أبحاث ودراساتافتتاحية العددحميد المنصوريمانشيتملف العدد 61

منظومة أمنية شرق أوسطية بديلة للوجود الأمني الأمريكي

حميد المنصوري

حميد المنصوري

حميد المنصوري 
حميد المنصوري

يعتبر الشرق الأوسط الكبير منطقة لانشغال جيواستراتيجي أساسي للولايات المتحدة الأمريكية، فالشرق الأوسط الكبير يشمل دول شمال إفريقيا والمشرق (بما في ذلك تركيا وإسرائيل/فلسطين) ومنطقة الخليج العربي، وتمتد التأثيرات إلى مناطق على تخوم هذه الدول مثل القوقاز وآسيا الوسطى، والمنطقة تحمل تأثيراً كبيراً على الأمن والاستقرار الدوليين، واستمرار مكانة الولايات المتحدة كقوة عالمية[1]. ويمكن تحديد المصالح الأمريكية الرئيسية في الشرق الأوسط عبر الأهداف التالية[2]:

  • أمن إسرائيل وإتمام عملية السلام في الشرق الأوسط.
  • استمرار تدفق النفط للسوق العالمية.
  • منع بروز قوة إقليمية عدوانية للمصالح الأمريكية.
  • منع انتشار أسلحة الدمار الشامل.
  • تشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي بواسطة الاستقرار الداخلي.
  • السيطرة على الإرهاب.

وهذه الأهداف لها جوانب أمنية وعسكرية ولوجستية في القيادة المركزية للولايات المتحدة الأمريكية ((CENTCOM[3]، وبالنظر في وضع ومتغيرات الشرق الأوسط (المتمثلة في الاتفاقيات الإبراهيمية، واستمرار التهديدات الإيرانية، وتزايد الدول الفاشلة، وتنامي نشاط الجماعات الإرهابية، وانتقال إسرائيل من منطقة القيادة الأمريكية الأوروبية “EUCOM” إلى القيادة المركزية “CENTCOM”)، فكل هذه المتغيرات والتحديات تقود بنا إلى التساؤل عن إمكانية إقامة منظومة أمنية إقليمية شرق أوسطية مشتركة بين دول خليجية عربية وإسرائيل مع أطراف أخرى كتركيا وحكومة هولير-أربيل.

وعليه سنتطرق هنا بالتحليل إلى مدى إمكانية تحقيق هذه المنظومة في ظل المتغيرات والتطورات الإقليمية والدولية. ففي صدد هذا السؤال البحثي سنتناول البعد التاريخي للتعاون الأمني بين الدول الخليجية وإسرائيل، والدوافع والمقومات والتحديات في تشكيل منظومة أمنية شرق أوسطية مشتركة مع إسرائيل وأيضاً مع تركيا وحكومة هولير.

 

  1. البعد التاريخي للتعاون الأمني بين دول الخليج وإسرائيل:

يذكر بأن التعاون الأمني السري بين الجانبين “دول الخليج العربية وإسرائيل” قد بدأ من خلال بريطانيا في المنطقة بالدرجة الأساسية، حيث عملت بريطانيا على استخدام المساعدات من قبل إسرائيل في دعمها للنظام الملكي في اليمن[4] المدعوم من قبل السعودية والأردن واللتين تتشارك مع بريطانيا وإسرائيل في وقف المد الناصري الاشتراكي في المنطقة وفقاً لسياق ما عرف بالحرب الباردة العربية، والتي بدأت مع سقوط النظام الملكي العراقي في يوليو 1958 حتى وفاة الزعيم جمال عبد الناصر في عام 1970[5]. كما جاء تعاون آخر من خلال ثورة ظفار (1963-1975) في سلطنة عُمان[6]، والتي قدمت من خلالها إسرائيل عبر بريطانيا المساعدة والمشورة العسكرية لمواجهة الثوار، الذين كانوا ذوي توجه يساري، ويصف البروفسور كلايف جونز والدكتور يوئيل جوزانسكي هذه العلاقة بين عُمان وإسرائيل “بالحليف الزئبقي”، لأن الاتصالات المفتوحة بدأت بعد مؤتمر مدريد عام 1991[7]. وهذا التعاون ربما يبرر لنا سبب عدم مقاطعة سلطنة عُمان مصر بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد. وقد تكونت علاقة بين مسقط وتل أبيب في عام 1996 من خلال إنشاء منظمة MEDRC في الشرق الأوسط كجزء من عملية السلام، وهي منظمة دولية مكلفة بإيجاد حلول لندرة المياه العذبة والتنمية المستدامة، ومقرها مسقط، وكانت إسرائيل ومازالت أحد الأعضاء المؤسسين لهذه المنظمة[8]. ويذكر بأن السلطنة استقبلت في ديسمبر 1994 رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين في زيارة تاريخية لدعم عملية السلام، وأثارت هذه الزيارة ردود فعل عربية معارضة، وقد عقدت قمة عربية مصغرة في الإسكندرية في صدد هذه الزيارة[9]. وعندما اغتيل اسحاق رابين في نوفمبر 1995، قام وزير الشؤون الخارجية العُماني يوسف بن علوي بزيارة إسرائيل، وهي الزيارة الأولى العُمانية لحضور جنازة رابين[10]. وفي الفترة التي أعقبت تحرير الكويت، رفعت دولة الكويت المقاطعة عن الشركات التي تتعامل مع إسرائيل في يونيو 1993 وتبعتها في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي، وقد رحبت كلاً من إسرائيل والبيت الأبيض بقرار الكويت، بينما دعت الجامعة العربية متأثرة بقرار الكويت إلى مقاومة الضغوط الهادفة لوقف مقاطعة إسرائيل[11].

  1. الدوافع والمقومات في تكوين منظومة أمنية شرق أوسطية:

تعود فكرة إنشاء منظومة أمنية مشتركة في منطقة الشرق الأوسط حسب دوري غولد – السفير الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة- إلى عام 1996، فبعد اغتيال إسحاق رابين في 4 نوفمبر 1995 على يد متطرف بسبب الاتجاه نحو السلام مع الفلسطينيين، اقترحت حكومة بيريز آنذاك على واشنطن مجموعة عمل ثنائية لاختبار إمكانية إقامة تحالفات أمنية إقليمية لدعم عملية السلام، واتفق البلدان في يناير 1996 على إنشاءها[12]. وبعد هذه البداية حدثت متغيرات إقليمية ودولية خلقت بدورها دوافع ومقومات لإنشاء مثل هذه المنظومة، والتي نضعها في المحاور التالية:

  1. الاتفاقيات الإبراهيمية: وهي التي أتت بعد مرحلة من التعاون والتنسيق الأمني والسيبراني والسياسي بين بعض دول الخليج العربية وإسرائيل، وأدت إلى إقامة العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل ودولة الإمارات ومملكة البحرين. وجاءت إقامة هذه العلاقات مدفوعة بالدرجة الأساسية بهواجس أمنية متمثلة في:
    • التحوط من إمكانية تراجع الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط وتحمل مسئولياتها في الدفاع عن المنطقة، لذلك برزت مساعي من قبل دولة الإمارات والمملكة السعودية ومملكة البحرين وإسرائيل لملء الفراغ الجيوستراتيجي على أثر المخاوف من فك الولايات المتحدة ارتباطها بأمن الخليج والشرق الأوسط[13]. لذلك حدث تقارب أمني بين بعض دول المنطقة الخليجية وإسرائيل في هذا الخصوص.
    • احتواء الخطر الإيراني الذي يمثل تهديدًا للاستقرار الإقليمي[14]، والذي يمثل خطراً مشتركاً تتوافق حولهُ جميع دول مجلس التعاون الخليجي بدرجات متفاوتة مع إسرائيل، وبالأخص مع سيناريو تحول إيران إلى دولة خليجية نووية عسكرياً.
    • مواجهة تأثير الحركات الجهادية الإسلامية السياسية المتطرفة على أمن المنطقة، وبالأخص مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان الذي يحمل خطورة تحفيز مثل تلك الجماعات في إيران وآسيا الوسطى والعالم العربي.
    • وقف ظاهرة تزايد الدول الفاشلة في الشرق الأوسط، التي تعكس ضعف سلطة وشرعية الأنظمة السياسية في فرض الأمن الداخلي وتحقيق مستويات مقبولة من التنمية الشاملة، وهذه الدول الفاشلة تفرز حروباً داخلية وصراعات على السلطة مع انتشار الفقر والجريمة والانتهاكات الإنسانية والمخدرات والقرصنة والتطرف وغياب العدالة وأيضاً تدفق اللاجئين.
  2. الفعالية الإقليمية والدولية في مسار العلاقات مع إسرائيل:
    • العلاقات الإماراتية الإسرائيلية قبل التطبيع: فالتطور الكبير والمهم يمكن إرجاعهُ إلى مساعي وتحركات أبوظبي إلى تكوين علاقة قوية مع المشرعين والساسة من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي في واشنطن تزامناً مع تطور العلاقة بين الإمارات وإسرائيل عبر السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، حيث تم الاجتماع والتحدث مع اللواء عاموس جلعاد في عام 2008، وتم إقامة قناة تواصل بين وزارة الدفاع الإسرائيلية ونظيرتها الإماراتية حول المخاطر الإيرانية في المنطقة، وأيضاً إنشاء المكتب التجاري رسميًا في عام 2008. وترتب على ذلك نجاح الإمارات في الحصول على ثقة دولية عالية، والتي ساعدت أبوظبي في استضافتها لمقر منظمة إرينيا “الوكالة الدولية للطاقة المتجددة” التابعة للأمم المتحدة، وإقامة محطة نووية سلمية بترحيب ومشورة أمريكية بالتعاون مع كوريا الجنوبية. لذلك يمكن اجمال العلاقة بأنها كانت تسير في فعالية إقليمية ودولية باستثناء حالة التوتر المؤقتة التي حدثت جراء عملية اغتيال محمود المبحوح القيادي في حركة حماس في مدينة دبي في يناير 2010[15].
    • مسار العلاقات القطرية الإسرائيلية: تطورت علاقات قطر مع الولايات المتحدة وإسرائيل من إنشاء القاعدة العسكرية الأمريكية في منطقة العديد القطرية، واستضافتها القمة الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال لأفريقيا (MENA) في نوفمبر 1997، وفعالية الدوحة من وجود علاقات مع إسرائيل عبر القضية الفلسطينية في اندلاع انتفاضة 2000، ودعم إسرائيل لقطر في عضوية مجلس الأمن الدولي، وانجاح دورها الدبلوماسي على إنهاء حرب إسرائيل وحزب الله عبر قرار مجلس الأمن رقم 1701[16]. ورغم اغلاق المكتب التجاري الإسرائيلي في الدوحة 2009، بسبب حرب عزة، إلا أن العلاقات مستمرة في الزيارات والتجارة الغير مباشرة، وتبادل المصالح في إيصال الدعم القطري للحياة في قطاع غزة والذي يعكس دوراً إقليمياً ودولياً وإنسانياً، وعلى الجانب الآخر، تستطيع إسرائيل إدارة الصراع مع حماس ومع طهران الداعمة لها[17].
  3. استمرار تطور العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي وبين كل من الصين وروسيا، الأمر الذي يجعل قيام منظومة أمنية إقليمية في المنطقة أمراً مقبولاً لدى بكين وموسكو، اللتان ستدعمان قيام دول المنطقة بالعمل الجماعي الأمني المشترك على حماية أمنها واستقرارها من دون وجود تدخلات من قبل دول كبرى خارجية. وبالتالي فإن بكين وموسكو ستعتبران أن هذه المنظومة الأمنية لن تكون موجهة ضدهما.
  4. إمكانية انضمام تركيا إلى هذه المنظومة الأمنية المفترضة، فأنقرة تجمعها مع تل أبيب علاقات دبلوماسية، كما أن العلاقات بين الطرفين تحكمها المصالح البراجماتية في منطقة الشرق الأوسط، إلى جانب علاقة كلاهما مع واشنطن[18]. ولكن انضمام أنقرة لهذه المنظومة سيعكس تواصل وتداخل مع حلف الناتو، التي هي عضو فيه.
  5. أهمية وإمكانية انضمام حكومة هولير-أربيل إلى هذه المنظومة الأمنية، بينما توجد علاقات صراعية بين كل من تركيا وإيران وبين القضية الكردية وأطرافها المتعددة في منطقة الشرق الأوسط، فإن العلاقات الكردية مع إسرائيل متميزة من منتصف الستينيات، فقد بدأت العلاقة بين الأكراد وإسرائيل عبر شاه إيران في الستينيات، حيث كان الشاه يدعم الأكراد لإضعاف العراق في مسألة الخلاف الحدودي بين طهران وبغداد، وخوفاً من المد القومي العربي ودعم الشيوعيين في إيران[19]. لكن استمرت إسرائيل في دعم القضية والقومية الكردية وحقوقها التاريخية طوال الفترة منذ منتصف الستينيات حتى وقتنا المعاصر من منطلق ايجاد حلفاء لها في المنطقة، ومازالت تل أبيب تدعم القضية الكردية في المنطقة إلى جانب دعم حكومة أربيل-هولير حتى في الحصول على الاستقلال كدولة مستقلة عن العراق[20]. وعلى الجانب الآخر، فإن العلاقات الكردية مع دول مجلس التعاون الخليجي تأخذ مساراً من التطور في العلاقات الاقتصادية والثقافية والأمنية، فالحقيقة تقول مع الحقوق التاريخية والجغرافية للقومية الكردية فأن الوجود السياسي والأمني للأكراد يعتبر عاملاً مهماً في معادلة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، حيث يلعب الأكراد دوراً متزايداً في عدم وجود هيمنة إيرانية أو تركية على منطقة الشرق الأوسط، على سبيل المثال، نطرح هنا رؤية أمنية للقضية الكردية في أمن الخليج، ولتكن الكويت كنموذج، فالعلاقات الكويتية مع أربيل-هولير «كإقليم كردي معترف به إقليمياً ودولياً» يخدمها في جعل حكومة بغداد مقيدة في محددات أمنية وسياسية، كما أن كردستان في إطارها الفدرالي أو المستقلة مستقبلاً عن العراق يمنع ويضعف أي احتمال لتحالف بين طهران وبغداد ضد أمن الكويت وحتى السعودية، فكلاهما “الكويت والسعودية” يجاوران العراق وإيران، وفي إطار الصراع المذهبي نرى حكومة أربيل أقرب لدول مجلس التعاون الخليجي في دائرة السُنة، ومن خلال منظور الدول كحجم الدول وقوتها نرى دولاً صغيرة مثل الكويت والإمارات وقطر والبحرين وإسرائيل وحكومة أربيل-هولير وحتى سلطنة عُمان ممكن لها الحد من هيمنة الدول الكبيرة في الشرق الأوسط كالسعودية وإيران وتركيا[21].

 

  1. التحديات والمخاطر الإقليمية والدولية في تشكيل منظومة أمنية شرق أوسطية:
    1. إيران: الدولة المجاورة لجميع دول الخليج بحرياً، والعراق بحرياً وبرياً، تمتلك حضوراً جيوسياسياً مذهبياً في العراق واليمن-عبر الجماعة الحوثية- وسوريا ولبنان، وتنظر إلى الاتفاقيات الإبراهيمية باعتبارها تهديدًا خطيرًا[22]، خاصةً مع انضمام إسرائيل إلى القيادة الوسطى الأمريكية. وبالتالي يمكن الحديث عن أن إيران ستعتبر إنشاء مثل هذه المنظومة عملاً عدوانياً موجهاً ضدها، وعليه ستتخذ بعض الإجراءات والأعمال الردعية والتخريبية لمحاولة منع إقامتها أو انجاحها كالسير بشكل حثيث في مسار امتلاك القدرة النووية العسكرية باعتبارها القوة القادرة على تحقيق التوازن مع هذه المنظومة المتوقعة. علاوة على ذلك، يمكن لإيران أن تقوم ببعض الأعمال الاستفزازية والعدوانية على حقول النفط والغاز البحرية لدول الخليج علماً بأنها لم توقع اتفاقية ترسيم حدودها البحرية إلا مع سلطنة عُمان. ويضاف إلى ذلك، أنّ إيران قد تلجأ على تقديم مزيد من الدعم للجماعات العسكرية الموالية لها في المنطقة.
    2. إمكانية حدوث تقارب إيراني تركي موجه ضد هذه المنظومة المفترضة باعتبار أن الطرفين “الإيراني والتركي” قد يعتبران أن هذه المنظومة تهديداً لمصالحهما. فالطرفان تجمعهما تحييد القضية الكردية، ومنع وجود تكتل عربي أو شرق أوسطي ينافسهما على الأهمية الإقليمية.
    3. احتمال وجود معارضة مصرية موجهة ضد تشكيل منظومة أمنية نوعية متقدمة تتفوق على المنظومة المصرية التقليدية، والتي ستفقدها مكانتها الإقليمية. وهذا التحدي ليس جديداً، فقط طرحهُ السفير الإسرائيلي السابق في الأمم المتحدة (غولد) في 1996، والذي ذكر بأن مصر معارضة لمنظومة أمنية شرق أوسطية تفقدها مكانتها كقوة عسكرية وسياسية مهيمنة في العالم العربي، بدلاً من دخول نظام شرق أوسطي ستعتبرهُ القاهرة أداة للهيمنة الإقليمية الإسرائيلية (وربما التركية)[23].
    4. إمكانية بروز معارضة من داخل المنظومة الخليجية لإنشاء مثل هذه المنظومة الأمنية، فالكويت على سبيل المثال ربما تتزعم الموقف المتشدد تجاه الاعتراف والتعاون مع إسرائيل بسبب وجود تيارات سياسية شعبية قوية في الداخل الكويتي تعارض مثل هذا التوجه، والمتشبعة بالقومية العربية والتيارات الإسلامية والدعم للقضية الفلسطينية، مع تفرد الكويت بالصلاحيات التشريعية التي يحظى بها مجلس الأمة الكويتي. لذلك يرى الدكتور يوئيل جوزانسكي بأن موقف الكويت هو أحد المعوقات المؤثرة في مسار إمكانية التطبيع السعودي مع إسرائيل[24].
    5. السعودية: البعد الديني في السعودية بإمكانه أن يقف حائلاً دون التقدم في التقارب مع إسرائيل، خاصةً وإن إقامة منظومة تعاونية أمنية تتطلب جهداً معلناً وعلاقات قوية تصل إلى حد التبادل الدبلوماسي، والذي يصعب حدوثهُ في الحالة السعودية. ويترتب على هذا الأمر تعقيد فرص إمكانية إيجاد مثل هذه المنظومة. إلا أننا نجد العلاقة السعودية مع إسرائيل تندرج تحت إطار نظرية “أنظمة الأمن الضمنية”[25]، والتي تقوم على وجود تعاون في مجالات محددة بين الدول دون التصادم في مسائل وقضايا أخرى كالمرتبطة بالوضع الداخلي الشعبي ومعتقداتهِ، أو التأثير على طبيعة علاقاتها الدولية. على سبيل المثال، فإن الاتفاقيات الإبراهيمية أتت بمباركة سعودية، كما أن السعودية لها علاقات مباشرة لكن لم تصل إلى العلاقات الدبلوماسية الرسمية، فقد تواصلت الرياض مع تل أبيب في مسألة جزيرتي تيران وصنافير، حيث تم توقيع اتفاقية تحديد الحدود البحرية بين مصر والسعودية في عام 2016، والتي بموجبها تعود جزيرتي تيران وصنافير إلى السيادة السعودية على الرغم من وجود معارضة داخلية في مصر، فقد أعادت إسرائيل تيران وصنافير إلى مصر كجزء من اتفاق السلام، وطالبت إسرائيل بأن نقل ملكية وسيادة الجزر إلى الرياض يجب أن لا ينتهك اتفاقية السلام مع مصر، وسيكون للقاهرة حق النقض على ما يحدث في الجزر والحفاظ على اتفاقية السلام، مع إمكانية أن يقضي الإسرائيليون إجازة في الجزر، حيث سيتمكن حاملو جوازات السفر الإسرائيلية الذين يدخلون مصر عبر مطار طابا أو شرم الشيخ من قضاء بعض الوقت في الفنادق والكازينوهات التي تديرها الشركات السعودية على الجزر[26]. إضافة إلى ذلك، حدث تعاون سيبراني بين الرياض وتل أبيب، وذلك يعود لاجتماع سري حدث بينهما في قبرص 2017، أعقبهُ حصول شركةNSO Group الإسرائيلية المتخصصة في الاستخبارات الإلكترونية على إذن صريح من الحكومة الإسرائيلية لبيع برنامج بيغاسوس- Pegasus للتجسس إلى السعودية، وهناك دول لديها هذا البرنامج مثل الإمارات وأذربيجان والهند، ومن الأهمية بمكان ذكر بأن الرياض انقطعت مؤقتًا عن استخدام برنامج بيغاسوس في 2018، لعدة أشهر، بسبب مقتل الصحفي جمال خاشقجي، لكن سُمح لها بالبدء في استخدام برنامج التجسس مرة أخرى في عام 2019 بعد التدخل والدعم من الحكومة الإسرائيلية[27]. وفي مسار تطور العلاقة بين الطرفين، أعلنت الرياض فتح أجواءها حسب المواثيق الدولية في الملاحة الجوية في (15 يوليو/تموز 2022) في بادرة تحسب على تعزيز العلاقات العربية الإسرائيلية، وكان الإعلان قبيل ساعات من وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المملكة السعودية[28]، وهذا التطور حظي بترحيب كبير من قبل الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارهِ يمثل مؤشراً لتطبيع محتمل بين تل أبيب والرياض، التي تعتبر “جوهرة التاج” للاتفاقيات بين الدولة اليهودية والعالم العربي بعد أن قامت الإمارات والبحرين والمغرب والسودان بتطبيع العلاقات مع إسرائيل في عام 2020[29]، ناهيك عن أهمية الزيارات المتبادلة المستمرة المعلنة عبر مستوى الأفراد وغير المعلنة على مستوى الحكومات. رغم كل ذلك من العلاقات بين الطرفين، مازالت السعودية ذات القدرات الاقتصادية الكبيرة والبعد الجغرافي الاستراتيجي تخشى عواقب ومؤثرات إعلان علاقة رسمية مع إسرائيل بسبب هوية ودور السعودية في العالم الإسلامي بكونها تحتضن الأماكن المقدسة الإسلامية، لذا تشترط الرياض في إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل قيام دولة فلسطينية مستقلة.
    6. بينما تبدو عمُان وقطر تتجهان إلى التطبيع مع إسرائيل، إلا أن هناك مسألة مهمة وهي أن السياسة الخارجية العُمانية تفضل اتباع سياسة خارجية مستقلة غير منحازة لطرف ضد الآخر. فهي تحبذ دائماً إبقاء الخطوط مفتوحة مع الجميع وبالأخص مع إيران، التي تشترك معها في إدارة مضيق هرمز، وعليه فإن مسقط لن تتجه نحو إثارة غضب دولة بحجم إيران.
    7. تحتاج أية منظومة أمنية إلى توفر قناعة مشتركة لوحدة الخطر بين الدول المشتركة فيها، وهو الأمر غير المتوفر في الحالة الخليجية، حيث أنه ليست كل دول مجلس التعاون الخليجي متفقةً على درجة الخصومة أو العداوة مع إيران، فعلى سيل المثال، فإن قطر وعُمان تجدان في العلاقة مع إيران حالة من التوازن مقابل ثقل القوة السعودية في المنطقة الخليجية. وفي مسألة الخصومة والعداوة مع إيران، نجحت الصين مؤخراً في ارجاع العلاقات بين الرياض وطهران وتوقف التهديدات الإيرانية عبر الحوثيين على السعودية، فقد تم الترحيب بالاتفاق الذي توسطت فيه بكين “10/مارس/2023” لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران من قبل دول في الشرق الأوسط باستثناء إسرائيل، وبموجب الاتفاق ستتبادل الرياض وطهران السفراء في غضون شهرين، مع الامتناع عن التدخل في شؤون بعضهما البعض، وتنفيذ اتفاقيات 1998 و 2001 في مجالات الأمن والتجارة والاستثمار والعلوم، كذلك تعهد كلاهما بحل الخلافات من خلال الحوار، فربما ينهي هذا الاتفاق الطموحات الإسرائيلية لجر السعوديين إلى تحالف مناهض لإيران وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، حيث مازالت تشترط الرياض قيام دولة فلسطينية مستقلة مقابل إقامة علاقات دبلوماسية وقانونية مع تل أبيب[30].
  2. الخاتمة:

عند المقارنة بين المقومات والدوافع والتحديات في تشكيل منظومة أمنية مشتركة تجمع بعض الدول الخليجية العربية مع إسرائيل، نجد بأن النتيجة الأقرب إلى الواقع هو استمرار التنسيق الأمني بين بعض دول مجلس التعاون الخليجي وإسرائيل مع استمرار تطور العلاقات بين كل من دولة الإمارات والبحرين مع إسرائيل في جوانب متعددة من الشؤون الاستخباراتية والتدريب العسكري والاستثمار والتجارة والتقنيات الخاصة بالتنمية في المياه والزراعة والطبابة وأيضاً في الشؤون الثقافية، إلى جانب دعم مسارات الاعتماد المتبادل والتي أنشأت التعاون الأردني الإسرائيلي في المياه مقابل الطاقة الشمسية، فالأردن من الدولة القريبة جداً من قبول ودعم هذه المنظومة الأمنية. ويمكن تجاوز هذه التحديات التي ذكرناها عبر وجود ضغط أميركي على دول مجلس التعاون وخاصةً السعودية والكويت من منطلق رغبة واشنطن تشكيل منظومة أمنية شرق أوسطية تتولى وتأخذ مهامها في حماية المنطقة، والتي ستنسق وترتبط مع واشنطن في توفير وتزويد وتبادل القدرات العسكرية والأمنية والاستخباراتية، وهذا الضغط سينجح مع وجود ضغط آخر على تل أبيب في تحريك المفاوضات مع الطرف الفلسطيني وإقامة دولة فلسطينية مستقلة مما يضعف المبرر الإيراني في الاستمرار في دعم المقاومة الفلسطينية، ويسهل فرص انضمام دولة بحجم السعودية، وأيضاً يجعل اِلتحاق الكويت إلى هذه المنظومة ممكناً. ومن الأهمية ذكر بأن فرص انضمام حكومة هولير-أربيل كبيرة بسبب طبيعة ومسار العلاقات الكردية الإسرائيلية، كذلك تطور العلاقات بين معظم دول مجلس التعاون الخليجي وحكومة أربيل-هولير مع الاهتمام بالقضية الكردية وحقوقها في سوريا وإيران وتركيا، ولعل تركيا وإيران سوف ينظران لهذه المنظومة بأنها ستقوض فرص هيمنتهما على منطقة الشرق الأوسط، لأن هذه المنظومة المقترحة ستتيح إطاراً لزيادة فعالية دول صغيرة مهمة خاصةً إسرائيل والإمارات وقطر إلى جانب حكومة أربيل-هولير.

ومن منطلقات كون البيئة الأمنية الإقليمية تعتبر أساساً لتحقيق الاستقرار المرتبط بالتنمية الشاملة، فلابد من إيجاد قاعدة أمنية وسياسية وثقافية واقتصادية مشتركة في هذه المنظومة المفترض قيامها، بحيث تتجاوز الخطر الإيراني، فقد يحدث انهيار مفاجئ لنظام ملالي إيران لأنهُ فاقد لشرعية البقاء والاستمرار لدى مختلف الهويات الاجتماعية المكونة للشعب الإيراني مع الوهن الاقتصادي وغياب العدالة، لذا هذه المنظومة المقترحة يجب عليها ربط أهدافها الأمنية بتحقيق السلام والاستقرار والتنمية الشاملة والاعتماد المتبادل بين دول وحكومات وشعوب الشرق الأوسط، والتي حتماً ستحتاج إلى دعم ومساندة حقوق القوميات في الشرق الأوسط في أخذ حقوقها السياسية والقانونية والاقتصادية في شكل دول أو أنظمة فدرالية أو كونفدرالية.

———————-

الهوامش

[1]– Ian O. Lesser, Bruce R Nardulli, and Lory A. Arghaven, ”Sources of Conflict in The Greater Middle East”, (Edited) Zalmay Khalilzad and Ion O Lesser, Sources of Conflict in the 21st Century: Regional Futures and U.S. Strategy,`RAND, 1998, p. 171.

[2]– Ibid, p. 172.

[3] – U.S. Central Command. https://bit.ly/40KixDU

[4] Asher Orkaby, “Rivals with Benefits: Israel and Saudi Arabia’s Secret History of Cooperation.” Foreign Affairs, March 13, 2015.

[5]– يعود المصطلح السياسي الحرب العربية الباردة إلى مالكوم كير، وهو صاحب كتاب في هذا الموضوع، انظر:

Malcolm H. Kerr. The Arab Cold War: Gamal Abd al Nasir and His Rivals, 1958-1970.

[6]– حول  ثورة ظفار انظر:

– رياض الريس، ظفار الصراع السياسي والعسكري في الخليج العربي، لبنان، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى، 1976، ص 83 -111.

– فريد هاليداي، الصراع السياسي في شبه الجزيرة العربية، ترجمة محمد الرميحي، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2008، ص 370-420.

[7]– Clive Jones and Yoel Guzansky, Fraternal Enemies Israel and the Gulf Monarchies, (Oxford: Oxford University Press, 2019), p. 49.

 

[8] – Sigurd Neubauer, The Gulf Region and Israel: Old Struggles, New Alliances, (New York: Kodesh Press, 2020), pp. 128-140.

[9]– عبد الجليل زيد مرهون، أمن الخليج بعد الحرب الباردة، بيروت: دار النهار للنشر،1997،  ص 289-290

[10]– Sigurd Neubauer, Ibid, p130

[11]–مرجع سابق، عبدالجليل زيد مرهون، ص294-295.

[12] – Dore Gold, ”Israel and the Gulf: New Security Frameworks for the Middle East”, Washington Institute: Nov 1, 1996.

 

[13] Steven Simon, ”Israel and the Persian Gulf: A Source of Security or Conflict?,” QUINCY Institute For Responsible Statecraft, June 30, 2021. https://bit.ly/3DVaURu

[14]–  Steven Simon, Ibid.

[15]– انظر في مسار العلاقات بين إسرائيل والإمارات:

Sigurd Neubauer, Ibid, pp 83-89.

[16] – في مسار العلاقة القطرية الإسرائيلية انظر:

.Sigurd Neubauer, Ibid, pp. 107- 126

[17] – Yoel Guzansky,” The Gulf  States, Israel, and Hamas.”, 2017, Tel Aviv: Institute for National Security, pp. 160-163.

[18]– في العلاقات التركية الإسرائيلية، انظر:

حميد المنصوري، البراجماتية في العلاقات التركية الإسرائيلية، 02-06-2016، العربية. https://bit.ly/44PRrNY

[19]– Trita Parsi, ”Treacherous Alliance: The Secret Dealings Of Israel, Iran, and The U.S.”,( Yale University press, 2007), p 20-28..

[20] – Hogr Tarkhani,”Strengthening relations between Israel and Iraqi Kurdistan, By HOGR TARKHANI”, JUNE 12, 2021, The Jerusalem Post. https://bit.ly/41JxCoV

[21] – حميد المنصوري، “أمن الخليج والقضية الكردية”،15 -05-2017، جريدة الاتحاد الإماراتية. https://bit.ly/3nQLsaU

[22] – Steven Simon, Ibid.

[23] – Dore Gold, Ibid.

[24]  – Yoel Guzansky, ”The Last Gulf State to Normalize Relations with Israel”, 14/07/2022, iNNS The Institute for National Security Studies, Innovative, Policy-Oriented Research. 14/07/2022. https://bit.ly/3YF8r5p

[25] – Clive Jones and Yoel Guzansky, Ibid, pp 10-26.

[26] – Israelis could soon be able to visit Saudi islands of Tiran and Sanafir, report, 24/01/2023, i24news. https://bit.ly/3MgH8ez

[27] -Stephanie Kirchgaessner, Oliver Holmes and Shaun Walker, ”Pegasus project turns spotlight on spyware firm NSO’s ties to Israeli state”, 20/07/2021, The Guardian. https://bit.ly/3nT5yRX

[28] – السعودية تفتح أجواءها لجميع الناقلات الجوية في بادرة تجاه إسرائيل، 15-07-2022، DW News. https://bit.ly/454fhWq

[29] – Kyle Blaine and Eliza Mackintosh, ”Saudi Arabia opens airspace to Israeli flights”, 15/07/2022, CNN. https://cnn.it/3W2LU2E

[30] – Michael Jansen, ”Saudi Arabia-Iran deal could be a game-changer: The deal could end Israeli ambitions to draw the Saudis into an anti-Iran alliance”, 13/03/2023, The Irish Times. https://bit.ly/42PbOZE

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى