أبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتملف العدد 61

الجغرافيا والسياسة (الجيوبولتيك)

صالان مصطفى

صالان مصطفى

منذ نشأة الأرض قبل 4،7 مليار سنة حسب فرضيات العلماء، وظهور الحياة البشرية التي تقارب بضعة ملايين من السنوات، ونظراً لتوفر المقومات الأساسية التي تتمثل في المياه والتربة والبيئة المناسبة, وبعد أن تم التمهيد لسبل العيش فيها، كان الإنسان دائما باحثاً عن أفضل ظروف العيش, في الوقت الذي كان فيه البشر ينتشرون هنا وهناك, فظهرت بعد ذلك القبائل والممالك والإمبراطوريات, و بدؤوا بتوسيع أراضيهم وممالكهم, ثم بدأت الحروب فيما بينهم على الماء والأرضي الخصبة لكي يستفيدوا منها ومن ثرواتها الطبيعية.

في تلك الفترات التاريخية, وعلى الرغم من أن الإنسان كان يحارب دائماً في سبيل العيش, ولكن كان هنالك دائماً ضحايا و مجازر بحق أي مملكة أو أرض يتم غزوها للسبب المذكور أعلاه, لذلك كان من المهم على كل غازٍ أن يغزوا ليس فقط في سبيل كسب المزيد من المساحة؛ بل كان من المفيد جداً أن تكون تلك المساحة غنية بالماء, أنهار وبحار ومنابع مائية من جهة, والمعابر التجارية من جهة أخرى,  فكانت أولى الحضارات التي عرفها التاريخ, وهي حضارة السومريين في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد, الذين سعوا لأن تكون لهم منافذ بحرية, فقاموا ببناء مدن كبيرة على ضفاف الأنهار لأنهم أدركوا أن توسيع الجغرافيا سوف يعود عليهم بالمنافع التي تنتهي إلى رخاء شعوبهم, وتوطيد حكمهم وتثبيت عروشهم, وفي الخارطة التالية نلاحظ أن امتداد دولة السومريين هو من منابع دجلة والفرات حتى الخليج العربي, وتشير مواضع مدنهم إلى قرب معظمها من ضفاف النهرين.

ومن بعدهم قامت عدة إمبراطوريات كردية (الهوريون والميتانيون والعيلاميون) في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد, ولكنهم حافظوا على جغرافيتهم, دون توسعة كما هو الحال في الإمبراطوريات التي تلتهم, إلا أنه كانت لهم منافذ حدودية بحرية وبرية مع بقية ممالك وحضارات الجوار.

خارطة إمبراطوريات الهوريين والميتانيين والعيلاميين وهم من أسلاف الكرد

أما عملية التوسع في منطقة الشرق الأوسط خارج مناطق النفوذ المعتادة, فلقد بدأت على يد الميديين حوالي600 قبل الميلاد, فكانت سياسة الإمبراطورية الميدية تتمحور حول وضع اليد على أكبر المنافذ البحرية و البوابات البرية, وكذلك السيطرة على الأنهار الكبيرة.

تقبّلت شعوب تلك المنطقة فتح الميديين لبلادهم لانتشار أسلاف الكرد في تلك الأراضي من هوريين, ميتانيين, عيلاميين و حثيين, بينما كانت غالبية الشعوب الأخرى المتواجدة في تلك المناطق من العرق الآري, وأيضاً لانتشار الديانة الزردشتية, والهدف الأسمى لتلك الشعوب المقهورة كان التخلص من ظلم الإمبراطورية الآشورية. ومن الملاحظ هنا سياسة الميديين الاستراتيجية التي تميزت عن سياسة من سبقهم من ممالك، وإمبراطوريات, لأنّ الشرق الأوسط وآسيا الوسطى كانتا غنيتين بمصادر المياه, فقاموا ببسط نفوذهم على سواحل البحار ومنها البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط والخليج وصولاً إلى بحر قزوين والبحر الأسود, فكانت حلقة الوصل بين آسيا وأوربا برياً و بحرياً, لذلك ورغم قِصَر الفترة الزمنية للإمبراطورية الميدية, إلا أنها ازدهرت كثيراً اقتصادياً وتجارياً وسياسياً, فكانت إمبراطورية ميديا بدايةً لتوسع أصول الكرد في جغرافية كردستان الحديثة لغناها بالمصادر المائية والمنافذ الحدودية, فوصلت مساحة الإمبراطورية في تلك الفترة الى ما يقارب 2 مليون كيلو متر مربع.

خارطة إمبراطورية ميديا

عند بدء حملة الإسكندر المقدوني حوالي العام 300 قبل الميلاد, اختار التوجه نحو الشرق لأن جغرافية الشرق كانت أغنى بكثير من مثيلتها في الغرب من جميع النواحي, وخاصة المذكورة سابقاً, ولسبب سياسي آخر وهو سياسة القمع والبطش والتجويع و قهر شعوب المنطقة, تلك السياسة التي اتّبعها الإخمينيون الفرس الذين أسقطوا الإمبراطورية الميدية, ولذلك اختار الإسكندر هذه الرقعة الجغرافية, مدركاً أن الحكمة السياسية هي في اختيار منطقة سهلة المنال والاحتلال, ففي الوقت الذي كان الغرب يعجّ بالكثير من الممالك والإمبراطوريات, ولتفادي الاصطدام معها, وأيضاً بسبب حالة الفقر التي كانت تعيشها أوربا إلا طبقة صغيرة من الأرستقراطيين, إضافة إلى أجوائها الباردة التي لا تنفع جيشه بشيء, فكان صراعه مع دولة واحدة هي دولة الإخمينيين هو الخيار الأفضل, وبعد صراع غير طويل استطاع الإسكندر دحر جيوش الإخمينيين, ولم يقف عند ذلك الحدّ بل أراد ضم المزيد من الجغرافيا, حتى وصل إلى شمال إفريقيا بالإضافة إلى ما كان تحت يديه من أراضٍ.

ولكن لا يكفي اتّساع الجغرافية على حساب السياسة الداخلية لأي مملكة لدرء الصراعات الداخلية بين قادة الجيش على النفوذ والسلطة, فبعد وفاة الإسكندر  المقدوني تم تقسيم الأقاليم والدول التي كانت تحت سلطته, وبعد ذلك تلاشت شيئاً فشيئاً.

خارطة إمبراطورية الإسكندر المقدوني وقد وصل اتساعها إلى حوالي 5.2  مليون كيلومتر مربع, أي ما يعادل حوالي 3.45 % من مساحة الكرة الأرضية

إن العمل على توطيد الحكم في أي مملكة يجب أن يكون مبنياً على أساس اكتساب محبة الشعب ووجود العوامل الطبيعية المناسبة, ودبلوماسية التعامل مع دول الجوار و إقامة علاقات تجارية معها واحترام سيادتها, ولكن الحاصل حينها أن توسيع الجغرافيا لم يكن مبنياً على أساس بناء قوة الدولة داخلياً وخارجياً, وإنما لبسط النفوذ والاستيلاء على أكبر قدر من المساحات البرية والمائية, و منفعة الطبقة الأرستقراطية و قادة الجيش, وهكذا بقيت تلك الحروب لتسقط إمبراطوريات وتظهر أخرى على أنقاضها.

إلّا أنّ الغرب كان متيقّناً من خارطة العالم, و مدى المنفعة في أي بقعة منها, فكانوا دائم العمل على إرسال بعثات استكشافية و مستشرقين إلى الشرق لمعرفة الجغرافيا بشكل عام فيها وطبيعة عيش السكان في المنطقة, خاصة بعد معاناتهم الكبيرة من هذه المعضلة, فكان توسّع الرومان جغرافياً خارج إطار التوافق مع مصالح الشعب, و من بعدهم بدأ عصر الظلمات و مهاجمة الفايكنغ أو القبائل الجرمانية من الدول الإسكندنافية على معظم أوربا و انهيار الإمبراطورية الرومانية, ثم قاموا على تقسيمها, و بعدها جاءت فترة السلطة الكنسية ولم يستطع المواطن العادي الاستفادة من عمله, والذي كان يقتصر في تلك الفترة على الزراعة, فكان كل ما يجنيه يذهب إلى جيوب الأرستقراطيين و ضرائب الكنيسة والدولة, حتى بدء عصر النهضة الصناعية والثورة الفرنسية و تحرر أوربا من قيود الأباطرة و الممالك و الكنيسة, فبدأ غزو العلم و فهم الحضارة على أساس الاستفادة جغرافياً و سياسياً وعسكرياً, و كان أول المنظّرين لمبدأ وفكرة الجغرافية السياسية “الجيوبوليتيك” هو العالم السويدي (رودلف كيلين), حيث كان أشهر المنظرين لهذه الفكرة, لهذا وبعد ضعف الدولة العثمانية قررت دول الغرب تقسيم الكعكة فيما بينها من أجل بسط نفوذهم في الشرق, و الاستيلاء على الموارد الطبيعية و الممرات المائية الاستراتيجية فيها, ولكن لم يرغبوا في تسميها  بالاحتلال فاختاروا تسمية الانتداب, وعلى الرغم من تواجد القوى الغربية في شمال إفريقيا مسبقاً, إلا أن الشرق الأوسط كان الأغنى, ففي العام 1916 وقعت اتفاقية سايكس – بيكو حيث اتفق الروس مع الفرنسيين والإنكليز على تقسيم أراضي السلطنة العثمانية, كونهم كانوا الأقوى في تلك الفترة  بعد هزيمة العثمانيين في عام 1919, فانفردت بذلك كل من فرنسا و بريطانيا بالاستيلاء على تلك الأراضي.

لقد أراد الكرد حينها الاستفادة من الظروف الموضوعية والمطالبة بحقوقهم المشروعة, ففي مؤتمر السلام في باريس 18 يناير 1919 توجه وفدان منهم, الأول بقيادة شريف باشا والثاني بقيادة أمين علي بدرخان, لأجل شرح تفاصيل القضية الكردية ومطالبة المجتمع الدولي بالاعتراف بالكرد الذين يعيشون على أرضهم التاريخية, و كان جميع المجتمعين حينها متّفقين على حق تقرير المصير للشعوب التي كانت تعيش في ظل الاحتلال العثماني, ولكن لم يستطع الوفدان الكرديان وضع خريطة موحدة لكردستان, ومن بعدها انبثقت اتفاقية سيفر في 10اغسطس 1920 والتي تضمنت في البندين 62-64 من الفقرة الثالثة نصاً عن حق تقرير المصير للكرد .

هنا قام مصطفى كمال أتاتورك بإنشاء حكومة تسمى بالجمعية الوطنية في أنقرة عام 1921بعد أن وقع السلطان عبد الحميد الثاني اتفاقية مودروس 1918 بعد هزيمة الجيشين العثماني والألماني في الحرب العالمية الأولى, حيث قام أتاتورك بالإطاحة بعدها بحكومة عبد الحميد الثاني في إسطنبول دون مقاومة.

قام أتاتورك بالاتفاق مع حكومات الغرب بعقد صفقة و معاهدة جديدة تضمن للغرب مصالحهم الاستراتيجية, و تنازل من خلالها عن سلطة الدولة على ممري البوسفور والدردنيل المائيين المهمين جداً للغرب, وضمان حق عبورهم فيهما دون قيد أو ضرائب مالية, والتعاون في أوقات الحرب, وعدم استخراج البترول حتى انتهاء المعاهدة, وعرفت هذه المعاهدة باتفاقية لوزان التي أبرمت في 24يوليو تموز 1923 في سويسرا, و اعترفت فيها دول الحلفاء بخارطة تركيا الحالية و ألغت اتفاقية سيفر .

في الخليج العربي و الدول العربية كان تقديم التنازلات بشأن السيادة على المياه, وخاصة المنافذ البحرية مثل البحر الأحمر و قناة السويس و مضيق جبل طارق, و امتداد الخليج العربي كان مهماً لتكوين دول عربية عدة, و فيما بعد عقدت الحكومات العربية اتفاقيات التبادل التجاري والاقتصادي مع الغرب, فكان مهماً لهم البقاء في السلطة و تأسيس الممالك و الإمارات والدول.

 

ولكن الكرد ورغم قوتهم العسكرية قديماً, حيث كانوا سادة الأرض التي كانت غنية بالمياه و البحار, إلا أن الطبيعة الجغرافية التي فصلت كردستان عن بعضها جعلت من كل جزء كياناً منفصلاً قبل أن يقوم الاحتلال الحديث على تجزئتها, فكانوا يعتبرون كل إمارة منهم دولة ذات سيادة دون الرجوع إلى القومية التي تجمعهم, وها نحن اليوم نقع في نفس الأخطاء السابقة, نعم نحن اليوم لا نستطيع مجاراة القوة العسكرية العالمية, إلا أننا نستطيع تلبية ما يريده العالم منا, فكردستان منبع المياه العذبة في الشرق الأوسط وبوابة الشرق مع الغرب و بوابة دول الخليج مع آسيا الوسطى, و امتداد كردستان من الخليج إلى البحر المتوسط و قربها من بحر قزوين و البحر الأسود, يجعل منها أقوى, وتمتعها بوجود أكبر نهرين هما دجلة والفرات و أيضاً موقعها الجيوسياسي و تقلب فصول السنة الأربعة بشكل منتظم, كما أنها تُعدّ ثالث احتياطي نفط و غاز بالمنطقة, مع كل هذه المقومات لو اتحدت القوى السياسية الكردية وجعلت نصب أعينها (كردستان فوق كل الاعتبارات), فسوف نكون من أقوى الدول في الشرق الأوسط و حتى على مستوى الكثير من دول العالم .

الخلاصة:

إن كل ما ذكرته بالإضافة إلى المقومات الجغرافية والطبيعية والسياسية, جعلت من أرض كردستان لقمة يُسال لها لعاب الدول العظمى وقوى الهيمنة العالمية, ولذلك فهم عملوا وما زالوا يعملون دائماً على خلق الفتنة بين الكرد و جعلهم يتقاتلون فيما بينهم, مفضّلين أن لا يتفقوا و يتوحدوا تحت راية وكلمة وقائد واحد, لأن الغرب يتطلع للماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد, فما إن ينظروا إلى ما قبل الميلاد فسيجدون السومريين و الميتانيين والميديين الذين أنشؤوا إمبراطوريات عظيمة, وللساسانيين والدولة الأيوبية و حكم محمد علي باشا لمصر بعد الميلاد, فسيدركون مدى قوة الكرد و صلابة عزمهم على الشدائد, وها هم أبطال الكرد من قوات البيشمركة و قوات سوريا الديمقراطية الذين قاموا بدحر أعتى تنظيم إرهابي بصدور عارية وأسلحة فردية خفيفة, كل هذه الصفات تجعل من الغرب يعمل على بقاء الكرد على ما هم عليه, ونحن في الكثير من الأحيان نحاول أن نساعدهم بطرق غير مباشرة فيما يتعلق بمجاراة السياسة الدولية و فهمها, و من جهة أخرى تجاوز المصالح الحزبية الضيقة.

_________________________

المراجع

–        صموئيل نوح كريمر- يبدأ التاريخ في سومر , مطبعة جامعة بنسلفانيا 1962

–        محمد أمين زكي بك – خلاصة تاريخ الكرد و كردستان مطبعة السعادة – مصر 1931

–        أحفاد الميديين (الكرد – أصلهم تاريخهم) –للمؤرخ الروسي  فلاديمير مينورسكي

–        بلدان الخلافة الشرقية – للكاتب  كي لسترنج  بيروت 1985 ترجمة  بشير فرنسيس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى