــدعو براكســیس ذلــك الفعـــل الـــذي یــتم التطلــع ضــمنه إلـــى الآخـــر أو إلـــى الآخرين علـى أنهـم كائنـات مسـتقلة بـذاتها، ویـتم اعتبـارهم علـى أنهـم العامـل الجـوهري فـي تطوير اســتقلالهم، إن السياسة الحقيقية والتربية الحقيقية، والطـــب الحقيقي جميعها تنتمي إلى فلسفة الممارسة “البراكسیس”. داخل البراكسیس ثمة شيء ینبغي فعله، من حقيقة الطبيعة الفكرية للإنسان والمجتمعات والكيانات أن تصيبها التغيرات أو تخضع للتغییر سواء في أنماطها التقليدية، أو في ممارساتها الفكرية ، أو في أنظمتها السياسية والاقتصادية، وهذا يدل أن تلك المجتمعات والكيانات فـي حاجـة ماسـة إلى أن تكشف خارجيتها بعدما مضى علیها دهر من الزمن وهي غافية في ماهيتها.

والسؤال الذي نود طرحه هنا هو:

كيف قرأ أنطونيو غرامشي التغيرات في الأنظمة العالمية، وعلى ماذا اعتمد؟

بطبيعة الحال هنا أن السؤال عن ماهیة التغيرات في الأنظمة العالمية إنما هـو تحصيل حاصل وبديهي، فهو یتحرك فـي فضـاء لا ينتمي إلى تاريخ ثابت وسياسة ثابتة وفلسفة ثابتة سواء على الصعيد السياسي، والاجتماعي، والإيديولوجي. فـي هذا البحث سأحاول أن أحدد موقع هذه الرؤية كما يراها غرامشي، الأمـــر الـــذي يجعل مجــال البحــث فــي دائــرة یحـــددها الخطـــاب السياسي والجيوسياسي، وعلاقة كل ذلك بغرامشي.

إن المتابع للكتابــات والأفكار والفلسفة التي طرحها أنطونيو غرامشـي السیاسـیة منهـا والثقافية والاجتماعية، يرى أن هنــاك علاقـة جدلية و ثالوثاً یحكم هذه الكتابات كنظام ، هذا الثالوت المتمثل في الفلســفة، والسياسة، والتاريخ، حیــث یعتبــر غرامشــي الفلســفة البعيدة والمنعزلــة عــن الواقــع وأحداثه، وصراعاته، ولا توثقه، أو تحياه، هي فلسفة لا تاريخية، بمعنـى أنهـا لا تتعامـل مـع وقائع تاريخية متغيرة، لأنها ساكنة، ومــا اســتوفت شــرطها التــاریخي، وعنــدما نقــول بالتاريخية هنــا فإننــا لا نعنــي ســرد الوقــائع، وأرخنتها بقــدر مــا نعنــي بهــا مجموعــة القــوانین التــي تحكم تطور الوجود .

هنـا تكمــن أهمية فكــر غرامشـي الفلســفي والسياسي, فهـو فـي الحقيقة لا ینظــر إلــى الواقع بعین واحدة، ولا یبحث فـي جانـب علـى حسـاب الجانـب الآخـر , فهو یتعامــل مــع الواقــع المتكثــر، والمتعــدد، والمتغیــر، والمحكــوم بــأكثر مــن ســلطة، ابتــداء بالسـلطة التقليدية بمؤسسـاتها المتعــددة إلـى الســلطة السیاســیة، ناهیــك عــن الســلطة الشــعبویة المتمثلـة بالخطـاب الـدیني الرمـزي، أو الشـعبي، حیـث یسـتعمل غرامشـي هـذه التعابير  حتى يفرّق بين الدين النخبوي ، والدین الخيالي، دین العاطفة والتجمهرات الشعبویة، بین الدین الرسمي ، والسياسي محــرك العصـر.

أولاً : غرامشي و الظروف والإشكاليات المحيطة بحياته :

لا یمكننـا أن نجعــل مــن دفـاتر السـجن فكـرة خارجــة عـن النســق الغرامشــي، وبعیــداً عـــن حیاتـــه، وعصــره السياسي، وتطـــوره الثقــافي لأن هـــذه الكراســـات وثيقة مكملـــة لحياة غرامشــي، وعصـــره السياسي، وبالتـــالي اذا مـــا غضضـــنا النظـــر عـــن موقعهـــا وأهمیتهـــا وطبيعة كتابتهـا, فإننا فـي الحقيقة نغـض النظـر عـن جانـب مهـم وخطير فـي السـیرة الذاتية لهذا المفكر العظيم، وكذلك حقيقة  الكراسات التي كتبها .

يقول غرامشي عن كراسات السجن أنها بــــؤرة حیـــــاتي الداخلية. وعدد ما كتبه غرامشي في زنزانته بلغ (٣٣) كراساً .

أما عن الظروف التي حكمت كتابة هذه الكراسات, فهي كُتبــت فــي اللحظـة التاريخية لهزيمة الثـورة (البروليتارية) فــي أوروبــا وتحدیــداً في ألمانیا وإیطالیا بعد الحرب العالمية الأولى, وبشكل دقیق نقول إن هذه الكراسات كتبت في الأزمة البنیویـة والهيكلية للرأسمالية، وأزمة تشـكل البديل البروليتاري الثـوري مــن الجهـة الأخرى، بمعنـى هـل تكـون البرولیتاریـا البديل المنطقي للأزمة الرأسمالية؟

إن مشـكلة هـذه الأزمـة مـن المفتـرض إنـها سياسية، وتكـون معالجتـها سیاسـیة أیضـاً، وهـذا بطبيعته یتـرك انعكاسـاته علـى طبيعة كتابـة كراسـات السـجن، لكـن عنـدما نقـرأ ترتیـب فصول الكراسات نجد أن التركيز على موضوع المثقف، وعلاقته بـالمجتمع، والتاريخ، وهـذا واضح خــلال دراســة كتــابه كالآتي  :

  1. قضایا التاريخ والثقافة
  2. ملاحظات حول السياسة
  3. فلسفة الممارسة (البراكسیس)

الذي یطرح نفسه الآن لماذا العمل السياسي جاء بعد العمل الثقافي؟ ولماذا لا نجد قضایا نضالية وثورية تقودها البرولیتاریا ؟

هــــل غرامشـــي انصـــرف عـــن العمـــل السياسي النضالي إلى خطاب الثقافة والمثقفین؟  وهل الإصلاح الثقافي یسبق العمل الثوري والسياسي؟

هذه الرسالة وغيرها تطـرح نفسـها أمـام الـنص الغرامشـوي، وإن كنـا نعلـم بـأن هنـاك ظروفاً مختلفة واجهـت عملية نقـل الكراسـات الأمـر الـذي أثـّر علـى طبيعة ترتیـب الأقسـام.

ناهیـك عـن ظــروف المراقبـة والمعاقبــة المفروضــة مــن قبـل السـلطات الفاشــیة علــى العمـل السياسي .

ثانياً: غرامشي والتغيرات الدولية والنظام العالمي:

إن المفهوم الجوهري الذي طرحه غرامشي هو مصطلح /interregnum/ أي التغيرات التي تصيب الأنظمة القائمة لتصعد بدلاً عنها قوى أخرى مهيمنة, وهذه باختصار الفكرة التي أراد غرامشي إيصالها إلى العالم بدلاً من استخدام مصطلحات الهيمنة والاحتلال وصراع الدول فيما بينها, وكذلك نظريات المؤامرة والتي انصبت في مجملها على مفهوم الفجوة المعرفية أو فجوة غاليلليو كما لمح إليها، أي البحث عن تفسيرات سهلة لظاهرات معقدة متل التغيرات في النظام الكوني والنظام العالمي وكذلك تفسيرات حدوث الأزمات الاقتصادية وغيرها.

لقد مرت أوروبا في مراحل تاريخها الحديث بأربع فترات متميزة هي :

  1. ثورات الربيع الأوروبي ونشوء توازنات وهيمنة بين عامي 1845-1875:

كما يمكن وصف هذه الفترة  بأنها فترة مهيمنة: كان هناك بالفعل اقتصاد عالمي كانت بريطانيا العظمى في قلبه. انتشرت المذاهب الاقتصادية المتوافقة مع السيادة البريطانية، ولكنها عالمية في الشكل (الميزة النسبية، والتجارة الحرة، والمعيار الذهبي) انتشرت تدريجياً خارج بريطانيا, ودعمت القوة القسرية هذا الأمر. حافظت بريطانيا على توازن القوى في أوروبا، وبالتالي منعت أي تحد للهيمنة من قبل أي قوة أرضية. كان لبريطانيا أيضًا سيطرة مطلقة على البحار والقدرة على فرض الطاعة على الدول المحيطية لقواعد السوق.

  1. التغيرات السياسية والجغرافية العميقة في أوروبا بين عامي 1875-1945

وفي هذه الفترة  تم عكس كل هذه الخصائص, لقد تحدت دول أخرى السيادة البريطانية, تزعزع ميزان القوى في أوروبا، مما أدى إلى حربين عالميتين. حلت الحمائية محل التجارة الحرة, وفي النهاية تم التخلي عن معيار الذهب وتفتت الاقتصاد العالمي إلى تكتلات اقتصادية. كانت فترة غير مهيمنة .

  1. نشوء النظام العالمي المهيمن و متعددة الأقطاب عامي 1945-1965 :

وفي هذه الفترة  بعد الحرب العالمية الثانية، أسست الولايات المتحدة نظامًا عالميًا مهيمنًا جديدًا كان هيكله الأساسي مشابهًا لبريطانيا العظمى في منتصف القرن التاسع عشر، ولكن مع المؤسسات والمذاهب التي تتكيف مع اقتصاد عالمي أكثر تعقيدًا والمجتمعات الوطنية الأكثر حساسية للتداعيات السياسية للأزمات الاقتصادية.

  1. تبلور النظام العالمي أحادي القطب بين عامي 1965وحتى الآن .

في هذه المرحلة ما بين نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، أصبح من الواضح أن النظام العالمي القائم على أساس القطب الواحد لم يعد يعمل بشكل صحيح. خلال السنوات غير المؤكدة التي تلت ذلك، ظهرت ثلاث احتمالات للتحول الهيكلي للنظام العالمي:

–  إعادة بناء الهيمنة مع توسيع سياسات الإدارة على غرار الخطوط التي تصورتها اللجنة الثلاثية .

– تفكك أكبر للاقتصاد العالمي حول المجالات الاقتصادية المتمركزة في القوى العظمى.

– نشوء القوى المضادة التي قام بها العالم الثالث والتي كانت بمثابة مقدمة للمطلب المشترك لنظام اقتصادي دولي جديد.

انطلاقًا من هذه التعليقات التوضيحية المؤقتة، قد يبدو تاريخيًا – لكي تصبح دولة مهيمنة – أن تنشئ وتحافظ على نظام عالمي يكون عالميًا في مفهومه، أي ليس نظامًا يكون فيه الدولة المهيمنة تستغل الآخرين بشكل مباشر ، بل بالأحرى نظام يمكن لمعظم الدول الأخرى (أو على الأقل تلك التي قد تجد نفسها في دائرة هذه القوة المهيمنة) أن تراه متوافقًا مع مصالحها الخاصة. يصعب تصور مثل هذا النظام من خلال مصطلحات مشتركة بين الدول فقط, لأن هذا من المرجح أن يسلط الضوء على الاختلافات في مصالح الدول. من المرجح أن يعطي الأولوية للفرص المتاحة لقوى المجتمع المدني للعمل على نطاق عالمي (أو نطاق المجال الذي تسود فيه الهيمنة).

يعتمد مفهوم النظام العالمي ليس فقط على تنظيم النزاعات بين الدول, ولكن أيضًا على مجتمع مدني معولم، أي نموذج إنتاج معولم يؤسس روابط بين الطبقات الاجتماعية المختلفة في البلدان المعنية. “وبالتالي، فإن الهيمنة العالمية هي توسع للهيمنة الداخلية – القومية – التي أنشأتها الطبقة الاجتماعية المهيمنة”.

تاريخيًا, تم تنفيذ أشكال الهيمنة من هذا النوع من قبل الدول القوية التي شهدت ثورات اجتماعية واقتصادية حقيقية. لا تغير الثورة الهياكل الاقتصادية والسياسية الداخلية للدولة المعنية فحسب، بل إنها تطلق العنان أيضًا للطاقات التي تتجاوز حدود تلك الدولة, وبالتالي، فإن الهيمنة العالمية هي في مراحلها الأولى توسع خارجي للهيمنة الداخلية (الوطنية) التي أنشأتها الطبقة الاجتماعية المهيمنة.

أصبحت المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافة، والتكنولوجيا المرتبطة بهذه الهيمنة الوطنية نماذج يتم الاقتداء بها في الخارج. إن مثل هذه الهيمنة المتوسعة تتعدى على البلدان الأكثر هامشية بطريقة الثورة السلبية. لم تشهد هذه البلدان نفس الثورة الاجتماعية العميقة، ولم يتم تطوير اقتصاداتها بالطريقة نفسها، لكنها تحاول دمج عناصر نموذج الهيمنة دون تعطيل هياكل السلطة القديمة, في حين أنها قد تتبنى بعض الجوانب الاقتصادية والثقافية للجوهر المهيمن، فقدرة البلدان المحيطة على تبني نماذجها السياسية أقل, تمامًا كما في إيطاليا، حيث اتخذت الثورة السلبية شكل الفاشية في فترة ما بين الحربين العالميتين، إن أشكالًا عديدة من الأنظمة العسكرية البيروقراطية توجه الثورة السلبية في أطراف اليوم. في نموذج الهيمنة العالمي، تكون الهيمنة أكثر كثافة وتماسكًا في المركز وأكثر اتساعًا بالتناقضات في الأطراف، وبالتالي فإن الهيمنة على المستوى الدولي ليست مجرد نظام بين الدول, إنه نظام داخل الاقتصاد العالمي بنموذج إنتاج مهيمن يتخلل جميع الدول ويربطها بنماذج إنتاج ثانوية أخرى, إنها أيضًا مجموعة من العلاقات الاجتماعية الدولية التي تربط الطبقات الاجتماعية في مختلف البلدان. يمكن صياغة الهيمنة العالمية على أنها هيكل اجتماعي، وبنية اقتصادية، وهيكل سياسي معاً .

ثالثاً : دور قوى الهيمنة العالمية والآليات التي تتبع لها :

إن إحدى الآليات التي يتم من خلالها التعبير عن المعايير العالمية للهيمنة العالمية تتجسد في المنظمات الدولية ومنظمات الظل .

في الواقع، تعمل المنظمات الدولية كعملية تتطور من خلالها مؤسسات الهيمنة وأيديولوجيتها.

من بين الخصائص التي تظهر الدور المهيمن للمنظمات الدولية، يمكننا ذكر ما يلي:

  1. تحتوي هذه المنظمات على القواعد التي تسهل توسع النظام العالمي المهيمن على كافة المجالات والأصعدة.

2.هذه المنظمات هي نتاج للنظام العالمي وقوى الهيمنة العالمية.

  1. هذه المنظمات تشرع أيديولوجيا و قواعد النظام العالمي وقوى الهيمنة العالمية.
  2. تستوعب هذه المنظمات نخب البلدان وخبراتها ومواردها .
  3. تستوعب هذه المنظمات الأفكار المضادة لقوى الهيمنة العالمية.

تحتوي المنظمات  الدولية على قواعد تسهل توسع القوى الاقتصادية والاجتماعية المهيمنة ولكن مع السماح للمصالح التابعة بإجراء تعديلات بأقل قدر من الضرر.

وتعتبر القواعد التي تحكم السياسة النقدية العالمية والعلاقات التجارية ذات أهمية خاصة. وهي مصممة في المقام الأول لتعزيز التنمية الاقتصادية. في الوقت نفسه، تسمح بالاستثناءات للتعامل مع المواقف الإشكالية؛ وقد تتم مراجعتها في ظروف معينة.

بالمقارنة مع قاعدة المعيار الذهبي، تقوم المنظمات الدولية بالمزيد من تقديم الضمانات للشواغل الاجتماعية المحلية في البلدان النامية  مثل البطالة، شريطة أن تكون السياسات المحلية متوافقة مع هدف الاقتصاد العالمي الليبرالي.

حيث يسمح نظام سعر الصرف العائم الحالي أيضًا بالعمل على المستوى الوطني مع احترام الشرط التالي: الالتزام بمواءمة السياسات الوطنية مع مصالح الاقتصاد العالمي الليبرالي.

وعادة ما يتم إنشاء المنظمات وقواعدها من قبل الدولة التي تفرض الهيمنة, حيث تهتم الدولة المهيمنة بضمان موافقة الدول الأخرى وفقًا للتسلسل الهرمي للسلطات داخل هيكل الهيمنة بين الدول. يتم استشارة بعض دول الدرجة الثانية أولاً ويتم تأكيد دعمها, ويتم السعي للحصول على الموافقة من بعض البلدان الأكثر هامشية على الأقل. يمكن ترجيح المشاركة الرسمية لصالح القوى المهيمنة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أو يمكن أن تكون على أساس دولة / صوت واحد كما هو الحال في معظم المؤسسات الدولية الكبرى الأخرى.

هناك هيكل تأثير غير رسمي يعكس المستويات المختلفة للسلطة الحقيقية سياسياً واقتصادياً، وهو ما يشكل الأساس لإجراءات صنع القرار الرسمي، كما تلعب المؤسسات الدولية دورًا أيديولوجيًا, فهي تساعد على تحديد المبادئ التوجيهية لسياسات الدولة وإضفاء الشرعية على بعض المؤسسات والممارسات على المستوى الوطني. إنها تعكس توجهات مواتية للقوى الاجتماعية والاقتصادية المهيمنة.

تستحوذ المنظمات الدولية على أعظم مواهب البلدان المحيطية، مذكّرةً بالممارسة السياسية للتحول. الأفراد في البلدان المحيطية، حتى لو فكروا في الانضمام إلى المنظمات الدولية بفكرة تغيير النظام من الداخل، محكوم عليهم بالعمل ضمن هياكل الثورة السلبية, وفي أحسن الأحوال، سوف يساعدون في نقل عناصر التحديث إلى الأطراف، ولكن فقط إذا كانت متوافقة مع مصالح السلطات المحلية القائمة. الهيمنة مثل الوسادة, تمتص الضربات, وعاجلاً أم آجلاً سيجد المعتدي المحتمل الراحة عليها. فقط عندما يتم تأسيس المشاركة في المؤسسات الدولية بحزم على تحدٍ اجتماعي وسياسي واضح للهيمنة – من خلال الاعتماد على كتلة تاريخية ناشئة ومضادة للهيمنة – ستكون قادرة على تشكيل تهديد حقيقي, لكن الاستيلاء على المواهب من الأطراف يجعل هذا السيناريو غير محتمل للغاية، كما يحتمل أن يمتص التحول الأفكار المضادة للهيمنة ويجعلها متوافقة مع عقيدة الهيمنة.

شكّل مفهوم الاكتفاء الذاتي على سبيل المثال، في البداية, تحديًا للاقتصاد العالمي من خلال الدعوة إلى التنمية المستقلة المحددة داخليًا. في الماضي، تغير معنى هذا المصطلح ليعني “الدعم من منظمات الاقتصاد العالمي للبرامج الاجتماعية في البلدان المحيطية”. تهدف هذه البرامج إلى تمكين سكان الريف من تحقيق الاكتفاء الذاتي ووقف الهجرة الريفية إلى المدن، من أجل الحصول على مستوى أفضل من الاستقرار الاجتماعي والسياسي بين السكان الذي لا يستطيع الاقتصاد العالمي الاندماج فيه بشكل صحيح, وهكذا يصبح الشعور الجديد بالاكتفاء الذاتي مكملاً ومفيدًا لأهداف الهيمنة على الاقتصاد العالمي. لذلك، يمكن رفض الطريقة  التي تهدف إلى إحداث تغيير في بنية النظام العالمي باعتباره ضلالًا تامًا.

إن فرص استيلاء الراديكاليين على قوة البنية الفوقية للمنظمات الدولية ضعيفة للغاية, مهما قال دانيال باتريك موينيهان، فإن راديكاليي العالم الثالث لا يسيطرون على المنظمات الدولية, وحتى لو فعلوا ذلك، فلن يحصلوا على أي شيء. فكل هذه الهياكل الفوقية ضعيفة الصلة بالقواعد السياسية الشعبية, إنهم مرتبطون بالطبقات الوطنية المهيمنة في البلدان المركزية، ومن خلال هذه الطبقات، لديهم قاعدة أوسع في هذه البلدان, وفي الأطراف يتصلون فقط بالثورة السلبية.

خاتمة البحث  :

كــل مــا ســبق في هذا البحث أنه هناك إشكالية لدى غرامشي وهي توزيع الأولويات, إن اهتمــام غرامشــي فــي الــدفاتر هو بالإشكالية الثقافية والسياسة وإشكالات قطاعات النشاط الإنساني، هنا تكمن أصالة غرامشي, فیكـــون هنـــا المثقـــف والسياسي المحـــور الـــذي تـــرتبط بـــه كـــل القضايا السیاســـیة، والثقافية، والإیدیولوجیة.

إن المفاهيم السیاســیة وطبيعة الفكر الثوري، والنضـالي، لا تنتهـي فـي المشـروع الغرامشـي بقدر الوصول إلـــى معنــاه الجديد المعاصـــر، أي تغییـــر الوظيفة مـــن معنـــاها الســـياسي و النضــالي، والثــورة، البرولیتاریا والاشتراكية، و هــذه المفاهيم تحتــاج إلــى إعــادة نظــر وتأويل جديد .

إن إصرار غرامشي على دور المثقف في الحیاة السیاسیة والاجتماعية والتاریخیـة، كان حتـى یؤسـس دعـائم المجتمـع المـدني، وینشـط مـن مؤسسـاته، بأیة صفة كانت ، حتى لا تتكرر حالات القمع، والتسلط على رقاب المجتمع ،وهـــذا بطبيعة الحـــال یســـتدعي الإصـــلاح الثقـــافي والاجتماعي والسياسي فــي وجــدان وذهنية الشعوب التـي لا تزدهـر إلا بتحرر الشعوب ووعيها، وكان غرامشي بارعاً في تصور هؤلاء عنـدما قـال :

“لمـــاذا تبقــــى الشعوب غیــــر مبالیــــة تجـــاه الأفكــــار التــــي هــــي أداة لتحررهم وتبقى أسيرة الاستغلال، ولماذا یكافح الناس من أجل عبودیتهم بدلاً من تحـررهم”؟

مصادر البحث :

  1. أنطونيو غرامشي ، الأمير الحديث ،قضايا السياسة في الماركسية، الطبعة الأولى بيروت ، دار الجمل 2017م .
  2. أنطونيو غرامشي ، دفاتر السجن ، ترجمة عادل غنيم ، دار المستقبل العربي ،القاهرة ،1994م
  3. روبرت كوكس ،غرامشي الهيمنة والعلاقات الدولية ، مجلة الدراسات الدولية، بغداد 1983م

 

جمال الحراز / جمهورية مصر العربية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى