احمد داليأبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتملف العدد 62

تطور العمل والفكر المؤسساتي

أحمد دالي

أحمد دالي

أحمد دالي
أحمد دالي

يقوم مفهوم النقد من الناحية العملية على إصدار الأحكام على شيء مكتوب أو منطوق أو مفعول, بمعنى أن المجالات التي يمكن أن تطالها أيادي النقد هي كل شيء صدر على شاكلة مادة مكتوبة أو على صورة أقوال منطوقة أو أفعال واقعة, وهذه الآلية التي تسمى بالنقد ينبغي أن تصدر عن إنسان متخصص يسمى “الناقد”, والغاية الأسمى من كل هذه العملية تكمن في الوصول إلى الجوانب الإيجابية والسلبية على حدّ سواء في المادة المراد نقدها, أو على الطرف الآخر تماماً بغية الكشف عن مكامن ومواقع الضعف والخلل, ولكن يجب الإشارة إلى أن المادة المنقودة ليس بالضرورة أن تكون فعلاً فردياً أو شخصياً, بل يُحتمل أن يكون النقد موجّهاً إلى مجموعة برمّتها بدلاً من الأفراد, والحكم هنا يكون على أساس تحديد من هو القائم بالفعل أو القول, أهو فرد أو جماعة. وأخيراً لا بدّ من التنويه إلى أن مسألة النقد تتخذ مسالك ونواحي معينة بحسب نوع الأفعال أو الأقوال الحاملة أو المنضوية على أشياء, مثل التصرفات واتخاذ القرارات وخلق الإبداعات وتوجيه الأعمال وغير ذلك الكثير والكثير.

بقي أن نقول من خلال هذه المقدمة إنّ عملية النقد قد لا تتوقف عند اكتشاف مواطن الجودة والرداءة ـ بصرف النظر مبدئياً عن الموضوع الذي ينصبّ عليه النقد ـ بل من المحتمل والمعقول أيضاً أن يلج النقد إلى أعماق المادة التي تكون على شكل أفعال أو أقوال أو كتابات, وأن يقترح الحلول التي من شأنها أن تصلح الخطأ وتعالج الخلل, وبعبارة أخرى نستطيع القول إن النقد قد لا يتخذ موقفاً جامداً أو محايداً من موضوعه, وإنما يحق للناقد كذلك أن يتدخل أحياناً بشكل إيجابي لاقتراح بعض الحلول وطرح بعض وجهات النظر البنّاءة وإيجاد بعض المخارج الإيجابية لمشكلة ما, وهذا بطبيعة الحال يقودنا إلى القول بعدم الاكتفاء بتوجيه النقد وبعض الإرشادات التوجيهية واتخاذ موقف محايد تفادياً للصدام أو اتخاذ مواقف من قبل الآخرين.

من المهم أيضاً في هذا الصدد أن ندرك أنه ثمة فرق كبير ما بين مصطلحي “النقد والانتقاد”, فالنقد هو ما سبق الحديث عنه فيما ورد بقصد التوصيف والتشريح للتصرفات الفعلية والقولية, لمحاولة الكشف عن الجوانب السلبية والإيجابية ومواطن القوة والضعف على حدّ سواء, ومن المفيد أن يكون بطريقة لطيفة وأسلوب لبق ومتّزن, بهدف تصويب الخطأ وتقويم الخلل في حال الوجود ومن ثم الترشيد وتوجيه النصيحة, والتحفيز على المتابعة والديمومة والاستمرارية في حال النجاح. أما الانتقاد فهو البحث عن الجوانب السلبية فقط, وهو بعيد كل البعد عن غاية التصحيح والتصويب, فهو يقوم على تصيّد الأخطاء والعلل بشكل مقصود هادفاً من وراء ذلك الهدم لا البناء, وقد يصل به الأمر ـ أي الانتقاد ـ إلى إيهام الآخرين بوجود مشاكل وأخطاء ليست موجودة أصلاً, وقد يعتمد على الاستهزاء والتجريح وإشعار الآخر الإهانة وقلة الشأن, فهو بالتالي أقرب إلى التهجّم والجريح منه إلى النقد الإيجابي البنّاء.

إن الخوض في كتابة بحث كهذا يتطلب منا الوقوف عند النقاط التالية:

ـ أنواع النقد

ـ مفهوم النقد الذاتي

ـ مفهوم العمل المؤسساتي

ـ الفكر المؤسساتي

ـ النقد والنقد الذاتي في العمل المؤسساتي

أنواع النقد

ـ النقد الأدبي: عندما يُذكر مصطلح النقد فإن أول شيء يتبادر إلى الذهن هو الأدب على اختلف أجناسه, وكأن هذا الاسم “النقد” قد ارتبط بالأدب دون المجالات الأخرى, وحتى التعريف المتعارف عليه للنقد بشكل عام جاء في ميدان الأدب “النقد هو عملية يقوم بها الناقد المتخصص لمعرفة الجيد من الرديء في الأدب, وتحديد مواقع القوة والضعف, ومن ثم توجيه الأديب إلى جادة الصواب وإبعاده عما قد يسيء إلى نتاجه الأدبي نتيجة عدم الدراية الكافية بما يتطلبه العمل الأدبي من الأدوات الفنية”.

ـ النقد العلمي: لا يختلف النقد العلمي في مفهومه عن النقد الأدبي سوى أنه يصب اهتمامه إلى المجال العلمي والأبحاث والدراسات العلمية.

ـ النقد الاجتماعي: يقوم هذا النقد على تحليل المكونات والشرائح الاجتماعية, والتركيز على العيوب والمسالك السلبية فيها, وتسليط الضوء عليها في كل مجتمع, بغية الوصول إلى إيجاد التدابير والحلول الكفيلة بإحداث تغييرات جزئية أو جذرية في البنية المجتمعية والقفز بها نحو الأفضل.

ـ النقد البنّاء: هو النقد الإيجابي الساعي إلى محاولة الكشف عن الجوانب السلبية والإيجابية على حدّ سواء بطريقة لطيفة وأسلوب لبق ومتّزن, بهدف تصويب الخطأ وتقويم الخلل في حال الوجود وتوجيه النصيحة, والتحفيز على المتابعة والديمومة والاستمرارية في حال النجاح, وهذا هو المفهوم الحقيقي للنقد كما أشرنا إليه من قبل.

ـ النقد الهدّام: ينطبق عليه معنى الانتقاد الجارح اللاذع الذي يرمي إلى الإحباط وإضعاف العزيمة والاستسلام أمام أية عقبة واردة.

وهناك أنواع أخرى للنقد منها (النقد الفني, النقد الرياضي), وجميعها تبحث عن هدف واحد هو الهدف الأسمى للنقد الإيجابي البنّاء والسير والارتقاء نحو الأفضل.

مفهوم النقد الذاتي

يمكن وصف النقد الذاتي على أنه ذلك التصرف أو السلوك الذي من خلاله يتوجه الإنسان إلى ذاته ليتبيّن الجوانب الضعيفة فيها ـ أي في ذاته ـ أو ليشير إلى العيوب والتصرفات السلبية الظاهرة منها والباطنة, وهذا الدافع أو السلوك الداخلي قد يكون نابعاً من الشعور بتجربة فاشلة أو مؤلمة, أو نتيجة الإحساس بمخاطر تهدد الأهداف والخطط والطموحات التي يسعى الفرد إلى تحقيقها, في محاولة جادّة وحثيثة لتجنب أقصى ما يمكن تجنبه من أسباب الفشل والخيبة, ولكي لا يجرّه ذلك فيما بعد إلى اليأس والإحباط والندم. إن النقد الذاتي هذا غير مقتصر على التصرفات والأفعال المالية والمادية والعلمية والأدبية فقط, فهو يطرح نفسه في صور مختلفة, فقد يكون ذا علاقة بالمظهر الخارجي والهيئة الجسمانية للفرد, أو ربما يكون متعلقاً بالتركيز على الجوانب النفسية والمعنوية للشخص مثل العواطف والخواطر الداخلية, وقد ينصرف إلى المجال الوظيفي والفني والتخصصي.

إنّ الغاية التي تكمن وراء نقد الذات هي الوصول إلى معرفة مخابئ الضعف في الذات, والكشف عن الخبايا السوداء في الزوايا المظلمة التي تعيق حركة الإرادة والتحفيز والدوافع والطاقات الإيجابية داخل النفس الإنسانية, وهذا بالضرورة فعل يجب أن يسبقه الشعور بعدم الكمال وبوجود النقص في الشخصية, بغضّ النظر عن تحديد أماكن ونقاط الضعف من حيث المبدأ, ولكن من المهم أن يكون الفرد متصالحاً مع نفسه وقادراً على الاعتراف بعدم امتلاكه لجميع المزايا والخصائص والقدرات الإيجابية, وهذا هو الدافع الحقيقي والمحرك الصادق للسعي وراء إكمال النقص وملء الفراغ في الشخصية, أما الحالة الفوقية و”الأنا” المتعالية المتعجرفة؛ فلا تملك المجال أصلاً لمجرّد التفكير في قبول النقد, فما بالنا بتوجيه النقد إلى الذات؟.

تجدر الإشارة إلى وجود صورتين أو سببين لولادة النقد الذاتي؛ الأول هو النقد الذاتي المقارن, والثاني هو النقد الذاتي الداخلي, أما الأول (النقد الذاتي المقارن) فينبع من خلال مقارنة الشخص لنفسه بالآخرين من حوله, فهو في هذه الحالة يقيس نجاحه أو فشله من منظور المقاييس المتعارف عليها في البيئة المحيطة به, فنكون هنا أمام موازين وضوابط خارجية لمعرفة نقاط القوة والضعف في الشخصية, وفي كل مرة يخرج فيها الفرد من امتحان في حياته يلجأ إلى المقارنات والإسقاطات الخارجية من حوله, فيقارن نجاحه بنجاح الآخرين ويقيس فشله وإخفاقه على فشل وإخفاق الآخرين بالضبط, وهذا من شأنه ـ وفق المتخصصين في علم النفس ـ أن يقود الشخص إلى تجاهل نجاحاته الباهرة والكبيرة لمجرد أنه وقع في بعض الأخطاء, أو لأن درجة نجاحه أقل بقليل مما كان يتوقع أو ينتظر.

أما بالنسبة للصورة الثانية (النقد الذاتي الداخلي)؛ فهو نتيجة طبيعية لتأمل الإنسان الراشد الواعي في نفسه, وقدرته على اكتشاف مواطن الضعف في ذاته, واعترافه بهذا الأمر, وهذا لا يتحقق إلا بتوفر شروط ذاتية وأفكار موضوعية لدى الفرد, وعلى رأسها القدرة على التحرر من الشعور بالنقص والدونية, والقضاء التام على الغرور والتكبر الداخلي, والتصالح مع الذات. هذا يقود بالضرورة إلى الغوص في أعماق النفس لسبر أغوارها والدخول في زواياها المظلمة, في رحلة تأملية وجدانية يكون ربّان سفينتها العقل الواعي الساعي إلى الارتقاء بالنفس والفكر والعاطفة والوجدان معاً.

مفهوم العمل المؤسساتي

لا شكّ أنّ البحث عن أفضل حالات تقسيم العمل والارتقاء بأداء العمال وسويتهم, ورفع كفاءة العمل عموماً في المؤسسات ودوائر العمل الرسمية والخاصة بشكل عام, هو بحث عن النجاح والتقدم والاستمرار والديمومة, وللوصول إلى هذه الغاية النبيلة لا بدّ من وجود الأدوات التي تضمن الوصول بالمؤسسة والعمل المؤسساتي إلى المستويات المطلوبة, ومن هذه الأدوات ترشيد الإدارة أو كما يقال “الحوكمة” والإدارة الرشيدة, وحسن تنظيم الأدوار وتوزيعها بحسب الكفاءات والتخصصات الموجودة, وهذا ينتهي بطبيعة الحال إلى تقسيم العمل بين العمل الفردي والعمل الجماعي.

إن العمل الفردي هو ذلك النوع من الأعمال المسنودة إلى شخص بعينه بسبب وجود اعتبارات معينة في طبيعة العمل الوظيفي من ناحية, وكفاءة وتخصص الموظف من ناحية ثانية, وكمثال قريب على ذلك؛ الأعمال القانونية والاستشارية الأقرب لها أن تُسند مهمتها إلى شخص حقوقي كعمل فردي, ولكن في المقابل هناك أعمال تتطلب فريقاً لإنجازها, مثلاً دوائر الجباية والضرائب تتطلب عدداً كبيراً من العمال والموظفين الذين يعملون بشكل توافقي وتكاملي, ولا يستطيع شخص بمفرده القيام بمهامّ وأعمال من ذلك النوع.

العمل المؤسساتي كمفهوم وحالة واقعية يدلّ على العمل ذي الصبغة الجماعية الهادف إلى تسيير أمور المؤسسة أو الشركة, والمحافظة عليها من الخسارة والفشل والإفلاس, وهذا يحتاج طبعاً إلى حالة تنظيمية قوية وتظافر الجهود والكثير من الخبرات والكفاءات, والتفاني في العمل إلى جانب النزاهة والشفافية, وغير ذلك من المسائل التي ترتكز عليها الحوكمة الإدارية (الإدارة الرشيدة), وإذا ما تحققت هذه الصورة النظرية للعمل المؤسساتي ومن ثم تُرجمت إلى أفعال ولم تتوقف عند حدّ التنظير والأقوال؛ فإنّ نقاطاً مهمة ستظهر على سطح العمل, منها الاستفادة من الوقت إلى أقصى درجة ممكنة, وعدم ضياع العمل بين الروتين والبيروقراطية وتضارب وتنازع الخبرات والتجارب, إضافة إلى ذلك يمكن الوصول إلى حالة من الهدوء والاستقرار في العمل والابتعاد عن الفوضى والتخبط, وبشكل عفوي وتلقائي تتحقق المشاركة الجماعية في تسيير وإنجاح العمل, وأيضاً تحقيق الأهداف التي تبحث المؤسسة من خلال نشاطها إلى الوصول إليها, كما أن أهمية العمل المؤسساتي يخضع أيضاً إلى استرجاع الخبرات والتجارب السابقة لتفادي الوقوع في الأخطاء الماضية وضمان عدم تكرارها.

بهذا الشكل نجد أن العمل المؤسساتي ينصبّ على الممارسات والأعمال اليومية, هذه الأعمال التي تعمل من أجل الحفاظ على المؤسسة وتحقيق الوظيفة والدور المنوط بها, وكما أشرنا من قبل فإن هذه الأعمال تقوم على استراتيجيات يقوم بها إما أفراد أو جماعات تتصف بالشخصية الاعتبارية عن طريق تشكيل الأنماط والنماذج المؤسسية.

الفكر المؤسساتي (المؤسساتية)

يمكن توصيف الفكر المؤسساتي في هذا المجال بأنه الإطار أو النموذج النظري الذي ينبغي أن تكون عليه المؤسسة, من ناحية تنظيم نفسها من النواحي الإدارية والمالية والموارد البشرية من خبرات وكفاءات وتكنوقراط, وإذا كان مصطلح “الفكر المؤسساتي” حديث النشأة من حيث التداول في الدراسات النظرية والأكاديمية؛ فإن فكرة المصطلح ذاتها موجودة منذ قديم الزمان, لأن إدارة الأسرة على سبيل المثال كان وما يزال يتطلب فكراً مؤسساتياً وإن لم تكن الفكرة أو التسمية معروفة حينذاك, وكذلك إدارة أموال الجماعات والعائلات ضمن جمعيات بدائية سواء في المجالات الزراعية أو التجارية أو تربية الحيوان, ضمن الأرياف النائية وحتى أكثر المجتمعات بدائيةً, كان يتطلب أن يكون هناك فكر مؤسساتي على قدر تلك المشاريع وذلك الزمان على أقل تقدير.

جدير بالذكر أن نعرّج من خلال هذه الدراسة الموجزة عن المؤسساتية والعمل والفكر المؤسساتي, على مجموعة من العوامل التي لا يمكن إغفالها أو تجاهلها في هذا الميدان, لأن الفكر المؤسساتي في أرقى مراحله لا بدّ له من أن يستند إلى آليات التطوير المؤسسي, وهذا الأمر يحتاج إلى تشخيص وتشريح دقيقَين, والمهمة تبدأ من نقطة فهم حالة المؤسسة بالدراسة التشخيصية لمعرفة مكامن القوة والضعف ووضع اليد على مواطن الخلل ومفاصل المشاكل, فإن تمّ التعرّف على ذلك من خلال التشخيص والفحص السريري المبدئي, يتم الانتقال إلى المرحلة الثانية التي ستتضمن رسم ووضع الخطط التطويرية البديلة, وهذا الموضوع لا يتحقق بهذه السهولة والبساطة النظرية التي نتكلم فيها, وإنما هو مسألة قد تكون شائكة ومعقدة وخاصة عند الصدام بالجدار البشري في المؤسسة, بمعنى أن الموارد والطاقات البشرية العاملة سيكون لها الكلمة الفصل في تنفيذ الخطط الجديدة البديلة, وقبل ذلك كله فإن الفريق البشري مطالًب بأن يعترف بأخطائه السابقة وبفشل الخطط القديمة, وعلى هذا الأساس يمكن تقبّل فكرة التطوير والتجديد, ثم وبعد تجاوز المراحل السابقة بأمان ونجاح تصل المؤسسة إلى مرحلة جديدة, هي تهيئة الأرضية الإدارية لدى كوادرها الوظيفية العلمية والإدارية والمالية, لتقبّل تنفيذ ما تم التوصل إليه عن قناعة وحرص على نجاح المؤسسة وبقاء دوامها واستمرار عملها ونشاطها.

النقد والنقد الذاتي في العمل المؤسساتي

ماذا يُقصد بالنقد والنقد الذاتي؟

عندما يتفكر الإنسان في نفسه ويتأمل عميقاً في ذاته بقصد معرفة صفاته وتوجهاته ومعتقداته وآرائه, والتعرف على سلوكياته وانفعالاته وردود أفعاله؛ يكون في حالة من ممارسة النقد الذاتي, لأنه بهذا يكون قد دخل في الأخذ والردّ مع نفسه, وقد يتطور به الأمر إلى أن يصل إلى حالة تشبه المراجعة والمحاكمة الداخلية, وكل هذا يجري دون مشاركة من الآخرين ودون إشراك أحد فيه, لأن الغاية المنشودة من هذه الممارسة الذاتية هي تحسس الجوانب السلبية والضعيفة في الشخصية ومحاولة التغلب عليها وتذليلها, وعلى النقيض تماماً إذا وُجدت جوانب إيجابية؛ العمل على تعزيزها وتطويرها.

من المهم هنا أن نبيّن أنّ النقد الذاتي في العمل المؤسساتي ليس مقتصراً على الحالة الشخصية للأفراد, فالمسألة أبعد من هكذا إطار ضيق ومحدود, ففي العمل المؤسساتي يشمل النقد الذاتي المؤسسات والشركات والجمعيات بصفتها تتمتع بالشخصية الاعتبارية, وبذلك تستطيع ممارسة النقد الذاتي على نفسها, ويكون ذلك من خلال مجلس الإدارة أو الرئاسة, لأن الغرض من النقد الذاتي المؤسساتي هو تسليط الضوء وتوجيه الأنظار إلى الأخطاء والسلبيات وذلك كله بطريقة موضوعية وبنّاءة.

النقد الذاتي من وجهة النظر الفلسفية هو من أهم الإشارات والدلائل على السلامة الفكرية والوجدانية للفرد, إذ إن الشخصية السليمة والسوية هي التي بإمكانها نقد ذاتها بطريقة علمية واعية وموضوعية, للوقوف على أخطائها والعمل الجادّ على تلافيها وتداركها, ولكن لا بدّ من الأخذ في الاعتبار ألا يكون النقد جارحاً أو مبالغاً فيه لئلا يكون مصدراً للإحباط والاستسلام وكره الذات, فينعكس بالتالي على شخصية الفرد بصورة سلبية, وفي هذه الحالة يعطي نتائج عكس المنتظر والمأمول.

هناك أهمية أخرى للنقد الذاتي أو الفردي, لأنه يؤدي إلى صلاح الفرد الذي هو نواة المؤسسة والمجتمع في آن واحد, فصلاح الفرد واستقامته يعني بالضرورة صلاح المؤسسة ومن ثم المجتمع برمته.

الوجه الآخر للنقد ضمن العمل المؤسساتي هو النقد الموجه للآخرين سواء كحالة فردية أو جماعية, وفي كل الأحوال ينبغي ألا يخرج هذا النقد أيضاً عن ضوابط النقد الذاتي من حيث الموضوعية والأسلوب والغاية البنّاءة والإيجابية.

خلاصة

إنّ مؤسسات العمل الجماعية على اختلاف تسمياتها وخصائصها (مؤسسة, شركة, جمعية, منظمة, نادي ….) تتمتع بالشخصية الاعتبارية, وهذه الاعتبارية تمنحها خصائص وصفات الأشخاص الطبيعيين من ناحية المطالبة بالحقوق وأداء الواجبات والتمتع بذمة مالية والحقوق الفكرية والملكية, وهذه المساحة الواسعة من الأعمال الإدارية والمالية والموارد البشرية, لا بدّ لها من مقاييس ومعايير تضبط عملها وتحفظها من التخبط والفوضى, فهذه الشخصية الاعتبارية تُدار في النهاية من قبل أشخاص طبيعيين يتمتعون بصلاحية الإدارة بشكل من الأشكال من خلال الرئاسات ومجالس الإدارة والمكاتب والمديريات ورؤساء الأقسام وغير ذلك, ومن أجل ضمان سلامة العمل ونجاحه وبالتالي استمرار دور وعمل المؤسسة؛ لا بدّ من المراجعة الدورية لنتائج الأعمال, ومعرفة حجم المنجز من الأعمال وحجم الإخفاقات, وهذه المراجعة الموضوعية بقصد التقصي والبحث عن مواطن الضعف والخلل ما هو إلا نقد ذاتي, سواء على مستوى أفراد المؤسسة كأشخاص طبيعيين أو على مستوى المؤسسة بأكملها كشخصية اعتبارية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى