أبحاث ودراساتافتتاحية العددجميل رشيدمانشيتملف العدد 62

مسار العلاقات السُّعوديّة – الإيرانيّة تاريخيّاً.. حروب الوكالة في ظِلِّ الخلافات الإيديولوجيّة والمذهبيّة

جميل رشيد

جميل رشيد

جميل رشيد
جميل رشيد

تمهيد:

تحظى دراسة المسار التّاريخي للعلاقات السُّعوديّة – الإيرانيّة بأهميّة كبيرة لدى العديد من الباحثين والمُهتمّين بشأن الصراعات الدّائرة في منطقة الشَّرق الأوسط، فضلاً عن مراكز القرار العالميّ، وخصوصاً الدّول الغربيّة، لما لها من تأثير كبير على مصالحها الحيويّة في المنطقة.

لا يخفى على أحد أنَّ كلتا الدّولتين، السُّعوديّة وإيران، لهما ثقل إقليميّ ودوليّ، ما يجعلهما مؤثّرتان في العديد من الملفّات والصراعات الدّائرة في منطقة الشَّرق الأوسط والعالم، إلى جانب قدرتهما على رسم مسارات جديدة للتَّحالفات والاصطفافات، ما يؤهّلهما للعب أدوار هامّة في أيِّ ترتيباتٍ أمنيّة وسياسيّة إستراتيجيّة في المنطقة، وفرض الأمن والاستقرار، بالتّوازي مع إغفال إمكانيّة انخراطهما في صراعات بينهما أو مع قوى أخرى، قد تُبقي المنطقة ضمن دائرة الصراعات والحروب.

لم يكن صُدفةً أن يتزامنَ الانقلاب العسكريّ في تركيّا بقيادة رئيس أركان الجيش آنذاك “كنعان إيفرين” في 12 سبتمبر/ أيلول 1980 مع اندلاع الحرب بين العراق وإيران في 22 سبتمبر/ أيلول من العام نفسه. فالغرب يسعى دائماً إلى إثارة الصراعات في منطقة الشَّرق الأوسط، ونشهد هذا التباين أكثر بعد الثَّورة الإسلاميّة في إيران عام 1979 بقيادة آية الله الخميني.

إنَّ الدّولة السُّعوديّة التي تأسَّست على أساس مُلكيّة آل سعود لها، وتوارثها جيل بعد آخر، تتقاطع مع الدّولة الإيرانيّة في زمن الشّاه مُحمَّد رضا بهلوي في بعض التوجُّهات، الذي اعتمد هو الآخر على توريث الحكم. فالنَّهج السِّياسيّ المُتَّبع في السُّعوديّة المُتعمِد على مركزيّة الدّولة الدّينيّة، واعتناقها المذهب الوهّابيّ السُنُّي، قابله في إيران تشدُّدٌ على المذهب الشِّيعيّ، حتّى غدا مذهب الدّولة، أو تحوّلت إلى دولة المذهب الشِّيعيّ الأولى في العالم.

تتقارب أساليب الدّولتين في ممارسة أدوارهما الإقليميّة، وطريقة تدخُّلهما في عدد من ملفّات المنطقة، حيث سعت – ولا تزال – السُّعوديّة إلى نشر المذهب الوهّابيّ في العديد من دول المنطقة، وركَّزت بشكل أساسيّ على مصر، وكذلك على الدّول الإسلاميّة التي استقلّت من الاتّحاد السُّوفياتيّ إبّان انهياره أواخر عام 1991، فأرسلت إليها الآلاف من نسخ القرآن وكتب المذهب الوهّابيّ، إلى جانب تنظيم دروس وحلقات دينيّة لبعض علمائها وأئمّتها في العديد من تلك الدّول. قابله من الجانب الإيرانيّ تصدير ثورتها الحاملة شعار المذهب الشِّيعيّ، فتدخَّلت في شؤون العديد من دول الجوار، وخاصَّةً العراق، وامتدَّت منها نحو سوريّا ولبنان، وصولاً إلى اليمن، كما قامت بدعم وتحرض الأقلية الشِّيعيّة في السُّعوديّة، بهدف زعزعة أمنها واستقرارها.

تشعبَّت القضايا الخلافيّة التي وصلت معها الدّولتان إلى مرحلة العداء، وغدا ما يفرِّقُهما أكثر ممّا يجمعهما، واستفحلت أكثر مع تمدُّدِ إيران في المنطقة بعد حرب الخليج الأولى (الحرب العراقيّة – الإيرانيّة) والثّانية (غزو العراق للكويت)، وبدأت إيران تستغلُّ تلك الصراعات لصالحها.

موقف السُّعوديّة من الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، ودعمها نظام صدّام حسين ضُدَّ إيران طيلة أكثر من ثماني سنوات، كانت القشَّة التي قَصَمت عُرى علاقاتها مع إيران، وأحدثت شروخاً في المنطقة، خصوصاً في دول الخليج، التي اضطرَّت معها إلى مساندة العراق على غرار السُّعوديّة، ليس ضمن إطار مفهوم حماية الأمن القوميّ العربيّ، إنَّما لوقف التمدُّد الإيرانيّ الشِّيعيّ نحو بلدانها.

شهدت العلاقات السُّعوديّة – الإيرانيّة في مراحل عديدة قطعاً للعلاقات الدِّبلوماسيّة نسبياً، كَرَدِّ فعلٍ على جملة من الممارسات الإيرانيّة ضُدَّ السُّعوديّة، كأزمة الحجيج في الثَّمانينات من القرن الماضي، وكذلك مؤخَّراً بسبب تدخُّل إيران في اليمن ودعمها لجماعة الحوثيّين.

غيَّرت السُّعوديّة من توجُّهاتها السِّياسيّة العامّة داخليّاً وخارجيّاً بعد تعيين مُحمَّد بن سلمان وليّاً للعهد، حيث أجرى العديد من التحوّلات الجذريّة داخل السُّعوديّة، وأعادَ النَّظر في العديد من السِّياسات المُتَّبعة، منها العلاقات مع إيران. وبوساطة من الصّين؛ عُقِدَت عِدَّةُ لقاءات على مستوى وزراء الخارجيّة، ويعمل البلدان الآن على إعادة تطبيع العلاقات بينهما، وهذا ما أثَّر كثيراً على عدد من القضايا السّاخنة في المنطقة، وأوَّلها الصراع الدّائر في اليمن والأزمة اللبنانيّة والسُّوريّة.

سنحاول من خلال دراستنا هذه تسليط الضوء على مسار تلك العلاقات، وكشف القضايا الخلافيّة بين البلدين، عبر تبيان دور كُلٍّ منهما في عدد من بلدان المنطقة، وخاصَّةً العراق، سوريّا، لبنان، واليمن، إلى جانب دورها في رسم معالم شرق أوسط جديد، وإمكانيّة التَّوافق بين الدّولتين في إطار إستراتيجيّة الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، وانعكاس تلك العلاقات على بُنية المجتمعات في المنطقة.

 

الجذور التّاريخية للخلافات السُّعوديّة – الإيرانيّة:

تشكَّلت الدّولة السُّعوديّة الأولى عام 1744 إثر تحالف مُحمَّد بن سعود والشّيخ مُحمَّد بن عبد الوهّاب (مؤسِّسُ المذهب الوهّابيّ) واتّخذت من مدينة “الدّرعيّة” في السُّعوديّة عاصمة لها. وبموجب الاتّفاق بين ابن سعود وابن عبد الوهّاب، اعتنق الأوَّل المذهب الوهّابيّ، ما أثار حفيظة ومخاوف الدّولة العثمانيّة، وفيما بعد والي مصر “مُحمَّد علي باشا”، فسَيَّرَ الأخير حملة بقيادة ولده إبراهيم على الدّولة السُّعوديّة، أسفرت عن سقوطها في عام 1818، واعتقل مُحمَّد بن سعود وأعدم في أستانا (إسطنبول).

وفور سقوط الدّولة السُّعوديّة؛ وانسحاب إبراهيم باشا من نجد، بادر الأمير “تركيّ بن عبد الله بن مُحمَّد آل سعود” إلى تأسيس دولة ثانية على أنقاض الأولى، وقد نقل عاصمتها إلى الرّياض بعد تدمير العاصمة الأولى “الدِّرعيّة”.

ويمكن فهم أنَّ السَّلطنة العثمانية دعمت مُحمَّد علي باشا في إسقاط الدّولة السُّعوديّة، اعتقاداً منها أنَّها تُشكِّل تهديداً لها، نظراً لاعتناقها المذهب الوهّابيّ المتعارض مع المذهب السُنّي للسَّلطنة، خاصَّةً أنَّ الإعلان عن الدّولة السُّعوديّة الوليدة جاء في وقت دخلت فيه السَّلطنة العثمانية في طور الانكماش والضعف، ورافق ذلك اندلاع العديد من الثَّورات والانتفاضات ضُدَّها إن كان في كردستان بقيادة الأمير “مُحمَّد الراوندوزي” أو الذي أطلق عليه اسم “ميري كور/ الأمير الأعور”، أو تَمرُّدُ مُحمَّد علي باشا في مصر لاحقاً وتحالفه مع “ميري كور” وشَنِّه حملة عسكريّة ضُدَّ السَّلطنة، استطاع من خلالها السَّيطرة على كامل مصر وبلاد الشّام، حتّى وصل إلى مشارف إسطنبول، وتدخَّل الرّوس والإنكليز إلى جانب السَّلطنة، وأوقفوا الزَّحف المصري، فعُقِدَت معاهدة “كوتاهية” انسحب بموجبها إبراهيم باشا بجيشه إلى تخوم مصر.

تمكَّن عبد العزيز بن فيصل آل سعود من تأسيس الدّولة السُّعوديّة الثالثة عام 1902، إلا أنَّها شهدت صراعات بين الأشراف وآل سعود، حيث أطلق “الشَّريف حسين” ما أطلق عليه في التّاريخ العربيّ اسم “الثَّورة العربيّة” عام 1916 ضُدَّ العثمانيّين، وبدعم من الإنكليز. إلا أنَّ عبد العزيز نال اهتمام الحكومة البريطانيّة وكان المفضَّل لديها، فحظي بدعمٍ لا محدود من السِّلاح والمال لمحاربة العثمانيّين، فيما اضطرَّ “الشَّريف حسين” والموالون له إلى الرَّحيل من أراضي الحجاز، والتوجُّهَ إلى الأردنِّ، بعد أن حدَّدها لهم الإنكليز كمنطقة يمكنهم الاستقرار فيها.

هكذا استقرَّ الحكم لصالح آل سعود، وزادت أهميّة السُّعوديّة بعد اكتشاف النَّفط فيها، ما جعلها مَوضِعَ اهتمام جميع الدّول الغربيّة، وبالتالي زيادة دورها الإقليميّ والدّوليّ أيضاً.

فيما حافظت إيران في زمن حكم الشّاه على نهجها في الارتباط بالدّول الغربيّة، وخاصَّةً بريطانيا التي تدخَّلت في مسار التحوّل الدّيمقراطيّ والوطنيّ الذي جرى في إيران في فترة حكم رئيس الوزراء “مُحمَّد مُصدَّق” عام 1953، عبر عمليّة “أجاكس” قادتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة للإطاحة بـ”مُصدَّق” الذي قام بعمليّة تأميم النَّفط الإيرانيّ وطرد شركات النَّفط البريطانيّة، وكان الهدف من تلك العمليّة حلول الشَّركات الأمريكيّة بدلاً من البريطانيّة، وأدَّت العمليّة إلى عودة الشّاه الإمساك بزمام الأمور في إيران وإعدام مُصدَّق.

لم يطرأ أيُّ تغيير يُذكر على مسار علاقات إيران مع محيطها الإقليميّ والدّوليّ في ظِلِّ حكم الشّاه، بل شدَّدَ قبضته الأمنيّة على البلاد والعباد، رغم دخوله في أحلاف عسكريّة مع دول المنطقة مثل حلف بغداد الذي تأسَّسَ عام 1955، وضَمَّ كلاً من “بريطانيا، العراق، تركيّا، باكستان وإيران”، وذلك بهدف إيقاف المَدِّ السّوفييتيّ إبّان الحرب الباردة.

حافظت السُّعوديّة وإيران على مستوى مُعيَّنٍ من العلاقات في ظِلِّ حكم الشّاه وحكم سلالة آل سعود، ولم يُعكّر صفوها شيء يذكر، بل ظلَّت الدّولتان تحافظان على مستوى مقبول من العلاقات الثُّنائيّة، إضافة إلى الحفاظ على أدوارهما في المنطقة، خاصَّةً بعد أن دخلتا في تحالفات مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة بعد الحرب العالميّة الثّانية، التي اعتمدت على كُلٍّ من السُّعوديّة إيران، وهما الدّولتان الملكيّتان، ضمن ما أطلق عليه حينها “عقيدة ترومان” في الحَدِّ من نفوذ الاتّحاد السّوفييتيّ ومصر عبد النّاصر.

لم تأبه إيران الملكيّة “الشّاهنشاهيّة” كثيراً بخلافها المذهبيّ الشِّيعيّ مع السُّعوديّة التي تتبنّى المذهب الوهّابيّ، ولم تتَّخذ من الدّين سبباً كافياً للابتعاد عنها، بل جمعتهما المصالح المشتركة ضمن إطار تحالف الدّولتين مع الغرب، وكذلك ضمن العديد من المُنظَّمات الدّوليّة، مثل مُنظَّمة الدّول المُصدِّرة للنَّفط “أوبك”.

إلا أنَّ ثَمَّةَ محطَّة خلافيّة بين الدّولتين أطلَّت برأسها إبّان حكم الشّاه مُحمَّد رضا بهلوي في ستينيات القرن الماضي، وذلك عندما طرحت السُّعوديّة نفسها بأنَّها “زعيمة العالم الإسلاميّ، مستندة في شرعيّتها جزئيّاً إلى سيطرتها على مدينتي مَكَّة والمدينة المقدّستين لدى المسلمين. وقامت برعاية مؤتمر إسلاميّ دوليّ في مَكَّة في عام 1962، وأنشأت رابطة العالم الإسلاميّ، وهي مُنظَّمة مُكرَّسة لنشر الإسلام وتعزيز التَّضامن الإسلاميّ في إطار السُّلطة السُّعوديّة. وكانت الرّابطة “فعّالة للغاية” في تعزيز الإسلام، ولا سيَّما المنهج السَّلفي “الوهّابيّ” المحافظ الذي تدعو إليه الحكومة السُّعوديّة. وقادت السُّعوديّة أيضا إنشاء مُنظَّمة التَّعاون الإسلاميّ في عام 1969″.

العلاقات السُّعوديّة – الإيرانيّة بعد ثورة 1979 الإسلاميّة:

أدّى صعود آيّة الله الخميني السُّلطة عام 1979، أو ما يطلق عليه آخرون “انتصار الثَّورة الإسلاميّة في إيران”، إلى إحداث زلزال كبير في منطقة الشَّرق الأوسط عموماً، وكذلك العالم. فلقد تمكَّن الخميني من نقل إيران من نظام محكوم من قبل الملكيّة الوراثيّة، إلى نظام إسلامويّ يستند إلى المذهب الشِّيعيّ بالدَّرجة الأولى، وهو ما يضعه في تناقض مباشر مع أنظمة المنطقة، وخاصَّةً تلك التي تعتمد على الدّين والمذهب في بناء دولها، وأوَّلها السُّعوديّة.

أثار الخميني ونظامه مخاوف لدى العديد من الدّول، وخصوصاً دول الخليج، التي تداركت، ومنذ اليوم الأوَّل لوصول الخميني إلى السُّلطة في إيران، بأنَّه اعتمد مبدأ تصدير الثَّورة، عقيدة ثابتة وراسخة لديه، وذلك تحت ستار نشر المذهب الشِّيعيّ. إلا أنَّه في الحقيقة يهدف إلى الحفاظ على المصالح القوميّة للدَّولة الفارسيّة، وتوسيع دائرة نفوذها وتأثيرها في منطقة الشَّرق الأوسط. تلك المخاوف تعزَّزت أكثر عندما أعلن الخميني بأنَّه سيعمل على إسقاط جميع الأنظمة الملكيّة في الشَّرق الأوسط.

النِّظام الإسلامويّ في إيران، وبعد أن عمل على إثارة الصراعات مع دول المحيط، اتَّخذ نهجاً تصعيديّاً كبيراً، تمثَّل بداية بإعلان الحرب على العراق في 22 سبتمبر/ أيلول 1980، تلك الحرب التي استمرَّت ثماني سنوات واستنزفت من الموارد البشريّة والماديّة لكلا البلدين، وزادت من حِدَّةِ الاستقطابات والانقسامات في المنطقة، على أساس الدّين والمذهب والقوميّة، وعلى ضوئها تشكَّلت تحالفات واصطفافات جديدة، لم تكن في أيِّ حالٍ من الأحوال لصالح شعوب المنطقة.

لم يكن صُدفةً أن يتزامنَ الانقلاب العسكريّ في تركيّا بقيادة رئيس أركان الجيش آنذاك “كنعان إيفرين” في 12 سبتمبر/ أيلول 1980 مع اندلاع الحرب بين العراق وإيران في 22 سبتمبر/ أيلول من العام نفسه. فالغرب يسعى دائماً إلى إثارة الصراعات في منطقة الشَّرق الأوسط، ومثلما أنَّ صعود الجونتا العسكريّة السُّلطة في تركيّا، أغلق كُلّ مساحات التطوّر الدّيمقراطيّ فيها؛ فإنَّ صعود الخميني السُّلطة في إيران يعتبر آخر مسمار يُدَقُّ في نعش أيِّ تطوّرٍ ديمقراطيّ في إيران والمنطقة، خاصَّةً أنَّ الحَدَثين وقعا بعد تصاعد المَدِّ الثَّوري اليساريّ في المنطقة، ما أحدث شرخاً وتصدُّعاً كبيراً بين حركات التحرُّر الوطنيّ لشعوب المنطقة عموماً. وإذا كانت الانتقادات والسِّهام تُوجَّهُ إلى إسرائيل بأنَّها تسعى دائماً إلى إثارة الصراعات في المنطقة والاستثمار فيها؛ فإنَّه في ذات الوقت لعبت – ولا تزال – كُلٌّ من تركيّا وإيران نفس الدَّور الهدّام في المنطقة، في محاولة تغييب إرادة الشُّعوب والتَّأثير عليها.

شعرت السُّعوديّة بعد وصول الخميني إلى السُّلطة في إيران، أنَّ مكانتها كزعيمة للعالم الإسلاميّ قد قُوِّضَت وتعرَّضَت للاهتزاز، خاصَّةً أنَّ الخميني “طعن في شرعيّة أسرة آل سعود وسلطتها كخادم الحرمين الشَّريفين”. وتصدُّرُ الدَّور في العالم الإسلاميّ وكذلك نفوذهما في المنطقة، هما السَّببان الرَّئيسيّان لمجمل الخلافات بين الدّولتين، ولكن غذَّتها الانقسامات المذهبيّة وأصبحت ذريعة لهما لتأجيج المواقف لتصل في عِدَّةِ مراحل إلى مستوى العداء والقطيعة الكاملة بينهما، ولتنعكس تلك الخلافات على الأطراف المرتبطة بهما أيضاً، كما هو الحال في لبنان، سوريّا واليمن.. الخ.

مَرَّت العلاقات السُّعوديّة – الإيرانيّة بمراحل تصعيديّة هامَّة وخطيرة، وصلت أحياناً حَدَّ المواجهة العسكريّة، ويمكن تقسيم تلك المراحل كما يلي:

1 – العلاقات السُّعوديّة – الإيرانيّة إبّان حرب الخليج الأولى (العراقيّة – الإيرانيّة):

إن كانت الحرب العراقيّة – الإيرانيّة اندلعت شرارتها الأولى بسبب الخلاف العراقيّ – الإيرانيّ حول ميناء الفاو وشطّ العرب؛ فإنَّ أسبابها الأخرى الخفيّة تكمن في محاولات إيران التمدُّدَ وتصدير ثورتها إلى المنطقة، وإيجاد مرتَكز لها في العراق، للانطلاق نحو دول أخرى، خاصَّةً أنَّها اعتمدت في إستراتيجيَّتها على اعتناق أغلبيّة سُكّان العراق المذهب الشِّيعيّ، معتقدِةً أنَّها قادرة على تحقيق اختراقات مُهمَّة في المنطقة.

توجَّست دول الخليج، وفي مقدِّمتها السُّعوديّة، من المساعي الإيرانيّة للتمدُّد في المنطقة، وبادرت إلى تقديم كُلّ أشكال الدَّعم العسكريّ والاقتصاديّ والماديّ إلى نظام صدّام حسين، خاصَّةً بعد أن أعلن الخميني أنَّ النِّظام الملكيّ في السُّعوديّة “غير شرعيّ، وغير إسلاميّ” ودعا في ذات الوقت للإطاحة بأنظمة دول الخليج.

وحول التحوّل في الموقف السُّعوديّ من إيران، كتب الصحفيان الأمريكيّان “جون بولوك وهارفي موريس” في مقالة لهما: “حملت إيران الخبيثة، التي أعلنت عن أهدافها الإطاحة بالنِّظام السُّعوديّ وفي نفس الوقت هزيمة العراق، والتي كان لها تأثير على المملكة العربيّة السُّعوديّة، ولكن ليس ذلك التأثير الذي تريده إيران، فبدلاً من أن تصبح السُّعوديّة أكثر ميلاً للمصالحة، أصبح السُّعوديّون أكثر صرامة، أكثر ثقة بالنَّفس، وأقلَّ عُرضَةً للبحث عن حَلٍّ وسط”. أي أنَّ السُّعوديّة ذهبت بعيداً، بل واعتبرت نفسها أيضاً مستهدَفة من حرب إيران على العراق.

ووفقاً لبعض التَّقارير الصادرة عن مراكز الأبحاث ومراكز الاستخبارات الدّوليّة؛ فإنَّ السُّعوديّة أنفقت في الحرب العراقيّة – الإيرانيّة عشرات المليارات من الدّولارات لدعم صدّام حسين وإنقاذ العراق من الإفلاس، وطبقاً لتقرير سُرّيٍّ من وكالة المخابرات المركزيّة الأمريكيّة؛ فإنَّ “الدّول الخليجيّة وخاصَّةً السُّعوديّة أقرضت العراق من 30 إلى 40 مليار دولار كمساعدات في حربه ضُدَّ إيران. وقامت السُّعوديّة بتسديد ديون العراق، ومَدِّ أنابيب النَّفط العراقيّ عبر أراضيها واستثمرت في العراق وزوَّدته بالأسلحة والدبّابات”.

وأكَّدَ التَّقرير أنَّه “في عام 1986، حصل العراق على إذن من الحكومة السُّعوديّة لاستخدام مجالها الجوّيّ لمهاجمة جزيرة أراك الإيرانيّة، ممّا أدّى إلى تصاعد ما يُسمّى بـ”بحرب النّاقلات” في الخليج. حيث بدأت إيران، بعد ذلك، بشَنِّ هجمات على ناقلات النَّفط السُّعوديّة والكويتيّة في الخليج، مُدَّعية أنَّ تلك الهجمات جاءت ردّاً على مهاجمة العراق لناقلاتها. وتبعت تلك الهجمات تهديدات شفويّة بقصف الموانئ وأنابيب النَّفط والمنشآت النَّفطية السُّعوديّة”.

القناعة التي تشكَّلت لدى دول الخليج وبالأخصِّ السُّعوديّة أنَّ العراقَ شكَّلَ من خلال حربه مع إيران حائط الصَدِّ أمام تمدُّدِ إيران في المنطقة وعدم وصولها إلى دول الخليج، وعلى هذا الأساس دعمت جميع الدّول الخليجيّة العراق في حربه مع إيران.

انكفأت السُّعوديّة عن دعمها للعراق بعد توقّف الحرب، بل عادت هي وكُلّ الدّول الخليجية تطالب نظام صدّام حسين بدفع الدّيون المترتِّبة عليه، وهو ما دفع الأخير إلى غزو الكويت، والتَّخطيط للوصول إلى السُّعوديّة أيضاً، ما اضطرَّت معها السُّعوديّة إلى استدعاء الدّول الغربيّة وبعض الدّول العربيّة، وعلى رأسها الولايات المتّحدة، لتشكيل تحالف دوليّ لإخراج العراق من الكويت.

عمد صدّام حسين بعد خسارته حرب الخليج الثّانية وإخراجه بالقوّة من الكويت، إلى التَّصالح مع النِّظام الإيرانيّ، حتّى أنَّه أرسل عدداً من طائراته المدنيّة والعسكريّة إلى إيران. وقال صدّام بُعيدَ انتهاء الحرب وهزيمة جيشه عقب توقيعه على عمليّة وقف إطلاق النّار في مدينة “صفوان” العراقيّة: “إنَّ الحرب بين العراق وإيران كانت عبثيّة، وخدمت مصالح الدّول الغربيّة”.

2 – تعزيز السُّعوديّة لقدراتها الدِّفاعيّة أمام التَّهديدات الإيرانيّة:

أدركت السُّعوديّة في عام 1984 أنَّها في خطر من التَّهديدات الإيرانيّة في خضمِّ احتدام المعارك بينها وبين العراق، فعمد الملك السُّعوديّ “فهد” إلى إنشاء خطٍّ وهميٍّ جوّيٍّ على غرار خط “بارليف” الذي صنعته إسرائيل أثناء حرب تشرين عام 1973، وأطلقت عليه اسم “خطّ فهد”.

حدَّدَت السُّعوديّة المجال الجوّيّ للخطِّ المذكور، ليتجاوز الأجواء والمياه الإقليميّة السُّعوديّة، ويَمتدَّ ليصلَ منتصف جغرافيّة الخليج العربيّ. وهدَّدَ حينها الملك السُّعوديّ “فهد” بإسقاط أيّ طائرة معادية تحاول اختراقه، في إشارة علنيّة إلى الطيران الإيرانيّ. وبالفعل اخترقت طائرة إيرانيّة من نوع “إف – 4” فانتوم في 5 يونيو/ حزيران عام 1984 “خطَّ فهد” والمجال الجوّيّ السُّعوديّ، فقامت طائرة سعوديّة من نوع “إف – 15” إلى إسقاطها، ما دفع الطرفين إلى زجِّ العديد من طائراتهما في المعركة الجوّيّة، إلا أنَّ النِّظام الإيرانيّ أمر في اللحظات الأخيرة جميع طائراته بالعودة إلى قواعدها، وانتهت تلك المعركة بتدمير /3/ طائرات إيرانيّة. بعد تلك الحادثة؛ لم تحاول إيران الاقتراب من الأجواء السُّعوديّة.

رفعت السُّعوديّة مستوى تسليح قوّاتها العسكريّة كمّاً ونوعاً، وطلبت من الولايات المتّحدة شراء أحدث الطائرات الحربيّة والصَّواريخ المضادة، كما زادت من قدرة قوّاتها وتأهُبِّها للتَّعامل مع أيّ هجومٍ إيرانيٍّ مُحتمل. بالمقابل رفعت إيران من لهجة خطابها المعادي للسُّعوديّة، لتتَّهمَها بالعمالة للغرب والعمل على تدمير العالم الإسلاميّ.

وفي غمرة اشتداد المواجهات بين الجيشين العراقيّ والإيرانيّ عام 1985؛ ولجوء الطرفين إلى قصف المدن المأهولة بالسُكّان بالصَّواريخ، والتي عُرِفَت حينها بـ”حرب المدن”، قرَّرت السُّعوديّة بقيادة الملك “فهد” الحصول على صواريخ باليستيّة صينيّة لتخويف وردع إيران وإبعاد خطرها عن جميع الدّول الخليجيّة. وتَمَّ شراء صواريخ “رياح الشَّرق” وهي من طراز دونج فينج “دي إف – 3″، وشُحِنت بسُرّيّة تامَّةٍ إلى الموانئ السُّعوديّة.

رفعت السُّعوديّة حالة التأهُّب القصوى في البلاد؛ يشير بكُلِّ وضوح إلى اعتبار إيران عدوّاً مباشراً لها، يمكن لها أن تهدّد أمن وسلامة أراضيها، وكانت العقيدة السّائدة بين أوساط الحكم في السُّعوديّة حينها، أنَّه يمكن أن تندلع مواجهات مباشرة مع إيران في أيّ وقتٍ كان، وعلى هذا الأساس اتَّخذَت السُّعوديّة تدابيرها الأمنيّة والدِّفاعيّة اللّازمة والضروريّة لردع إيران.

3 – أزمَةُ الحجيج الإيرانيّ والرَدُّ السُّعوديّ:

عمدت إيران مقابل الدَّعم السُّعوديّ اللا محدود لنظام صدّام حسين في حربه، إلى إثارة البلبلة والقلاقل داخل السُّعوديّة، اعتماداً على تحريك أذرعها في الدّاخل، أي الشيعة.

وحرَّضَت إيران، ومنذ بداية وصولها الخميني إلى السُّلطة، عِدَّةَ أطراف للتمرُّد على السُّلطات السُّعوديّة، وافتعال الفتن الطائفيّة والمذهبيّة فيها، فهي كانت وراء أحداث ما أطلقت عليها إيران اسم “انتفاضة مُحرَّم” في المنطقة الشَّرقية بالسُّعوديّة في نوفمبر/ تشرين الثّاني عام 1979، وافتعلتها “مُنظَّمة الثَّورة الإسلاميّة في شبه الجزيرة العربيّة” الشِّيعيّة المدعومة من إيران.

اندلعت الأحداث عندما تدخَّلت قوى الأمن الدّاخليّ السُّعوديّ وجنود من الحرس الوطنيّ لتفرقة التجمُّعات والتَّظاهرات المشاركة في مواكب “عاشوراء” في “القطيف”، لتتحوَّل إلى مُصادَماتٍ عنيفة، بعد أن قرَّرَ الشِّيعة إعلان المقاومة، لتمتدَّ الحالة الفوضويّة وتنتشر في أجزاء أخرى من “القطيف والإحساء”.

تعاملت السُّلطات السُّعوديّة بمنتهى الحزم مع تلك التَّظاهرات، وأسفرت عن مقتل عدد من المتظاهرين وهروب آخرين واستضافة إيران لهم، وفي النِّهاية تمكَّنت السُّعوديّة من وأدِ تلك التَّظاهرات التي لم تتحوَّل إلى انتفاضة مثلما كانت تدَّعي وسائل الإعلام الإيرانيّة.

إلا أنَّ الأحداث التي شهدتها مَكَّة، وخاصَّةً ضمن الحرم المكّي عامي 1986 و1987، كانت نقطة الافتراق الرَّئيسيّة بين السُّعوديّة وإيران، حيث لم يأبه الطرفان إلى احترام قُدسيّة الحرم المكّي والقيم الإسلاميّة.

اكتشف الأمن السُّعوديّ في موسم حج عام 1986 عدداً من الحجّاج الإيرانيّين القادمين عبر مطار “جَدَّة”، وهم يحملون في حقائبهم مادَّة شديدة الانفجار من نوع “سي فور”. وأثناء تفتيش رجال الجمارك السُّعوديّين لحقائب /95/ من الحجيج الإيرانيّ، تَمَّ ضبط نحو /51/ كغ من تلك المادَّة المتفجِّرة.

اعتقلت السُّعوديّة عدداً من الإيرانيّين، ولكنها ما لبثت أن أفرجت عن عدد منهم، ما اضطرَّ معه المسؤولون الإيرانيّون إلى التَّفكير والعمل بطريقة مغايرة للتحشيد ضُدَّ السُّعوديّة بعد انكشاف تورُّطهم في إحداث بلبلة في السُّعوديّة وفي توقيت الحج، حيث أرسل حينها رئيس البرلمان الإيرانيّ “مهدي كروبي” برقيّة للملك “فهد”، طلب فيها تهدئة الأمور، واستجابت لها السُّعوديّة. بعد تلك الحادثة، قدَّمَ “كروبي” استقالته من رئاسة البرلمان.

ففي حين كان “جناح الحمائم” في النِّظام الإيرانيّ يُفكِّرُ بطريقة سلميّة وعدم تعكير صفو العلاقات مع السُّعوديّة، فإنَّ “جناح الصقور” المتمثّل بالخميني وأتباعه؛ صَعَّدَ من لهجته المُعادية للسُّعوديّة، ولم يقدِّم الخميني أيَّ اعتذارٍ أو تبرير لتلك الحادثة. ففي رسالة كتبها “حسين علي المنتظري”، والذي كان حينها الخليفة المنتظر للخميني، لأحمد الخمينيّ (نجل الخميني)، قال فيها: “جيش الثَّورة يقوم بأعمال خاطئة، ويستخدم حقائب /100/ حاج من كبار السِنِّ الإيرانيّين ليضع فيها متفجّرات دون علمهم، بشكل وضع إيران وثورتها في موقف شديد الحرج”. فرَدَّ عليه أحمد الخميني بالقول: “هل توجد أساليب أخرى للقيام بأيِّ عمل ثوريٍّ في مَكَّة غير ما حدث؟ هذه الخطط تنجح أحياناً ولا تنكشف. لا يعني هذا موافقتي على ما حدث؛ لكنَّه أسلوب متَّبع في هكذا صراعات”.

أعادت إيران افتعال القلاقل في موسم حج عام 1987، حيث أطلقوا عند طواف الحجيج في الحرم المكّي شعارات الموت لأمريكا وإسرائيل، ما دفع قوّات الأمن الدّاخليّ السُّعوديّ إلى التدخُّل وفتح النّار على الحُجّاج، لتقتل /402/ شخصاً، بينهم /275/ حاجّاً إيرانيّاً، و/85/ رجل أمن، إضافة إلى /45/ حاجّاً من جنسيّات أخرى.

هَزَّ الحدث المكّي السُّعوديّة والعالمين العربيّ والإسلاميّ، وعمدت السُّعوديّة إلى إغلاق سفارتها في طهران، وإنهاء علاقاتها الدِّبلوماسيّة مع إيران، ووصل الطرفان إلى مستوى العداء المباشر والعلنيّ.

لم توقف إيران أفعالها الاستفزازيّة ضُدَّ السُّعوديّة، فحرَّكت مَرَّةً أخرى أذرعها من التيّارات الشِّيعيّة في الخليج العربيّ، حيث وقع انفجاران في السُّعوديّة عام 1989، وكان يقف وراءه شيعة كويتيّون مدعومون من قبل إيران، واعتقلت السُّلطات الأمنيّة السُّعوديّة 16 شيعيّاً كويتيّاً ونفَّذت فيهم حكم الإعدام.

وفي ردِّهِ على الأحداث في الحرم المكّي؛ قال الخميني: “هؤلاء الوهّابيّون الدنيؤون والأشرار، مثل الخناجر التي قد ثقبت قلب المسلمين دائماً من الظهر.. مَكَّة المُكرَّمة في أيدي فرقة من الزَّنادقة”.

حروب الوكالة بين السُّعوديّة وإيران:

اشتدَّت الخلافات بين السُّعوديّة وإيران، وانعكست في أكثر من ساحة في الشَّرق الأوسط، حيث ظهرت من خلال الصراع في عِدَّة بلدان، ومن أبرزها:

1 – تجليّات الصراع السُّعوديّ – الإيرانيّ في لبنان:

تمثِّلُ لبنان السّاحة الأبرز التي ظهر فيها الصراع السُّعوديّ الإيرانيّ، من خلال أدواتهما المحلّيّة، المتمثِّلة بحزب الله اللبنانيّ، والحركات والتيّارات السُنّية التي تدعمها السُّعوديّة، وخاصَّةً تيّار المستقبل الذي كان يقوده رئيس الوزراء الرّاحل “رفيق الحريري” ومن بعده نجله “سعد الحريري”.

سعت إيران إلى دعم حزب الله بكُلِّ الأشكال، عسكريّاً من خلال مَدِّه بأحدث أنواع الأسلحة، وكذلك ماديّاً وسياسيّاً، وهذا ما اعترف به أمينه العام “حسن نصر الله” خلال خطبة له في 07 فبراير/ شباط عام 2012، ومع ذاك الدَّعم تحوَّل الحزب إلى شبه دولة ضمن دولة، وأصبح يتحكَّم بزمام الأمور في لبنان، ويديرها بالشَّكل الذي يريده. في حين دعمت السُّعوديّة “الحريري” سياسيّاً واقتصاديّاً ليغدو هو الآخر قطباً رئيسيّاً في معادلات التَّوازن داخل لبنان.

التَّنافس الذي دخل مرحلة الصراع بين كُلّ من السُّعوديّة وإيران في السَّاحة اللّبنانيّة، تحوَّل إلى انقسامات سياسيّة ومذهبيّة، وزادت حِدَّةُ الاستقطابات السِّياسيّة على أُسسٍ شيعيّة وسُنّية، ليدخل معها لبنان في دوّامة من التقلّبات السِّياسيّة والاقتصاديّة والصِّراعات الدّاخليّة، التي أضعفت دور الدّولة ومؤسَّساتها.

تصاعد الصراع السُّعوديّ – الإيرانيّ في لبنان بالتَّزامن مع الحرب الأهليّة التي مَرَّت بها، وحزب الله أجَّجَ تلك الصراعات، ودخل فيها كطرف وحيد مدعوم مباشرة من إيران، وكشف عن خطابه الطائفيّ المذهبيّ، دون مواربة وأخذ بالحسبان لمكانة الدّولة اللّبنانيّة ومؤسَّساتها، فيما حاول الطرف السُنّي المتمثّل بحزب المستقبل بزعامة الحريري، السَّيطرة على الدّولة اللّبنانيّة عبر الاقتصاد. استمرَّ هذا الوضع المتوتّر إلى حين تَمَّ التَّوقيع على اتّفاق الطائف عام 1989 برعاية من السُّعوديّة ودعم وتأييد من الدّول العربيّة، ذاك الاتفاق الذي كَرَّسَ لحالة الانقسام الطائفيّ والمذهبيّ في لبنان، حيث أقَرَّ المحاصصة المذهبيّة والطائفيّة في حكم المؤسَّسات الرَّئيسيّة، فأصبحت بموجبه رئاسة المجلس النيابيّ (البرلمان) من نصيب الشّيعة، ورئاسة الوزراء للسُّنة، فيما تُرِكَ منصب رئاسة الجمهوريّة للمسيحيّين (الموارنة).

وصرَّح رئيس البرلمان الإيرانيّ، “علي لاريجاني” أثناء ولاية الرَّئيس “حسن روحاني”، “أنَّ السُّعوديّة قدَّمت معلومات استخبارية “إستراتيجيّة” إلى إسرائيل خلال حرب لبنان 2006 ضُدَّ إسرائيل. وفي عام 2008، اقترحت السُّعوديّة إنشاء قوّة عربيّة تدعمها القوّة الجوّيّة والبحريّة للولايات المتّحدة والنّاتو للتدخُّل في لبنان وتدمير حزب الله المدعوم من قبل إيران، وفقاً لبرقيّة دبلوماسيّة أمريكيّة أصدرت من قبل ويكيليكس. ووفقاً لهذه البرقيّة، جادل السُّعوديّين بأنَّ انتصار حزب الله ضُدَّ حكومة السّنيورة “إضافة إلى الأعمال الإيرانيّة في العراق وعلى الجبهة الفلسطينيّة ستكون كارثة للولايات المتّحدة والمنطقة بكاملها”. وهذا يكشف عن عمق الصراع السُّعوديّ – الإيرانيّ في لبنان.

2 – الصراع السُّعوديّ – الإيرانيّ وانعكاساته في أفغانستان:

بعد الهجوم على مركَزَيْ التّجارة العالميّ في نيويورك ووزارة الدِّفاع الأمريكيّة عام 2001 من قبل تنظيم “القاعدة” الإرهابيّ، شَنَّت الولايات المتّحدة الأمريكيّة على إثرها حملة عسكريّة ضُدَّ حركة طالبان التي كانت تسيطر على أفغانستان وتأوي تنظيم “القاعدة”، أزاحت من خلالها طالبان عن الحكم وأسَّست حكومة بديلة بقيادة رئيسها “حامد كرزاي” الذي كان يُقيم في الولايات المتّحدة.

يقول أحد الباحثين المختّصين بشؤون الحركات الإسلاميّة حول علاقة السُّعوديّة بحركة طالبان قبل وبعد الحملة الأمريكيّة على أفغانستان “تمتَّعت السُّعوديّة بعلاقة الأمر الواقع مع حكومة طالبان حينها، إلا أنَّها دعمت الحرب الأمريكيّة ماليّاً ولوجستيّاً لأمرين، أوَّلهما: التملُّص من عقدة ارتباطها إيديولوجيّاَ بالقاعدة (المتمركزة في أفغانستان)، الذي وضعها في محلِّ انتقادٍ كبيرٍ وتشكيكٍ عند النُّخبة السِّياسيّة الأمريكيّة؛ إثر هجمات نيويورك وواشنطن، خصوصاً مع مشاركة العديد من السُّعوديّين في الهجمات، وهو ما دفعها لرفع الحرج عنها. ثانياً: التخلُّص من نظام إسلاميٍّ يزاحمها آنذاك، ولو بشكل بسيط على التَّمثيل السُنّي في العالم الإسلاميّ، حيث تريد الرّياض احتكار هذا الأمر لها فقط”.

دعمت السُّعوديّة ما أطلق عليه اسم “المجاهدين العرب” في أفغانستان، بهدف السَّيطرة على تنظيم “القاعدة” وجعله ينفذ مصالحها في العالم الإسلاميّ ويدور في فلكها. إلا أنَّ الآية انقلبت عليها، فغدا معظم المقاتلين، وخاصَّةً السُّعوديّين منهم، الذين جنَّدتهم السُّعوديّة وأرسلتهم إلى أفغانستان يرتدون عليها، ونفَّذوا عدداً من العمليّات الإرهابيّة ضُدَّ السُّعوديّة واستهدفوا منشآتها النَّفطية، إضافة إلى إقدامهم على تفجير بعض الأماكن الحسّاسة للدَّولة واغتيال أفراد من القوّات المُسلّحة وعناصر الاستخبارات.

من جانبها أبدت إيران مقاربات حذرة من حركة طالبان عندما سيطرت على الحكم عام 1995، ولكنَّها تمكَّنت من إحداث بعض الاختراقات بينها، وأقامت علاقات معها، رغم مرورها بفترة من التوتُّر، خاصَّةً أثناء إعدام حركة طالبان تسعة أشخاص من العاملين في القنصليّة الإيرانيّة في مدينة “مزار الشَّريف”. إلا أنَّ المياه عادت إلى مجاريها وزار بعض المسؤولين الإيرانيّين أفغانستان واستطاعت إيران أن تستميل بعض الأطراف داخل طالبان إلى جانبها.

في فترة الحرب الأمريكيّة داخل أفغانستان، كانت معظم قيادات طالبان تقيم في إيران، ووفَّرت لهم الأخيرة الحماية وقدَّمت للحركة الدَّعم في حربها ضُدَّ الولايات المتّحدة، وما جمع إيران وطالبان هو معاداتهما لأمريكا، حيث نَسَّقَ الطرفان مع بعض في هذا الإطار عبر ضرب المصالح الأمريكيّة.

لكن عاد التوتُّر يسود العلاقات بين إيران وطالبان إثر انسحاب الولايات المتّحدة من أفغانستان عام 2021، حيث شَنَّت طالبان عِدَّةَ هجمات على القوّات الإيرانيّة على الحدود المشتركة بينهما، واعتبر العديد من المراقبين أنَّ الولايات المتّحدة، وعبر تواصلها مع طالبان، تمكَّنت من دفعها لشَنِّ هجمات ضُدَّ إيران. وإحدى نقاط الخلاف بين الطرفين هو حول مياه نهر “هلمند” الذي ينبع من أفغانستان ويَمُرُّ عبر الأراضي الإيرانيّة، حيث تتحكَّم طالبان بقطعه وعدم وصول مياهه إلى إيران، إضافة إلى الخلافات المذهبيّة.

3 – الصراع السُّعوديّ – الإيرانيّ في العراق:

كان العراق ساحة أخرى للصراع السُّعوديّ – الإيرانيّ. ومع نشوب الحرب العراقيّة – الإيرانيّة عام 1980، عمدت السُّعوديّة على دعم العراق ماديّاً وعسكريّاً، اقتناعاً منها أنَّ انتصار إيران في الحرب يُهدِّدُ وجودها، ويزعزع مكانتها كقائدة في العالم الإسلاميّ، ويمكن أن يزيحها عنها. فاتَّخذت موقف المؤيّد لصدّام حسين في الحرب، واستطاعت أن تقنع معظم الدّول الخليجيّة بها.

إلا أنَّ غزو صدّام حسين للكويت في أغسطس/ آب 1990، وتهديده بالتمدُّد نحو السُّعوديّة، دفع السُّعوديّة إلى تغيير مواقفها من صدّام حسين ونظامه، الأمر الذي اضطرَّ معه صدّام إلى التَّصالح مع إيران، وفتح أبواب العراق أمامها. فحتّى قبل سقوط نظام صدّام؛ شهد العراق امتداداً للحركات الشِّيعيّة المعارضة، والتي تمثّل بشكل أو بآخر النِّظام الإيرانيّ ومصالحه في العراق. فالانتفاضة التي شهدها جنوب العراق بعد هزيمة العراق إثر حرب الخليج الثّانية (تحرير الكويت) قادتها الحركات الشِّيعيّة التي كانت تتّخذ من إيران مقرّاً لها ولنشاطاتها العسكريّة والسِّياسيّة.

قمعُ صدّام حسين لانتفاضة الشّيعة في الجنوب العراقيّ في ربيع 1991، قلَّمَ أظافر إيران في العراق، وجعلها ترتدّ على نفسها وتُعيدُ حساباتها مَرَّةً أخرى. في حين كانت السُّعوديّة في حالة قطيعة كاملة مع نظام صدّام، الذي دخل في مرحلة الاستنزاف والضعف، تمهيداً لإسقاطه في عام 2003.

الحرب التي قادتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة ضُدَّ نظام صدّام حسين عام 2003، والتي أدَّت إلى إسقاطه، استغلَّتها إيران، عبر زرع الحركات الشِّيعيّة الموالية لها، وحتّى تشكيل قوى وأحزاب أخرى تدور في فلكها. فالمقولة التي وردت على لسان أحد كبار المسؤولين الأمريكيّين عندما قال بأنَّ “أمريكا دفعت أكلاف الحرب في العراق، وإيران حصدت النتائج” هي صحيحة، خاصَّةً بعد حَلٍّ الحاكم الأمريكيّ “بول بريمر” الجيش العراقيّ وتشكيل الميليشيّات الشِّيعيّة المُسلَّحة، وتقسيم الحكم على أساس المحاصصة الطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة، وهو ما أتاح لإيران أن تتحكَّمَ في القرار العسكريّ والسِّياسيّ العراقيّ، خاصَّةً أنَّ الشيعة أمسكوا بالمفاصل الرَّئيسة في العراق، مثل منصب رئاسة الوزراء وبعض الوزارات السّياديّة.

تمكَّنت إيران من إضعاف النُّفوذ السُّعوديّ في العراق، رغم أنَّها – أي السُّعوديّة – قدَّمت دعمها للأطراف السُنّية، إلا أنَّها لم تصل إلى مجاراة القوّة التي تلقَّتها الفصائل والأحزاب الشِّيعيّة العراقيّة من إيران، وكان التّأثير السُّعوديّ في العراق ضعيفاً ولا يذكر، خاصَّةً بعد ظهور تنظيم “داعش” الإرهابيّ، الذي يمثّل في بعض توجُّهاته الفكريّة والإيديولوجيّة والعقائديّة الفكر والمذهب الوهّابيّ التكفيريّ الذي يتقاطع مع بعض مبادئه مع إيديولوجيّة السُّعوديّة الدّينيّة، ما حدا بها لتتّخذ جانب الحذر من التَّعامل مع الحركات السُنّية التي دعمت وأيَّدت “داعش” في إعلانها الحرب ضُدَّ الشّيعة واعتبارهم من “الرّوافض” والكفرة.

لم تتمكَّن السُّعوديّة من إحداث اختراقات مُهمَّة في السّاحة العراقيّة التي استأثرت بها إيران، وظَلَّت بعيدة عن إضعاف الدَّور الإيرانيّ الذي أخذ يكبر ويتَّسع مع دخول المنطقة في مرحلة “الرَّبيع العربيّ” أو “ثورات الشّعوب”.

4 – الصراع السُّعوديّ – الإيرانيّ في بداية “الربيع العربي”:

حاولت إيران ركوب موجات ثورات شعوب المنطقة ضُدَّ أنظمتها، بدءاً من تونس، ليبيا، مصر، اليمن وسوريّا، فبارك المرشد الأعلى للثَّورة في إيران “علي خامنئي” سقوط نظام حُسني مبارك في مصر، وبَشَّرَ بمرحلة جديدة يكون للشُّعوب كلمتها في تقرير مصيرها، واعتبر أنَّ تلك الثَّورات هي ضُدَّ الصهيونيّة والولايات المتّحدة الأمريكيّة.

فيما أبدت السُّعوديّة جانب الحذر من تلك الثَّورات، حتّى أنَّها استقبلت الرَّئيس التونسيّ الذي فَرَّ من بلاده تحت ضغط التَّظاهرات الشَّعبيّة المطالبة برحيله، ومن ثُمَّ تدخَّلت بشكل مباشر في دعم بعض الأطراف الموالية لها في كُلّ من ليبيا، مصر، اليمن وسوريّا، بعد أن تبيَّنَ لها سيطرة حركة “الإخوان المسلمين” في عِدَّةِ بلدان على موجات الاحتجاج والثّورات، وتجييرها وفق مصالحها، والسُّعوديّة التي تعتبر جماعة “الإخوان” حركة إرهابيّة، توجَّسَت بأنَّها قد تنافسها على زعامة العالم الإسلاميّ، ومن هذا المنطلق بدأت بتشكيل حركات تابعة لها ودعمتها عسكريّاً وماديّاً مثل “جيش الإسلام” في سوريّا.

لكن تدخُّل كلا النِّظامين في ثورات شعوب المنطقة، وحسب العديد من المراقبين، جاء بهدف عدم انتصار الدّيمقراطيّة فيها، والتخوّف من هبوب رياحها عليهما أيضاً. إلا أنَّ كليهما يتّفقان في معاداة حركة الإخوان المسلمين، ولا يرغبان في وصولها إلى السُّلطة في أيٍّ من البلدان التي اندلعت فيها الثَّورات، وخاصَّةً في مصر، حيث أيَّدَ النِّظامان الرَّئيس “السيسي” الذي أزاح الإخوان من الحكم، بتأييد شعبيٍّ واسعٍ، وهذا لاقى ارتياحاً لدى الطرفين.

لاتزال سياسة المدّ والجزر بين السُّعوديّة وإيران مستمرّة في أكثر من ساحة من السّاحات التي تشهد ثورات واحتجاجات ضُدَّ أنظمتها، ولم يحقّق أيُّ منهما النَّصر المأمول، بل إنَّها تستنزف مقدَّرات تلك الشُّعوب، بعد أن خلق كُلّ طرف أدوات محلّيّة له داخل تلك البلدان.

5 – تجليّات الصراع السُّعوديّ – الإيرانيّ في سوريّا:

تمثّل سوريّا السّاحة الأكثر جلاء لصورة الصراع بين السُّعوديّة إيران لتصفية حساباتهما، خاصَّةً مع بدء الحرب الأهليّة فيها، والانقسامات المذهبيّة والطائفيّة التي شهدتها.

لكن قبل ذلك؛ كانت سوريّا ساحة شبه مفتوحة أمام إيران، حتّى في زمن الرَّئيس الرّاحل حافظ الأسد، حيث وطَّدَ علاقاته مع إيران، منذ بداية الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، بعد أن وقف حافظ الأسد مع إيران ضُدَّ العراق الذي كان في خلافات عميقة معه تتعلَّق بشرعيّة حزب البعث في البلدين، فيما أرجع البعض تلك العلاقة إلى الانتماء المذهبيّ للرَّئيس الأسد، حيث أنَّه ينحدر من الطائفة العلويّة.

إلا أنَّ الموقف الأبرز للأسد الأب تمثَّل في مشاركته عمليّة “عاصفة الصحراء” في حرب الخليج الثّانية لتحرير الكويت من القوّات العراقيّة في عام 1991. وشاركت قوّات من الجيش السُّوريّ في العمليّة لإخراج القوّات العراقيّة، ما اعتبر تقرُّباً من السُّعوديّة ضُدَّ العراق الذي دخل في صراعات مع دول الخليج، وغدا بلداً عربيّاً معزولاً.

إلّا أنَّ الحضور الإيرانيّ القوي في سوريّا تجلّى أكثر بعد دخولها الحرب الأهليّة، وبدء التدخُّل الدّوليّ والإقليميّ فيها، عبر دعم الأطراف المعارضة والحكومة السُّوريّة. وتدخَّلت إيران بشكل فظٍّ في الحرب وأصبحت جزءاً منها، بذريعة دعوتها بشكل رسميٍّ من قبل الحكومة السُّوريّة على غرار روسيّا، وغدت الحليف الأقوى للحكومة السُّوريّة، بعد استقدامها لقوّات حرسها الثَّوريّ والميليشيّات الشِّيعيّة من عِدَّةِ بلدان، مثل لبنان، العراق أفغانستان وباكستان، كان لحزب الله اللّبنانيّ الدَّور الأبرز في الصراع، وقاتلت جميع تلك الميليشيّات إلى جانب الجيش السُّوريّ الذي وصل إلى مرحلة من الضعف والتفكّك بات معها غير قادر على رَدِّ هجمات قوى المعارضة التي وصلت مشارف العاصمة دمشق وكانت تمطرها بنيرانها.

دعمت إيران الحكومة السُّوريّة عسكريّاً واقتصاديّاً، عبر مدِّها بكُلّ أنواع الأسلحة، إضافة إلى النَّفط، بعد أن فقدت دمشق سيطرتها على جميع منابع النَّفط.

لم يكن الدَّعم الإيرانيّ لسوريّا دون مقابل، فمنذ اليوم الأول لتدخُّلها؛ انبرت إلى نشر التشيّع في المناطق السُنّية التي تسيطر عليها حكومة دمشق، وكذلك توطين عناصر ميليشيّاتها الشِّيعيّة في المدن الرَّئيسيّة مثل دمشق وحلب ودير الزور، وبناء المراقد والمزارات الشِّيعيّة “الحُسينيّات”، واستخدام أساليب الضغط والابتزاز في استقطاب النّاس وضمّهم إلى صفوف ميليشيّاتها.

قابل التوجُّه الإيرانيّ وسعيها في نشر التشيّع، محاولات حثيثة من قبل السُّعوديّة في احتضان ودعم الفصائل والحركات السِّياسيّة والعسكريّة السُنّيّة، حيث قدَّمت كُلَّ أشكال الدَّعم العسكريّ والماديّ، وأنشأت هياكل جديدة، والتي رفعت شعار “مظلوميّة السُنّة”، ودخلت في صراعات مع الحكومة السُّوريّة على أساس الانتماء المذهبيّ والطائفيّ، فبات القتل على هُويَّة تلك الانتماءات الفرعيّة، سبباً كافياً لاستعار الصراع ووصوله إلى حَدٍّ أحدث معه انقساماً واضحاً في صفوف المجتمع، وزاد من التشدُّد المذهبيّ في السّاحة السِّياسيّة والعسكريّة، فالمعارضة انزلقت إلى مواقع التطرُّف السُنّي، وولَّدت معها حركات إرهابيّة لم تجد أمامها من مهام سوى إسقاط وقتل كُلِّ من لا ينتمي إلى مذهبها، وأطلقت صفة “النُّصيريّة الكافرة” على العلويّين، واعتقلت وأنشأت سجوناً باتت أسوأ من سجون الحكومة في ممارسة التَّعذيب والقتل على الهُويَّة الطائفيّة، كما فعلت ميليشيّات “جيش الإسلام” عندما اعتقلت نساء علويّات ووضعتهُنَّ في أقفاص حديديّة لتتجوّل بهُنَّ في أحياء وشوارع دوما بريف دمشق. ولم تكن تلك الميليشيّات تمتلك تلك القوّة لولا الدَّعم السُّعوديّ لها، وهو جاء في سياق صراعها مع إيران ووكلائها من الميليشيّات الشِّيعيّة التي تقاتل مع القوّات الحكوميّة السُّوريّة. ولم تعد شعارات الفصائل السُنّية في سوريّا، والمدعومة من السُّعوديّة والدّول الخليجية وعلى رأسها قطر، تغيير النِّظام السُّوريّ وإجراء تغيير ديمقراطيّ فيها، بل قتل الشّيعة والإيرانيّين وإقامة نظام دينيّ سُنّي.

بدورها رفعت إيران من مستوى وجودها في سوريّا، إن كان عبر نقل جزء من قوّات النُّخبة لديها من الحرس الثَّوريّ الإيرانيّ، أو نقل مجموعات كبيرة من ميليشيّاتها إلى الأراضي السُّوريّة، ورفع رايات الشّيعة وصور قائد الحرس الثَّوريّ “قاسم سليماني” الذي اغتالته الولايات المتّحدة بضربة من طيرانها المُسيَّر قرب مطار بغداد. وزادت من دعمها لميليشيّاتها، وخاصَّةً حزب الله اللبنانيّ، الذي أصبح قوَّةً رئيسيّة في سوريّا له انتشار في جميع مناطق سيطرة الحكومة السُّوريّة، واستغلت إيران هذا الأمر لتنقل أسلحة متطوّرة إلى حزب الله في لبنان، وتقيم نقاطاً عسكريّة لها على حدود إسرائيل، ما اعتبرته الأخيرة تهديداً كبيراً لها، فعمدت إلى استهداف تلك القواعد والنِّقاط العسكريّة، حتّى في العُمق السُّوريّ أيضاً.

من خلال النتيجة؛ يمكن استخلاص النَّتيجة التّالية؛ أنَّ السُّعوديّة وإيران تدخَّلتا في سوريّا لوأد ثورتها، لقناعتهما أنَّ سوريّا هي أهمًّ لاعبٍ سياسيٍّ وتاريخيٍّ في المنطقة بعد مصر.

اتَّجهت إيران إلى دعم الحكومة السُّوريّة عسكريّاً لسحق الثَّورة، وما أن فشلت في تحقيق الأمر؛ حتّى تدخَّلت عبر أذرعها في العراق ولبنان لمساعدته، ولاحقاً استدعت التدخُّلَ الرّوسيّ المباشر في عام 2015، وبموافقة أمريكيّة وخليجيّة ضُمنيّة.

لا شَكَّ أنّ سوريّا هي بالنِّسبة لإيران بيضة القبان وجسر العبور وحلقة الوصل الجغرافيّ بينها وبين حزب الله في لبنان، وسقوط النِّظام في سوريّا، يفيد بأنَّ المشروع الإيراني في المنطقة سيُمنى يهزيمة كبيرة، ولن يكون بمقدوره – أي النِّظام الإيرانيّ – الوصول إلى البحر الأبيض المتوسّط، ويعني فيما يعنيه سيطرة السُنّة على الحكم في سوريّا.

ويقول أحد المحلّلين المهتمّين بالوضع السُّوريّ “الجهد السُّعوديّ في خضمِّ الثَّورة في سوريّا، بدأ متوازياً ومتوائماً مع الإستراتيجيّة الأمريكيّة، التي تركَّزت على إضعاف سوريّا، مع الإبقاء على النِّظام فيها، فدعمت الرّياضُ المعارضة (مرحليّاً) عن طريق غرفتي “الموم” و”الموك” العسكريّتين؛ فقط لأجل استمرار الحرب فترة من الزَّمن لتدمير سوريّا، ثم ما إن وصلت المعارضة على أطراف العاصمة دمشق؛ حتّى دعمت التدخُّل الرّوسيّ، وتَمَّ وقف الدَّعم العسكريّ كُلّيّاً وإغلاق غرفتي “الموم” و”الموك”، ثُمَّ التفرُّغ لدعم “الأكراد” في مواجهة تنظيم “داعش” الإرهابيّ”.

ويضيف “لقد اتّسمت الإستراتيجيّة السُّعوديّة – الإيرانيّة في سوريّا بالتّوازي، ولو بشكل غير مباشر؛ فدعمت طهران النِّظام لبقائه عسكريّاً، يقابلها إفشال الرّياض المعارضة عسكريّاً وسياسيّاً لتحقيق الغاية الأهمّ، وهي حصر الثَّورات في سوريّا فقط بعيداً عنها، التي كانت تتدحرج كحجر الدومينو من قطر عربيّ لآخر، بالإضافة إلى إضعاف سوريّا دولةً وشعباً أمام مصالحها ودورها القياديّ عربيّاً”.

6 – الصراع السُّعوديّ – الإيرانيّ في اليمن:

منذ بدء الاحتجاجات ضُدَّ نظام الرَّئيس اليمنيّ السّابق علي عبد الله صالح في عام 2011؛ عمدت إيران إلى دعم ميليشيّات الحوثيّين الشّيعة، ما مكَّنها من السَّيطرة على العاصمة صنعاء ومدن رئيسيّة أخرى، ما اضطرَّ معه الرَّئيس صالح للهروب إلى السُّعوديّة وبدء حركة مقاومة ضُدَّ الحوثيّين، الذين تلقّوا دعماً كبيراً من إيران، لم تتمكَّن معها القوّات الحكومية اليمنيّة من قلب موازين القوى لصالحها.

أدركت السُّعوديّة بالخطر القادم إليها من حدودها الجنوبيّة عبر اليمن، وأنَّها على تماس مباشر مع إيران، فدعمت علي عبد الله صالح، ولكن انقلب صالح على السُّعوديّة ووصل إلى اتّفاقات وتفاهمات مع الحوثيّين، ما دفع السُّعوديّة إلى تعيين رئيس جديد لليمن “عبد ربه منصور هادي”.

إلّا أنَّ الموالين للسُّعوديّة لم يتمكّنوا إضعاف الحوثيّين وتحقيق انتصارات تذكر، فعمدت السُّعوديّة إلى التدخُّل بشكل مباشر عبر عمليّة عاصفة الحزم” في مارس/ آذار 2015، عبر القصف الجوّيّ لمواقع الحوثيين. ولكن رغم استمرارها حتّى الآن؛ إلا أنَّها لم تحقّق النتائج المرجوّة منها في إضعاف الحوثيّين وهزيمتهم.

– التَّقارب السُّعوديّ – الإيرانيّ وإعادة تطبيع العلاقات وتأثيرها على ساحات صراعهما:

توصَّلت الدّولتان، السُّعوديّة وإيران، إلى قناعة بعدم إمكانيّة تحقيق أيّ انتصار ناجز ضُدَّ الآخر في أيٍّ من ساحات صراعاتهما في الشَّرق الأوسط المتوزّعة بين لبنان، سوريّا، اليمن والعراق وفي البحار. فحتّى صراعهما عبر وكلائهما لم تؤتِ أكلها، بل زاد من حِدَّةِ التَّناقضات بينهما.

وبرعاية ووساطة من الصّين؛ جرت عِدَّةُ لقاءات سُرّيّة وعلنيّة بين السُّعوديّة وإيران في الصّين. ففي 10 مارس/ آذار الماضي، أعلن ممثّلو إيران والسُّعوديّة، الذين كانوا قد التقوا سُرّاً على مدى خمسة أيّام في العاصمة الصّينيّة بكين، عن اتّفاقٍ برعاية صينيّة لاستعادة العلاقات الدِّبلوماسيّة بين البلدين، بعد انقطاع دام سبع سنوات. وكانت قد عُقِدَت قبل لقاء بكّين جولات سابقة من المحادثات بين مسؤولين إيرانيّين وسعوديّين في العراق وسلطنة عُمان، إلا أنَّ الدَّور الصينيّ كان الأبرز والأسرع في جَسرِ الهُوَّةِ بين البلدين.

تتالت اللقاءات بين الطرفين، وتمكَّنت الصّين من أن تجمع وزيري خارجيّة البلدين، والتي مهَّدت للإعلان عن قرب عودة العلاقات الدِّبلوماسيّة بينهما، وفتح السَّفارات.

يبدو أنَّ السِّياسة والمذهب اللذين فرَّقا بين البلدين، جمعتهما المصالح المشتركة والتحدّيات الكبيرة التي يمرّان بهما، فالسُّعوديّة شكَّلت مجلس التَّعاون الخليجيّ لمواجهة التمدُّد الإيرانيّ في المنطقة، فإنَّ عودة العلاقات بينهما يمكن لها أن تُهدِّئ من هواجس دول الخليج، وتكرِّس لنوع من التَّعاون الإقليميّ مع إيران، متجاوزة الخطوط الحمراء التي وضعتها لها الولايات المتّحدة، خاصَّةً بعد النَّهج الجديد الذي يتَّبعه وليُّ العهد السُّعوديّ مُحمَّد بن سلمان في تغيير كثير من التابوهات السِّياسيّة التي كانت سائدة سابقاً. فلم يعد الخلاف الإيديولوجيّ بين البلدين ذي تأثير كبير على توجُّهاتهما، إضافةً إلى أنَّ العديد من عوامل الفشل التي مُنِيت بها سياستهما في المنطقة، ضغطت باتجاه الجلوس حول طاولة الحوار والمفاوضات لبناء إستراتيجيّة جديدة، مثل الفشل السُّعوديّ في حملة “عاصفة الحزم” في اليمن، وفشل إيران في سوريّا.

يبدو أنَّ السُّعوديّة لم يعد البرنامج النَّوويّ الإيرانيّ يثير لديها مخاوف كبيرة، وعلى ضوء هذه القناعة ابتعدت نوعاً ما عن دائرة التَّأثير الأمريكيّة، وشرعت ببناء جسور الثِّقة مع إيران، لتخلق مناخاً إقليميّاً يخفِّض من مستوى الصراعات الطائفيّة والمذهبيّة، والتي ستنعكس دون شَكٍّ على شعوب المنطقة بشكل عام.

إنَّ أولى السّاحات التي ستتأثَّر بالاتفاق السُّعوديّ الإيرانيّ هي لبنان، حيث أنَّ أيَّ تطبيعٍ للعلاقات بينهما، سيمهّد لعودة الدّولة اللّبنانيّة لتأخذ دورها في قيادة المجتمع، وتقوِّضُ دور حزب الله في الدّولة، وتضيّقُ من مسافة الخلافات المذهبيّة والطائفيّة.

وحيث أنَّ “تطبيع العلاقات السُّعوديّة الإيرانيّة لم يكن مفاجئاً لأغلب المراقبين،  وخصوصاً المتابعين عن كثب، لتجاذبات هذه العلاقات خلال السنوات الثّلاث والأربعين الماضية على الأقلّ من عمر نظام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، وذلك لاتّسام هذه العلاقة بالشدِّ والجذب طبقاً للتطوّرات السِّياسيّة في منطقة الشَّرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يعتبر الطرفان الأكثر حضوراً على السّاحة الإقليميّة بالإضافة إلى تركيّا وإسرائيل، غير أنَّ صراعهما يُعتبر الأبرز، وذلك لما مثَّله من تناقُضٍ إيديولوجيّ واختلاف للرؤى السِّياسيّة ظاهريّاً، بالإضافة إلى نفوذهما السِّياسيّ والاقتصاديّ والدّينيّ”.

وإن كُتِبَ لهذا الاتّفاق النَّجاح والاستمراريّة؛ فإنَّه سيكون دافعاً لوضع كُلّ القوى العسكريّة تحت تصرُّف الجيش اللبنانيّ، ما يفترض أن يبدأ بنزع سلاح الميليشيّات وأوَّلها سلاح حزب الله، الذي يهدّد وحدة لبنان الوطنيّة أكثر ممّا يُهدّد إسرائيل، ولم تعد شعارات المقاومة تقنع أحداً لا في لبنان ولا إيران ولا السُّعوديّة، وبأنَّها ستزيل إسرائيل من الوجود. وتفكيك تلك الميليشيّات الشِّيعيّة المرتبطة بإيران، سيدفع السُّعوديّة أيضاً إلى تخفيف دعمها لجماعة الحريري وكُلّ القوى السُنّية في لبنان، ما يفضي إلى انضواء الجميع تحت سقف السّيادة الوطنيّة اللّبنانيّة، هذا على الأقل ما يتأمله اللبنانيّون من أيِّ اتّفاق سعوديّ إيرانيّ في قادم الأيّام.

غير أنَّ السّاحة الأبرز التي سيجد أيُّ اتّفاقٍ سعوديٍّ إيرانيٍّ مرتسماته فيه، هي سوريّا، نظراً لتعقيد خارطة التدخُّلات الإقليميّة والدّوليّة فيها. فمثلما أنَّ تدخل الدّولتين في أزمتها، كان إحدى أسباب تفاقمها ووصولها إلى حَدِّ الحرب الأهليّة والاقتتال على الهُويَّةِ الطائفيّة والمذهبيّة، فإنَّه وبنفس المستوى سيُساهم أيُّ اتّفاقٍ بينهما في تخفيف حِدَّةِ الحرب وحتّى إيقافها، والعودة للتفكير بالحلول السِّياسيّة، أي إشاعة الهدوء والاستقرار بعد سنوات طويلة من العنف.

إنَّ أيَّ اتَفاق مستقبليّ بين الدّولتين سيخلق أجواء من التفاؤل في الأوساط السِّياسيّة، ويدفع باتّجاه خروج الاقتصاد السُّوريّ من حالة الموت السَّريريّ الذي يعاني منه، وعودة ضَخّ الأموال للمساهمة في إعادة إعمار ما أتت عليه الحرب، وبالتّالي يُعزّزُ من مكانة سوريّا الإقليميّة وعودتها إلى محيطها العربيّ بقوّة، ويُسرّع تطبيع العلاقات بين الحكومة السُّوريّة والدّول العربيّة، التي ترى في الوجود الإيرانيّ بسوريّا تهديداً مباشراً. فإن أدركنا أنَّ الخلاف الرَّئيس بين السُّعوديّة وإيران في سوريّا يتمثّل في نقل إيران للأسلحة المتطوّرة من صواريخ وغيرها إلى حزب الله في سوريّا ولبنان، وبالتّالي زعزعة أمن واستقرار منطقة الشَّرق الأوسط ككُلّ؛ فإنَّه مع الاتّفاق السُّعوديّ الإيرانيّ ستضطرُّ معه إيران إلى تخفيض تسليح حزب الله، نظراً لانتفاء الوظيفة الرَّئيسيّة لهذا التّسليح، بعد أن يستتّبَ الأمن والاستقرار في سوريّا ولبنان. وهذه الرَّغبة تتوافق مع المصالح الرّوسيّة في سوريّا، لجهة تقوية نفوذ الدّولة السُّوريّة وسيطرتها على جميع المفاصل بما فيها إعادة تعزيز قدرات الجيش السُّوريّ، وتفكيك الميليشيّات الشِّيعيّة التي تدعمها إيران.

إنَّ نزع فتيل التوتُّر المذهبيّ في سوريّا مَرهونٌ بقوّة أيّ اتّفاق بين الدّولتين، وبالتّالي قدرتها على فرض ترتيبات معيّنة على وكلائهما داخل سوريّا، إن كان من طرف المعارضة أو الحكومة السُّوريّة، على حَدٍّ سواء. فكما أنَّ الميليشيّات الشِّيعيّة ووجوها يشكّل خطراً على أيّ حَلٍّ سياسيٍّ في سوريّا؛ كذلك الفصائل المُسلَّحة المعارضة والتي حملت لواء الدِّفاع عن السُّنّة، ودخولها في صراعات مع الحكومة السُّوريّة على أساس هذا الخلاف، فإنَّها تعتبر تهديداً كبيراً على مستقبل سوريّا ووحدتها، وتفكيكها أضحت ضرورة للوصول إلى أيّ حَلٍّ سياسيٍّ في سوريّا، وهذا ما سيكون إحدى مفرزات الاتّفاق السُّعوديّ الإيرانيّ مستقبلاً.

وطالما أنَّ هناك اتّهامات عربيّة تُوجَّه إلى كُلٍّ من إيران والحكومة السُّوريّة بتهريب المخدّرات انطلاقاً من الأراضي السُّوريّة إلى الأردنّ ومنها إلى دول الخليج؛ فإنَّ أيَّ اتّفاق سعوديّ – إيرانيّ سيؤدّي إلى قطع دابر تهريب المخدّرات وتجنيب المنطقة من مخاطرها.

كما أنَّ الاتّفاق سيفضي إلى إلغاء العقوبات المفروضة على سوريّا، وخاصَّةً عقوبات قيصر والكبتاغون والعقوبات الغربيّة الأخرى، ويدفع الدّول الخليجيّة للبدء في إعادة إعمار سوريّا، ويمهّد لعودة اللّاجئين إلى مناطقهم، ويوقف عمليّات التغيير الدّيمغرافيّ من قبل تركيّا وجماعة الإخوان المسلمين.

ففيما تعارض كُلٌّ من إيران والسُّعوديّة جماعة الإخوان المسلمين انطلاقاً من الخلافات الإيديولوجيّة معها؛ فإنَّ الاتّفاق سيقطع جميع الطرق على الإخوان في الإيغال أكثر في تنفيذ مشاريعها الاستيطانيّة في المناطق المُحتلَّة من قبل تركيّا، فتركيّا غير قادرة على تنفيذ تلك المشاريع دون الدَّعم الذي تتلقّاه من الدّول الخليجيّة وخاصَّةً قطر وبعض المُنظَّمات الإخوانيّة في الكويت وفلسطين، فإنَّ السُّعوديّة قادرة على ممارسة ضغوطها على تلك الدّول لوقف دعمها للجمعيّات الإخوانيّة العاملة تحت أسماء خيريّة ومُنظّمات إنسانيّة، تُخطّط لها تركيّا وتشرف على تنفيذ تلك المشاريع الاستيطانيّة وخاصَّةً في عفرين ورأس العين وتل أبيض.

في جانب آخر، تعارض إسرائيل والولايات المتّحدة أيَّ اتّفاقٍ بين السُّعوديّة وإيران، لجهة عدم رغبتها في تمكين إيران من لعب دور إقليميّ، بل تفضّل ذهاب السُّعوديّة إلى تطبيع العلاقات معها على قاعدة الاتّفاقيّات الإبراهيميّة التي تمكَّنت من خلالها التوصُّلَ إلى توقيع اتّفاقيّات وتطبيع العلاقات مع عدد من الدّول العربيّة مؤخَّراً. وترى إسرائيل أنَّ الاتّفاق السُّعوديّ – الإيرانيّ يُشكّل تهديداً لها، خاصَّةً أنَّها لاتزال تُنفِّذُ ضربات جوّيّة بين الحين والآخر ضُدَّ القواعد الإيرانيّة داخل سوريّا.

وعلى السّاحة اليمنيّة؛ سيجد أيُّ اتّفاقٍ سعوديٍّ – إيرانيٍّ انعكاساته في تخفيض مستوى العنف والقتال بين قوّات الحكومة اليمنيّة والميليشيّات الحوثيّة، وبالتّالي التوصُّل إلى اتّفاقٍ يفضي إلى توافق وحَلٍّ سياسيّ يُنهي أزمتها المستمرّة منذ سنوات عديدة. هذا إذا ما علمنا أنَّ أحد الأسباب التي دفعت السُّعوديّة إلى استئناف علاقاتها مع إيران هو فشل عمليّتها العسكريّة تحت اسم “عاصفة الحزم” في اليمن ضُدَّ الحوثيّين، كذلك توصَّلت إيران إلى قناعة باستحالة تحقيق نصر حقيقيٍّ على قوّات الحكومة، فجنحت نحو التَّهدئة والسَّير في طريق الاتّفاق مع السُّعوديّة في وقف الاقتتال وإحلال السَّلام في اليمن مستقبلاً.

الخاتمة:

لا يختلف اثنان على أنَّ النِّظامين السُّعوديّ والإيرانيّ يمتلكان بنية هرميّة استبداديّة، ويشتركان في محاربة أيّ تغيير ديمقراطيّ في منطقة الشَّرق الأوسط، مثل تركيّا في ظِلِّ حكم حِزبَي العدالة والتنمية والحركة القوميّة. وهذا ينعكس على سياساتهما الدّاخليّة في إغلاق كُلِّ منافذ التطوّر الدّيمقراطيّ في بلديهما، إضافة إلى نقل هذه التَّجربة في الإدارة والحكم إلى الدّول التي تمتلك فيها نفوذاً.

فالخلافات الإيديولوجيّة والسِّياسيّة العميقة، لن تزول من خلال الوصول إلى تطبيع العلاقات الدِّبلوماسيّة في أكثر من ساحة في الشَّرق الأوسط، وهي تكرَّست في الذّاكرة الجمعيّة لشعبيهما، ولن يكون بمقدور النِّظامين تجاوزهما خلال مُدَّةٍ زمنيّة قصيرة.

إلا أنَّ العودة إلى انتهاج سياسة التَّهدئة وتخفيف حِدَّةِ الصراعات بينهما، سيساهم، دون أدنى شَكٍّ، في عودة الأمن والاستقرار إلى العديد من الدّول، ولتتمكَّن معها شعوب المنطقة ومجتمعاتها إلى ممارسة طقوسها الدّينيّة والمذهبيّة، وكذلك ثقافاتها المتنوّعة، دون احتكاكات مباشرة وقويّة، قد تصل إلى حَدِّ الاقتتال وشَنِّ الحروب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى