افتتاحية العددملف العدد 53

النظريات الدينية وتأثيرها على الفكر الشرقي

هيوا أحمد

 النظريات الدينية وتأثيرها على الفكر الشرقي

هيوا أحمد

 

مخطط البحث:

1ـ مدخل عام إلى مفهوم المعتقد الديني

2ـ لمحة عن بعض الصفات المشتركة في المعتقدات القديمة

وندرس فيها ـ الرهبة تجاه المقدَّس

ـ تداخل الطقوس مع الأساطير

ـ الأرواح ما بين العبادة والرهبة

ـ القرابين وطقوس التطهير

ـ الطوطمية

ـ الإله الأعلى ـ آلهة السماء

3ـ بعض الديانات الشرقية القديمة

وندرس فيها ـ بلاد ما بين النهرين

ـ معتقدات مصر القديمة

4ـ الديانات التوحيدية

5ـ أثر النظريات الدينية على الفكر الشرقي

6ـ خاتمة

 

مدخل إلى المعتقدات الدينية

تقترن الحياة الإنسانية بمجموعة من الروادع الدينية والأخلاقية، إلى جانب الضمير والترغيب والترهيب في كثير من الأحيان، وقد تلتقي تلك الروادع في وقت واحد مجتمعة أو تكون منفردة لدى الإنسان، ولعلّ الوازع الديني يبقى أقوى تلك الروادع أمام بني الإنسان، نظراً للقدسية التي منحها إياه الإنسان نفسه، لذا فإن الملاحظ هو أن الوازع الديني كان الأقوى وما يزال، في الردع والكبح والتعبئة والتحكم فيما يتعلق بالإنسان العاقل السويّ، وإذا أما أخذنا بفرضية أن الحسّ الديني جزء أساسي في تكوين الإنسان وكينونته، وأنه موجود بالفطرة لدى جميع البشر، ولكن بدرجات متفاوتة تبعاً للبيئة الاجتماعية وقوة المسائل الروحية السائدة والمستويات الثقافية والطبيعة الفردية للإنسان، إلا أنه قد يكون مخفياً بل مطموراً عند أولئك الذين يمانعون في ظهوره إلى الوجود و يجحدونه، أو قد يكون عارماً طاغياً مسيطراً عند الصوفي الذي يرى الفعل الإلهي في كل حركة في الكون من حبة الرمل إلى نجوم السماء.

وإذا كان “أرسطو” قد عرّف الإنسان بأنه حيوان ناطق أي إنه مفكر إلا أن غيره من الفلاسفة عرّفه على أنه حيوان متديّن، فذهب “هيغل” إلى أن الإنسان وحده يمكن أن يكون له دين دون باقي الحيوانات، التي تفتقر إلى الدين بمقدار ما تفتقر إلى القانون والأخلاق، ذلك أن التديّن كما أسلفنا عنصر أساسي في تكوين الإنسان.

ويذهب بعض المتصوّفة في الإسلام، مثل الجنيد وابن عطاء الله السكندري إلى القول إنّ الإيمان فطريّ في النفس البشرية، شأنه في ذلك شأن العقل تماماً، وهذه النفس سابقة في وجودها على البدن، وأن البدن هو الذي حجب الإيمان ومنع ظهوره، وأطلقوا على فكرتهم هذه “الميثاق الأعظم”، وكان ابن سينا أيضاً من المتكلمين عن النفس واستقلالها عن البدن. ولكن تفسير الحسّ الديني قد خضع لنفس التطور الذي خضع له الإنسان بجميع جوانبه، ولذلك مرّ هذا الحسّ بمراحل كثيرة تبعاً للإطار الثقافي الذي نشأ فيه، وربما هذا ما يفسر كثرة الديانات منذ أن وُجد الإنسان على الأرض، بدءاً بالأساطير والخرافات والشعوذة حتى مرحلة ظهور الديانات البشرية ومن ثم الديانات السماوية.

إن دراسة الديانات والمعتقدات على علاقة وطيدة بمعرفة سلوك البشر في مختلف العصور التي عاشها والكشف عن طبائع الشعوب والأمم، وهذا ما دفع الإنسان منذ القِدم بكل رغبة وفضول إلى دراسة المعتقدات والبحث فيها وحتى يومنا هذا.

إذاً الديانات مرتبطة بالإنسان منذ نشأته الأولى، وخاضعة لتطوّره عبر تاريخه الطويل، بمعنى أنّ كل المراحل التي خضع لها التطور البشري يمكن إسقاطها على المعتقدات والديانات أيضاً، فالإنسان لم يُخلق دفعة واحدة على هيئته الحالية لا من حيث الشكل ولا من حيث المعرفة، ومن ناحية كل ما يتعلق بالتطور البيولوجي والفكري على السواء، وإذا كان الإنسان قد بدأ بما يسمى المرحلة البدائية “الإنسان البدائي” فإن ذلك ينسحب حكماً على معتقداته التي ستكون “معتقدات بدائية”.

إن مفهوم البدائية في علم الأنتروبولوجيا “علم الوجود الإنساني” مرتبط بشكل وثيق بمفهوم “الارتقائية” أو “التطورية”، و مفهوم التطورية قد نشأ و ظهر في أواسط القرن التاسع عشر للإشارة إلى النظريات البيولوجية والأنتروبولوجية التي ظهرت في ذلك الوقت، وكانت الغاية منها تقسيم الظواهر الاجتماعية و البيولوجية على أساس أنها ارتقاء عمودي من الأدنى إلى الأعلى، بحيث يؤدي بالنتيجة المستوى الأدنى السابق أو القديم إلى شكل لاحق أو جديد أرقى وأعلى، لا شكّ أن ظهور كتاب “داروين” في أصل الأنواع قد أحدث ثورة في علم البيولوجيا والتطور، وكان الفيلسوف الإنكليزي “هربرت سبنسر” قد تحدث قبل ذلك عن التطور وأنه المبدأ الذي يحكم التغير على كل صعيد، و قد ورد ذلك من خلال مقالته (التطور و قوانينه” حيث قال فيها: “إن التحرك قِدماً من البسيط إلى المركب عبر عملية متسلسلة من التمايز والتتابع، هو شأن أكيد يمكن ملاحظته في تطور الإنسانية، و في تطورها ما لا يحصى من النواتج الفكرية و المادية للنشاط الإنساني”.

إن سبب نظرتنا إلى كل ما هو قديم على أنه الأدنى في سلم التطور، وأن كل ما هو حديث هو الأرقى و الأعلى على هذا السلم التطوري الصاعد، يعود إلى نظرية “داروين” في أصل الأنواع، لأن المفهوم التطوّري قد دخل إلى صلب تقكير الإنسان الحديث و نظرته إلى الأمور بعد تلك النظرية، و حكماً قادت هذه الفكرة مع الزمن على الحكم بما هو أدنى بالتدنّي، وعلى ما هو أعلى بالرقي والسمو والتطور، وقد توسع مفهوم التدني ليشمل الانحطاط والدونية من النواحي العقلية والخلقية والاجتماعية، وحتى من الناحية الطبيعية، إذ أنّ شجرة التطور لنسب الإنسان وفق نظرية “داروين” تقوم على الرسوم البيانية النشوئية الخاصة بتطور الإنسان، حيث تُرسم الأشكال الأقدم في الجزء الأدنى من الشجرة، وتُرسم الأشكال الأحدث في الجزء الأعلى، وهكذا حتى المجموعات البشرية الأحدث التي تقع في أعلى الشجرة، والتي تُعتبر الأرقى والأسمى، لذلك تجد أن الإنسان الأوربي الحديث الأبيض يعتلي الشجرة كآخر وأعلى فروع الرسم على شجرة تطور النسب تلك بينما تظهر الأجناس الأخرى في الأدنى، وهي تتفرّع من المناطق الدنيا الأكثر قِدماً، لذلك تجد إنساناً في أدنى رسم الشجرة مثل الإنسان الأسترالي الأصلي. طبعاً هذا التصنيف عائد إلى شجرة داروين في تصنيف الأنواع البشرية.

لقد قادت المفاهيم التطورية بالنتيجة إلى ابتكار وإحداث مصطلح “البدائي أو البدائية”، وعلى ذلك اعتُبر الإنسان البدائي هو ذلك الإنسان الذي عاش في بداية مرحلة النشوء والارتقاء، مثل إنسان القبائل البدائية، ومن هنا خرج الحديث عن إنسان بدائي يرافقه دين بدائي وأخلاق بدائية وتجمعات إنسانية بدائية على شكل مؤسسات بدائية، وبالتالي سوف يُطبّق عليها الحكم القيمي الذي يعتبر كل ما هو بدائي حالة متدنية كما أشرنا سابقاً، وسيحجز ذلك الإنسان البدائي الفروع السفلى من شجرة التطور.

لكن السؤال المطروح هنا: هل هذا الحكم القيمي بهذه الصورة حكم عادل ودقيق؟ إن الأدوات القديمة هي لا شكّ بدائية مقارنةً مع الأدوات العصرية الحديثة، بالتالي لا أحد ينكر أن تلك الأدوات القديمة ستأتي في الدرجات الدنيا من السلم الارتقائي الصاعد لتطور الأدوات والوسائل، مثل السهم والرمح والسكين وأدوات الحراثة والزراعة والصيد وغير ذلك، لكن كيف لنا أن نحكم بأنّ الأحكام الاستبدادية التي سادت في الحضارات الكبرى الحديثة نسبياً بالنظر إلى سلالم تطور المجتمعات أنها أكثر تطوراً و ارتقاء من الحكم القبلي القديم القائم على العدالة و المساواة بين أفراد القبيلة الواحدة إضافة إلى تمتعهم بحريتهم؟ وكيف للإنسان السويّ ذي الفطرة السليمة أن يقتنع بأن العلاقات الإنسانية في ظل المدنية الحديثة القائمة على التنافس والحروب هي أكثر تطوراً ورقيّاً من العلاقات البدائية القائمة على المشاركة والتعاون والتقاسم العادل؟ ثم إن الأديان المتأخرة في نشوئها أو نزولها والتي لم تتوانَ هي الأخرى في قرع طبول الحروب ضد الشعوب الأخرى التي لم تنضوِ تحت لوائها ولم تستظلّ تحت رايتها، هل هي الأخرى أكثر تطوراً وإنسانية من الأديان البدائية التي كانت تتّسم بالتسامح مع جميع المعتقدات الأخرى حتى وإن كانت مختلفة معها؟ وهل يستطيع أحد أن ينكر أن ابن البداوة في رماله وابن الأسكيمو في جليده هما أكثر وفاء وصدقاً وتعاوناً وإخلاصاً من أبناء أكثر المجتمعات الحديثة المتمدنة؟

من المهم أن تعترف الإنسانية الحديثة التي فرضت نفسها في أعلى فروع شجرة التطور “الداروينية” بخطأ ذلك التصنيف المجحف، بحق البدائي والقديم في مجالات كثيرة جداً، إن لم نقل كلها، فالمجتمعات القديمة لم تكن مرحلة طفولية أو عالة على البشرية، ولم تكن أيضاً انحرافاً فجّاً أو وصمة عار على جبين البشرية عبر مراحل تطورها، ولم تكن كذلك سدّاً مانعاً أمام ما يسمى بالسلم الارتقائي الصاعد كما يدّعون، وعلى ذلك فإنّ الإنسان القديم الذي ابتدع أجمل الفنون والهندسات التي مازالت شاهدة على العصر، وتُصنّف إلى الآن على أنها من عجائب الدنيا، ليس قاصراً عن أن يبتدع دياناته ومعتقداته التي تصونه وتضمن له حريته وعدالته وإنسانيته كما ينبغي، لأنه من الخطأ الجسيم الارتكاز على نواحٍ غير متطورة في الإنسان والثقافات القديمة مثل التكنولوجيا والاقتصاد والفيزياء والطب ثم استخلاص تعميم يفترض أن باقي نواحي وجوانب حياة تلك الثقافات هي الأخرى غير متطورة بالمقدار ذاته.

 

بعض الخصائص المشتركة في المعتقدات والديانات البدائية

قد يصعب الثبات على خصائص جامعة للديانات البدائية من الوهلة الأولى، وذلك نظراً لتنوع المشهد الديني عند الشعوب البدائية بتنوع أنماط الحياة والثقافات التي عاشت لدى تلك الأقوام، لأن كل ديانة تقوم على تصورات فكرية وممارسات طقسية خاصة بها، من هنا تبدو صعوبة التعميم، إلا أنه مهما يكن التنوع طاغياً فإنه يمكن الركون إلى استخلاص سمات دينية متشابهة للأقوام البدائية جمعاء، والثبات على مظاهر وطقوس مشتركة لممارساتهم الدينية.

 

1ـ الرهبة تجاه المقدَّس

تفرض القداسة نفسها كأولى السمات للدلالة على الحالة الدينية لدى الجماعات والأقوام البدائية، ونظرة التقديس تلك تجمع بين الاحترام والرهبة والحذر معاً مهما كان الشيء المقدَّس، إن كان إنساناً أو مكاناً أو ظاهرة طبيعية، فالمقدَّس يحمل الوعد بالبركة والفوز والنجاة، وله قوة خارقة تُحيي وتميت معاً، إضافة إلى امتلاكه قوة الخير وقوّة الشر بشكل مباشر، والمهم هنا موقف الفرد تجاه المقدَّس، لأن هذا الموقف هو الذي سيتحدّد عليه ما سيصدر عن المقدَّس من خير أو شر، من فرج أو ابتلاء، من سعادة أو شقاء.

لكن الغريب في الأمر هو أن المتعاملين مع المقدَّس والممتثلين لأمره من النادر ألّا يُصابوا بضرر، لأن التعامل مع المقدسات يتطلب التقوى والخشوع والشعور بالرهبة والتبجيل والتعظيم، وقد لا تتوفر تلك المتطلبات بالشكل الصحيح في كل حين، ولدى كل فرد أو جماعة.

2ـ تداخل الطقوس مع الأساطير

لكل من الطقس والأسطورة جذورٌ في الآخر، فهما وجهان لعملة واحدة، وقلّما نجد شعباً لا يمتّ بصلة إلى الأساطير أو الطقوس. لقد نسج الإنسان الأساطيرَ من وحي الخيال وأعطى بذلك سمة عالمية للجنس البشري، ولا توجد أمة بشرية بريئة من ذلك. إن الدافع وراء خلق الأساطير يعود إلى الطقوس نفسها، فعندما وجد البدائيون أنفسهم يمارسون طقوساً معينة و يتّبعون عادات بعينها و بشكل متواتر و منتظم، لكن دون إدراك فعلي لمعانيها، لم يجدوا جواباً مقنعاً إلا أن يقولوا إن آباءنا وأجدادنا علّمونا أن نقوم بذلك، وإننا على نهجهم سائرون، وعندما يصبح القول غير مقنع حتى لقائله، سيدفعه هذا إلى البحث عمّا يفسر تلك الطقوس والعادات، فغاصوا في الزمن البعيد ينسجون الأساطير إلى ما قبل الآباء والأجداد الحاضرين في الذاكرة، وصولاً إلى أسلافهم الأسطوريين، وهم الأبطال الذين رُسمت صورهم في المخيلة على أنهم أبطال بداية الخلق و العالم، أو ربما يجري التفكير في البحث عن إله أعلى يُرمى على ظهره كل شيء بوصفه الخالق، وواضع طريقة الحياة وكيفية العيش.

بالنتيجة تعود الأساطير برمّتها إلى الموروث الميثولوجي للجماعات البدائية، وأساطير الخلق والكون تأخذ الحيّز الأوسع من ذلك الموروث، لكن تبقى الأسباب التي دفعتهم إلى تداولها وتناقلها بكثرة تخمينية، وغير جازمة، فمن الأسباب التي تطرح نفسها وبقوة؛ هي الحاجة إلى تفسير كيفية تحول الأرض التي نعيش عليها إلى مكان آمن وصالح للحياة والسكنى، وهنا تتعدد الروايات في هذا الصدد: فربما قام الإله الأعلى أو بطل من أبطال بداية الخلق في الأزمان الأولى بالغوص في أعماق المياه الأولى، ثم اغترف منها قبضة من الرمل، وصنع منها الأرض بالشروط الصالحة والمهيئة للحياة، أو ربما فصل بقوته الخارقة بين الأب السماء والأم الأرض الملتصقين ببعضهما من أجل خلق فسحة أو إيجاد مكان لحركة الآلهة والبشر وبقية الكائنات وأشكال الحياة التي أنجبها الزوجان البدائيان الأرض والسماء، أو ربما أخرج هذه الكائنات والمخلوقات من كهف عميق  يقع في إعماق الأرض، أو ربما خاض ذلك الإله الأعلى أو البطل الأسطوري معارك ضارية مع العمالقة من أجل تأمين المواد اللازمة لتهيئة العيش لمخلوقاته.

تبقى الأغلبية من الأساطير عبارة عن تعبير فانتازي أشبه بالأحلام أو برموز تعبيرية محمّلة بالمعاني، لكنّها عندما تُتلى بشكل متكرّر فإنها تساعد على تحرير الضغوطات وتعمل على التنفيس عن خبايا النفس المكبوتة، وقد يكون هذا أحد الأسباب المهمة في تكوين الميثولوجيا. وهناك نوع آخر من الأساطير تستند على حدث حقيقي وقع عبر التاريخ، وتقوم هذه الأساطير شبه التاريخية على التوسع في حدث واقعي يدور حول شخصية بطولية مميزة بحيث تتحول تلك الشخصية إلى حكاية عجيبة ويتجلّى فيها البطل محاطاً بهالة سحرية ودينية تشع منها القداسة.

3 ـ الأرواح ما بين العبادة والرهبة

ساد اعتقاد عام بين الأقوام البدائية أن جميع الأشياء المدرَكة سواء كانت متحركة أم ساكنة لها أرواح، و أن روح الإنسان تغادره بشكل مؤقت أثناء الأحلام و بشكل نهائي عند الموت، وهنا لابد من التمييز بين مصطلحي ” الأرواحية و المانا”، فالأرواحية تعني تصوّر الأرواح بشكل تشخيصي على هيئة إنسانية لها إرادة وعقل وشعور، بينما ال (مانا Mana) تدل بحسب الأنتروبولوجيين المحدثين على قوة سحرية فوق طبيعانية قائمة بذاتها تسري في مظاهر الكون والطبيعة بمعزل عن الشخصيات و الأرواح، أي حضور قوة خفية طاغية تعمل بذاتها في الأشياء،  ويعود هذا المصلح إلى ثقافة شعب “ميلانيزيا” في جزر المحيط الهادي شمال شرق أستراليا، حيث تتمتع تلك الجزر وشعوبها بمجموعة متميزة و متنوعة من الأساطير والآلهة والثقافات المختلفة، و منها جزر سليمان في ميناليزيا. وبشكل عام هنالك حقيقة جوهرية عند البدائيين حول مفهوم العالم، فهم ينظرون إلى الطبيعة على أنها بمجملها مسكونة ومليئة ومتخللة بالمخلوقات الروحية، ويُقال كذلك إنّ الإنسان منذ نشأته قد عبد بالفعل كل شيء لمحه أو استطاع التفكير به على الأرض أو في السماء، ولكن عبادته تلك لم تكن اعتباطية بالنسبة للمعبود، فالأشياء المقدّسة المعبودة إما أن تُعبد لذاتها باعتبارها ملموسة وفاعلة ومشبعة بالحياة، وإما أن تُعبد بسبب الروح التي تحل فيها وتسكنها.

إن العبادة كانت تتصدر الطقوس حيال نظرة واعتقاد البدائيين للأرواح، وبدرجة أقل كان الأمر ينطوي على الرهبة والحذر والتبجيل والتقديس، لكن من الصعوبة بمكان معرفة حدود كل من العبادة والرهبة؛ أي معرفة أين تنتهي العبادة وتبدأ الرهبة وبالعكس.

 

4ـ القرابين وطقوس التطهير

القربان هو نقل شيء حيّ أو جامد من ملكية البشر إلى ملكية القوى الروحية أو الإلهية على شكل هبة أو عطيّة أو هدية، أو يمكن القول بعبارة أخرى هو إفناء شيء حيّ أو جامد في سبيل تلك القوى بقصد التكفير عن سوء الأفعال أملاً في إرضائها. ويلجأ البدائي إلى تقديم القرابين عندما يشعر أن القوى تتصرف بشكل غير طبيعي وغير اعتيادي وتميل إلى الاضطراب، فيتولد لديه شعور أنه ارتكب ذنوباً أو أتى أفعالاً أغضبت القوى الروحية، والقرابين هي الكفيلة بمسح خطاياه وآثامه على حدّ اعتقاده.

وطقوس التطهير تكاد تكون مشابهة للقرابين من حيث الهدف والغاية، فعند انتهاك محرمات التابو من قبل الفرد أو الجماعة سيتبع ذلك غضب القوى وانتقامها، وبالإضافة إلى الخوف من عواقب تجاوز حدود التابو وانتهاك المحرمات، وتوقّع إمكانية تعرّض الفرد أو الجماعة للخطر والانتقام، فإن انتهاك تلك الحدود يولّد شعوراً بالذنب والإثم والدنس، ويبقى الفرد الذي وقع في المحظور منبوذاً ما يستوجب التطهير من دنسه أو أن يواجه عقوبة الموت المحتوم. وتأخذ طقوس التطهير مظاهر شتى، منها الصيام والقفز فوق النار أو المرور من خلالها، وحلاقة الشعر وقصّ الأظافر والزحف من خلال الدخان والغسل بالماء أو الدم، وجرح أجزاء من الجسم لطرد الشرّ والدنس من خلال الدم الخارج.

وهناك مظهر آخر من طقوس التطهير خاصة بالكُهّان قبل أداء الطقوس المتوجبة عليهم، وقد تكون هذه الطقوس بالصراخ أو الامتناع عن الجنس لفترة محددة قبل ممارسة الطقس أو الغسل. ومن المعلوم أن الكهانة هي إحدى الطرق المهمة للعبادة وأن الكاهن يُعتبر من الشخصيات المركزية في الحياة الدينية، ومن مظاهر الكهانة أنها تختصر الصلاة أو تقفز من فوقها للوصول إلى الآلهة  بشكل مباشر إما باستخدام الوحي أو باستخدام وسائط روحانية كما كان الحال عند كهنة الفراعنة، والحال نفسها عند كهنة الإغريق، مثل “بلوطات دودونا” التي كانت تهمس ناطقة بكلمات زويوس، إذ يوجد أحد هياكل زويوس الشهيرة في مقاطعة دودونا شمال غرب اليونان في أيكة من شجر البلوط، ويعتقد الناس هناك أن زويوس يتكلم ويهمس عبر حفيف أوراق البلوط، أو عرّافة  معبد دلفي التي كانت تهمس بوحي أبولو، و “دلفي” مدينة في مقاطعة فوكيس اليونانية، و”بيثيا” لقب يُطلق على أية راهبة في المعبد، و بيثيا باليونانية تعني الوسيط الروحي و كاهنة الإله أبولو.

ومن المظاهر الأخرى للكهانة القدرة على قراءة البشائر واستشعار الغيب من خلال الأحلام والرؤى وحركة الطيور في السماء وصوت الرعد وعلامات النجوم والكسوف وغيرها من الظواهر الفلكية.

 

5ـ الطوطمية

الطوطمية ديانة قديمة مركبة من رموز وطقوس وأفكار تعتمد على خلق علاقة بين جماعة إنسانية وموضوع طبيعي يسمى الطوطم، ويمكن أن يكون الطوطم طائراً أو حيواناً أو نباتاً أو ظاهرة طبيعية مع اعتقاد الجماعة الارتباط به روحياً. أما كلمة طوطم فمأخوذة من لغة شعب “الأوجيبوي” وهي قبيلة ألونكوينية من قبائل أمريكا الأصلية، وتعني صنفاً أو نوع الشيء الذي تحمل العشيرة اسمه أو تتخذه رمزاً وشعاراً لها.

والطوطم في معجم المعاني ورد بالعبارة الآتية: “أسرة أو عشيرة يجمع ما بين أفرادها طوطم مشترك ـ رمز مقدّس كحيوان أو نبات يُتّخذ رمزاً للأسرة أو العشيرة، فالطوطم وثن يمثل هذا الشي”. أو يمكن أن يكون أي كيان أو مجسّم يمثل الرمز المقدّس الذي اتخذته القبيلة لنفسها، وعلى ذلك يمكننا تعريف الطوطمية بعبارة أخرى أنها “إيمان بوجود صلة خفيّة بين أشخاص أو جماعة وطوطم ما”.

وكانت الطوطمية موجودة عند عرب الجاهلية إذ كان لكل قبيلة صنم خاص بها على صورة حيوان أو نصف إنسان، وهو عادةً شيء مادّي مرسوم أو مجسّم، وقد يكون حيواناً أو نباتاً أو طائراً تعتقد الجماعة أنه يحمل صفات روحانية خارقة وفق مقدّساتها وميراثها الديني. إنّ أول من أدخل مصطلح الطوطم إلى الإنكليزية الرحّالة: “ج. لونك” عام (1791) واستعمله في كتابه “رحلات مترجم هندي وأسفاره”، واستخدمه أول مرة في الدراسات الأنتروبولوجية العالم الأسكتلندي “ج. مكلينين” في العام (1870)، عندما كتب مقالاً بعنوان “الطوطمية”.

وكانت القبائل والجماعات البدائية تلجأ إلى الطوطمية لحل مشاكل كبيرة تتعلق بوجودها وحفظها من الهلاك أو الانقراض ربما، وطقوس سكان أستراليا الأصليين جديرة بالتوقف عندها في هذا الشأن لكونها ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببقاء القبيلة، لأن الأستراليين حلّوا مشكلة عدم توفر غذاء كافٍ للقبيلة من خلال الطوطمية، لأنّ كلّ نوع من الحيوان أو النبات أو الجماد يملك دوراً حاسماً في الإمداد الغذائي، سيغدو طوطماً لإحدى عشائر القبيلة. ولقد وُجدت الطوطمية في مصر القديمة واليونان والجزيرة العربية كما أشرنا سابقاً. والطوطم رغم أنه اسم أو شعار أو رمز للقبيلة إلا أنه يستخدم كذلك في سياق الطقوس الدينية، نعم هو رمز جمعي لكنه في الوقت نفسه يتّسم بالطابع الديني والقدسية.

 

6ـ الإله الأعلى ـ آلهة السماء

في ظلّ السمات والخصائص التي تميزت بها الديانات البدائية، هل كان هناك في معارفهم مكان لوجود إله أعلى وأسمى؟ أو إلى أيّ مدى كانت فكرة الإله الأعلى حاضرة أو شائعة في تلك الديانات؟ من الشائع بين العديد من الأقوام البدائية وجود إدراك لإله بعيد موجود في السماء أو في مكان ما بعيد، واعتقدوا أنّ هذا الإله البعيد هو الخالق والصانع لكل شيء وأنه يراقب من مكانه البعيد كل ما يجري على الأرض، ومع أنه غير راضٍ عن الكثير مما يحصل على الأرض إلا أنّه لا يتدخّل في شيء إلا نادراً، وهذا الاعتقاد ساد بوضوح تحديداً بين أدنى الجماعات البدائية: (أقزام إفريقيا والفوجيون في أمريكا الجنوبية وسكان الأدغال في أستراليا).

ويسود اعتقاد عام عند تلك الجماعات البدائية أن الإله الأعلى كان يعيش على الأرض قبل أن ينتقل إلى السماء فيما بعد، وأنّه يتابع ويراقب شؤون الأرض والبشر من موقعه في السماء، لكنّه غير مرئيّ لأحد وخافٍ عن الأنظار. لكنّ الرأي السائد والراجح بين الأنتروبولوجيين هو أنّ اهتمام البدائيين بالأرواح وقوى الطبيعة كان أكبر من اهتمامهم وعنايتهم بالإله الأعلى نفسه، ذلك بسبب اعتقادهم أنّ الأرواح أكثر قرباً وفاعلية من الإله الأعلى، فهي أكثر قدرة على التحكم بالمصير والقدر على الأرض.

 

بعض ديانات الشرق القديمة

1ـ بلاد ما بين النهرين

لقد طوّر السومريون خلال الألف الثالثة قبل الميلاد، وجهات نظر كان لها تأثير هائل لا على معاصريهم من السومريين الأوائل فحسب، بل على خلفائهم أيضاً من البابليين والآشوريين والحثيين والعيلاميين وسـكان فلسطين من الشعوب المجاورة الذين اعتنقوا معتقداتهم الأساسية، وكان تصورهم الرئيسي في جوهره هو أن الكون يتسم بالنظام، وأنّ كل ما يمكن أن يدركه الإنسان هو انعكاس لتجلّي العقل الإلهي ولنشاط خارق للطبيعة.

والعناصر الرئيسية التي يتألف منها الكون عند السومريين هي السماء (آن ،an والأرض كي ki) وهم يعتقدون أن البحر الذي كان في البدء، هو السبب الأول الذي انبثق عنه الكون المخلوق وتشكلت فيه الشمس والقمر والكواكب والنجوم، وكل يتحرك في طريقه الإلهي المرسـوم، وأن مـا يـحـدث فـي الـسـمـاء يحدث على الأرض، ثم ظهرت النباتات والحيوانات والحياة البشرية. أما الكائنات التي تعلو على الإنـسـان والمـوجـودات غـيـر المـنـظـورة الـتـي تتحكم في الكون الكبير وتتجسد فيه، فكانت بـالـضـرورة تـوصـف بـصـفـات بشرية، من ذلك أنها كالرجال والنساء لها انفعالاتها الطاغية وجوانب ضعفها، كما أنها تأكل وتشرب وتتزوج وتنجب أطفالاً، وتقتني خدماً ومنازل، لكـنّـهـا على خلاف البشر خالدة، فالآلهة عندما خلقت البـشـر احـتـفـظـت لـهـم بالموت وأبقت الحياة في يدها.

لقد اعتقد السومريون وفقاً لما تقوله عقـيـدتـهـم الـديـنـيـة وقـد بـقـي قائماً في نصوص مفصّلة منذ فجر العصر البابلي القديم، حوالي ١٩٠٠ ق.م أن لكل موجود كوني أو ثقافي قواعـده وقـوانـيـنـه الخـاصـة الـتـي تجـعـلـه يستمر في الوجود إلى الأبد وفقاً للخطة التي وضعهـا الإلـه الـذي خـلـقـه، وهناك قائمة (وهى تسمـى مـه me) بالسومريـة وتشمل تلك القواعد والقوانين: (السيادة، الألوهية، التاج، العرش، المُلك، الكهانة، الحقيقة، الهبوط إلى العالم السفلي والصعود منه، الفيضان، الأسلحة، المعـاشـرة الجـنـسـيـة، الـقـانـون، الـغـنـى، الموسيقا، القوة، العدوان، الأمانة، تدمير المدن، الصناعات المعدنية، الكتابة، الصناعات الجلدية، البناء، الحكـمـة، الخـوف، الـرعـب، الـصـراع، الـسـلام، الضـجـر، الانـتـصـار، الـقـلـب، الاضـطـراب، الـقـضـاء).

الحاكم الأسمى

كـان “آن. و. Anu” إلـه الـسـمـاء فـي الأصـل هـو الحـاكـم الأسـمـى والإلـه الرئيسي في مجمع الآلهة السومري، وكان في البداية مهتماً بشؤون الحـكـم، ويُرمز له بغطاء للرأس ذي قرون علامةً على ألوهيته، وكان معبده الرئيسي في أوروك Uruk (الوكاء).

ولكن عندما هُزمت مديـنـة نـيـبـور Nippur المجاورة لمدينة أوروك أصبح إلهها إنليل Enlil (سيد الغلاف الجوي والريـاح)، وأصبح معبده الرئيسـي فـي إكـور Ekur موضوع توفير عـال. وإنـلـيـل هـو المحـسّـن والجـدّ الأول الذي يُعزا إليه خلق الشمس والقمر والنباتات والأدوات الضرورية التي يسيطر الإنسان بواسطتها على الأرض. وتقول بعض النصوص الدينية إنّ إنليل هو ابن آنو Anu.

وعلى الرغم من أن إنليل يرتبط بمدينة نيبور لكنه يُعدّ الإله الأسمى للسومريين وهو يمسك بالألواح التي سُطرت فيها أقدار البشر جميعاً، لكن الإله “مردوخ” استولى في أواسط الألف الثانية ق.م على مكانة إنليل ووظيفته داخل بابل، أما في آشور فكانت نينليل (زوجة إنليل) متّحدة مع الإلهة العظمى (إينين السومرية) التي تُسمى (إينانا) شعبياً، وهي سيدة السماء التي تُسمى (عشتار) عند البابليين.

أما إله العالم السفلي (أنكي Enki) والد الإله “مردوخ”، فقد حكمَ المياه وهو من تُعزى إليه الحكمة كلّها، وكان محبوباً من البشر لأنه كان قد علّم الإنسان الأول الأسرار والفنون اللازمة للحياة والاستمرار والتقدم، وكان هذا على عكس استعلاء و تكبّر آنو وإنليل، وهذا ما جعله محبوباً، وكانت مدينة (إريدو) على الخليج العربي المركز الرئيسي لعبادته.

نعود إلى مردوخ الذي عُهد إليه رئاسة مجمع الآلهة كله عند البابليين في الفترة التي أصبحت فيها بابل مركز القوة والسيطرة على معظم بلاد ما بين النهرين، ففي تلك الحقبة كانت رعاية العلم وخاصة فنون الكتابة وعلم الفلك من نصيب الإله (نابو Nabu) ابن مردوخ.

حتمية الموت

الموت قدر الإنسان رغم وجود أساطير كثيرة تؤكد سعي الإنسان وراء الحياة الخالدة التي لا موت فيها، ومنها أسطورة الملك “إيتانا” وهو الذي يوصف بالراعي الذي صعد إلى السماء، إذ حاول أن يرتقي إلى السماء على أجنحة النسر بحثاً عن الخلود، لكن الموت لم يفارق البشر وباءت جميع محاولات البحث عن الخلود والهرب من الموت بالفشل، حتى أنّ (تموز أو دموزي) الذي كان ملكاً على مدينة أورك لم يسلم من الموت، ويُقال إنه كان قد تزوج من الإلهة (إينانا أو عشتار) وعندما مات تموز راحت زوجته تبحث عنه في العالم السفلي، ويُقال إن الأرض لم تخصب في تلك السنة، وبقيت جرداء بسبب نزول عشتار آلهة الخصوبة إلى العالم السفلي بحثاً عن تموز.

والموتى في العالم السفلي يحتاجون إلى الطعام والملابس وأدوات العيش مثل البشر الذين يعيشون فوق الأرض أي العالم العلوي، ومكانة كل شخص ومرتبته في العالم السفلي تعتمد على أعماله وأفعاله وأنشطته في حياته الأولى، ويتولى الحكم على أرواح الموتى إله الشمس الذي يمر بالعالم السفلي أثناء غياب الشمس، وكذلك يصف “أنكيدو” العالم السفلي لـ ” كلكامش” بأنه عالم كئيب، وأنّ الحياة فيه موحشة، وانعكاس شاحب ومظلم للحياة على الأرض.

الإثم والعقوبة

كان لدى البابليين قوائم بالأخطاء والذنوب التي تستوجب القصاص الإلهي والعقاب، وقوائم أخرى لتسجيل الأعمال الحسنة التي تستوجب المكافأة والرضا الإلهي، أمّا الأخطاء والخطايا التي كان يقع فيها الآثم فكانت تنتج عن تحليل أو أكل ما حرّمه إلهه، أو من يقول (نعم) في المواقف التي تستوجب أن يقول فيها (لا) أو يقول (لا) في الوقت الذي عليه أن يقول (نعم)، أو رمي أحد الأشخاص بتهمة باطلة أو أن يحتقر الإله أو يسخر من الآلهة، والذي ينطق بالباطل ولا يقول الحقّ والذي يظلم الضعفاء ويعتدي عليهم ويفسد بين الأبناء والآباء أو بين الأصدقاء فيباعد بينهم. والقصاص الإلهي على تلك الذنوب والآثام يقع على صورة مرض أو اضطراب أو حتى الموت.

كيف يمكن أن تُغفر هذه الخطايا والذنوب؟ يمكن أن تُغفر تلك الأخطاء والآثام بتلاوة تراتيل التوبة وصلوات الاستغفار والتفجيع والنواح، كما يمكن التخلص منها عن طريق تقديم القرابين، حيث يحلّ الحمَل محلّ الإنسان ولا يُقدّم الإنسان قرباناً، ولكن الفقراء الذين لا يملكون القدرة على تقديم قربان؛ يمكنهم استدعاء كاهن متخصص في طرد الأرواح الشريرة لتلاوة التعاويذ المناسبة والمخصصة لمحو الذنوب والخطايا.

 

2ـ معتقدات مصر القديمة

معظم آثار مصر القديمة بحسب علم الآثار ترتبط بالدين أكثر من ارتباطها بالأمور الدنيوية، وتؤكد الآثار أنّ تلك المادة الدينية هي في غالبيتها جنائزية الطابع، فالأهرامات المشهورة (أهرامات خوفو و خفرع و منقرع) في الجيزة، قد بُنيت لدفن الموتى من الملوك والفراعنة، وهناك احتمال أن يكون السبب وراء بنائها هو الوصول إلى الشمس أو السماء، لأن عبادة الشمس في “هليوبوليس” حيث يقع معبد الإله “رع” كانت حاضرة، ففي المعبد قطعة مخروطية تسمى (بن بن) موضوعة في فناء مكشوف اعتقد المصريون أنّ الشمس ينبغي أن ترسل أشعتها الأولى على هذا الحجر المخروطي. وبعض قبور ملوك مصر محفورة في الصخر ومنها قبر (توت عنخ آمون) في وادي الملوك بالقرب من مدينة طيبة، وعلى جدران بعض تلك القبور الصخرية نُقشت نصوص دينية تصف الرحلة الليلية لإله الشمس أثناء مروره بالعالم السفلي إلى حين ظهوره مجدداً مع صباح اليوم التالي في العالم العلوي، والاعتقاد السائد لدى قدامى المصريين أنّ الملك المدفون يصاحب إله الشمس في رحلته تلك ويشرق معه من جديد في فجر جديد وذلك ضماناً لبقاء الملك حياً حتى بعد موته.

لقد كان لاختراع الكتابة الهيروغليفية (3000ق.م) دور مهمّ في الديانة المصرية القديمة، لأن التراتيل والتعاويذ التي كانت تُتلى في المعابد والقبور، كان الكهنة يقرؤونها من نصوص مكتوبة على أوراق البرديّ، وكذلك النقوش المرسومة والمنحوتة على أحجار القبور والتي تظهر أسماء الأشخاص الذين دُفنوا في هذه المقبرة أو تلك، إنما هي من نتائج اختراع الكتابة، كما تم إضافة بعض التراتيل والنصوص الدينية على قبورهم لضمان تقديم القرابين كي تضمن السعادة الأبدية للميت، ولقد آمن المصريون أن مثل تلك النقوش تكفل و تضمن البقاء السحري للبركات الروحية و البدنية للمتوفى. ومع التقدم في الزمن (حوالي 2350 ق.م) أي مع وصول الأسرة السادسة من الملوك إلى الحكم، ازداد استخدام النقوش والرموز في الأهرامات والمقابر، حيث أصبحت جدران غرف الدفن والممرات المؤدية إليها مغطاة ومنقوشة بالنصوص الهيروغليفية التي تتحدث عن الحياة المقبلة للملك، وتُسمى هذه الكتابات (متون الأهرام) وهي تشكل أقدم مجموعة متكاملة تتعلق بالديانة المصرية.

 

تصوّر المصريين حول الخلق

في جميع مجامع الآلهة تكون الصدارة للآلهة المسؤولة عن الخلق، والأمر نفسه كان في مصر، وأسطورة “هليوبوليس” كانت الأكثر انتشاراً ورواجاً على الرغم من وجود أساطير أخرى متعددة عن الخلق، وتقوم هذه الأسطورة على أن الإله الخالق الأول “أتوم” قد اتحد مع إله الشمس “رع” في هوية واحدة، وحروف كلمة “أتوم” تعني الإله الذي خلق نفسه أو أتمّ نفسه بنفسه، أي خلق نفسه أولاً ثم خلق العالم. وتقول الأسطورة إن الإله “أتوم” قد خرج من “نون” وهو المحيط الذي خرجت منه جميع الكائنات، ثم ظهر فوق جبل وأنجب من غير زواج إله الهواء “شو” وإلهة الرطوبة “تف نوت”، وكانت مهمة الزوجين (شو وتف نوت) هي حمل الأفق وإسناد السماء بأيديهما لتبقى صامدة.

 

ظهور النيل والشمس كآلهة

لقد أرجع المصريون خصوبة أرضهم وخيراتها إلى آلهة مسؤولة عن تلك الخيرات، فاعتقدوا أن كلاً من الشمس ونهر النيل يعود لهما الفضل في تلك الخصوبة، ولذلك ربطوا بين هاتين القوّتين (الشمس والنيل) وبين الآلهة التي ترتبط بهما، ومن هنا كان تبجيل الإله “رع” إله معبد هليوبوليس الذي يمثل الشمس، لأن المصريين كانوا يستخدمون لفظ “رع” بمعنى الشمس، ثم توحّد “رع” مع إله السماء “حوريس” الذي يُعرف أيضاً باسم (الإله الصقر) ولذلك أخذ هيكل الإله الجديد بعد اتحاد “رع” مع “حوريس” شكل جسم إنسان ورأس صقر، ولقد اتخذ فراعنة مصر لأنفسهم لقب “ابن الإله رع” ابتداءً من الأسرة الخامسة، وقبل ذلك كان يُعتبر فرعون إلهاً. كما أنّ فكرة الانتظام في الكون والعدالة ارتبطتا أيضاً باسم هذا الإله “رع”.

أما فيضان النيل فقد ارتبط باسم الإله “حابي” للدلالة على الخصوبة والخير. كما أن عبادة الحيوان كان لها حضور قوي وكانت جزءاً أساسياً من الديانة المصرية، وهذه العبادة تقوم في أساسها على خصوبة الحياة في وديان الأنهار في إفريقيا، فظهرت عبادة التمساح في منطقة الفيوم على النيل، على أنه الإله الذي يمنح الحياة للنبات على شاطئ بحيرة الفيوم، وكان الناس يحتفلون كل عام مع بداية فيضان النهر.

 

الديانات السماوية / التوحيدية / الحديثة

بقيت الميثولوجيا هي المسيطرة على النواحي الدينية آلافَ السنين، أي منذ أن اكتسب الإنسان صفة العقلانية، إلى أن وصلت البشرية مع التطور الفكري والرقي العقلي إلى مرحلة الأديان التوحيدية منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة بحسب تقدير المتخصصين، ولهذه النقلة النوعية من التفكير العقلاني والوصول إلى مفهوم الإله الواحد الأعلى أسبابها الذاتية والموضوعية، منها محاولة الخلاص من الاستبداد والاستغلال الواقعين على البشر باسم آلهة الأرض المتعددة، والسعي لسحب ذلك البساط الإلهي من تحت أقدام أولئك السلاطين المتألّهين، وتجريدهم من صفة الربوبية التي منحوها لأنفسهم بغاية تنصيب أنفسهم آلهة على عامة الناس، وأقرب الأمثلة إلى ذلك ديانة إبراهيم الحديثة في وجه نمرود، وديانة موسى ضد الفرعون، والديانة الإسلامية المحمدية في وجه آلهة قريش وأربابها. ناهيك عن الزردشتية بوصفها ديانة شرقية تتأرجح لدى البعض إن كانت ديانة سماوية أو أرضية، وحسب الدارسين فإن في الزردشتية صفات الديانات التوحيدية مثل الدعوة إلى إحقاق الحق ونصرة المظلوم ومناهضة الشر.

والعبرة ينبغي أن تكمن في الوسيلة والغاية قبل التصنيف السماوي والأرضي، فهذه “تعاليم بوذا” يفوح منها عطر الخير والصدق، (بوذا) أمير إحدى الممالك على حدود دولة نيبال الحالية شمال الهند، وقد نشأ في قصور الإمارة وعاش حياة مرفّهة ورغيدة، ومنذ صغره لاحظ فيه والده ميولاً وتساؤلات حول ما يدور في الحياة من فقر ومرض وفساد وشيخوخة وجشع وحب التملك وغير ذلك من المسائل الدنيوية والحياتية، ولهذا السبب كان والده يحاول جاهداً إبعاد ابنه عن جميع مظاهر الصراع الطبقي التي تنمّي فيه روح تلك التساؤلات.

كان آخر عهد بوذا وآخر أيامه مع حياة القصور والرفاهية عندما بلغ من العمر تسعة وعشرين عاماً، وكان حينها قد تزوج وأنجب ولداً، فقرر حينها ترك حياته كأمير وأن يمضي في طريق البحث عن الحقيقة وإيجاد الأجوبة على أسئلة الوجود التي لطالما شغلت فكره، وأثارت حفيظته وحرّضت فيه تلك الروح التوّاقة إلى معرفة الأسباب الكامنة وراء تساؤلاته تلك، وهنا بدأ بهجر قصره وترك زوجته والانتقال من حياة الرفاهية إلى العيش حياة الزهد والتنسّك وممارسة التأمّل، ومع بلوغ سنّ الخامسة والثلاثين اكتسب الأمير “سيظاراثا” لقب (بوذا) أي “كامل النور” بعد رحلة طويلة ومعاناة قاسية وصراع مرير مع الذات والقوى السلبية المتمثلة بجميع الشرور، ومن هنا كانت روح الرسالة التي بشّر بها (بوذا) وحملها محاربة الذات والانتصار عليها، وإجبارها على الخضوع والانصياع لمفاهيم الفضيلة والتسامي على جميع الأهواء والغرائز والأرجاس الأرضية، والملذّات المادية الفانية.

تعاليم بوذا:

إن الرمز الذي يشير إلى تعاليم بوذا هو (عجلة ظارما) الشبيهة بعجلة العربة، وهي ذات الأضلاع الثمانية، التي تمثل الاتجاهات النبيلة الثمانية للبوذية وهي:

(الرأي السديد، التفكير السليم، الحديث الجيد، السلوك القويم، العيش الجيد، الجهود الحثيثة، التعليم الجيد، التأمّل الجيد).

هذه العجلة التي تشبه عجلة العربة التي تظلّ تدور كانت موجودة قبل ظهور بوذا، وكانت تُستخدم للعبادة، لكنها اتّخِذتْ رمزاً للبوذية فيما بعد.

والديانات التوحيدية تُعتبر حديثة من ناحية الترتيب الزمني، بالمقارنة مع الميثولوجيا وديانة الأساطير التي يعود بها الزمن إلى الوراء إلى حوالي خمسة وعشرين ألف عام، وهنا لا ندّعي أنّ تلك الحقبة الطويلة من الزمن كانت تتّصف فقط بالسلبية، وأنّ حقبة الأديان التوحيدية تتصف فقط بالإيجابية، فإطلاق حكم من هذا النوع يجانب الصواب ويخالف الموضوعية، إذ أنّ لكلّ حقبة ـ القديمة الميثولوجية والحديثة التوحيدية ـ إيجابيات وسلبيات، ولكان يمكن إصباغ صفة الإيجابية المطلقة على أيّ منها لو أنّها عملت على التحرّر الفكري بعيداً عن الترهيب والترغيب، وبعيداً عن التمجيد الشخصي لرموز عاشت في فترة القوة والجبروت ثم كُتب تاريخهم على هواهم وبأقلام البلاط الحاكم.

 

أثر النظريات الدينية على الفكر الشرقي

إن السؤال الذي يقفز إلى الذهن في ظل هكذا عنوان، هو:

ـ ماذا استفاد الشرق من كل تاريخه الحافل الذي يتغنّى به؟

ـ ماذا بقي للشرق من حيث كونه مهداً للديانات والحضارات القديمة؟

ـ على ماذا حافظ الشرق بوصفه مكتشف الزراعة والنار والأبجدية؟

ـ بماذا استطاع الشرق أن يتميز عن الغرب؟

ـ بماذا تتفوق الشعوب الشرقية على غيرها؟

يبدو أن الفكر الشرقي بقي إلى حدّ كبير أسيراً في فلك التعلق بالماضي، وتمجيد الماضيين، يبدو أنه لم يستطع في كثير من المحاولات ـ إن كانت هناك محاولات ـ أن يتحرّر من العبودية العمياء لأصنام الماضي:

ـ صنم تمجيد الشخوص: الذين ربما لا يذكر التاريخ سوى صفاتهم الإيجابية، ويتناسى السلبيات.

ـ صنم التفاضل بين دين وآخر: واعتقاد كلّ ملة أنهم على الحق المبين، وأنّ من خالفهم إلى جهنم وبئس المصير، فدينهم هو دين الحق وكل دين أو شريعة مخالفة لهم هي باطل، وهذا على رأي هواهم وسيفهم.

ـ صنم تقديس الماضي وتجاهل الحاضر: نحن كنا كذا وكذا…. وغيرنا كان يعيش في بحور من الظلمات. طبعاً هذا لسان حال بعضهم.

ـ صنم اللغة: عندما كل أمة ترى في لغتها أنّها متقدمة على جميع لغات الأرض، وأن تميّز لغتها هو انعكاس لتمييز ورقيّ أهل تلك اللغة، والمنطق العقلي لا يقبل مثل هذه القياسات.

ـ صنم النعامة: وهذا الصنم يختزل بداخله جميع الأصنام التي ذكرتها، والتي سهوت عن ذكرها، النعامة التي تخفي رأسها في الرمل كي لا ترى شيئاً، في أن جسمها الضخم لا يُخفى على أحد.

وبدون شك انعكس هذا النمط من التفكير على النظرة الشرقية الدينية لكل تغيير، أو محاولة للتغيير نحو الأفضل، فاختلفت طبيعة الثورة، ومكانتها في الأديان السماوية بحسب السياق العام لكل ديانة، فالسياق العام لدى اليهود، هو السعي الدائم للوصول إلى الجنة التي وُعد بها بنو إسرائيل في كتبهم المقدسة (أرض الميعاد). وتتمثّل تلك الجنة الموعودة بأرض يعيشون فيها بسلام وأمان، وبالتالي نجد أن جميع المحاولات اليهودية تعمل جاهدة لتحقيق ذلك السعي.

بينما نجد أن الديانة المسيحية اهتمت بالآخرة أكثر من الأمور الدنيوية، ولذلك كان السيد المسيح يحثّ أتباعه على الزهد في الدنيا و تأجيل جميع أمنياتهم وما تشتهيه أنفسهم إلى جنة السماء الخالدة، ولهذا السبب لم تحدد الديانة المسيحية نموذجاً دنيوياً للدولة والمجتمع، فكانت نظرتها للدنيا وما فيها نظرة حالمة زاهدة، لكن تلك النظرة المثالية لم تبقَ كما هي على مرّ الزمن، بل تغيرت مع ظهور شخصيات من أمثال (مارتن لوثر) قامت بإعلان الثورة على الكاثوليكية والسلطة الكنسية، نتج عنها حروب طاحنة لعشرات السنين داخل القارة الأوربية.

وأما في الديانة الإسلامية فقد أخذ مفهوم التجديد والتغيير منحى جديداً متطوراً ومتبايناً عمّا كان عليه في اليهودية والمسيحية، لأنّ الإسلام جاء ديناً توفيقياً بين الديانتين السابقتين ليصبَّ اهتمامه على الجانبين المادي الدنيوي، وكذلك الروحي الأخروي، فوفّق بذلك بين خطين لا يطغى أحدهما على الآخر.

بعض المصطلحات والنظريات التي تمكن العالم من خلالها من عبور أشواط طويلة نحو الأفضل ـ لا يوجد أفضل مطلق ولا سيّئ مطلق ـ ما يزال بعض المنظرين والمفكرين الشرقيين ينظرون إليها بعين الريبة والشكّ، فما زال هناك من يعتقد أن ” فصل الدين عن الدولة” هو ضياع للهوية وتشتيت للثقافة وتحطيم للثوابت، وثمة من يرى في العلمانية أنها نظام حياة يجرد الإنسان من القيم المثلى والروحانية الأخروية، وطبعأ أنا لست بصدد المدح والذم في هذا، ولا أقول إنّ هذه الأنظمة الحديثة هي المثال الأسمى والأنقى للعيش الإنساني، لكنني أنتقد فكرة “التعلق بأصنام الماضي ونبذ كل ما هو جديد ومبتكر”.

 

خاتمة

تبقى مسألة دراسة المعتقدات والأديان مسألة شائكة ومعقدة، لأنها تدخل ضمن دراسة العلوم الإنسانية لا الفيزيائية، وبالتالي تبقى عرضة للأهواء الإنسانية في أحيان كثيرة، شأنها في ذلك شأن كتابة التاريخ، إذ لا يمكن لأحد إعادة الأحداث القديمة كما وقعت، أو العمل عليها مخبرياً لبيان وكشف بعض الجوانب المشكوك في أمرها، أو لإزالة اللبس والغموض عن البعض الآخر، لكن في الحقيقة الموضوع متعلّق بنقل تلك الأخبار إلينا بالتواتر عن طريق الجموع البشرية عبر الأزمنة.

إن العقول التوّاقة إلى المعرفة تحمل على عاتقها مهمة البحث فيها، مع عدم إنكار الوازع الديني وقداسته في الدفع نحو الرغبة في الغوص، والكشف عن نشأة الديانات ومبعثها، والأشخاص الذين حملوا راياتها، ومدى استثمارها ـ إن صح التعبير ـ لتلعب دورها وغايتها الأساسية التي جاءت من أجلها: (الخير، الحق، الصدق، الحرية، العدالة، الأخوّة، المساواة، …..).

 

 

المراجع

ـ موسوعة تاريخ الأديان: الكتاب الأول ـ تحرير: فراس السواح

ـ المعتقدات الدينية لدى الشعوب: المشرف العام على التحرير: جفري بارندر – ترجمة: الدكتور إمام عبد الفتاح إمام ـ مراجعة: الدكتور عبد الفتاح مكاوي

ـ تعاليم بوذا ـ ترجمة: رعد عبد الجليل جواد

ـ الزرادشتية واليزيدية تقابل أم تدابر ـ محمد ضاهر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى