أبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتمحمد عبدلله العزوملف العدد 61منوعات

كيف نحمي المكتشف الأثري

 محمد عبدالله العزو

محمد عبدالله العزو

يعتبر الحقل الأثري المخبر الرئيس في معرفة القواعد الأساسية لاستخراج المواد الأثرية، لذلك بدأت الجامعات السورية التي تدرّس فرع علم الآثار فيها، بإرسال طلابها إلى مرافقة البعثات الأثرية للتدريب، وكسب الخبرة العملية في الحقل الأثري مباشرة، التي تقوم بأعمال التنقيب الأثري في المواقع الأثرية الموزعة في المحافظات, ففي محافظة “الرقة” كانت هناك أكثر من عشرين بعثة أثرية منقِّبة، وهي موزّعة على النحو التالي: بعثات وطنية، بعثات وطنية- أجنبية مشتركة، بعثات أجنبية، يرافقها ممثل ومشرف من قبل المديرية العامة للآثار والمتاحف في “دمشق”، وأن يكون خريج فرع الآثار حصراً, وقد يكون من العاملين في المديرية العامة للآثار والمتاحف في “دمشق”، أو من دائرة الآثار التي يتبع لها الموقع الأثري الذي اختارته هذه البعثة للتنقيب فيه.

وللمعرفة نذكر بعضاً من أسماء هذه البعثات وهي: *- البعثة الوطنية العاملة في تل “سورا” على “الفرات” بالقرب من “الرقة”. البعثة الوطنية العاملة في تل “الشيخ حسن” على “البليخ”، البعثة الوطنية- الألمانية المشركة في حصن “مسلمة بن عبد الملك” على “البليخ”، البعثة الوطنية- الألمانية المشتركة العاملة في تل “خويرة”، والبعثة الأمريكية العاملة في تل “السويحات” على “الفرات”. وهناك بعثات أخرى تعمل في مواقع أخرى من المحافظة.

إنّ أول عمل تبدأ به البعثة المنقّبة، هو تنظيف المربعات التي ستتم فيها عملية التنقيب الأثري الممنهج، ثم يبدأ المنقبون بأعمال الحفر ضمن المربعات المحددة لهم على الأرض، لكن قبل كل هذا هناك تعليمات ضرورية يلقيها رئيس البعثة على مسامع العاملين، وهي كثيرة ومتعددة، لكن أهمها تتعلق باستخراج المواد والمخلفات الأثرية ضمن المربعات المحددة لهم، فقبل رفع أي لقية أثرية أو أي شيء ليس ذو قيمة أثرية أو فنية، وهنا لا بد من التأكيد أننا طبقنا كل الطرق والقواعد العلمية والفنية لنزعها من مكانها، لذا يجب على الجميع عدم رفع أي شيء، يظهر ضمن مربع الحفرية، ما دمنا غير متأكدين إلى إي طبقة أثرية ينتمي هذا الشيء، وهل لهذه اللقية علاقة مع المنشآت المعمارية، فيما لو أنها وجدت ضمن نفس المربع. لذا يؤكد علماء الآثار على تركها في مكان وجودها بشكل مؤقت، لعدة أسباب:

أولاً: إنّ مرور فترة طويلة جداً من الزمن على وجود اللقية، وهي مغطاة بالأتربة، تكون كما يقول العامة من الناس ما تزال “مخمّرة”، أي أنها هشّة، وقابلة للكسر بمجرد ملامسة أداة الحفر لها، حتى إنّ بعض القطع الرقيقة تتأثر إذا ما لامستها أيدي الإنسان، لذا يجب تركها فترة من الزمن، حتى تكتسب قوة ومتانة.

ثانياً: إنّ رفع أي شيء مباشرة من تحت التربة في الحقل الأثري، دون التأكد من أنه غير مرتبط ببناء وحدة أثرية، قد تكون زمنياً معاصرة لهذا الشيء، أو سابقة على وجوده، يعتبر خطأً فادحاً، لأننا نكون قد فقدنا فرصة طيبة للتعرف على علاقة هذه القطعة بالوحدات الأثرية المتوضعة تحتها، أو بتلك المحيطة بها، ولكي نتمكن أيضاً من أخذ فكرة شاملة عن فترة السكن والاستقرار للجماعات، التي قطنت هذا الموقع، ولنتمكن أيضاً من تصويرها، ورفعها هندسياً، وبذلك نكون قد قمنا بعملية توثيقية تصويرية جيدة. ولنضرب مثالاً على ذلك؛ يحدث في المربع الواحد أن نعثر على لقى ومخلفات وبقايا مختلفة، ولنفرض أننا عثرنا على “فازا” من الفخار كبيرة الحجم بالنسبة لنوعها، وغالباً ما تكون هذه الآنية الكبيرة مخصصة للتخزين، ولنفترض أيضاً أنها وجدت في حالة مهشمة، نتيجة لسقوط جزء من السقف فوقها، وبالتأكيد يكون كسرها قد طمرتها أتربة السقف، ولو بشكل خفيف، ففي حالة قيامنا بترك هذه الأجزاء على حالتها الأصلية، وقمنا بالحفر في محيطها فقط، نكون بذلك قد قمنا بعملية حفر ممنهجة، وحصلنا على وضع طيب لهذه الحالة، وكذلك نكون قد حصلنا على صورة كاملة لهذه اللقية قرب مكانها الأصلي. وقد تم العثور على مجموعة من هذا النوع من الجرار، في كل من تل “البيعة” بمحاذاة أسوار مدينة “الرقة” القديمة، وتل “حمام التركمان” على “البليخ”، وبعض هذه الجرار رممت في الموقع وعرضت، وكانت معروضة في المتحف الوطني في “الرقة” قبل نهبه.

ثالثاً: يحرص المنقبون دائماً، على ترك ساتر خفيف من التراب كحماية حول أجزاء المبنى الخاضع لعملية التنقيب، حتى لحظة وصول المنقب في عمله إلى الطبقة التي كان يتوضع فوقها هذا البناء. لكن في حالة تركه نظيفاً ومكشوفاً هكذا، ثم استمررنا في الحفر عدة أيام للوصول إلى أساسات هذا الجدار، فمن الممكن أن نكون قد عرضنا هذا الأثر إلى الخطر، كأن يصيبه على سبيل المثال أحد عمال الحفرية الأثرية بضربة من معوله، أو أنّ العوامل الطقسية، من أمطار وثلوج تؤثر عليه وتخربه، ويتشوه منظره قبل أن نتمكن من الحصول على رؤية شاملة له.

هذه الحالة مؤذية للعمل، وبالتالي تجعلنا نفقد جزءاً كبيراً من المعلومات حول بنيته ومخططه، ونفقد أيضاً إمكانية تصويره، ورفعه هندسياً. أما في حالة كان هذا الجدار مغطى بطبقة من الجصّ، أو برسومات جدارية “فريسكات”، ففي هذه الحالة لابد وبالمطلق من أن نقوم بحمايته وحراسته حراسة مشددة، لسببين رئيسين، أولهما: كي لا تؤثر مياه الأمطار على أنواع الزخرفة وتؤذيها، وثانيهما حماية هذه الرسومات من عبث العابثين. الطبقة الترابية التي قلنا عنها أنها تحمي الجدار، لن ننزعها إلاّ في نهاية التنقيب، وفي اللحظة الأخيرة سنجعل سطح هذا الجدار مكشوفاً للقيام بأعمال التصوير والرفع الهندسي، وكافة أعمال التوثيق الأخرى. أما القطعة الأثرية، فإذا كانت ذات قيمة أثرية ومتحفية وفنية، فإننا حتماً سنقوم بنقلها إلى المعمل الفني لترميمها وعرضها في المتحف. إنّ وجود الطبقة الترابية حول أي أداة أثرية ضرورية جداً، ولا يمكن الاستغناء عنها إطلاقاً حتى نهاية العمل التنقيبي.

إذاً، وكما أسلفنا سابقاً، إنّ عملية الحماية تتألف من طبقة خفيفة من التراب أو الرمل، لأنّ أعمال التنقيب تجري أحياناً في بادية “الشام”، وفي دول الخليج، وفيما بعد تكون طبقة الحماية هذه سهلة النزع.

وهناك مجموعة من اللقى الأثرية التي تحتاج إلى معاملة خاصة لحظة استخراجها من الحفرية، مثال على ذلك: في عام /1989/ م كنا نقوم بالتنقيب الأثري في تل “حلاوة” على الضفة اليمنى لبحيرة سد “الفرات” غرب مدينة “الرقة”، وحدث أنّنا عثرنا على لوحة طينية غير مشوية عليها رسم يمثل قرص الشمس، في هذه الحالة قمنا بالرجوع إلى أحد الخبراء واستأنسنا برأيه قبل شروعنا باستخراجها، ثم إننا قمنا باستخراجها بترابها الذي يلفها كاملة، ووضعناها داخل كيس بلاستيكي أبيض ورفعت في غرفة الترميم. هذه العملية ساعدت كثيراً على أننا تجنّبنا خطر الرطوبة القاتل، والذي كان من الممكن تحويل هذه اللوحة إلى كومة من التراب. يستعمل المختصون في أعمال الحفر الأثري الدقيق أدوات دقيقة جداً مثل: “السكاكين”، و”المشارط”، و”الفراشي”، وأدوات دقيقة يستعملها طبيب الأسنان للتنظيف، هذه المواد تستعمل في حالة وجدنا أنفسنا أمام مواد هشة جداً، كالأخشاب، والعظام، والجلود، والزجاج الرقيق، والفخار الذي يصل في حالة صعبة للغاية، وفي مثل هذه الحالة الأخيرة يتم التعامل معها قبل استخراجها من الحفرية، لأنه حالياً بالإمكان التعامل مع اللقى التي تكون في حالة سيئة قبل استخراجها، وأحياناً يتم العثور على لقى يكون قد مضى على وجودها في تربة ملحية قروناً كثيرة، وبعد استخراجها وبسبب التغير الحاصل للشروط الكيميائية التي تحيط باللقية، فقد أخذت الأملاح المحيطة بها والتي بداخلها بالخروج إلى السطح، فتتلفها وتجعل منها قطعاً صغيرة وخاصة في قطع البرونز.

——

المراجع:

1ـ “رودريغو مارتين غالان”، “مناهج البحث الأثري ومشاكله”، ت: “خالد غنيم”، “بيسان للنشر والتوزيع والإعلام”، “بيروت”، لبنان /1998/م.

2ـ تقارير البعثات الأجنبية والوطنية العاملة في منطقة “الرقة” من عام /1980/ ولغاية عام /2007/م. متحف “الرقة” الوطني

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى