أبحاث ودراساتافتتاحية العددشرفان مسلممانشيتملف العدد 62

واقع التربية والتعليم في ظل حزب البعث وأدلجة المناهج

شرفان مسلم

شرفان مسلم 

مقدمة

لا يُخفى على أحد أن المناهج والمفردات التي يتم تنظيمها وإعطاؤها للطلبة تلعب دوراً بارزاً في تكوين شخصية الطالب والمساهمة في نضجه، والمنظومة التعليمية منظومة متكاملة ابتداء من الحضانات والروضات وصولاً إلى الجامعات والمراحل العليا.

هدفنا من هذا المقال هو تسليط الضوء على الأسس والمقاييس التي تأسست عليها المناهج في سوريا, إضافة إلى التغييرات والتحولات التي طرأت على الواقع التربوي بعد الثورة التي اندلعت في سوريا, إضافة إلى الأيديولوجيا التي تكونت على أساسها الحكومة في سوريا وانعكاس هذه الأيديولوجيا وتأثيراتها على المناهج.أ

كما أنّ نظام التقييم داخل المنظومة التربوية في سوريا تتسبب بتوجه الطالب نحو الدورات الخصوصية, وخروج المدارس عن دورها السامي.

واقع التربية والتعليم قبل الأزمة السورية

شهدت سوريا العديد من الأزمات بعد انتهاء عهد العثمانيين والانتداب الفرنسي, وصولاً إلى سيطرة حزب البعث على زمام الأمور والتحكم بمفاصل الدول، وبروز مفهوم الدولة القومية في الشرق الأوسط، ولم يقتصر فقط على كونه نظام حكم, بل أثّر بشكل طردي على تكوين المجتمعات من الناحية الفكرية أيضاً، أي أنّها ظهرت كأيديولوجيا لها مبادئ وأسس تستند إليها.

فقبل سيطرة حزب البعث على الحكم كانت هناك مساحات من الحرية، حرية الفكر وحرية التعبير ومواكبة التطورات وخاصة تطور العلم، إضافة إلى تمثيل كافة الشرائح والمكونات الموجودة داخل سوريا في سدّة الحكم، أي أنّ جميع الألوان كانت ظاهرة في سوريا بدءاً من اسم سوريا؛ حيث كانت الجمهورية السورية وصولاً إلى الثورات والقادة والرؤساء الذين مثلوا كافة الأطياف والأديان والمكونات الموجودة في سوريا، طبعاً هذه الأمور انعكست على المناهج التي كانت تُدرَّس في المدارس السورية.

أمّا بعد وصول حزب البعث إلى الحكم فقد بدأ بتطبيق سياسة اللون الواحد واللغة الواحدة والمكون الواحد، تحت شعار (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) (قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد). هذه بعض الشعارات التي ساهمت كافة مؤسسات الدولة ومن ضمنها التربية والتعليم في تكريسها في مخيّلة السوريين، فالنظام السوري كان على قناعة تامة بأن استمرار حكمها الشوفيني المستبدّ لا يستمر إلا إذا أقنع الجيل الصاعد بهذه الشعارات, وبأنهم المنقذون لسوريا ولمكوناتها، ثم أتت بكلمة “الاشتراكية” كلاحقة لاسمها بعد أن دمجت معها الحزب العربي الاشتراكي لخداع الناس وتمرير زيفهم.

كانت تُصنّف المفردات أو المناهج ضمن العلوم الاجتماعية بكافة أقسامها (التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة والجغرافيا والتربية الوطنية ….الخ) ضمن المناهج السورية, وكانت غايتها تكريس مبادئ وفكر البعث بالدرجة الأولى، ولم تكن تهدف إلى تكون شخصية تتمثل بالقيم الإنسانية أو تتخذ من الإنسانية مبدأً لها, أو تهدف إلى التعايش السلمي أو تستند إلى مبادئ الحرية والديمقراطية وقبول الآخر والنقد والنقد الذاتي, وإنما كانت مناهج توجيهية أيديولوجية بحتة.

أما المناهج أو المفردات التي تصنّف ضمن العلوم الطبيعية, فهي  أيضاً لم تكن مثالية وقادرة على مواكبة التطورات والتغييرات والتحولات العلمية التي تسبق الثانية، فالمناهج كانت ثابتة والنظريات والقوانين بالرغم من تطورها, إلّا أنّها لم تتغير ضمن المناهج السورية وفقاً للمطلوب، ومن الجانب التطبيقي أيضاً هناك قلة قليلة من المخابر والمعدات التي تؤهّل الطالب عملياً, وتعمل على توحيد أو توافق بين المبادئ النظرية والعملية، لذا لم نكن نشاهد مبدعين أو علماء من الشريحة السورية, باستثناء من اعتمد على مجهود شخصي وتطور ذاتي، فسياسة البعث كانت تجرّ جميع العلوم لخدمة وتكريس مبادئه الأيديولوجية فقط، والبعثات التي ترسله إلى الخارج كانت تصنّف ضمن المحسوبيات وتقتصر على من يؤيد أفكارهم.

أما العلاقة بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية فكانت معدومة تماماً ضمن المناهج السورية، فتعتمد على مبدأ الخصخصة, وهي بحد ذاتها ذريعة أثرت على تكوين البنية الاجتماعية داخل النسيج السوري. كلنا نعلم أنّ العلوم لا يمكن أن نفصلها عن بعضها البعض, ومن المفترض أن تكون متممة لبعضها، ولتكوين شخصية مثقفة قادرة على التأقلم مع المجتمع وقيادته, يجب التعامل على مبدأ التثقيف وليس فقط التعليم، لأن العلم إن جُرِّد من الأخلاق والأحاسيس يتحول إلى العلموية, ويصبح أداة لهدم المجتمعات, وصنع القنبلة النووية وأسلحة الدمار الشامل أكبر مثال على ذلك، لذا يمكن القول: إنّ مناهج النظام السوري في ظل البعث تسير وفق ذلك النهج وهو فصل العلوم عن بعضها البعض.

 

واقع التربية والتعليم في ظل الأزمة السورية

أثرت الأزمة السورية على كافة القطاعات العامة والخاصة ومن ضمنها قطاع التربية والتعليم، فهجرة الكفاءات وسياسة البعث وعدم القدرة على تغيير منهجيته؛ أدى إلى تفريغ المدارس من المدرّسين، وانهيار جودة التعليم وفقدانه مكانته محلياً وعالمياً، حيث خرجت 6 دول عربية من بينها سوريا بشكل كامل من التصنيف العالمي لجودة التعليم الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس 2021، وهو من أهم التصنيفات المتّبعة عالمياً لتقييم المستويات التعليمية في دول العالم.

ويقول الدكتور وائل البوفي الحائز على دكتوراه في التربية قسم القياس النفسي: “يعاني النظام التربوي في سوريا من العديد من التحديات والمشاكل التي تؤثر على جودة التعليم وفرص الطلاب, من بين هذه التحديات نقص المدارس والمعلمين والمناهج والموارد، وانتشار الأمية والهدر المدرسي، وتأثير الحرب والنزوح والعنف على البيئة التعليمية، وضعف الإشراف والتقويم والتطوير المهني للمعلمين، وانعدام الشفافية والمساءلة في إدارة المنظومة التربوية”.

وتتطلب هذه الأوضاع إجراء إصلاحات جذرية في النظام التربوي لتحسين مخرجاته وتلبية احتياجات المجتمع السوري, من بين هذه الإصلاحات تحديث المناهج والطرق التدريسية لتتوافق مع متطلبات العصر، وزيادة الاستثمار في بناء القدرات والمهارات للطلاب والمعلمين، وتعزيز دور المجتمع المدني في دعم التعليم والمشاركة في صناعة القرار، وتطبيق معايير الجودة والمساواة في توزيع الموارد والفرص، وإشراك جميع الأطراف المعنية في رسم رؤية استراتيجية للتربية في سوريا.

لتقييم أي عملية تربوية لابد من دراسة أوضاع ثلاثة عناصر رئيسية تُعتبر الأساس لنجاح أو فشل العملية التربوية وهي (المناهج- المدرس- الطالب), بالنسبة للمناهج فقد تطرقنا إليها واتجهت نحو الأسوأ في ظل الأزمة السورية, بالرغم من محاولة النظام إجراء بعض التغييرات, مثلاً تغيير اسم مادة القومية باسم التربية الوطنية, طبعاً تغيير بالاسم فقط, وإضافة مادة متعلقة بالأخلاق والوجدان، إلا أن هذه التغييرات لا تفي بالغرض المطلوب.

أمّا بالنسبة للمدرِّس الذي لا يتجاوز راتبه الشهري 100،000 ل.س مئة ألف ليرة سورية, فيعيش في حالة مأساوية، فهو غير قادر على تأمين لقمة عيشه, فيضطر إلى الابتعاد عن سلك التربية أو اللجوء إلى الطرق غير الشرعية, أو إعطاء الدورات الخصوصية التي تؤثر بشكل سلبي على نظام المدارس، وتفقدها هيبتها ومكانتها, وتتحول إلى مدارس شكلية. أما بالنسبة للطالب الذي وقع بين مطرقة فوضى المدارس وسنديان الدورات الخصوصية, فقد أصبح في وضع لا يستطيع معه أن يكمل دراسته بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة, باستثناء من تيسّرت أحوالهم بعض الشيء، إلّا أنّ أغلب العائلات التي تعيش حالياً في المناطق التابعة للحكومة السورية, غير قادرة على تحمُّل تكاليف دراسة أولادها التي أصبحت تفوق طاقتهم بكثير, ناهيك عن البنية التحتية التي دُمِّرت وخرجت الآلاف من المدارس عن الخدمة.

إذا كانت العناصر الثلاثة التي تعتمد نجاح المنظومة التعليمية عليها غير مستقرة, فمن المؤكد ستكون هذه المنظومة ونتاجاتها فاشلة.

 

أيديولوجيا نظام البعث في المناهج السورية

الأيديولوجيا هي مجموعة من الأفكار والمعتقدات والقيم التي تحدّد رؤية الفرد أو الجماعة للواقع وتوجّه سلوكهم وخياراتهم. الأيديولوجيا تلعب دوراً مهماً في عملية التربية، فهي تؤثّر على محتوى المناهج وطرق التدريس والتقييم والأهداف التربوية, كما تؤثر على موقف المتعلمين والمعلمين والمسؤولين التربويين من العلم والثقافة والدين والسياسة والاجتماع.

ويُمكن تصنيف الأيديولوجيات إلى أنواع مختلفة حسب مصادرها وطبيعتها وأهدافها، مثل الأيديولوجيا “الدينية والقومية والاشتراكية والليبرالية” وغيرها. إن كل نوع من هذه الأيديولوجيات يحمل رسالة معينة يحاول نشرها وتطبيقها في المجتمع، وبالتالي يحاول التأثير على نظام التربية والتعليم, لذلك يجب على المربّين والباحثين التربويين دراسة الأيديولوجيا بشكل نقدي وموضوعي، وتحليل أثرها على جودة التربية وتنمية المتعلم، وإيجاد السبل المناسبة للتعامل معها بحكمة وإبداع.

لا يُخفى على أحد أن الأفكار التي يؤمن بها حزب البعث تنعكس بشكل مباشر في المناهج الدراسية, وتؤثر على التكوين الفكري للطالب, وفيما يلي بعض من الجزئيات المؤدلجة الموجودة ضمن المناهج أو التي تسببت المناهج في تكوينها:

1-التعصب الديني: جميعنا نعلم أن سوريا موزاييك متنوع الطوائف والقوميات والأثنيات، ففي سوريا يعيش المسيحي إلى جانب المسلم والأرمن والسريان والآشور. إن المناهج كانت تتكلم فقط عن الإسلام وتاريخ الإسلام ومنجزات المسلمين, وفي الوقت ذاته تهمّش جميع الأديان الأخرى الموجودة على الأراضي السورية.

2-التعصب القومي: تبدأ ذهنية الإقصاء وعدم قبول المكوّن الأخر من اسم سويا (الجمهورية العربية السورية) وصولاً إلى محتوى المناهج، إلى زرع المشاعر القوموية المتعصبة في عقول الطلبة, وتقزيم جميع المكونات الأخرى الموجودة في سوريا كان شيئاً واضحاً كوضوح الشمس في مناهج حكومة البعث، فاعتبار اللغة العربية هي اللغة الرسمية فقط, وحرمان المكونات الأخرى من التكلم بلغتهم ضمن المؤسسات الرسمية, ومن ضمنها المدارس, إجحاف بحق لغات ومكونات تمتاز بتاريخ عريق على هذه الجغرافيا.

وحول ما إن كانت المناهج تمثل النسيج السوري أم لا, يقول الدكتور محمد البرهو وهو دكتور في علم النفس التربوي: “*المناهج تمثل شرائح المجتمع السوري, باستثناء بعضها كالتاريخ والجغرافيا والقومية, وحصر مادة اللغة العربية كلغة أمّ, لأن المجتمع السوري نسيج متكامل فيه جميع المكونات, ولم تراعِ المناهج السورية هذا النسيج, مع العلم أن الوزير السابق نادى بضرورة وضع مادة اللغة الكردية في المناهج السورية, ولكن لم يطبّق ذلك.”

3– التعصب الجنسوي: المناهج السورية توجيهية تهدف إلى إقصاء جنس على حساب الجنس الآخر, وفي هذا السياق قالت دجلة حيدر وهي ناشطة نسوية واجتماعية وباحثة في مجال الجنولوجيا: “*التعصب الجنسوي واضح جداً في مناهج حكومة البعث, فالأمثلة التي تُعطى عن المرأة ودورها محصور في البيت وتخصيص الأواني المنزلية وأدوات الجلي كأن تكون الألعاب للفتيات والطائرات والمعدات التي توحي بالعنف للصبيان, لذا نشأت لدى الجنسين ذهنية وشخصية مهزولة وشخصية عنيفة, وهذه الذهنية تبقى مرافقة للطفل وتحدد مستقبله وتحصره بهذه الأهداف فقط”.

عندما نربط بين التعصب والتطرف والنزعات التي كانت موجودة داخل المكونات السورية, يتضح لنا حجم الانحرافات التي كانت موجودة داخل المناهج في ظل حكومة البعث.

الخلاصة:

لا يمكننا في النهاية سوى الإدراك الكبير لحجم الكارثة التي وصلت إليها سوريا, والشعب السوري المرتبط بالبنية التكوينية لأفكارهم المستندة إلى التعصب، وعدم قبول المكونات بعضها لبعض, وكذلك تقزيم الثقافات واللغات وسرقة الثورة السورية.

في ظل المعارضة لا تحظى سوى بذهنية أكثر تعصباً وتطرّفاً من النظام نفسه, وكلها مرتبطة بالأفكار التي نشأ عليها المجتمع السوري في العقد الأخير, وللمناهج الدور الرئيسي لتكوين هذه الأفكار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى