أبحاث ودراساتابراهيم المحمدافتتاحية العددالثورة والشرق الأوسطمانشيت

خطاب الكراهية (1)

إبراهيم الحمد

إبراهيم الحمد

بين المفهوم والمقصد تكمن أغلب المشاكل العائلية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية …، فكثيراً ما نرى أن المفهوم بعيد عن المقصد في فهم المتلقي لرسائلنا (مضمون حديثنا) لسبب أن اللغة بالإضافة إلى-الأسلوب والزمكان- يشكلون قواعدنا المعرفية ويؤثرون سلباً وإيجاباً على المُتلقي ــ علينا.

بما معناه: إنّ طريقة وأسلوب خطابنا تؤثر سلباً وإيجاباً على نفسية المتلقي- علينا وتحرك فينا المشاعر وتعكسها ارتاداً –علينا على المتلقي- وتزيد من وتيرتها مع مرور الوقت لتخرج في سلوك كل منا بطريقة ايجابية أو سلبية بفعل الرسالة (محتوى الحديث) التي فهمها أو قصدها كل منا (المتحدث والمتلقي) وفق لغتهِ الخاضعة لفلترة الاعتقاد والديني واللغوي والاثني واللوني والجنسي والقومي و…، وبذلك يفسر كل منا الرسالة من كل كلمة أو سلوك إرادي أو لا إرادي يخرج عن آخرنا بطريقته الخاصة المبنية على ما سبق (فلتره الاعتقادي والديني واللغوي و…) ويتصرف أو يقوم بردة فعل يراها تناسب مضمون رسالة سابقة (المتحدث) بحسب اعتقاده وتتشكل خارطته الذهنية عنا. لذا علينا أن ننتبه جيداً إلى كل تلك الأبعاد في خطابنا العام والخاص خصوصاً إذ كنا نتبوّأ مكانة رفيعة (سلطة – قيادة) ونحرص على الابتعاد عن الكلمات التي من شأنها أن تشعر أو تثير أو تحرض عن الكراهية قدر الإمكان، محاولين أن يكون خطابناً -جامعاً ومانعاً- لعدم إثارة النعرات الشوفينية والقوموية والحزبوية و…؛ في الأوساط الغنية بالتنوعات والاختلافات الثقافية والعرقية والدينية والاثنية واللغوية …  حتى نجنبها المشاحنات والمشادات والاقتتالات … ونتمكن من خلق حياة أكثر ألفة وترابط بفضله (الخطاب المحبب).

وباعتبارنا نعيش في شمال شرقنا السوري؛ الغني بما سبق من تنوعات واختلافات، ويمر بمرحلة تاريخية عصبية، ويشهد أحداث دراماتيكية متسارعة؛ منذ بدأ النزاع السوري سنة 2012 والى الآن، يتحتم علينا أن نجد أسلوب خطابة يراعي غِنانا الفسيفسائي ذاك، ويفيد في ترابطنا وتمأسُسنا الاجتماعي والسياسي، ويفوت الفرصة على من يحاول أن يفجر قنبلة الصراعات الدموية الموقوتة فيه؛ بفضله (أسلوب خطابة يبعث عن الكراهية).

لذا جاء هذا البحث في سياقٍ توعوي ليشير إلى خطورة الدور الذي من الممكن أن يلعبه أسلوب الخطابة في شمال شرق سورياً؛ خاصة في هذه المرحلة، وليشير إلى الأبعاد اللغوية والماورائية لأسلوب الخطابة؛ لأن أغلب المشاكل تكمن جذرها في اللغط بين المفهوم والمقصد الباعث عن الكراهية سواءً بقصد أو بغيره؛ مما يعكر صفوة حياتنا العامة والخاصة، وتقوض من مساعينا في حلحلة عقدنا الذهنية، وتحقيق رفاهنا الاجتماعي والسياسي و…، ويعارض أُسس العيش المشترك؛ بنظرة تفحصية تستهدف الحد من العنف ونبذ الكراهية والاقتتال بين مكونات شمال شرق سورياً.

أهمية البحث:

تكمن أهمية هذا البحث في البعد الذي يوصل إليه خطاب الكراهية في علاقة التنوع الثقافي والاجتماعي والسياسي عامة، وتسببه في إثارة النعرات الشوفينية ونشوب اقتتال قوموي وطائفي ومذهبي وأثني وعرقي…؛ والذي يتعارض وبالضرورة مع مبادئ الإنسانية الجامعة والمانعة للتمييز العنصري على أسس تلك التصنيفات، والتي جاءت تباعاً مع تطور سياق الحياة الاجتماعية والسياسية، والتي تحوّل دون تحولها لتصنيفات مفرقة، حيث يلعب خطاب الكراهية دوراً رئيسياً فيها (التفرقة).ونحن نعيش في بقعة جغرافية غنية بتلك التنوعات والتي من الممكن أن تتحول إلى منطقة صراعات دموية فيما لو أن أحدنا -سواءً بوعي أو دونه- استخدم أسلوب خطابة يحث عن الكراهية.

لذا؛ جاء هذا البحث ليسلط الضوء على مكامن خطاب الكراهية وأضراره على الحياة الاجتماعية والسياسية عامة، وفي شمال شرقنا السوري خاصة. وليشير أيضاً إلى استخدام السلطات له في سبيل تحقيق مكاسبهم السلطوية وإخضاع إرادة المجتمع الحرة لغايات سلطانها واستغلال مواردهم والتمتع بسلطان المادة على حساب قوت عيشهم وعرق جبينهم عبر زرع الفتنة والتفرقة، وخلق العداوات بين جموعهم من خلاله. والى ما يسببه من خلافات داخل صفوفهم نفسها.

حيث أنّ خطاب الكراهية هذا تخفى خلف أقنعة بعض المفاهيم المتداولة بيننا ومنها حرية التعبير عن الرأي، والحرية الفردية، ليقودنا إلى الانصهار في غايتهِ عبر برمجة لا واعية لعقلنا الباطن، وتشكيل خارطتنا الذهنية على ملاستنا بعضنا بعضاً تحت مسمى الانفتاح والتحرر، وحرية الفكر، والوقوع في شرك نواياه الباعثة عن الفتن والاستعلاء والتكبر والغرور والنزاع.

وأيضاً جاء ليناقش بعض الأطروحات التي من الممكن أن تفيد في الحيلولة دون الوقوع في شركه واجتنابه، وكشف النقاب عن أقنعته الكثيرة، ومواطنه اللاشعورية في عقلنا الباطن، والذي تبرمج مسبقاً عبر استخدامنا لكلمات ربما لم نلقي لها بالاً تحولت إلى – سيرورات نفسية لا شعورية- داخل عقلنا الباطن (مركز الانفعالات والدوافع والشعور والأحاسيس) لتخرج بشكل تلقائي في سلوكياتنا اللاإرادية، وفي لغتنا (الداخلية والخارجية) لاحقاً بطريقة لا واعية بعد أن تحولت إلى برمجة عصبية- تكييف عصبي لاإرادي.

أهداف البحث:

  1. يهدف إلى إصلاح حال البين في المجتمع وعلى المستوى الفردي أيضاً- داخل الأسرة وخارجها.
  2. تسليط الضوء على أبعاد الخطاب وتأثيراته السلبية على الحياة الاجتماعية والسياسية عامة وشمال شرق سوريا خاصة.
  3. الإشارة إلى مشاكل اللغة التي ينبع منها خطاب الكراهية وتأثيراتها على السلوكيات العامة والخاصة خصوصاً شمال شرق سوريا.
  4. طرح بعض الطرق والمفاهيم الجدية للوقاية منه وتحجيمه في شمال شرق سوريا.
  5. تسليط الضوء على استخداماته السلطوية عامة.
  6. نشر الوعي الخطابي على المستوى الفرد والأسرة والمجتمع.

تساؤلات البحث:

  1. ما هو تعريف خطاب الكراهية؟
  2. ما هي أنواع الخطابات؟
  3. ما هي أهداف هذا الخطاب؟
  4. ماهي الأبعاد الفكرية و النفسية والاجتماعية لهذا الخطاب؟
  5. ماهي أدوات هذا الخطاب؟
  6. ما تأثير هذا الخطاب على التنوع الثقافي والديني في شمال شرق سوريا؟
  7. ما تأثير هذا الخطاب على التعايش المشترك في شمال وشرق سوريا؟
  8. ماهي طرق الوقاية وآليات تحجيم خطاب الكراهية خاصة في شمال شرق سوريا؟

منهجية البحث:

يدرس هذا البحث مشكلة خطاب الكراهية بالأسلوب الاستقرائي والوصفي باعتبارهما الأفضل من وجهة نظرنا في كتابة هكذا بحث؛ لأننا سنتعامل مع وقائع زمكانية تتطلب الاستقراء للوصول إلى النتيجة. كما سيكون المنهج التاريخي حاضرا في بحثنا المتواضع .

مصطلحات البحث:

الزمكانية: هي مختصر الزمان والمكان، واستخدم هذا المصطلح في هذا البحث, للدلالة على ضرورة ربط الأحداث المكانية بالزمان الذي حدثت به، لأنّه لا يمكن أن ندرس ظاهرة ما في مكان محدد دون التطرق للبعد الزمني.

الدرماتيكي: هي مجريات الأحداث وتصاعد وتيرتها حيث تأخذ هذه الأحداث عبر فترة زمنية معينة أشكالا دراماتيكية متمثلة بالمأساة و الملهاة والتراجيدية عبر مسيرتها الاجتماعية. وهذه الأحداث نجدها ماثلة في واقعنا الحالي, المضحك المبكي.

الديالكتيك: هو اجتماع الضدين وحوارهما الذي غالبا ما يتمخض عن هذا الحوار فكرة متفق عليها. بمعنى: الفكرة ونقيضها وما ينتج عنهما, وهذه الفكرة المتولدة من حوار الضدين غالبا ما ينتج فكرة ثالثة متوافق عليها, لذلك الحوار ضروريا للمختلفين.

السياسواقتصادية: هو اختصار السياسة والاقتصاد, واندماجهما يجعلهما يعملان لحساب بعضهما بعض، محددان شكل السلطة التي يهيمنان عليها.

هيكلية البحث:

ينقسم هذا البحث الى ثلاثة مباحث يسبقهم مشكلة البحث وأهميته وأهدافه وتساؤلاته ومنهجيته وحدوده ومصطلحات، حيث جاء في المبحث الاول:

وجاء في المبحث الثاني:

– المطلب الأول: تعريف خطاب الكراهية.

– المطلب الثاني: أنواع الخطابات:

الفرع الأول: الهدف من خطاب الكراهية.

الفرع الثاني: استخدام السلطة لخطاب الكراهية.

الفرع الثالث: الحركات الأيديولوجية:

تعريف الأيديولوجية

الأيديولوجية القومية

الأيديولوجية الجهادي

– المطلب الثالث: خطاب الكراهية والقانون.

– المطلب الرابع: أدوات خطاب الكراهية:

1- المرئي

2- المقروء

3- المسموع

4- السوشيال ميديا

5- المنابر

– المطلب الخامس: أبعاد خطاب الكراهية:

– الفرع الأول: البعد الفكري لخطاب الكراهية

– الفرع الثاني: البعد النفسي لخطاب الكراهية

– الفرع الثالث: البعد الديني لخطاب الكراهية

– الفرع الرابع: البعد الاجتماعي لخطاب الكراهية:

أولاً: على مستوى الفرد

ثانياً: على مستوى الأسرة

ثالثاً: على مستوى العلاقات العامة

وجاء في المبحث الثاني:

– المطلب الأول: خطاب الكراهية في شمال وشرق سوريا:

الفرع الأول: تأثير خطاب الكراهية على التنوع الثقافي والديني

الفرع الثاني: تأثير خطاب الكراهية على التعايش المشترك في شمال وشرق سوريا

وجاء في المبحث الثالث:

– المطلب الأول: طرق الوقاية وآليات تحجيم خطاب الكراهية:

الفرع الأول: الفرد

الفرع الثاني: الأسرة

الفرع الثالث: المؤسسة التعليمية

الفرع الرابع: آليات تحجيمه (لغويّاً ومنطقيّاً وأخلاقيّاً)

– المطلب الثاني: الافتراضات القبلية.

– المطلب الثالث: الاتحاد والانفصال /المواقع الثلاث

ثم خرجنا بالتوصيات ولخصنا في الخاتمة:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المقدمة:

هل عرف الإنسان الأول الكراهية؟

وهل الكراهية سمة مكتسبة لدى البشر؟ أم أنه مفطور عليها؟

إن الجواب على هذين السؤالين من وجهة نظر توماس هوبز عالم الرياضيات الإنكليزي والذي يعد أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر: هو أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان وهذه نظرية خطيرة أقام عليها فلسفته.

إذ بحسب هوبز: الإنسان مفطور على الكراهية، والإنسان الأول كان كروهاً حسوداً ولكنه بحاجة إلى الآخرين لذلك يكظم غيظه وكرهه للغير، وما إن يقوى نابه حتى يأكل كل من حوله.

ثم جاء فريدريك نيتشه الفيلسوف الألماني, صاحب نظرية الإنسان الخارق (السوبرمان) الذي آمن بالقوة ، وجاء خطابه الفلسفي قاسياً موجعاً كالسياط على ظهر الضعفاء, وعدمياً خطيراً، يقول : ((إذا ذهبت إلى امرأة فلا تنس أن تأخذ سوطك معك))(1). فقد هاجم نيتشه المرأة، في كتابه هكذا تكلم زردشت والذي وضع فيه جميع أفكاره العدمية على لسان زارا الرمز الاعتباري في الكتاب، حيث حاور سيدة عجوز حول المرأة ، ومن أقواله في ذاك الكتاب: ((عندما يكون للمرأة ميل إلى العلم فغالباً ما يكون ذلك علامة على اختلال جنسها))(2). وقال الكثير عن المرأة في فصل السيدة العجوز من هذا الكتاب .(هكذا تكلم زردشت).

والمشكلة تكمن في الانتشار الواسع لفلسفة نيتشه، واعتناق الكثيرين لهذه الفلسفة ومن نتائجها نشوء الحزب النازي في ألمانيا (حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني) بين عامي 1920و1945.

والذي جاهر بعدائه للسامية واضعاً سلماً للأعراق البشرية أدناها اليهود، فكان خطاب الحزب قمة في التمييز العرقي وقد أشعل فتيل حرب عالمية راح ملايين البشر ضحايا لها.

ولكن نظرية نيتشه لم تكن قائمة على الفطرة بتاتاً، وإنما هو على عكس هوبز يؤمن بنظرية ماهية الوجود فهو فيلسوف وجودي، وكل المشاعر والسلوكيات مكتسبة لديه, لأن الذات الإنسانية بحسب الوجودية مشروع حياة، إما أن يطور الإنسان من ذاته ويصبح عاقلاً أو يبقى بمرحلة البهيمة .

أما الأديان فهي تدعو إلى المحبة بجوهرها ولكن هذا الجوهر تقولب في طوائف ومذاهب ليتشظى إلى خطابات تدعو إلى الكراهية أكثر من المحبة .

لقد سعى الإنسان منذ وجوده الأول للبحث عن رفاهيته المعيشية، وهذا ما جعله يستعين بأبناء جنسه لكي يكمل ما ينقصه بهم، وهنا يرى ابن خلدون في مقدمته ((أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه))(3) لأنه بحاجة إلى الآخرين لتلبية حاجاته التي يعجز عن تلبيتها بمفرده.

حتى أن ابن خلدون صاحب النظرية الاجتماعية، جعل الضرورة هي الدافع للاجتماع, فلسان حاله يقول: لو كان الإنسان يستطيع تلبية حاجاته بمفرده لما اجتمع بأحد ,وبقي في عزلته، وكان يجنح إلى مبدأ الضرورة أكثر من مبدأ الاختيار.

اجتمع الإنسان بالإنسان وشكلوا ال (clan) في مرحلة الطفولة البشرية ، وسمة هذا المجتمع الطبيعي أنه يساوي بين أفراده ويقسم العمل بينهم, ولا يعرف الفرد في هذا المجتمع الملكية الفردية فالملكية مشاع لجميع مجتمع ال (clan) .كان الرجال يصيدون ويلتقطون الثمار والنساء تربي الأطفال وتزرع, وتقوم بتدبير السكن, ولأنها كانت هي التي تلد النوع فهي مقدسة كونها واهبة للحياة . وبناء عليه كان النظام الاجتماعي أمومي يسوده السلام والاتفاق حتى ولو كان بالضرورة الخلدونية ، ففي هذه المرحلة لم يزهق الإنسان روح أخيه الإنسان.

والغريب في هذه المرحلة المبكرة لمسيرة الإنسان الذي رغم الندرة لم يستخدم العنف والكراهية ضد الآخرين. فهو مازال جائعاً يعتمد على صيده والتقاط الثمار, وإن أخفق بجمع مأكله بات ليلته جائعاً، ومع هذا فهو مسالم لم يقتل أو يشن الحروب لتوفير أساسيات عيشه، هذا يؤكد بأن الإنسان مسالم بفطرته، حتى لو هدده الجوع ؛فأنه لا يستعمل العنف لكي يحصل على أساسيات الآخرين .

فالدوافع الفطرية الأساسية الأربعة المتوافق عليها في علم النفس وهي: دافع الأمومة، ودافع الجوع، ودافع العطش، ودافع الجنس. لم يشهر الإنسان في وجه الآخرين سيفه للحصول عليها عنوة من الأخرين.

إذن من أين انبجس الكره؟؟!

بناءً على ما سبق ربما انبجس الكره والعنف من الكماليات وليس من الأساسيات، انبجس من الدوافع المكتسبة وليس من الدوافع الفطرية، وأولها دافع التملك.

فدافع التملك والادخار هو أول الدوافع المنبثقة في المرحلة النهائية لمجتمع ال (clan) ، بل لنقل هو الدافع الذي قضى على هذه المرحلة الوديعة من مراحل صخب الإنسان على الأرض، فتضخم الأنا لدى الفرد جعله يحاول الاستقلال عن الغير الذين يراهم أدنى منه مرتبة وبنفس الوقت يستأثر بما يحلو له ويتملكه دون الآخرين.

فدافع التملك والادخار هو رديف الاقتصاد الذي هو الأب الروحي للدين والأب البيولوجي للسياسة ومبتكر الحرب المنظمة.

فعندما تملك الفرد ما يطمح إليه ابتكر الخرافة الدينية للدفاع عن مكتسباته، واحتمى بالآلهة التي تبرق وترعد وتفيض وتخصب وتجدب وتشبق، سخر بمساعدة الكهنوت, الآلهة لصالحه وراح يدخر كل ما تصل إليه يده من كماليات حتى آمن، بسبب الوفرة لديه، بأنه الأسمى والأرفع من سواه فاخترع السياسة ليسوس بها المجتمع بمساعدة الكهنة لما يخدم مصالحه حتى خاف انقلاب المجتمع على جشعه, وحرصاً منه على دوام وقاره وهيمنته الاقتصادية, جمع حوله من يحميه مؤسساً بذلك جيشاً جعله أكثر قوة وتحصيناً.

أمّا المرأة فمنذ أن استقل بها مع باقي الكماليات أصبحت سلعة بسبب الوفرة.

وهنا بدأ العنف والكره والحرب بسبب جشع الإنسان الذي لا حدود له، فالحيوانات تأكل ما يشبعها ثم تلعب مع باقي الطرائد، ولكن الإنسان يأكل ما بين يديه ويدخر الفائض ويحلم بالزيادة في المستقبل ويأسف على ما فاته في الماضي. ودافع هذا الجشع هو: التملك والادخار ليتفوق على غيره من أبناء جنسه وتكون له الريادة، لتكون له السلطة؛ لأن الذي يحصل على الاقتصاد والسياسة والقوة يحصل على السلطة.

والسؤال هنا من أين ينبع دافع السلطة والتسلط؟

((هو دافع هوسه الاكتمال والقوة، وهو اضطراب البارانويا وهو حب للسلطة ينتج عن رغبة دفينة بالتعويض عن الفشل أو النقص ويسمى في التحليل النفسي بميكانيزم التعويض عن الفشل))(4).

والسؤال: ما الغاية من الاكتمال والقوة ، وما المراد من ورائها؟

وجد الإنسان نفسه ضعيفاً مقارنة بقوة الطبيعة أو قوة الآلهة، فراح يبحث عن القوة والسلطة والتسلط متشبهاً بالطبيعة، بالآلهة ، فالإنسان المريض بحب السلطة والتسلط, تسيّره عقد نقصه الدفينة فهو لا شعورياً يحاول تعويض نقصه الناتج عن ضعفه، أما شعورياً فهو متشبه بالإله يثيب من يشاء ويعاقب من يشاء، وأخطاره على المجتمع كارثية، لأنه لا يرى إلا من زاوية واحدة وهي التي يرى منها فقط, فيقود المجتمع إلى هلاكه، مشرعاً مبادئ وقوانين ونظريات يعتبرها حقيقة مطلقة يجب الإيمان بها.

ودائماً هناك مريدون للمتسلط يروجون أفكاره ويمدحون خصاله حتى وإن كانوا في قرارة أنفسهم يسخرون منه، لكنهم ينجحون في زرع بذرة هذا المبدأ وذاك في رحم المجتمع، فتعتنقه الأجيال على أنه تابو حقيقة لا تقبل النقاش وما دروا أنّ هذه المبادئ صادرة من نفس مريضة.

فالمبدأ الحق لا يحتاج إلى سيف للدفاع عن مصداقيته، لأن العقل أنتجه والمنطق وسيلة دفاعه ومتى ما استخدم العنف للدفاع عن مبدأ ما فأنا على ثقة بأن هذا المبدأ ليس إلا دجل أو كذبة زرعت نواته في ظلمة التاريخ فنمت بين السطور وأثمرت على رفوف المكتبات واستهلكها عقل ضيق الأفق.

المبدأ الحق غايته الخير والخير لا يحتاج لدم يسفك لأجل دوامه، على عكس المبدأ الذي يعجز المنطق عن الدفاع بالحجج والبراهين عن مصداقيته, فيعمل السيف في ألسنة المشككين قاطعاً عليها فضح حقيقته الفارغة.

وخطاب الكراهية الذي نحن في صدد البحث عن أسبابه ربما وصلنا إلى المنبع الذي يتدفق منه سيل الكراهية ألا وهو السلطة، السلطة بكافة أنواعها وأشكالها، انطلاقاً من الفرد حتى المنظومة السياسية والدينية والثقافية مروراً بالأسرة والعائلة والحارة والحي والمجتمع المكاني ككل.

والبعد الزماني الذي هو الماضي والحاضر والمستقبل وفي طياته الغامض والواضح والمجهول. وهو الشاهد الوحيد على الأحداث الإنسانية وإن كان صامتاً لا يتكلم إلا أن أحداثه تكشف اللثام عن وجوه بعضها البعض لمن طلب المعرفة.

إذن: فالكره مكتسب ، وهو أسلوب دفاع وهجوم نبتكره ونورثه للأجيال القادمة وأثناء سيرورته يتضخم ككرة الثلج حتى يعجز حامله عن كتمه فينفجر.

وهو مرض اجتماعي غايته مبيّتة في عقل مبتكره, لغاية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو دينية. ودائماً هناك ضحية وبالمقابل هناك مستفيد.

فمن هو المبتكر ومن هو المستفيد ؟وليس بالضرورة أن يكون المبتكر هو المستفيد. فلربما المبتكر قد مات منذ قرون والمستفيد لم يولد بعد.

ثم انتشر البشر في كافة أرجاء الأرض بعد أن ضاقت بهم الأماكن الأولى التي شهدت ولادة الإنسان، وبحسب مونتسكيو في كتابه (روح الشرائع الجزء الأول) والذي يرى فيه أن اختلاف ألوان البشرة واللغة والعادات والتقاليد والثقافات يعود إلى طبيعة الأرض أي إلى الجغرافية التي لها الدور الأكبر في الاختلاف، فالماء والتراب والهواء هو الذي يعطي الميّزة الخاصة لكل مجتمع وذهب أبعد من ذلك في نظرية فصل السلطات إذ لديه ((إنّ الطبيعة هي التي تحدد نوع الدولة، أو أنواع العلاقات بين الأفراد والتي تحدّد بالتالي شكل الدولة))(5) فالمناخ برأيه هو الذي يتسبب في اختلاف العادات والتقاليد والنظم الاقتصادية والدينية، بل ومفهوم الحرية أيضاً.

أمّا ابن خلدون ومن قبله أخوان الصفا: فقد قسّم العالم إلى سبعة أقاليم، ثلاثة أقاليم معتدلة وشعبها أكثر اعتدالاً وأحسن خلقاً وصحةً لأنّهم يعيشون الفصول الأربعة من السنة، أما الإقليمين الشماليين فهما باردين والإقليمين الجنوبيين شديدي الحرارة.

أثرت هذه الأقاليم على سكانها فكانوا متأخّرين عن الحضارة التي سبقهم إليها سكان الأقاليم الثالث والرابع والخامس، والذي بحسب ابن خلدون هي مناطق حوض المتوسط على الضفتين وإيران والهند وما جاورهما وقد حذا حذوه هيغل في كتابه الواقع في جزأين: (فلسفة التاريخ) ويرى صاحب نظرية الديالكتيك بأنّ الطبيعة هي التي فرضت على الإنسان أسلوب حياة معين ودين معين وقسم العالم إلى ثلاثة أقسام: الأرض المرتفعة، السهول والوديان، المناطق الساحلية، مستبعداً المناطق الحارة والباردة والعالم الجديد أمريكا من مسرح صناعة التاريخ، والأقسام الثلاثة هي أوربا وآسيا والساحل الشمالي لأفريقيا.

وكان خطاب ابن خلدون وهيغل لا يخلو من التمييز العنصري، فابن خلدون هاجم السود والبيض واتهمهم بالبلد والوهن كما هاجم العرب والترك والأمازيغ معتبرهم رعاع خطيرون على الحضارة لما يمتازون به من جلد وقسوة وصبر وبأس قد ورثوه من طبيعتهم البدوية، فالعرب أخذوا صبر الجمال التي يرعونها، والترك أخذوا قوة العجول التي يربونها في الجبال، والأمازيغ الذي يسميهم البربر أخذوا شقاء الماعز الذي يرعونه في الجبال.

وهذه الأقوام الثلاثة البدوية بحسب ابن خلدون ما إن يحتلوا منطقة ما, حتى يسرع إليها الخراب.

فابن خلدون وهيغل استخدمَا خطاباً شمولياً بدراستهم الشعوب وكان جارحاً، وذا نظرة غير موضوعية، فالتعميم قد ينطبق على النظريات العلمية، لكن قطعاً لا ينطبق على المجتمعات البشرية التي يمتاز كل فرد عن غيره ولكل فرد بصمته وعالمه الخاص فلا يمكن دمج الجميع بقانون اجتماعي شامل.

وبعد تزايد عدد البشر وانتهاء مرحلة الخرافة الدينية، طفا إلى سطح المجتمعات البشرية المرحلة الأسطورية، حيث تروي الحكايات الخارقة عن الآلهة وأنصاف الآلهة.

وقد استطاع الكهنة في هذه المرحلة السيطرة على الاقتصاد والسياسة، فهم الذين يروون الحكايات الخارقة وينشرونها في المجتمع، حتى استطاعوا الوصول إلى السلطة المطلقة المتمثلة بابن الإله (نصف إله) وهو الملك الذي ينصبونهم. والذي يدعون بأن والده جامع امرأة بشرية في معبد العاهرات المقدسات التي ينذرن أنفسهن لنزوات الإله الجنسية, والكهنة هم أصحاب هذه الفكرة، فيختارون الابن نصف الإله ويجعلونه حاكماً مطلقاً يمثل الإله على الأرض كونه ابنه.

وهنا استطاع الكهنة أن يستبعدوا المرأة عن السلطة، وأصبح النظام الاجتماعي نظاماً أبوياً فالطفل الملك استقى الألوهية من والده الإله وليس من والدته العاهرة المقدسة.

وبدأ زمن الإمبراطوريات الذي امتد حتى الثورة الفرنسية عام 1989 حيث قضت على الإمبراطوريات القائمة على الميثيولوجيا والقائمة على الحكم المطلق للملك أو الإمبراطور بوصفه ابن الإله أو بمرحلة دينية متقدمة أصبح ممثل الرب.

وهنا بدأت مرحلة الدول الوطنية أو القومية. وبهذه المرحلة تضخم التمييز العنصري، العرقي والديني والطائفي والثقافي والمناطقي والقبلي والحضاري. وانتشرت الحروب وأصبحت أكثر خطورة من المراحل السابقة فقد تطور العلم كثيراً في هذه المرحلة وعلى الصعيد العسكري  اختُرعت الأسلحة النارية الحديثة وآلية الحرب المرعبة.

فخاض العالم حروباً ومجازر كثيرة بدأت بأوربا، ولم تنتهِ حتى الآن، فجشع الإنسان يكبر بكبر اقتصاده الذي يمنحه القوة والسلطة السياسية والعسكرية.

لذلك وصلنا لمرحلة اقتصادية تحاول جعل العالم برمته قرية كونية صغيرة ، فالعولمة جعلت العالم يتطبع بمبادئها رغماً عنه، فإذا كانت الطبيعة سابقاً هي التي تؤثر على البشر، فإن البشر اليوم يتأثرون بصراع الأيديولوجيات والعنف والحروب والاقتصاد الشمولي أكثر من الطبيعة التي شوهها الإنسان وغزاها واليوم يتطلع إلى غزو الفضاء.

والسؤال هنا: هل العنف والكره ضرورياً لتطور الإنسان؟

فهناك اختلاف كبير بين الالتقاط والقنص وبين التهجير والقصف.

المبحث الأول:

المطلب الأول:تعريفه:

من العصي على المرء إيجاد تعريف جامع مانع لخطاب الكراهية، هذا نظراً للبعد اللغوي الذي عليه يبنى التعريف (المضمون اللفظي/ الوصفي والدلالي للكلمة، إضافة الى النبرة ومستوى الصوت والزمكان ولغة الجسد) واختلافها بين العالم وتداخلها مع الثقافة والدين ومستوى الوعي الفردي والجمعي والبنية العقلية والعقائدية لكل مجتمع … ولكن يمكننا أن نتفق من حيث المبدأ على اعتبار -أن كل ما يحرض على الفتنة والاقتتال، وكل ما يتناول الاختلافات والفروقات اللونية والعرقية الأثنية والجنسية والدينية والاعتقادية والمذهبية والطائفية واللغوية والثقافية، أو الإعاقة أو المرض أو الصفة أو الوظيفة أو المستوى أو الميل الجنسي أو الانتماء أو الجنس أو المادة … بسخرية، أو يبني خطابه على أساس تلك الفروقات والاختلافات على مبدأ التفضيل أو الاستعلاء أو التحقير أو التقزيم أو التمييز أو التبرير أو الاهانة… بحيث يتسبب أو يساهم في إنتاج سلوك (أفعال الكلام) لا يفيد أُسس العيش المشترك ويثير النعرات – هو خطاب الكراهية. حيث أنه لا يوجد تعريف متفق عليه عالمياً حتى الآن، وإليكم بعض التعاريف أدناه:

خطاب الكراهية: هو “كل ما يشتمل إساءة أو إهانة أو تحقيراً لشخص أو جماعة من منطلق انتمائه أو انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو السياسية أو بسبب اللون أو اللغة أو الجنس أو الجنسية أو الطبقة الاجتماعية أو الانتماء الإقليمي أو الجغرافي أو المهنة أو المظهر أو الإعاقة هو خطاب كراهية ، وكلّ ما يشتمل تحريضاً أو قولبة لجماعة في إطار يثير التهكم والسخرية أو تقليلاً من قدر جماعة واتهاماً لها بالنقص والدونية، وكذلك كلّ تبرير للعنف ضد جماعة ما وكل تعبير عن التمييز والتفوق على الآخرين لأسبابٍ عرقية أو ما شابهها، وكل ما يشتمل معاداة للمهاجرين أو الأقليات أو تحريضاً على منعهم من الإقامة في مدن أو أقاليم بعينها وكل ما يشتمل اقتباسات وإحالات وإشارات فيها ازدراء أو تقبيح لجماعة عرقيّة أو جغرافيّة أو دينية، وكل تزييف أو تزوير أو تحريف للحقائق وكل استعارة أو تعبير مهين، وكل خطاب يفرق ولا يجمع، لا يصل بل يقطع هو خطاب كراهية”.(6)

وأيضاً يعرفها كوهين ألماغور( أستاذ الفلسفة السّياسيّة في جامعة أكسفورد):”إنه خطاب يحرضه التحيز، العداء، والشر ويستهدف شخصاً أو مجموعةً من الأشخاص بسبب بعض الخصائص الفطرية الحقيقة أو المتصورة. وهو خطاب يعبر عن مواقف تمييزية أو مرفوضة أو معادية أو متحيزة تجاه تلك الخصائص وهو ناتج عن خوف منها في أغلب الأحيان، ومن هذه الخصائص  “الجنس والعرق والدين والإثنية واللون والأصل القومي والإعاقة والميل الجنسي” ويضيف ألماغور: “إن خطاب الكراهية يهدف إلى إلحاق الأذى بالمجموعات المستهدفة وتجريدها من الإنسانية ومضايقتها وترهيبها وتهميشها والحطّ من كرامتها وإذلالها، واستغلالها لترسيخ فكرة عدم الاكتراث لخصائصها وإثارة الوحشية ضدها.”(7)

“خطاب الكراهية (بالإنجليزية: Hate speech) مصطلح حقوقي فضفاض يمكن أن يعرف بكونه أي “عبارات تؤيد التحريض على الضرر (خاصة التمييز أو العدوانية أو العنف) حسب الهدف الذي تم استهدافه وسط مجموعة اجتماعية أو سكانية وتكون هذه المجموعات عادة من الضعفاء والأقليات ويندرج خطاب الكراهية في مركبات “حرية التعبير وحقوق الأفراد والجماعات والأقليات ومبادئ الكرامة والحرية والمساواة“.(8)

وتعرف الأمم المتّحدة، أنّ “خطاب الكراهية” هو أيّ نوع من التواصل الشفهيّ أو الخطيّ أو السلوكيّ، ينطوي على تهجّم أو يستخدم لغة سلبيّة أو تمييزيّة عند الإشارة إلى شخص أو مجموعة من الأشخاص على أساس هويّتهم، أيّ على أساس دينهم أو عنصرهم أو جنسيّتهم أو عرقهم أو لونهم أو نسبهم أو جنسهم أو أيّ عامل أخر يحدّدهم. وغالبًا ما يكون متجذرًا في التعصّب والكراهية ويؤدّي إلى تفاقمهما، وفي بعض السياقات، قد يكون مهينًا ومسببًا للانقسامات.(9)

المطلب الثاني: أنواع الخطابات:

هناك عدة أنواع لخطاب الكراهية منها:

الخطاب الديني: وهو الذي يحض على عدم تقبل الأخر ومهاجمته واتهامه بالباطل ومحاولته القضاء على الدين الصحيح.

الخطاب القومي: وهو التعصب المفرط للقومية ومحاولة صبغ المجتمع كله بصبغة قومية ذات لون واحد, مهمشا باقي القوميات متخذا منها موقفا معاديا ونظرة دونية.

الخطاب السياسي: وهو الخطاب الذي يميز بين شركاء الوطن بحسب الدين أو القومية أو الطائفة ناثرا بذور الفتن في المجتمع.

الخطاب المناطقي : يقوم على أسس جغرافية ،حيث يفضل شعب منطقة على منطقة أخرى، مما يؤثر هذا الخطاب على التواصل الاجتماعي بين هذه المناطق التي تأخذ علاقتهم الاجتماعية طابع الحساسية والعداوة.

الخطاب الجنسوي :وهو الذي يميز بحسب الجنس، ولكنه يدل في الثقافة الدارجة التمييز ضد المرأة على أنها دون الرجل تميزا بكل شيء.

وهناك الكثير من الخطابات التي لا يسعنا ذكر جميعها في هذا البحث.

الفرع الاول: الهدف من خطاب الكراهية:

يهدف خطاب الكراهية الى خلق البلبلة والفتن والتحريض و النزاعات والاقتتال والتفرقة بين الشعوب والأقوام والأعراق والأجناس والطوائف والأديان والمذاهب … وبين كل التنوعات والاختلافات والفروقات الفردية أو الجمعية أو العقائدية أو الأثنية أو اللونية …؛ وبين كل الاختلافات الاجتماعية والسياسية من خلال التفضيل أو التمييز أو التحقير أو التشهير أو…من شأن أحدهم على حساب الآخر ليثير مشاعر الكراهية والبغض والغضب كوقود  لحقيق غاية سلطانه (مستخدم خطاب الكراهية).

الفرع الثاني: استخدامات السلطة لخطاب الكراهية:

إن السلطة القائمة على مبدأ القوى والبطش, واللادستورية لن تكون حمامة سلام تحوم في فضاء المجتمع ناشرة السلام والوئام وفضيلة الخير والعدل ،لأنها تحكم بعقلية السيف لا بعقلية العلم. ومن الطبيعي أن تستخدم هذه المنظومة السياسية خطب الكراهية لغاية الفتن وبث روح الشقاق بين مكونات المجتمع وحتى مصطلح مكونات أنا شخصيا ضده , فبدل مكونات الشعب يجب أن نقول مكملات الشعب, ولكي لا يكون كل حزب أو فئة أو طائفة مكملة للأخرى يعمل الخطاب السياسي للسلطات أن يجعلها منغصة, لكي يضمن استمراريتها المرهونة بتشرذم المجتمع وانقسامه على ذاته.

وهنا يتحمل المجتمع مسؤولية النهوض وتوعية المجتمع من الغاية المرادة من تناحره. والمجتمع الواعي هو الذي يحدد شكل الحكومة السياسية لأن بحسب ابن خلدون (تأثير المجتمع أقوى من تأثر الفرد) ولكي لا يؤثر المجتمع على بقاء السلطة لابد من مبدأ: فرق تسد.

فالسلطة لا توفر فرصة إلا وتستثمرها لصالحها ضد المجتمع مستعملة أجندتها من رجال دين وسياسيين ووجهاء وشيوخ عشائر ورواة الرواية الشعبية ومثقفين وغيرهم، تبثهم بالمجتمع يعملون لصالحها ضد وحدة المجتمع الغافل عن السياسة, المنشغل بمشاكله المبتكرة وهي مشاكل بسيطة ضخمت وأدلجة بمعية السلطة, والسؤال هنا هل السلطة عدوة المجتمع؟ الجواب: أية سلطة تفرض نفسها بالقوة لتحكم شعب, تتخذ من الشعب عدوا لها ودافع هذه العداوة هو خشية السلطة من تآمر الشعب ضدها والإطاحة بعدم شرعيتها. فبقائها مرهون بالفتن التي تخترعها لإشغال المجتمع.

الفرع الثالث: الحركات الأيديولوجية:

الأيديولوجية: تلك العقائد والأفكار والقيم والعادات والتقاليد والأعراف التي يؤمن بها جماعة من الناس, فتشكل هويتها وثقافتها وتعتبرها الدرع الذي يحمي وجودها من الزوال أو الذوبان في الأيديولوجيات الموازية.

والأيديولوجية هي ليست الدين كما هو مشاع في زمننا هذا, على العكس تماما فالدين ليس أيديولوجية طالما بقي بعيدا عن معترك السياسة والاقتصاد وفرض نفسه حلا لكل مشاكل المجتمع، والدين عندما يصبح ايديولوجية يخرج عن وظيفته الروحانية ويغدو مجموعة أفكار وعادات وقيم ونظريات حياتية فيصبح أنطلوجية أكثر مما هو ميتافيزيقيا تهتم بالروحانيات والماورائيات. لهذا سوف نتطرق هنا إلى الأيديولوجية الدينية التي حاولت أن تفرض نفسها على المجتمع الشرقي والغربي وما أنتجته من خراب ودمار اثناء سعيها السلطوي.

أولاً:تعريف الايديولوجيا:

لابد لنا من تعريف الأيديولوجيا بشكل عام.

فتعني باليونانية: إيديا أو اللوغس وتعني علم الأفكار(10).

أما بالعربية: العقيدة الفكرية.

ولكن التعريف الأكثر تكاملاً يحدد الأيديولوجيا بأنها: النسق الكلي للأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة وهي تساعد على تفسير الأسس الأخلاقية للفعل الواقعي وتعمل على توجيهه. ولنسق المقدرة تبرير سلوك الشخص وإضفاء المشروعية على النظام القائم والدفاع عنه.

كما أن الأيديولوجيا أصبحت نسقاً استجابةً للتغييرات الراهنة والمتوقعة سواءً كانت على المستوى المحلي أو العالمي.

ويعد دي تراسي (1754-1836) الفرنسي أول من وضع هذا المصطلح في عصر التنوير الفرنسي في كتابه (عناصر الأيديولوجيا) وعنى بها ((علم الأفكار، وجعلها مقياس صحة وخطأ الأفكار التي يحملها الناس )). (11)

وسوف نتطرق في هذا البحث إلى حركتين أيديولوجيتين:

الأولى هي الأيديولوجيا القومية:

والثانية هي الأيديولوجيا الجهادية

ثانياً: الأيديولوجيا القومية: تندرج ضمن الأيديولوجيات السياسية كونها وليدة السياسة وردة فعل يراد بها التساوي في الحقوق إبان نشأتها الأولى في أوربا رداً على التعجرف الفرنسي المحتل لبعض الدول الأوربية.

والأيديولوجيا السياسية: ترتكز غالباً على السياسواقتصادية. وتبسطها من أجل ترويجها بين الجماهير للفوز بانتخابات أو شرعية ما، فيمكن القول أن الأيديولوجيا بشكل عام هي نظرية نفعية لأنها غالباً ما توثق الصلة بين الحركات والأحزاب والجماعات الثورية ولكي يقاتل الناس بعضهم ويدفعون ثمن ما يطمح إليه الغير ، لابد من دافع إيديولوجي؛ أي شيء يؤمنون به ليقدموا التضحيات من أجله. وفي النهاية يجني غيرهم ثمار هذه التضحيات.

وكون الأوربيون هم السباقون لهذه النظرية (النظرية القومية) ولابد لنا من المرور ولو بشكل سريع لضيق البحث إلى الظروف الأوربية التي أنتجت هذه النظرية وتداعياتها التي تسببت بالحربين العالميتين الأولى والثانية.

لقد ظهرت البذور الأولى للقومية مع ملوك عصر النهضة الأوربية فقد غزا الجيش الروسي فرنسا عام (1792) حيث كانت الثورة الفرنسية في بداياتها والفوضى تعم البلاد بعد إسقاطهم للحكم الملكي عام (1787).

لم يكن هناك جيش يصد الغزو الروسي فاجتمعت أفواج المتطوعين الفرنسيين الذين قاوموا الجيش الروسي وهزموه فتضخمت لديهم الشرعية القومية التي تحولت إلى أيديولوجيا لا تقهر برأيهم, وبعدها استعمرت فرنسا الكثير من دول أوربا بقيادة نابليون بونابرت، وكانت الشخصية الفرنسية المحتلة على درجة عالية من التعجرف والفوقية والتعالي على الشعوب المحتلة مما أدى إلى تصدير هذه الأيديولوجيا إلى الشعوب المحتلة والتي قاومت الاحتلال الفرنسي على أسس أيديولوجية قومية. وبذلك أصبح الإسبان والألمان والروس قوميين كارهين للاحتلال الفرنسي.

وفي منتصف القرن التاسع عشر عرّف المفكرون في أوربا وخصوصاً في ألمانيا وإيطاليا، عرّفوا الأمة: أنها القيمة الإنسانية النهائية وهي مصدر كل شيء طيب.

وطالب الكاتب الإيطالي جوزي بيمازيني بالحرية ليس للأفراد بل للأمة جمعاء، فالفرد يحقق الحرية الحقيقية لديه بتنازله عن حقوقه من أجل أمته, وهنا بدأت الفاشية الإيطالية التي تسببت بكوارث القرن العشرين فقد قاد موسوليني هذه الحركة وحكم من خلالها إيطاليا ودخل بأفكارها العنصرية الحرب العالمية الأولى، ثم استوردها منه هتلر وأسس النازية الألمانية التي حكم من خلالها ألمانيا ودخل بأفكارها العنصرية وخطاباتها الكارهة للغير الحرب العالمية الثانية.

أما في الشرق الأوسط فقد استوردنا القومية من الإمبريالية الاستعمارية؛ من فرنسا وبريطانيا بالتحديد، فتأسست لدينا الأحزاب القومية الهجينة المشوهة لعدم أصالتها فهذه النظرية جديدة على المجتمع الشرقي وهو شعب لاهوتي تقوم علاقاته الاجتماعية على أسس دينية.

وإن كانت النظرية القومية تدعو في أوربا إلى الوحدة الوطنية ,كما حصل في ألمانيا ذات الشعب الخليط من الأعراق الأوربية، وكذلك اسبانيا وإيطاليا, إلا أنهم دعوا إلى توحيد الشعب ضد الغزاة وسبقتهم فرنسا في ذلك إبان الاحتلال الروسي.

ولكن في الشرق الأوسط استخدم الخطاب القومي لا للوحدة الوطنية بل على العكس جاء لضرب الوحدة الوطنية.

فالذين آمنوا بالنظرية القومية غفلوا عن طبيعة الفسيفساء الاجتماعية التي يمتاز بها الشرق الأوسطي بشكل عام، فأوربا قليلة التنوع العرقي ، وإذا وجد في ذلك الزمن فإنه تنوع محلي أوربي. أما في الشرق الأوسط فالتنوع كبير جداً فكان الخطاب القوموي فتنة إقليمية، فلا توجد دولة في الشرق الأوسط إلا وفيها عشرات القوميات والأثنيات والأعراق.

هنا استخدم البطش لصبغ المجتمع بصبغة واحدة وبلغة واحدة، وبدل أن يتوحد الشعب على هذا المبدأ، تفرق على هذا الأساس، وبدل أن تسود قوية واحدة أنتجت هذه التجربة عشرات القوميات التي تناسب تعصبها طرداً للفعل.

وما زالت النزاعات والخلافات تتأجج وتتوسع وتتطور وتتعمق داخل كل قومية من هذه القوميات على أسس مناطقية وقبلية وعائلية حتى تفتت المجتمع الشرق أوسطي على هذا الأساس وتشرذم وتشتت.

والخطاب القوموي ماثلاً أمامنا ونستهلكه في حياتنا اليومية كما نستهلك الخبز والماء. حتى أننا نسمي الأشخاص بحسب قوميتهم فلان التركي أو فلان الكردي أو العربي أو الفارسي أو الأسوري…..إلخ وأحياناً نلفظ اسمه الأول واللقب نلفظه بشكل عفوي بحسب قوميته أو طائفته أو عشيرته وهذا السلوك الذي تجذر بنا أصبح عائقاً يقيد عقولنا ووعينا فكلما اتسعت مساحة التمييز كلما ضاق أفق الوعي.

لأن التعامل مع الآخرين يأخذ طابعاً عنصرياً لا معنى له ولا نتيجة سوى وضع قيد جديد حول عنق وعينا وخنقه بدائرة نحن.

وبين نحن وأنتم وهم تسللت الأصفاد إلى أطرافنا وإذا كان نحن أو هم أو أنتم تشعرون بالحرية فهذا وهم لأنك إن كنت تتحرك أو نتحرك أو يتحرك بحرية فهذا يعني أن سلسلة أصفاده أطول قليلاً ورأسها بيد المتسلط المستفيد من الشقاق.

فلسهولة التسلط على المجتمع لا بد من تكبيله بالأفكار الأيديولوجية المتطرفة التي تمكنه من اقتياده أينما شاء وتوجيهه حيث مصالحه.

وكلما اتسعت شبكة السلاسل كلما كان المجتمع مطيعاً أكثر لساسته، وكلما أراد أحد كسر السلاسل منعه الآخرين من ذلك ليس كرهاً بل وهماً فهم يظنون أنهم أحرار.

ثالثاً: الايديولوجيا الجهادية:

هي جماعة تعتمد الانتقائية في اختيار الآيات القرآنية, مستندين إلى مجموعة صغيرة من الآيات لتأكيد موقفهم الأيديولوجي؛ كما أنهم يتمسكون بحرفية النص أكثر من اهتمامهم بالتقوى الشخصية.

وقد ظهر هذا الفكر عند الحركة الوهابية(محمد بن عبد الوهاب 1703-1792) والأخوان المسلمين (حسن البنا-1928)

وقد اقترح كل منهما أن الدين هو الحل لكل مشاكل المجتمع، وبأن القرآن هو الدستور الذي يجب على المجتمع العودة إليه لأنه يشتمل على كل الحلول الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وبأن سبب التدهور السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي والاجتماعي للأمة المسلمة, هو ابتعاد المسلمين عن دينهم الصحيح وإهمالهم للجهاد في سبيل الله.

فراحوا ينسجون الخطابات التي تدعو إلى الجهاد ضد كل من لا يشاركهم الرأي, لكي يمهدوا لتقبل الناس فكر القتال, أما الذين يختلفون عنهم بالعقيدة فهم بمنظورهم كفارا يجب مقاتلتهم إلى أن: أما أن يسلموا أو يدفعوا الجزية.

وهذا ما انتهجته الحركات الراديكالية التي ظهرت في سوريا بعد عام 2011 من نصرة وأحرار ودولة وتوابعهن.

وهذه الجماعات تعتمد في خطبها على دغدغة المشاعر الدينية لدى الجماعات والأفراد عن طريق خطباء المنابر ولإعلام المرئي والمسموع من إصدارات تتكلم عن انجازاتهم وأناشيد تحمس الناس على إتباعهم للذود عن الدين الذي هم حراسه. ونشر فكرة التآمر على الدين من قبل باقي الأديان التي تحاول محوه وإزالته لأنه الدين الحق.

منتقين مجتزئين من القرآن الآيات التي تدلل على مصداقيتهم، فأفكارهم عدمية سوداوية إجرامية ،وهذه الأفكار تحولت إلى سلوك في الكثير من المواقع، فمثلا المجازر التي ارتكبوها في سنجار ضد الإيزيديين من مبدأ ديني ؛ ذبحوا الرجال بالسكاكين وسبوا النساء جواري محيين بذلك ثقافة القرون الوسطى. والحرب ضد الكرد انطلاقا من مبدأ الردة إذ يجوز قتالهم وسبيهم ونهبهم انطلاقا من هذه الفتوى فتوى الردة عن الدين، هم ليسوا بحاجة شرعية لقتل غير المسلم ولكن قتالهم للمسلم بحاجة لفتوى شرعية تحلل ذبحه ونهبه لذلك نجد كل المسلمين الذين هم على خلاف معهم هم مرتدون ، فشعارهم الضمني : من ليس معنا هو ضدنا.

وانطلاقا من هذا الشعار نجدهم يقتلون بمفخخاتهم المدنيين والعسكريين على السواء بسبب النظرة الشمولية  للمجتمع.

وممارساتهم تجدها واحدة سواء في سوريا أو العراق أو افغانستان أو مالي أو أي مكان في العالم.

إنّ الغاية الأولى من هذا الفكر, هو امتلاك السلطة بصرف النظر عن شعارات الدفاع عن الأمة ضد الكفار والملحدين والمرتدين الذين ما برحوا يرجون زوال الدين الإسلامي، بحسب خطاباتهم.

ولتحقيق هذه الغاية لابد من التجييش عن طريق خطاب الكراهية ضد للآخرين، ففي حربهم ضد الكرد في كوباني استخدموا شعاراً مفاده: أن الكرد هم مرتدين عن الدين بسبب أيمانهم بالشيوعية وتخليهم عن الإسلام, كما أنهم يقومون بتمزيق القرآن وإتلافه وهناك الكثير منهم ارتدّ واعتنق المسيحية ، لذلك قتالهم واجب لكي يعودوا إلى طريق الهداية والصواب. هذا ما يشيعونه بين الناس والكثير من الناس يصدقون أية رواية ذات صبغة دينية بسبب عواطفهم التي تغيب منطق عقلهم.

كما هناك الخطابات التي تدعو إلى الجنة عن طريق قتال الآخرين وقتلهم والتقرب بهم إلى الله فهذا الخطاب الذي يجعلونه يعشعش في عقول تابعيهم فالتابع هنا أعطوه الحق لأن يحكم البشر في الدنيا ضامنا الجنة في الآخرة وهذا عرض جدا مغري.

أما خطابهم للذين هم خارج البلاد فهم يجملون لهم الصورة ويحاولون أن يوصلوا فكرة المدينة الفاضلة التي في طور النشوء ولكنها بحاجة لمساعدة جميع المسلمين لاكتمالها لتصبح منارة تنير طريق الضلال ترشده إلى الهداية .

إنّ هذه الأيديولوجية في قمة نشاطها الآن وبرأيي القوة المستخدمة ضدها لا تزيدها إلا انتشارا وخطورة ، فلمكافحة هذه الظاهرة لابد من الوعي الديني الذي يفرق بين التطرف والدين المعتدل الذي يتقبل كل مختلف، وضرب قواعدها القائمة عليها عن طريق الوعي وإبراز الأسس العقائدية الضعيفة التي هي قائمة عليها وتربية جيل مثقف دينيا منفتح على الآخرين .

المطلب الثالث: خطاب الكراهية والقانون:

لقد سنت الكثير من الدول قوانيناً تجرم أي خطاب يدعو للعنصرية أو التمييز العرقي أو الديني أو أي ما يميز إنسان عن إنسان من منظور سلبي. وتقوم محكمة الجنايات بالحكم على الفرد أو الجماعة التي تستخدم هذا الخطاب.

ولكن هل تطبق هذه القوانين أم هي عبارة عن حبر على ورق؟

نعم هي حبر على ورق، لأن هناك قانون حرية التعبير الذي ينطلق المجرم من شرعيته مدافعاً عن نفسه، فيركن إلى أن ما يعتقده يقع في خانة الرأي الخاص ووجهة نظر. ففي قوانين الانتخابات مثلاً تكثر الخطابات الباعثة على الكراهية.

فكل حزب يهاجم الحزب المنافس ويثخن بتحقيره، وبالمقابل يتلقى نفس الخطاب.

المسألة معقدة جداً ((ففي انتخابات البوسنة عام 1998 أعطي لخطاب الكراهية قدراً كبيراً فقد لعب الإعلام دوراً كبيراً في التحريض على الحروب التي أدت إلى تفكك يوغسلافيا.2008 في الانتخابات الكينية حيث الخطاب التحريضي تسبب بعنف قائم على العرق)). (12)

فالمسألة تعود إلى الثقافة والوعي والأخلاق أكثر من القوانين والأعراف.

لأننا ذكرنا نموذجين من الانتخابات التي تسبب خطاب الكراهية لمجتمعاتها العنف والخراب ولم يُحاسَب أحد من قبل القانون الدولي.

فمنذ وقت قريب وعل الإعلام يخرج دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية واصفاً ملوك الخليج العربي بالأغبياء. وهو أعظم رئيس دولة في العالم ولا محاسب له على هذا الخطاب واليوم كلنا نسمع على المنابر الإعلامية والسوشال ميديا الخطابات العنصرية التي يتعرض لها المهاجرون من دول النزاعات. والسود والساميين واللاجئين…

فالمشكلة العنصرية وبواعثها وأدواتها أمراض اجتماعية لا تحل بالقوانين إنما حلها بالتآخي بين الشعوب ونشر سياسة الوئام بين البشر على أنهم كل موحد لا تفرقة بينهم. وهذا ما يجب أن يكون ولكن ما هو كائن مغاير تماماً وكل فئة تدافع عن بقائها بخطابات الكراهية التي تنشرها وفق أدوات سوف نأتي على ذكرها بعد قليل. أما القوانين الدولية والمحلية فلا يطبق منها شيئ لتبقى قوانين فخرية لا أكثر.

المطلب الرابع: أدوات خطاب الكراهية:

يستخدم خطاب الكراهية أدوات كثيرة من أجل بث أسباب الخلاف والتفرقة في المجتمع وذلك بشكل ممنهج وأكاديمي ليكون تأثيره فعالاً على من يتلقاه.

أ- المرئي: وهو ما نتلقاه على شاشات التلفزة والسينما من برامج ومسلسلات وأفلام سينمائية ووثائقية. وقد شهدنا هذا الخطاب وعايشناه وما زلنا نعايشه فكل فئة سياسية على أرضنا السورية تقدم لنا خطاباً على أنها الفئة المظلومة والتي تسعى لما هو خير للمجتمع وبأن الفئات الأخرى هي الفئات الشريرة التي يستوجب قتالها مصوراً الأطراف الأخرى بأبشع صورها مبرزاً الوثائق والأدلة للمصداقية.

ويكون وقع الخطاب المرئي كبيراً جداً لأنه يقدم صورة محسوسة عن الموضوع المخاطب فيحرك المشاعر ويجيش النفوس، ويجعل المتلقي لا يفكر إلا من خلال خطابه الذي لامس دواخله . وهذا النوع من الخطابات منتشر بغزارة الآن في أوساطنا الاجتماعية من مسلسلات وأفلام وبرامج…

  • المقروء: وهو أقل الأدوات تأثيراً على المجتمع لعدة أسباب منها:
  • قلة القراء في مجتمعنا الذي يجنح إلى المرئي والمسموع والسوشيال ميديا والمنابر أي يركن إلى الأخبار الجاهزة التي لا تحتاج إلى تعب فكري. والقراءة سواء كانت مقالة أو جريدة أو مجلة أو كتاباً أو رواية تحتاج إلى شخصية قارئ غائبة في مجتمعنا. وغياب هذه الشخصية هو أحد أسباب كوارثنا وجهلنا.

من يقرأ يكون أكثر ثقافة من غيره مما يحتكم أغلب الأحيان إلى المناهج المنطقية قبل تصديق الخطابات والمعلومات والأخبار. فهو لا يقرأ من منبر واحد أو موقع واحد أو كاتب واحد. إنما هو قارئ بشكل عام فيكون ذا وعي يمكنه من إدراك الغاية من هذا الخطاب أو ذاك.

  • عدم الإقبال على الخطاب المكتوب بشكل أساسي من قبل المستفيد، إنما يعتمد عليه بشكل ثانوي أي للتاريخ فقط. وغالباً ما يكون المكتوب ركيكاً ضعيفاً لعدم الاهتمام به بشكل أساسي.
  • المسموع: هو أيضاً خطاب غير مؤثر كثيراً لأنه يعتمد على الراديو وكون إعلام الراديو أو الإذاعات لا يقدم صورة محسوسة غير مرغوب به في مجتمعنا ذو الثقافة المحسوسة وهناك بدائل له هي المرئي والسوشيال ميديا والمنابر. ولكن تندرج في الخطاب المسموع الإشاعة التي لا تزال تحظى بشعبية كبيرة وإن حدّت من تأثيرها السوشيال ميديا. ولكن الجماعات الراديكالية استفادت منه عن طريق أناشيدهم التي تلاعبت بالعواطف.
  • السوشيالميديا: وهي أخطر أدوات خطاب الكراهية وقد اعتمدت عليه الجماعات الراديكالية اعتماداً كبيراً. سواء لتجنيد المقاتلين أو تلقي الدعم المالي عن طريق العملات الافتراضية كان له تأثير على المجتمع الذي يتلقى الأفكار والمعلومات من مصادر مجهولة ولا تعرف شخصية الناشر ولا اتجاهاته ولا ثقافته ولا حتى أكاديميته.

لقد أتاحت السوشيال ميديا للجميع النشر والكتابة دون تقييم أو رقابة يتساوى عندها المثقف بالجاهل لأن كلاهما فقد المصداقية في هذا العالم الافتراضي.

وهناك عقول تصدق ما تتلقاه دون تمحيص أو تدقيق، فأصبحت الأحزاب تؤسس على الأنترنت وأصبح خطاب الكراهية والتهجم على من يخالف أو هو مختلف متاحاً للجميع.

يستطيع أي إنسان التهجم على الآخرين واتهامهم بما يشاء من تهم وتشويه صورتهم من دون رقيب أو حسيب ومن دون أن يقدم دليل أو حجة. ومتاح بالمقابل للطرف الآخر الرد وبنفس الطريقة. وقد عانينا الأمرين في سوريا وما زلنا نعاني من مؤثرات هذا الخطاب الذي جلب علينا أناس من كل حدب وصوب يقاتلون باسم الدين والتحريض على العنف والاقتتال على أسس قومية أو طائفية أو مناطقية أو عشائرية، فهو متاح للجميع.

ولا ننسى الدور الكبير لموقع فيس بوك بالثورات العربية التي مازالت قائمة حتى الآن. فقد كانت تتشكل المظاهرات على  موقع فيس بوك قبل نزولها إلى الشوارع. لقد كان للسوشيال ميديا الدور الأكبر في التجييش.

  • المنابر : وللمنابر أنواع:
  • الدينية: وهي المنابر التي استخدمتها الجماعات الجهادية بشكل خاص ولكي تكون لهذه الأداة فاعلية كبيرة. فرضوا على المجتمع الصلاة الإجبارية في المساجد لتنتشر خطبهم وتؤثر على أكبر قدر من المجتمع.

وقد استطاعوا أن يستميلوا الكثير من الناس بخطبهم الرنانة التي تحاكي العواطف والمشاعر حين تصف لهم الظلم والقهر الذي يمارس على إخوانهم في الدين في كافة أرجاء الأرض. والتآمر على العقيدة من قبل الآخرين ووجوب قتالهم, فنالوا تعاطف الناس ونجحوا ببعث الكراهية لكل من يعادونه في قلوب المتعاطفين, فكانوا يعتمدون الدورات الشرعية والتي هي بالظاهر لتعليم العقائد الدينية، لكن الغاية منها هي تجنيد المقاتلين الذين يستطيعون التلاعب بأفكارهم وزرع روح الكراهية في أعماقهم لكي يستطيعوا القتل بروح المنتقم التي لا تعرف الرحمة. وللخطابات الارتجالية وقع على النفوس لا يماثله خطاب. فكم قائد عسكري استطاع أن يبعث خطابه الأمل في قلوب أفراد جيشه بعد يأسهم وتحقيق النصر كخطبة القائد طارق بن زياد أثناء احتلال الأندلس.

وخطابات بطرس الناسك في الكنائس والأديرة وفي الشوارع ، استطاعت أن تؤسس جيوشاً في أوربا الغربية اجتاحت الشرق الأوسط لمدة مئتي عام.

وخطبة عبد الله بن الحسين ومقولته (طاب الموت يا عرب) بعد شنق المحتل التركي للمثقفين في سوريا ولبنان، أقامت الثورة العربية الكبرى ضد الدولة التركية فالمنابر بكافة أشكالها لها تأثير كبير على النفوس لأنها تختزل الحدث بشخصية الخطيب فإذا كان هذا الخطيب قوياً فصيحاً صاحب حجة ودليل استطاع أن يختزل كل النواقص التي تشوب ما يدعو له ويجعلها بسيطة اعتيادية يمكن إصلاحها وتخطف شخصيته اهتمام المتلقين الذين استطاع تخديرهم بسبب الجماهيرية التي تفرز عدوة الاقتناع بالفكرة المراد الاقتناع بها.

فالفكرة التي يحاول أحد ما اقناعنا بها بشكل فردي ولا نقتنع بها فإننا سنتقبلها بشكل سلس أثناء مشاركتنا تلقي الفكرة مع الجمهور، بل ونكون السباقين إلى العمل بها وإن كنا غير مقتنعين بها بشكل فردي. وهذه بحسب التحليل النفسي الغريزة القطيعية التي يتساوى بها العالم والجاهل.

والدليل أن هناك مثقفين كثر قد انضموا إلى صفوف الجماعات الجهادية بل وقاموا بعمليات انتحارية وهؤلاء الأشخاص أنا أعرف أحدهم معرفة شخصية ؛ لم يكن يؤمن بهذه الفكر جملة وتفصيلاً.

ولكنه تلقى الخطاب بشكل جماعي فلو كان بمفرده أنا متأكد لو اجتمعت عليه  كل دعاة الجهادية لن يستطيعوا إقناعه. فالمثقف بحسب فرويد في الجماعة يتخلى عن منطقه لأنه لا يستطيع شد الجميع إليه، وهو من يُشد إلى الأكثرية لتتحكم به غريزة القطيع.

لأنه لا مبرر لانضمام بعض المثقفين لمثل هكذا تيارات سواء كانت دينية أو قومية إلا بتخديره بالحس الجمعي .والحس الجمعي يجعل خدمة الجماعة أولوية والمصلحة الفردية استثنائية متخلياً بذلك عن الذات الفردية التي تبتلعها الذات الجمعية أو الكلية.

وهنا يتوافق فرويد مع جبران خليل جبران في قصيدته الطويلة (المواكب) فيقول عن غريزة القطيع وإن كان سوداوياً يائساً من الخير في النفوس إلا أنه وضع يده على الألم، ويقول:

  • الخير في الناس مصنوع إذا جُبروا والشر في الناس لا يفنى وإن قُبروا
  • وأكثر الناس آلات تحركها أصابع الدهر يوماً ثم تنكسر
  • فلا تقولن هذا عالم علم ولا تقولن ذاك السيد الوقر
  • فأفضل الناس قطعان يسير بها صوت الرعاة ومن لم يمشِ يندثر
  • ليس في الغابات راع … لا ولا فيها القطيع
  • فالشتا يمشي ولكن … لا يجاريه الربيع
  • خلق الناس عبيداً… للذي يأبى الخضوع
  • فإذا ما هبَّ يوماً … سائراً سار الجميع

وللقارئ التحليل والتشبيه والمقارنة.

 

المطلب الخامس: أبعاد خطاب الكراهية:

إذا كانت الغاية من وراء خطاب محبة ما هي التوافق والانسجام والوئام ونبذ الشقاق والخلاف, فأن الغاية من خطاب الكراهية هو العكس تماما، فلهذا الخطاب أبعاد دينية وقومية وسياسية واقتصادية ومناطقية ولونية غايتها تفكيك المجتمع على هذه الأسس وجعله متناحرا مشتتا متخلفا، لتسهيل عملية السيطرة عليه ونهب مقدراته, وجعله ينوس بين الصراع الداخلي وكسرة الخبز.

الفرع الأول: البعد الفكري لخطاب الكراهية:

لابد من تعريف المفكر: هو الشخص الذي يستخدم الذكاء والتفكير النقدي إما بطريقة مهنية أو بصفة شخصية. هذا تعريف “يورغن هابرماس” في كتابه (التحول الهيكلي في المجال العام).

ويعد هذا التعريف الأشمل والأعم. وما ينطبق على الذات الفردية ينطبق على الذات الجمعية.

ولنشر خطاب ما في مجتمع مفكر لا بد من زعزعة منهجيته النقدية وتضييق أفق وعيه بما يتناسب \طرداً مع الهدف المراد من هذا الخطاب.

والبعد الفكري لخطاب الكراهية غايته أدلجة الفكر العام على أسس ومبادئ تجعله جاهزاً لتقبل الفكرة المراد نشرها. والتي من شأنها زرع بذور مشكلة ما أو فتنة أو تحريض أو غاية لا يعرفها إلا صاحبها.

وهذا الأسلوب يحتاج إلى نفس طويل لتتخمر الفكرة في ثقافة المجتمع وتصبح مع الزمن أحد الأعراف أو المبادئ المصادق عليها.

وهذا البعد نجده متبعاً من قبل الدول والسياسيين المخضرمين ومن قبل الاقتصاديين والمثقفين المتأدلجين الذين يعملون لصالح طرف ما.

ويغيب هذا الأسلوب عن العصابات والمافيات والجماعات الراديكالية التي تسعى إلى المنفعة السريعة لذلك تكون جذورها هشة يسهل اقتلاعها.

أما في سياسة الحكومات فهي متبعة ويعمل عليها وتُطَوَّر بما يتناسب مع الواقع المعاش، عن طريق الأدب والرواة الشعبيين في المقاهي وتسخير كل ما يلزم لها لكي تعيش. فعلى سبيل المثال الأحزاب القومية الأيديولوجيّة ما تزال الأقوى تأثيراً على المجتمع حتى الآن وهي لا توفر وسيلة من وسائل التأثير الاجتماعي إلا وتستعملها. من وجهاء وشيوخ عشائر ومخاتير ومعلمين ومثقفين وعمال ورعاة….إلخ لتهيئ المجتمع لتقبل الفكرة المراد نشرها.

فمنذ فترة قريبة كنا نطالع المناهج الدراسية العربية بشكل عام، نجدها تهاجم الاحتلال العثماني وتصفه بأبشع الصفات التي يحملها المحتل من عنصرية قومية وجهل وتتريك وخوازيق…. حتى صدق جيل أو جيلين أو ربما ثلاثة ما جاءت به الكتب المدرسية وانتشر الكره ليس للحكومة التركية فقط بل طال الأتراك بشكل عام. لأن الخطاب كان ممنهجاً يحاكي المشاعر القومية . ثم بعد عام (2000) حيث تحسنت العلاقات العربية التركية أصبح احتلال البارحة فتحاً في كتب التاريخ الدراسية. طبعاً على مراحل ولكن في المرحلة الأخيرة أصبح فتحاً إسلامياً وليس احتلالاً وأن سبب التخلف العربي ليس الاحتلال العثماني، إنما بسبب اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وانعزال الوطن العربي عن التيارات الحضارية.

وراح مؤلفو الكتب ينبشون المبررات والحجج التي تبرئ الاحتلال العثماني وتدين اليهود. إن البعد الفكري لخطاب الكراهية يهدف إلى تضييق الأفق المعرفي مراده التجهيل وجعل المجتمع لا يتقبل أي فكرة إلا عن طريقه واهماً إياهم بأنه يقدم الحقيقة المطلقة مهاجماً كل منبر يقدم الأفكار بشكل مغاير، ليحصر الثقافة بشكل عام في فلك مخططاته حتى يجعل المجتمع قوة ضاربة على يد كل من يشذ عن الطريق الذي رسمه للمجتمع وهنا الطامة الكبرى عندما يقوم مجتمعك بمحاسبتك فيقتل الفكر ويشرد المنطق ويصبح حكواتي الحارة مرجع الأحداث.

الفرع الثاني: البعد النفسي لخطاب الكراهية :

لا يأتي خطاب الكراهية جزافاً ولا ينشر بشكل عشوائي، إنما يدرس بشكل ممنهج وينشر عندما تهيئ الفرصة السانحة لتقبله.

فالمجتمع لا يخلو من العقلاء والمفكرين وأصحاب العلم فلو لم يكن هذا الخطاب يُعمَل عليه بشكل جيد سرعان ما يفتضح أمره من قبل الفئة الواعية التي بمثابة الرقيب الثقافي للمجتمع ولكي يجتاز هذا الخطاب حاجز الفئة الواعية لا بد من : إما نيل موافقتهم وتواطئهم بطريقة أو بأخرى أو يعمل على إقناع الجمهور وهو الأكثرية وتجييشهم وحينها تعلو أصوات الجماهير على صوت الفرد المثقف الواعي ويصبح خارج معادلة الثقافة الاجتماعية السائدة بسبب أفكاره الشاذة، فقبل نشر أي خطاب لا بد من دراسة سيكولوجية المجتمع وأيديولوجيته وديموغرافيته، فمن الصعب مثلاً نشر خطاب يدعو إلى مهاجمة حزباً سياسياً في مجتمع متدين لأن هذا المجتمع بالأصل يكره كل الأحزاب السياسية التي يعتبرها بدعة غريبة المنشأ. ولكن من السهل جداً أن تنشر خطاباً غايته تشويه مذهب ديني في وسط المجتمع المتدين.

تجد الخطاب انتشر كالنار في الهشيم ولاقى قبولاً ورواجاً منقطع النظير دون تمحيص عن مصدر الخطاب تجد الكثيرين آمنوا بمصداقيته.

لأنه لا بد للخطاب أن يقوم على أسس مبادئ علم النفس الجماهيري وعلم النفس الجماهيري بحاجة إلى دراسة مفصلة عن ثقافة المجتمع المراد مخاطبته.

وهذا الخطاب لا يتوجه إلى الفرد ولو حصل ووجه إلى الفرد فسيكون الفشل مصيره. لأن الفرد عندما يكون بذاته يكون أفقه المعرفي مفتوحاً ولا يتقبل أي فكرة على مضض كما هو الحال عندما يكون بين الجماعة.

يقول عالم النفس الفرنسي غوستاف لوبون: (( إن الفرد المنخرط في الجمهور يقترب كثيراً من الكائنات البدائية فهو غير قادر على رؤية الفروقات الدقيقة بين الأشياء وينظر بالتالي إلى الأشياء ككتلة واحدة، ولا يعرف التدرجات الانتقالية وكل فكرة يعتنقها الجمهور تتحول في الحال إلى يقين لا يقبل الشك)).(13)

إذن يسعى الخطاب النفسي إلى تضييق الأفق على الفرد وجعله يتناول الموضوع من وجهة نظر واحدة فقط. ولا يفسح له المجال من الفردانية الفكرية التي من شأنها أن تجعله يتراجع عن اليقين الذي عايشه أثناء الجماعة لهذا الخطاب لأنه بحسب غوستاف لوبون (( إن كان الشعور البسيط بالنفور من شيء ما أو عدم استحسان فكرة من الأفكار يظل في حجمه الطبيعي لدى الشخص العادي، لكنه يتحول مباشرة إلى حقد هائج لدى الفرد المنخرط في الجمهور)).(14)

فالخطاب النفسي ليس كباقي الخطابات لأن أبعاده تكون مدروسة بدقة أكبر وهذا ما نقرأه عن نابليون الذي استخدم هذا الخطاب أثناء حروبه يقول: ((لم أستطع إنها حرب الغاندية إلا بعد أن تظاهرت بأنني كاثوليكي حقيقي ولم أستطع الاستقرار في مصر إلى بعد أن تظاهرت بأنني مسلم تقي)) لقد استخدم نابليون بونابرت هذا الخطاب ذا الأبعاد النفسية فاستطاع به أن ينهي حروباً ويحتل دولاً . ولو لم يكن نابليون مطلعاً بشكل دقيق وواسع على ثقافات هذه الشعوب لما استطاع أن يتسلل إلى عواطفهم الدينية ويمتلك زمام أمورهم وتبقى المشاعر الدينية ومن بعدها القومية أضعف المشاعر لدى الإنسان. وغالباً ما تأتي هذه الخطابات محاكية لهذه المشاعر لأن أثرها على القلب أكبر بكثير من تأثيرها على العقل الذي يأخذ استراحة في مثل هذه الملاحم العاطفية. لأن أبعاد هذا الخطاب موجهة إلى العواطف وليس إلى العقول وإذا كان قائماً على العقل سيكون تأثيره طفيفاً جداً.

الفرع الثالث : البعد الديني لخطاب الكراهية:

يقول الفيلسوف الألماني كارل ماركس في مقدمة كتابه: مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل (1843) (( الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح، إنه أفيون الشعب)).(15)

كما يقول أيضاً في نقد الدين: (( نقد الدين هو بداية نقد وادي الدموع الذي يؤلف الدين هالته العليا)).(16)

وفي بحثنا هذا نحن بعيدين كل البعد عن نقد الدين ولكننا سوف نتطرق للبعد الديني لخطاب الكراهية كونه الخطاب الأكثر شيوعاً بالنسبة لزمكاننا. والدين هو المقدس الحقيقة المطلقة التي لا تقبل الشك والجدال والدين هو كرت الدخول إلى الجنة.

إن الدين بطبيعته قائم على الميتافيزيقيا أي على الماورائيات الخارقة للطبيعة والإيمان بهذه الروحانيات تحتاج إلى روح تتجرد من ذاتها وتلتحم بالذات الكلية إلا وهي الله.

وكون الدين قائم على اللامحسوس فإن أفكاراً كثيرة وعادات وتقاليد وقيم أصبحت على مرور الزمن ديناً ولها قدسيتها ومصداقيتها شبه المطلقة.

وعندما استخدم ماركس مصطلح أفيون فهو يقصد بذلك بأن الدين مخدر للشعوب ومن هذا المنطلق تدخل الخطابات الدينية إلى عقل المجتمع.

في الأزمنة الغابرة حمل كل ذي دين سيفه مجرداً ليغزو ويحارب ويحتل شعوباً أخرى بذريعة نشر الدين الذي يعتنقه، ليضفي على هذه الحروب صفة مقدسة ، كما فعل محمد بن مسلم الباهلي في بلاد فارس والسند، وكما فعل عقبة بن نافع في بلاد المغرب وكما فعل طارق بن زياد وموسى بن نصير في الأندلس، وكما فعل مسلمة بن عبد الملك بمحاولة فتح القسطنطينية.

كل هذه الحروب والتي سميت بالفتوحات الإسلامية كانت ذات صبغة دينية، فهي مادامت بقصد نشر الإسلام فلا مشكلة في جمع الجند، فمجرد نشر النية للحملة بين الشعب عن طريق المساجد يتجمع على الفور آلاف مؤلفة لهذه الغاية.

السؤال: لو كان الخطاب لهذه الحروب ذا صبغة سياسية أو اقتصادية هل ستتجمع كل تلك الآلاف للقتال؟؟

الجواب برأيي: لا لن يتجمعوا للقتال لمثل هكذا غايات ؛ لأن هناك شروطاً للشهادة والشروط الاقتصادية والسياسية لا تنطبق على من مات دونها صفة الشهادة.

لذلك كان يلجأ الأمراء إلى الدين للتجييش مستخدمين الخطاب الديني لتحقيق أطماعهم السياسية والاقتصادية وكأن المقاتل وفق هذا الخطاب مباح له السلب والنهب والقتل ولكن غير مباح له ذلك لو كان الخطاب يدعو بغير الخطاب الديني.

واستمر الخطاب الديني ذو الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية مسيطراً طوال فترة القرون الوسطى.

فالرومان يجيشون لغزو بلاد الجرمان والغال بخطاب ديني ممهور بختم البابا لإضفاء الصبغة المقدسة على الحروب ولكي تُسفك الدماء في سبيل الرب، والجنة مصيرها. ثم عندما اعتنق الجرمان المسيحية وأسسوا إمبراطورياتهم الغربية وعاصمتهم روما راحوا يحاربون الرومان البيزنطيين بمباركة البابا الذي اعتبر البيزنطيين مرتدين ويجب قتالهم. ثم الحروب الصليبية في الشرق الأوسط التي كانت ذات صبغة دينية وأطلق عليها اسم الحروب المقدسة التي تدعو للحقد والكره للأعداء.

فأسرع طريقة للتجييش هي طريقة الضرب على وتر الدين، ربما أوربا تخلصت من هذه الظاهرة ولكن نحن في الشرق الأوسط مازلنا نحمل نفس المشاعر التي كان يحملها مجتمع القرون الوسطى وربما مشاعرنا أكثر تطرفاً منهم.

فلا يزال حتى اليوم في شرقنا نقيم علاقاتنا الاجتماعية على أسس دينية، حتى الزواج بين معتنقي الديانة الواحدة محظور إذا كانا من طائفتين مختلفتين. في العصور الوسطى كان الزواج مباحاً بين الطوائف فهارون الرشيد زوجته أم المأمون كانت شيعية المذهب، ولكننا اليوم نحرم هذا الزواج ليس من منطلق ديني وحسب بل من منطلق سياسي ديني. إذن نحن أكثر تطرفاً من مجتمع القرون الوسطى.

حتى في القرون الوسطى لم تقم حروب على أسس مذهبية أبداً، كانت الحروب بسبب نزاعات سياسية ولكننا اليوم نقتل بعضنا على أسس مذهبية، وهذه حقيقة ماثلة أمامنا في الأزمة السورية فتنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة وحركة أحرار الشام والحشود الشعبية، تقاتل من هذا المنطلق على الأرض السورية والعراقية وإثارة الحقد والبغض والعمل على استمراريتها. وكل فئة ترفع شعار الدفاع عن الوجود المذهبي, فهي تحمل على عاتقها الدفاع عن المذهب أو الدين المهدد بالزوال من قبل الفئة الأخرى ,بغاية التجييش وجمع المقاتلين.

ولكن هل السيف يبدل العقيدة والقناعة؟ هل صاحب العقيدة المتجذرة والمؤمن بها على أنها الحق يخاف على عقيدته الزوال على يد العقائد الأخرى؟ وهل يلزمه السيف لحمايتها؟

سنبقي السؤال مفتوحاً دون إجابة، ولكن إلى أين ستقودنا مشاعرنا السلبية تجاه الآخرين؟؟

الفرع الثالث: البعد الاجتماعي لخطاب الكراهية:

أن المجتمع هو مجموعة البشر الذين يقطنون في منطقة جغرافية معينة ضمن إطار اجتماعي معين حددته الأعراف والتقاليد والقيم المتوافق عليها من قبل الجميع. هذا تعريف ابن خلدون للمجتمع.

نلتمس من خلال هذا التعريف أنامل الطبيعة التي فرضت على البشر أن يجتمعوا ولكن ما رسمته الطبيعة يشوهه الإنسان من خلال العبث الهادف لتفكيك هذا التجمع، وقد نجح إلى حد كبير فالكثير من الجماعات هجرت موطنها بفعل تغلغل سم الكراهية إلى بدن المجتمع وقد شهدنا هجرة الآشور والسريان والإيزيديين ومحاولة تهجير الأكراد على يد تنظيم الدولة الإسلامية قبل أعوام قليلة, والآن نرى التغيير الديموغرافي في عفرين وتل ابيض ورأس العين . هو نتيجة لأبعاد خطاب الكراهية الاجتماعي الذي نثرت بذوره قبل عقود فأثمر قنابل يتبادل رميها المجتمع.

أولاً: على مستوى الفرد:

إن أبعاد خطاب الكراهية يختلف تأثيره من فرد إلى آخر فهناك أفراد لايؤثر فيهم هذا الخطاب، لأنهم يحافظون على برودة عقولهم ولن يؤثر فيهم أي خطاب مشابه كونهم يحمون وعيهم بالمنطق والمنهج الموضوعي.

فعملية تلقيهم  للأفكار تمر بالغربلة المعرفية والتمحيص المنطقي والنظرة الواعية لأبعاده. وهناك أفراد يتلقون الأفكار ويتبعونها من دون إعمال العقل بها لأنه بحسب برتراندرسل: ((معظم الناس يفضلون الموت على التفكير)).ونحن هنا لا نستثني المتعلمين والمثقفين من الانجرار وراء الخطابات السلبية، لا لا أبداً. لأننا شهدنا في أزمتنا السورية الكثير من المثقفين والمتعلمين هرولوا مع التيارات المتصارعة وأصبحوا أكبر المتشددين للفكرة.

لقد قابلت شخصاً تونسياً يدعى أبا بكر؛ وهو مهندس إلكتروني أمضى أربعة أعوام مع تنظيم الدولة مقاتلاً ومشرفاً على برمجياتهم الإلكترونية.

لم يتسنَّ لي الوقت لأطيل معه الحوار ولكنه قال: إن والده بعثه للدراسة في فرنسا، وأنه كان شخصاً غير متدين, وكذلك والده إلا أنه تابع على السوشيال ميديا إصدارات الدولة الإسلامية، وأحب أغانيهم وتعرف على بعض المتدينين في الجامعة وقرروا أن يسافروا إلى سوريا للقتال وكلهم حماس لإقامة الدولة الإسلامية التي ستحفظ كرامة المسلمين.

قال بأنهم فوجئوا بأن الواقع مغاير للدعاية فبعض رفاقه عادوا إلى فرنسا وبقي هو واثنين منهم، وقد تأقلموا مع الجو العام للتنظيم وأصبحت غايتهم جمع الأموال والسبايا فقط.

فهذا الشاب نموذج عن بعض المتعلمين فهو آمن بالمدينة الفاضلة التي كان يتوقع قيامها  بالدولة الإسلامية، وعندما اصطدم بالواقع تملكته العبثية وعاد إلى اللاتدين كمسيرته الأولى وإن كان يتظاهر بالتدين.

لكن نفسيته محطمة وغير مبالية لما ينتظر مستقبله، وكأن الحياة قد سدت أبواب الأمل وينتظر رصاصة الرحمة لتنهي شتاته.

لم يكن خائفاً ولم يقل هذا دفاعاً عن نفسه بل أعماقه تستنكر عليه ضياع مستقبله وراء أناس يسيرون في الظلام دون عنوان يذكر لمقصدهم.

كما يتوجه خطاب الكراهية للفرد المضطهد اجتماعياً وللذين يشعرون بعقدة النقص والفشل والذين غالباً ما يركنون للتدين، الملاذ الذي يملؤون به نواقصهم، فأغلب البشر عندما يُهزمون في معارك الحياة يلجؤون إلى الأيديولوجيات الدينية أو القومية أو الحزبوية، أو إلى التصوف أو الزهد.

هؤلاء أسرع المصدقين للخطاب لأنه بمثابة المنقذ لديهم مما هم به فتجدهم يهرعون بكليتهم لتنفيذ مضمون الخطابات ويزيدون عليه تطرفاً وكل ذو ناقصة يحاول التغلب على ناقصته. وغالباً ما تأتي ردة فعلهم انتقامية متشددة لا رحمة فيها على المجتمع الذي ظلمهم بحسب رأيهم لا بل حتى أسرهم لا تسلم من أذاهم ، فكم من هؤلاء قتل ذويه.

وهنا تطفو الأمراض النفسية التي يعاني منها هؤلاء الأفراد والتي بدورها تسيّر سلوكهم الذي يعتبر ما يؤمن به أهم من كل القيم والأخلاق الاجتماعية. حتى أن أغلبهم يستنكر ماضيه تماماً.

إذن هو شخص يسعى لأن يبدأ من جديد، ولكن النفس البشرية لا تولد إلا مرة واحدة.والماضي والحاضر والمستقبل هما الذين يشكلون شخصيتها والتنكر للجزء الأهم من مسيرة النفس ألا وهو الماضي يجعلها تنوس بين مجهول ينتظرها وماضي منكر. إذن هو ابن الحاضر فقط، فتوقع منه كل شيء.

ثانياً : الأسرة:

تعريف الأسرة: وستر مارك: ((الأسرة تتمثل في مجموعة من الأفراد يرتبطون معاً بروابط مادية ومعنوية ليشكلوا أصغر وحدة في المجتمع.

جبير الدلبسي: الأسرة عبارة عن مؤسسة اجتماعية تسعى لتربية الكائن الإنساني داخلها وإليها يعزو الإنسان إنسانيته))(17).

إذن الأسرة هي الخلية الاجتماعية الأولى في المجتمع كما أنها مؤسسة تربوية وهي بمثابة العش الذي يطير منه الفرد حاملاً ثقافته الأولى.

ولكن السؤال: ما أبعاد خطاب الكراهية على الأسرة؟؟

كون الأسرة هي الخلية الأولى التي يتلقى الفرد مجموعة أفرادها ثقافتهم منها، فهي المؤسس للخطابات المُحبَّة أو الكارهة. فعندما تكون الأسرة ذات ثقافة تمييزية على أساس الجنس بين أفرادها وعلى أساس التمييز الأسري العائلي والمناطقي والثقافي والطائفي والعرقي فمن البديهي أن ينطلق الفرد من هذه الأسرة جاهزاً لتقبل أي خطاب عنصري لأن الأسس التي تربى عليها قائمة على هذا الخطاب.

وفي مجتمعنا السوري بشكل عام ينطلق أفراد الأسرة مشبعين بالكراهية من أسرهم لأنه الأسرة غالباً ما تكون قد أسست علاقاتها الاجتماعية على أسس سلبية تجاه الآخرين، فالكثير من الآباء والأمهات يمنعون أولادهم من مرافقة المختلف عن عقيدة الأسرة أو ثقافتها أو منطقتها. ولكي يقدم الأهل تبريراً للولد بصرف النظر إن كان ذكراً أو أنثى فإنهم يلجؤون إلى ابتكار حجج تسيء لتلك الأسرة وتشوه صورتها الثقافية أو الدينية أو الجغرافية.

لأن الأهل هم نفسهم لا يعرفون الآخر فيقنعون أولادهم كيفما اتفق من تهم تمس الأخلاق والعادات والتقاليد وكون الابن أو الابنة في مرحلة الطفولة يعتبرون كلام أهلهم مقدساً منزهاً عن الخطأ يأخذون به ويأخذون الصورة التي أفرغها الأهل في عقولهم عن الآخرين ويبنون علاقاتهم الاجتماعية في المستقبل على هذا الأساس, هنا تفوت الأولاد التجربة الأصيلة ويفقدون الفكرة  النابعة من التجربة عن المختلف عنهم وتصبح ثقافتهم عن الآخرين عبارة عن أفكار تلقينية وأحكام مسبقة ليست نابعة من تجربتهم بالأصل بل هي أحكام الأهل التي ربما بنيت على الإشاعات وعدم معرفة الآخر بالأصل.

فكلنا مررنا بهذه المرحلة وخضنا هذه التجربة فدائماً والدينا وأعمامنا يسألوننا عن أصدقائنا في المدرسة أو في الحارة، ويشجعوننا على صداقة هذا وترك ذاك. ربما لأن هذا من العائلة أو قريب من نفس العشيرة وذاك لأنه ربما من عائلة أخرى أو لأن أهلنا على خلاف مع عائلته أو أسرته. فيملؤون عقولنا بمساوئ هؤلاء الناس وغدرهم وحقدهم وكرههم لنا.

وأنا شخصياً غالباً ما كنت أذهب لهذا الصديق وأواجهه بالحقائق التي استقيتها من أهلي أو أقاربي معتبراً إياها حقيقة لا تقبل النقاش، فينكر الصديق المحرض عليه ويكذب الاتهامات وأتشاجر معه وتنقطع علاقتنا نهائياً، وهذه تجربة أعتقد مر بها الكثير منا. ويكون بذلك قد زرع الأهل بذرة الكره والتحريض في عقل أولادهم الذين مهما حاولوا أن ينتزعوا هذه البذرة من عقولهم إلا أن جذورها ستبقى لأن هناك مثل يقول من شب على شيء شاب عليه.

فالأسرة لا تجنب أولادها النزاعات والشقاقات والخطب التحريضية على العكس هي تسعى إلى توريث الكره والحقد. حتى ضد أقرب الناس إليهم من حيث الدم. فأحياناً يشب الولد كارهاً لعمه أو لخاله أو قريبه مستقياً هذا الكره من خطابات والديه. وهذا الخطاب هو خطاب مرضي يزرع في نفس الولد.

والأخطر من هذا وذاك هو عندما يميز الأهل بين أولادهم، على سبيل المثال: تفضيل الولد الذكر على الأنثى، وهذا التمييز ينتج شعورا بالدونية لهذه الأنثى يلازمها طيلة حياتها، بل مع مرور الزمن هي ذاتها تصدق بأن الذكر هو الأفضل، فتعامل أولادها على هذا الأساس.

كما هناك تمييزا بين الأولاد بحسب الذكاء، فالولد الأكثر اجتهادا بالمدرسة مثلا هو الولد المفضل لدى الأهل, مما ينعكس إيجابا هذا التميز على شخصيته؛ بينما ينعكس سلبا على الولد الآخر مما يؤثر على شخصيته واندماجه في المجتمع وقلة الثقة في النفس ناهيك عن مشاعر الغيرة من أخيه أو أخوته التي ربما تتحول إلى كره يتحمل مسؤوليته الأهل بسبب خطاب المدح والتفضيل الذي هو محروم منه فيتحول لديه إلى كره.

 

ثالثاً : العلاقات العامة:

يؤثر هذا الخطاب على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية إذ تفقد العلاقات العامة الثقة بالمجتمع ككل. فعندما تكثر الخطابات يصعب التمييز بين خيرها وشرها فتغيب الثقة عن العلاقات الاجتماعية ولسان حالها يقول: كله أكذب من كله.

لأن الشعارات الرنانة التي تفاءل بها المجتمع والتي تعاقبت عليه كانت عبارة عن جعجعة دون طحن جعلت العلاقات الاجتماعية عينية، فالاقتصاد عيني والسياسة فوراً يطلب المجتمع من الحزب أو المنظمة السياسية البرهان الملموس على المصداقية. واجتماعياً الكل يخاف الكل لأنه من الممكن أن ينام اليوم على رأي ويستفيق على مبدأ جديد. وثقافياً فقد المثقف والتيار الفكري بشكل عام ثقة المجتمع، لا بل يُتَّهَم بأنه السبب في الأزمة. أما دينيّاً فالدين الوحيد الذي لا تحجب الثقة عنه ويجد المجتمع ألف حجة وحجة للدفاع عنه. وغالباً ما تكون هذه الحجج عبارة عن قيم وخرافات وعادات وتقاليد يركن إليها للدفاع عن الدين فبدل الدفاع عنه وهو ليس بحاجة بالأصل للدفاع عنه يشوهوه. وعندما أقول: إنّ الدين ليس بحاجة لمن يدافع عنه لأنه واضح وبسيط يسعى إلى ما هو خير للمجتمع، ولا يصدر عنه إلا الخير.

فالعلاقات الاجتماعية مهما توترت في باقي مجالات الحياة إلا أنها تهدأ عندما يسود الخطاب الديني فإذا كان اثنين من الناس على خلاف غاية في التعقيد ولا يجتمعا في بيت أو محل أو في حديقة أو شارع تجدهما يصليان كتفاً لكتف في المسجد.

إذن إذا كان المسجد أو الكنيسة أو الكنيست أو مطلق دار عبادة تستطيع أن تجمع المتناقض فلماذا لا تستطيع انتزاع هذا التناقض القائم على البغض والكره. ودور العبادة تستطيع ذلك فالذي يجمع الأعداء كتفاً إلى كتف يستطيع قطعاً أن يجعلهم يتصافحان. فلماذا يجتمعان على بغض ويتفرقان على بغض؟

إن المجتمع متدين بطبيعته فمتى ما تحسنت العلاقة الدينية بين الأفراد تحسنت باقي العلاقات الاجتماعية فلماذا لا تتحسن هذه العلاقة الدينية وتصبح دور العبادة منبراً لخطاب المحبة؟؟

لماذا لا تكون خطبة الجمعة أو الأحد أو السبت عن العلاقات الاجتماعية وليس عن سرد تاريخ الهجرة أو صلب السيد المسيح أو حروب موسى؟

نحن في مجتمع لاهوتي شئنا أم أبينا فلماذا لا ننطلق من ركامنا الذي لا يمكن أ نتبرأ منه لأنه ثقافتنا لنبني علاقات جديدة ولا ضير في ذلك فنحن لا نواكب الحضارة ، لنعترف بذلك وننطلق من تخلفنا نحو الحضارة.

إن علاقاتنا العامة مجهولة العنوان والعنوان يتبدل بتبدل القوى. فعلاقاتنا تبعية لأنها لم تتأصل فينا حتى الآن لأنها لم تنبع من ثقافتنا. فالعلاقات الاجتماعية أقوى من الأحزاب السياسية والراديكالية الدينية.

مجتمعنا لم يدرك هذا بعد. فما أن يسود التيار القومي أو الديني أو السياسي لفئة ما من مجتمعنا حتى تجد الكثير من أفراد هذه الفئة قد أدار ظهره لمجتمعه وترفع عنه وهذا واقع معاش في خضم هذه السياسات المتغيرة في سوريا بتغير الفصائل. هنا العلاقات العامة دخلت في اللاثقة والتناحر والحقد والكره وكلما انتصرت فئة على الأخرى، انتقمت لنفسها وأوغلت في الانتقام.

فكيف لهذه العلاقات أن تتحسن إذا لم يسود مبدأ التسامح والبدء من الصفر لأن العلاقات تتبدل بتبدل القوى على الأرض.

إن السياسات تتغير والقوى تتبدل والاقتصاد يتحول ولكن جارنا يبقى جارنا بصرف النظر عن اتجاهاته واتجاهاتي.

هنا يجب أن تتدخل التربية لإنقاذ ما تستطيع إنقاذه من الجيل. وعلينا أن نجنب أولادنا أحقادنا وكرهنا وألا نحملهم مالا علاقة لهم به، وعلى المدارس أن تقوم بدورها التربوي القائم على المحبة والوئام بين الجميع دون تمييز.

وأحمل دور العبادة الدور الأكبر لتقريب وجهات النظر بين فئات المجتمع وجعل دور العبادة مدارساً وحلقات فكر ووعي لا منابر لبعث الكراهية والتجييش لهذه الفئة أو تلك. إنّ الغاية من دور العبادة تآلف الناس، فالاجتماع غايته الوئام وبعث المحبة وإلا استطاع أي فرد تأدية صلاته في بيته والله يتقبلها ولكن مع الجماعة أكثر أجراً؛ لأنه بذلك يشارك الناس حياتهم وهمومهم وحل مشاكلهم. هذه الغاية من دور العبادة هي لصالح المجتمع هي منفعة حياتية أكثر مما هي ما ورائية، لتحسين العلاقات الاجتماعية، لأن الدين يدعو إلى المحبة أحب الناس قبل محبتك لله ولكن للأسف لا تقوم دور العبادة بواجبها بل على العكس استعمل المنبر للتحريض والتجييش والعنف بحجة النهي عن المنكر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى