أبحاث ودراساتأحمد زردشتافتتاحية العددمانشيتملف العدد 63

التأثيرات المختلفة للمنظمات الدولية على المجتمع السوري وفي مناطق الصراع في الشرق الأوسط

أحمد زردشت

أحمد زردشت

غدا الحديث في الاقتصاد وكذلك الصحة والتعليم ومختلف احتياجات المواطن السوري الشغل الشاغل على اختلاف مستوياتهم الطبقية والتعليمية لجميع المواطنين، وبات يتصدّر حوارات المجالس في البيوت والمقاهي والمناسبات.

في الحقيقة، ليس من الغرابة أن تتعرض دولة أثقلت كاهلها حرب عقداً من الزمن لانهيار اقتصادي وصحي وتعليمي، لكن مستوى هذا الانهيار وانعكاساته ونسبة المواطنين المتأثرين من نتائجه الكارثية، كلها عوامل تجعل من الوضع السوري الأكثر مأساوية في قصص الحروب، بعد الحرب العالمية الثانية.

مع تجاوز الحرب السورية السنوات العشرة من عمرها، تبدو البلاد اليوم على شفير الهاوية، فحياة سكانها هنا أشبه بمعركة للحصول على ما يسدّ رمقهم، حيث حذّر برنامج الغذاء العالمي من أن 60 % من السوريين، أي ما يقرب من 12.4 مليون شخص، أصبحوا معرضين لخطر المجاعة، وبات ينظر إلى أساسيات الحياة من المشتقات النفطية إلى وسائل التنقل وأجهزة الاتصالات، كعوامل رفاهية، وهي حكر على فئة محدودة جداً من السكان.

أدى التدهور المتسارع لقيمة الليرة السورية، وانكسارها أمام العملات الأجنبية، إلى تداعيات اقتصادية كبيرة تمثّلت بانخفاض قيمة الرواتب مقارنة مع الأسعار التي وصلت بالنسبة لبعض المواد الغذائية الأساسية إلى حد الثلاثين ضعفاً، وسط تراجع القوة الشرائية للمواطن، في ظل مستويات عالية من التضخّم.

أما انخفاض سعر صرف الليرة السورية خلال سنوات الحرب, فكان نتيجة لعوامل عدة اجتمعت مع بعضها، بدءاً من الضرر الهائل الذي أصاب القاعدة الإنتاجية للبلاد خلال سنوات الحرب، فالعقوبات الغربية التي تسببت بزيادة تكاليف المستوردات والإنتاج، وحدّت كذلك من تدفّق القطع الأجنبي، ثم خروج حقول النفط والقمح الرئيسية من يد الدولة السورية، وهو ما جعل دمشق تضطر إلى استيراد احتياجاتها من المشتقات النفطية والقمح, وهذا رتّب عليها أعباء إضافية لجهة توفير القطع الأجنبي، وصولاً إلى السياسات الاقتصادية والنقدية التي انتهجتها بعض الحكومات المتعاقبة وما شابها من ضعف وفشل وانتشار الفساد في مفاصل الحكم والإدارة، وأخيراً جاءت تداعيات تفشّي فيروس كوفيد19 لتعمّق من حجم المشكلة الاقتصادية في البلاد.

عُرف الاقتصاد السوري قبل عام 2010 كواحد من أكثر اقتصاديات الدول النامية تنوعاً، فحسب معطيات
الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي, فإن سوريا كانت تنتج ما يتراوح بين 75 إلى 85 % من أغذيتها وأدويتها وألبستها وأحذيتها, وتصدّر الفائض من بعض منتوجاتها إلى أكثر من 60 دولة.

وكان الإنتاج السوري من النفط بحدود 450 ألف برميل يومياً ويزيد عن حاجة السوق المحلية, فيصدّر الفائض منه بنحو 150 ألف برميل يومياً إلى دول عدة، تأتي في مقدّمتها ألمانيا، كما حلّت سوريا بين البلدان الخمسة الأولى في العالم بإنتاج القطن وتربية الأغنام والأبقار، أمّا إنتاجها من الحبوب فتراوح ما بين 3.5  إلى 6 ملايين طن سنوياً, أي ما يزيد على حاجة السوق المحلية في معظم السنوات.

اليوم والبلاد تقبع في قعر الانهيار على كافة الأصعدة، يمكن القول إن حلول الأزمة السورية  يجب أن تكون مبنية على استراتيجيات جدية تضع في الاعتبار الأسباب التي عصفت  بالبلاد، أهمها الحل السياسي للأزمة التي تقترب من إتمام عامها الثالث عشر، ومثل هذا الحل السحري هو الذي سيحوّل سوريا من جديد إلى الواجهة الاستثمارية، وهو الذي سيعيد للبلاد ثرواتها ومواردها ويتيح لها استثمار موقعها الجيو اقتصادي، ويرفع العقوبات الغربية عنها, ولكن على ما يبدو أنّ هذا الحل السياسي بعيد المنال إلى الآن.

إلى حين العثور على العصا السحرية التي ستحل هذه الأزمة اللامتناهية, كان لا بد للمنظمات الدولية والإقليمية التدخل والقيام بالعمل الذي وُجِدت لأجله, فإلى أي مدى أثرت هذه المنظمات في الأزمة السورية وحياة المواطن السوري بشكل عام سلباً وإيجاباً؟

سنحاول في هذا البحث عرض دور المنظمات الدولية.

مفهوم المنظمات الدولية

تعرف المنظمات الدولية على أنّها مجموعة الهيئات والمؤسسات التي يتكون منها المجتمع الدولي بشكلٍ أساسي، والتي تشارك في تحقيق إرادة الجماعات الدولية، كما أنّها عبارةٌ عن منظمات تقوم على هيكلٍ إداري تنفيذي وتنظيمي من خلال مجموعةٍ من الشخصيات الاعتبارية والمؤسسات التي تتكون منها الدول, مثل منظمة الأمم المتحدة.

نشأة المنظمات الدولية

ترجع نشأة المنظمات الدولية إلى فكرةٍ وردت في المؤتمر الدولي، حيث تعتبر هذه المنظمات امتداداً لهذا النوع من المؤتمرات، وذلك بسبب قيامها بهدف معالجة المسائل والمشاكل المشتركة بين الدول واتخاذ القرارات الإجماعية بخصوص العديد من الأمور الدولية، حيث تقوم بالبحث عن مواقف من الدول المشاركة من أجل القيام بالممارسات الفعلية، إلّا أنّ هذه المؤتمرات لم تفرض إرادةً خارجية، وهذه المنظمات حصلت على إرادةٍ ذاتية مستقلة من الدول الأعضاء بالإضافة إلى سكرتارية مستقلة، ومجموعة من القرارات، بالإضافة إلى مجموعةٍ من الأشخاص ومن خلال أجهزةٍ مكونةٍ من أشخاص آخرين غير ممثلين للدول, وتتمثل في (الإدارة المدنية للمنظمة الدولية) أو الموظفين الدوليين، وامتلكت المنظمات سلطات ذاتية ناتجة عن تفويضٍ حقيقي من الدول

ركائز المنظمات الدولية

  • خضوع هذه المنظمات إلى قواعد القانون الدولي.
  • وجود عضوية المنظمة الدولية.
  • وجود قانونٍ خاص بالمنظمة الدولية، بحيث يكون بمثابة معاهدةٍ جماعيةٍ تتضمن التزام المنظمة بالأهداف المتفق عليها.
  • وجود مجلسٍ أو هيئةٍ لكلّ منظمة دولية بحيث تحقق النظام الأساسي للمنظمة، ويتم انتخاب الأعضاء بناءً على الإجماع.
  • مساهمة الدول الأعضاء في المنظمة بتأمين كافة مصاريف ومستلزمات المنظمة من خلال النسب التي يتمّ الاتفاق عليها سلفاً، حيث إنّ مالية المنظمة الدولية تقوم على اشتراكات الدول الأعضاء التي تتحدد من خلال قاعدةٍ تعرف باسم القدرة على الدفع، حيث تقوم هذه القاعدة على بناء معيارٍ مركبٍ للمقارنة بين الدخل القومي للدول الأعضاء وبين متوسط الدخل ومحصلة عملة الدولة من العملات الصعبة، مع مراعاة الأزمات المالية التي تمرّ بها الدول الأعضاء.

أنواع المنظمات الدولية

  • المنظمات الدولية العالمية العامة: وهي المنظمات التي يتركز نشاطها بشكلٍ أساسي على حلّ كافة أنواع النزاعات والخلافات الحاصلة بين الدول الأعضاء، بالإضافة إلى تدعيم الصلات السلمية بينها وبين المنظمات الأخرى, مثالها هيئة الأمم المتحدة.
  • المنظمات الدولية الفنية: وهي المؤسسات التي تُعرف باسم الوكالات، مثل: وكالة العمل الدولية، والتغذية، والزراعة، واليونسكو، ووكالة الصحة الدولية.
  • المنظمات الدولية القضائية:وهي المنظمات الخاصة بالفصل في المنازعات الدولية بناءً على أساس القانون الدولي, مثل محكمة العدل الدولية، وهيئات التحكيم.
  • المنظمات الدولية الإقليمية:ومن الأمثلة عليها جامعة الدول العربية، ومنظمة الوحدة الإفريقية، ومنظمة الدول الأمريكية.

أولاً: تعريف المنظمات الدولية غير الحكومية وأهم خصائصها

ليس ثمة اتفاق بين الدارسين حول تعريف محدد للمنظمات غير الحكومية، وإنما تتعدد التعريفات وتتنوع التسميات بتعدد وتنوع الأطر القانونية والثقافية لكل مجموعة منها(2). وعلى سبيل المثال فقد عرّفها (مارسيل ميرل) بأنها “كل تجمّع أو رابطة أو حركة مشكلة على نحو قابل للاستمرار من جانب أشخاص ينتمون إلى دول مختلفة, وذلك بهدف تحقيق أغراض ليس من بينها تحقيق الربح”. وعرّفها المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة مستعملاً تعريفاً مختصراً سلبياً يفيد بأن المنظمة الدولية غير الحكومية هي “أي منظمة دولية لا تنشأ باتفاق بين الحكومات”، مقارناً إياها بالمنظمات الدولية الحكومية التي تنشأ نتيجة لاتفاقات تعقد بين الحكومات.

ثانياً: تعاظم دور المنظمات غير الحكومية وتطور أهدافها

إذا كان القرن العشرون يُنظر إليه – وبحق – باعتباره عصر التنظيم الدولي الحكومي، نتيجة لبروز وتنامي دور المنظمات الحكومية جنباً إلى جنب مع الدول المستقلة ذات السيادة في إدارة وضبط التفاعلات والعلاقات فيما بين أشخاص المجتمع الدولي ووحداته، فإن العقدين الأخيرين منه وبدايات القرن الحالي قد شهدت وعلى نحو غير مسبوق، تزايداً كبيراً في أعداد وأدوار وأهمّية المنظمات غير الحكومية، إذ لم تعد فحسب فاعلاً أساسياً في القضايا العالمية، وإنما أضحت كذلك شريكاً أساسياً للحكومات وللمنظمات الدولية الحكومية في كثير من المجالات التنموية الداخلية، وعلى الأخص منها ما يتعلق بحقوق الإنسان.

والحق أنّ استعراض الآراء والاتجاهات المختلفة بشأن تفسير وتبرير الدور المتصاعد للمنظمات غير الحكومية، مع استحضار الطبيعة الخاصة لها من ناحية بساطة الهيكل التنظيمي وسهولة العمل وغياب البيروقراطية، ينتهي بنا إلى القول بأن انتشار هذه المنظمات وتنامي دورها إنما يجد تفسيره في مجموعة من العوامل المتداخلة يمكن جمعها فيما يلي:

أولاً: ما تتمتع به المنظمات غير الحكومية من سمات وخصائص ذاتية تتمثل في العمل الطوعي وما يعنيه من رغبة في الأداء واستعداد وتحمس للمشاركة وقدرة على التعبئة وحشد الطاقات والتعامل مع المشكلات الاجتماعية العاجلة والملحّة، مع التمتع بمصداقية عالية لدى جانب كبير من قطاعات الرأي العام. وذلك في مقابل ما يشوب القطاعين الآخرين الحكومي والخاص، من مثالب وعيوب تحول بدرجة دون إشباع حاجات الأفراد والشعوب وتمتعهم بالحقوق والحريات الأساسية, فالقطاع الحكومي يسوده الجمود والبيروقراطية وبطء الأداء، فضلاً عن الفساد في حالات كثيرة, أما القطاع الخاص فتسيطر عليه الرغبة في تحقيق الأرباح ولو على حساب الاعتبارات الاجتماعية.

ثانياً: ويرتبط بما سبق ما ذهب إليه البعض من أن تنوع وتعقد المشكلات والتحديات الداخلية والعالمية على نحو يفوق قدرات الدول فرادى، وكذلك المنظمات الدولية الحكومية المقيّدة بالعديد من القيود القانونية والسياسية والعملية، اقتضى الحاجة إلى دور أكبر للمنظمات غير الحكومية التي تتميز بالمرونة والكفاءة والبعد عن التوترات السياسية والتعقيدات الإدارية الروتينية, بما يمكّنها من سرعة التحرك الفعال في مواجهة الظروف الطارئة والكوارث الإنسانية كالمجاعات والكوارث الطبيعية.

ثالثاً: ويرى آخرون أن ما حدث في الفترة الراهنة من تطور النظام الدولي، لاسيما بعد انتهاء الحرب الباردة، من حيث انتشار أعمال العنف والتطرف والحروب الأهلية، وما اقترن بذلك من قيام بعض الحكومات بقمع وإبادة الجماعات العرقية أو السياسية المناوئة، كان مدعاة لبروز دور المنظمات غير الحكومية التي تعمل فيما ينبغي أن يكون بعيداً عن السياسة, وتقوم على أسس إنسانية تبتغي تحقيق الأمن بمفهومه الإنساني، أي ضمان أمن وسلامة الأفراد والجماعات والشعوب, وليس أمن الدول ذات السيادة فحسب.

رابعاً: وثمة من يرى في تفسير الأسباب وراء انتشار المنظمات غير الحكومية وتنامي دورها، أن ذلك إنما يعود في جانب أساسي منه إلى ما تقدمه الدول الغربية المانحة والمنظمات الدولية الحكومية, من دعم وتمويل للمنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية.

ومن ثم فإنه يمكن القول إن هذه الأسباب مجتمعة تنهض بالمنظمات غير الحكومية لتجعل منها أداة أو آلية يمكن من خـلالها مواجهة المواقف والأزمات الطارئة والتعامل مع المشكلات الاجتماعـية العاجلة والملحـّة، فضلاً عن الإسهام بدور إيجابي فاعـل في تحقيق التنمية المستدامة والشاملة لشعوب الـدول النامية والمعرّضة للأزمات.

ومن المعلوم أن المنظمات غير الحكومية، محلية كانت أم دولية، تضطلع بمجموعة متنوعة من الأنشطة والمهام التي تسعى من ورائها إلى إنجاز الأهداف التي قامت المنظمة من أجل تحقيقها، وهي الأنشطة والأهداف التي يحددها للمنظمة ميثاقها المنشئ وفقاً للقانون المنظّم لذلك في دولة المقرّ.

ولقد شهدت هذه الأنشطة والمهام تطوراً كبيراً بتطور مراحل النشأة التي مرت بها المنظمات غير الحكومية, حتى صارت ظاهرة شائعة تفرض نفسها على مختلف الأصعدة وفي كافة المجالات. وبصفة عامة فإنه يمكن تصنيف الأهداف التي تنشدها المنظمات غير الحكومية من وراء الأنشطة والمهام التي تقوم بها إلى فئتين رئيسيتين، تتمثل أولاهما في العمل على تحقيق أغراض ذات طبيعة تنموية بمفهومها الواسع، على حين تتمثل الأخـرى في الدفاع عن قضايا معينة تؤرّق المجتمعات المحلية أو الدولية أو كليهما معًا, كقضايا تلوّث البيئة ومكافحة الأمية وحقوق الإنسـان وغيرها.

وتتسع الفئة الأولى من الأهداف لتشمل العمل من جانب المنظمات غير الحكومية على تحقيق الرفاهية، وذلك من خلال تقديم الخدمات المختلفة إلى المحتاجين بما في ذلك الخدمات الصحية، إلى جانب تقديم المساعدة وتلبية الحاجات الخاصة للفقراء, مثل توزيع الأغذية والملابس والأدوية وغيرها من أشكال المساعدة, وخاصة في أوقات الكوارث والأزمات، إلى جانب القيام بأعمال إنمائية تركز بصفة أساسية على الجماعات الفقيرة بما يضمن في النهاية تحقيق حد أدنى من التنمية الاقتصادية في الدول والمجتمعات الفقيرة.

أما الفئة الأخرى من الأهداف فتتمثل في التصدي لبعض المشكلات والدفاع عن بعض القضايا ذات الطبيعة الخاصة، كقضايا البيئة والمرأة وذوي الاحتياجات الخاصة وحقوق الإنسان في أوقات السلم والحرب على حد سواء.

والحق أنه إذا كانت الفئة الأولى من الأهداف تحظى على وجه العموم  بالتوافق، ولا يثور بشأنها في الغالب الأعمّ من الحالات أية إشكالات من جانب الحكومات في الدول التي تتم على أراضيها أنشطة هذه المنظمات في هذا الصدد؛ فإن الفئة الأخرى منها، على العكس من ذلك، تحوي في طياتها لاسيما فيما يتعلق بالمنظمات غير الحكومية العاملة في مجال حقوق الإنسان، ما يجعلها في كثير من الأحيان محل شك وريبة من جانب هذه الحكومات، نظراً لما قد يكتنف عملها من أهداف سياسية، داخلية أو خارجية غير معلنة، قد تصل في بعض الأحيان إلى حد تهديد الأمن القومي للدول المستهدفة.

أما قضية التمويل فتمثل بالنسبة للمنظمات غير الحكومية، بنوعيها المحلي والدولي، عصب نشاطها، إذ بدونه لا يتسنى لها القيام بأي عمل ذي قيمة حقيقية من أنشطتها, فقضية التمويل تعد من أهم المشكلات التي تواجه هذه المنظمات، سواء في شقها السلبي المتمثل في قلة مصادر التمويل أو ضآلته، أو حتى في شقها الإيجابي المتمثل في تعدد مصادر التمويل مع ارتباط البعض منها بالمشروطية السياسية. ومن المعلوم أن جانباً كبيراً بل ربما أحياناً ما يكون الجانب الأكبر  من ميزانية المنظمات الدولية غير الحكومية، لاسيما منها تلك المعنية بحقوق الإنسان، إنما يأتي من الدول الغربية المتقدمة وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي.

حاصل القول بصفة عامة: إنّ قضية التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية، محلية أو دولية، تثير العديد من القضايا والتساؤلات حول الاستقلال الذاتي لهذه المنظمات, ومدى قدرتها على إعداد مشروعاتها وبرامجها والقيام بأنشطتها بشكل مستقل عن توجيهات الجهات المانحة، وإلى أي مدى يمكنها بناء شراكات حقيقية متوازنة مع هذه الجهات، وما إذا كان تزايد تدفق التمويل الأجنبي يمثل عاملًا إيجابيًا أم سلبيًا في تطور حركة حقوق الإنسان، وتأثير ذلك كله على استقرار الدول المستهدفة وأمنها القومي.

وإذا كانت الموضوعية والحياد العلمي تستوجبان التمييز بين المنظمات العاملة في مجالات إنسانية بحتة حتى وإن أتاها التمويل من الخارج، كتلك المنظمات التي تعمل على سبيل المثال في مكافحة أمراض بعينها في مناطق موبوءة بها، وتلك التي تتخذ من الإنسانية غطاءً يخفي أغراضها السياسية، أو بالأحرى أغراض داعميها؛ فإن الواقع يؤكد أن أكثر المنظمات شبهة في هذا المجال هي تلك المرتبطة بالأنشطة السياسية والإعلامية والاجتماعية وحقوق الأقليات، فالتمويل هنا ذو طابع سياسي، وقد يتم توظيفه في سياق الصراع الثقافي والحضاري – ومن ثم السياسي – داخل الدولة المستهدفة، كما قد يصل الأمر إلى حد قيام الجهات المانحة بتكليف المنظمات متلقية التمويل باتخاذ مواقف معينة أو التنديد بسياسات أو قوانين تصدرها سلطات هذه الدولة لا تنسجم مع سياسات الدولة المانحة.

ثالثاً: دور المنظمات الدولية غير الحكومية كآلية لحماية حقوق الإنسان

تقدمت الإشارة إلى أن المنظمات الدولية غير الحكومية باتت تضطلع إلى جانب دورها المتزايد في مجالات التنمية، بدور جديد ومتزايد يتجاوز في كثير من الأحيان حدود الدولة إلى غيرها من الدول، دفاعًا عن قضايا معينة تهم المجتمع الإنساني بأسره، كما هو الحال بالنسبة لقضايا السيطرة على التسلح والمخدرات وخطر الألغام الأرضية, وتحسين ظروف العمل في القطاعين العام والخاص والحفاظ على البيئة وغيرها، وهي قضايا يحظى فيها دور هذه المنظمات بالرضا والقبول في ضوء حقيقة أنها قضايا عامة محايدة لا تحمل في طياتها أية أبعاد أو أغراض سياسية تحكم نشاط المنظمات في صددها.

غير أنه لمّا كانت قضايا حقوق الإنسان، وهي قضايا قد تحمل في طياتها أبعاداً وأغراضاً سياسية مشروعة أو غير مشروعة لجهات داخلية أو أجنبية، قد أضحت واحدة من أبرز الحقائق التي تفرض نفسها على الرأي العام بكافة قطاعاته واتجاهاته الرسمية والشعبية الداخلية والخارجية، فقد برز دور المنظمات الدولية غير الحكومية كآلية فعالة في سبيل كفالة الضمانات والآليات الوطنية والدولية اللازمة لحماية هذه الحقوق, وتعزيز احترامها على أرض الواقع.

وإذا كانت المنظمات الدولية غير الحكومية على تنوعها وتباين أساليب عملها, تنطلق فيما يتعلق بدورها في مجال حماية حقوق الإنسان، من أرضية واحدة تتمثل في العمل على تحسين حالة حقوق الإنسان إجمالاً، فإنه ثمة تنوعات عديدة بينها من ناحية مجال تركيز كل واحدة منها, ففي حين تعمل بعضها أساسًا في حالات الحرب والكوارث الطبيعية أو غير الطبيعية كاللجنة الدولية للصليب الأحمر، تعمل الأخرى في حالات السلام كمنظمة العفو الدولية وهيومان رايس واتش. وفى حين تهتم بعضها بمجمل أوضاع حقوق الإنسان على مستوى دولة أو دول بعينها أو حتى على المستوى العالمي، تهتم الأخرى بفئة واحدة من فئات هذه الحقوق، كحقوق المرأة أو حقوق اللاجئين أو حقوق العمال أو غيرها.

والحق أنه ثمة آليات عدة تمارس من خلالها المنظمات الدولية غير الحكومية دورها في حماية حقوق الإنسان وترقيتها, من ذلك على سبيل المثال الدور المهم الذي تقوم به في دفع الحكومات في الدول المستهدفة إلى وضع الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان ضمن أولويات اهتمامها، سواء على صعيد المجتمع الوطني أو حتى المستوى الإقليمي أو العالمي, من خلال التوصل إلى معاهدات دولية في هذا الصدد. ولعله من المفيد جداً في هذا السياق أن نشير إلى الدور شديد الأهمية الذي لعبته اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مجال ترقية قواعد القانون الدولي الإنساني، عبر إعدادها للمشاريع الأولية لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وبروتوكوليها الملحقين لعام 1977، والتي تمثل في مجملها الأساس القانوني الذي ينبني عليه احترام حقوق الإنسان في أوقات الحرب والنزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي، وهو الدور الذي قدره المجتمع الدولي تقديراً كبيراً, فمنحُ اللجنة الدولية للصليب الأحمر صلاحيات في صدد الإشراف على تنفيذ هذه الاتفاقيات, لا تعطي أساساً إلا للدول أو المنظمات الدولية الحكومية كالأمم المتحدة. ومنه أيضًا ما تقوم به بعض هذه المنظمات من فضح وإدانة لما قد يقع من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في أي دولة من الدول.

كذلك تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن العلاقة بين المنظمات الدولية غير الحكومية وحكومات الدول المعنية أو المستهدفة، وهي العلاقة التي تتباين في طبيعتها وتتعدد في أشكالها من حالة إلى أخري، تؤثر بدرجة أو بأخرى على دور هذه المنظمات في مجال حماية حقوق الإنسان، وتفصيل ذلك أن العلاقة المتبادلة بين المنظمات الدولية غير الحكومية وحكومات الدول النامية والفقيرة بصفة عامة، تختلف في طبيعتها وفي درجتها عن العلاقة بين هذه المنظمات ذاتها وحكومات الدول القوية والمتقدمة, كما تختلف هذه العلاقة بداهة باختلاف طبيعة النظام السياسي الحاكم في الدولة وموقفه من الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ومن البديهي أن العلاقة الحسنة بين المنظمات الدولية غير الحكومية وحكومة الدولة العاملة في أراضيها, إنما تعني تأييدًا حكوميًا لعمل هذه المنظمات، ومن ثم نجاحًا لهذه المنظمات في تحقيق أهدافها، والعكس بالعكس، فسوء هذه العلاقة يجعل الحكومة تضع الكثير من العراقيل أمام هذه المنظمات, ما يحول بينها وبين النجاح في تحقيق الأهداف.

رابعًا: المنظمات الدولية غير الحكومية العاملة في مجال حقوق الإنسان وسيادة الدولة

حظيت قضايا حقوق الإنسان بتصنيفاتها المختلفة وفي الأحوال كافة، باهتمام العديد من المنظمات الدولية غير الحكومية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى على أقل تقدير، وهو الاهتمام الذي تضاعف أضعافًا كثيرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كما تقدمت الإشارة.

وفي سبيل تحقيق أهدافها في مجال حماية حقوق الإنسان وترقية ظروفها في الدول المستهدفة، تمارس المنظمات الدولية غير الحكومية، بما فيها تلك التي يتسم عملها بالحيادية والموضوعية, ولا يخفي في طياته أغراضًا سياسية مشبوهة كاللجنة الدولية للصليب الأحمر، ضغوطًا دبلوماسية على الحكومة المعنية من خلال الاجتماع بها أو التدخل لديها بشأن انتهاكات محددة كخطوة أولى قبل الإقدام على نشر ما لديها من تقارير حول هذه الانتهاكات, ومن قبيل ذلك ما تقوم به اللجنة الدولية للصليب الأحمر من إبرام اتفاقات مع الدول تعمل بموجبها في أراضيها وتحاول من خلالها تحسين وضع حقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بظروف الاعتقال ومعاملة المعتقلين وأسرى الحرب ومن في حكمهم، وعندما تخفق محاولاتها لدى السلطات المعنية في إيجاد حلول مقبولة لهذه القضايا, تلجأ أحيانًا إلى إصدار بيانات صحفية وبلاغات تحذيرية حولها.

ليس هذا فحسب، بل إنه أحيانًا ما تقوم المنظمات الدولية غير الحكومية بمراقبة مدى التزام السلطات في الدولة باحترام وتطبيق الحقوق والحريات الأساسية المتعارف عليها عالميًا، وكثيرًا ما يلجأ إليها المواطنون لرفع الشكاوى وطلب المشورة في هذا الصدد. هذا فضلاً عما قد تقوم به عند الضرورة من تشكيل وإيفاد لجان لتقصي الحقائق إلى الدول التي تقوم بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، وقيام هذه اللجان بعد انتهاء تحقيقاتها بإصدار تقارير حول حقيقة الوضع محل النظر، وهو ما يسهم – على الأقل – في فضح الانتهاكات والممارسات غير القانونية في هذا المجال

خامساً: تسييس أنشطة المنظمات الدولية غير الحكومية في دول ما يُعرف بالربيع العربي

شهدت المنطقة العربية على مدى عقود تزايداً مضطرداً في عدد المنظمات غير الحكومية، محلية وعالمية، وفي أنشطتها, وقد اصطبغت هذه الأنشطة في الغالب الأعمّ من الحالات بطابع اجتماعي اقتصادي في بعضها، واستهدفت جوانب الإغاثة والتوعية في بعضها الآخر.

غير أن الأحداث الأخيرة التي شهدتها هذه المنطقة، والتي أنتجت لنا ما يعرف بثورات “الربيع العربي”، سلطت الضوء على الجوانب السياسية لأنشطة هذه المنظمات، وأبانت بجلاء بعضًا منها، لاسيما تلك التي تحمل صفة الدولية، فانحسر دور الأمم المتحدة في المساعدات الإنسانية والتي بدورها أضحت ملفّ ابتزاز من قبل الأنظمة وحلفائها في وقت فشل المجتمع الدولي في جعله ملفاً فوق تفاوضي، كما اقتصر هذا الدور على بعض المهام الإحصائية التي تقوم بها المنظمات الخاصة بالأمم المتحدة، كمنظمة اليونيسكو، ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومنظمة العمل الدولية، وعليه فإن تقييم الفاعلية مرتبط بطبيعة ووظيفة المؤسسة الأممية، فإن تناولنا بالنقد مؤسستي الجمعية العامة ومجلس الأمن, فإنه أسير الانقسام الدولي  واختلاف المصالح المرتبطة بالجيوستراتجية السورية, وهو ما عزّز من تسيّد عوامل العطالة وعدم النجاح في أي تقدم سياسي ذي أثر مباشر على النزاع وضرورات حله، وإذا ما قيّمنا أدوار وكالات الأمم المتحدة مثل (مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، ومنظمة العمل الدولية، واليونسكو، والمنظمات الخاصة باللاجئين والإغاثة) فإننا نلحظ أدواراً متفاوتة الأهمية والأثر وفق معايير النجاح في تحسين وتغليب الخيارات الإنسانية والإغاثية وسياسات الاستجابة الطارئة, وحتى إن حاولنا إقناع أنفسنا أن المجتمع الدولي يحاول تحسين الوضع الاقتصادي في سوريا من خلال عمل بعض المنظمات في المنطقة, نجد أن تركيا الجارة لسوريا تعرقل هذه التحركات من خلال تهديدها الدائم لشن حملات برية في الشمال الشرق السوري, والذي يهدد أمن وسلامة المنطقة وسلامة كوادر المنظمات العاملة في تلك المنطقة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى