افتتاحية العددصلاح الدين مسلمملف العدد 53

في فلك الأصنام الأربعة لفرنسيس بيكون

صلاح الدين مسلم

في فلك الأصنام الأربعة لفرنسيس بيكون

صلاح الدين مسلم

صلاح مسلم
صلاح مسلم

مخطّط بحث (في فلك الأصنام الأربعة)

  • التمهيد: عبارة عن تمهيد لسيادة الأسلوب العلمي ودور فرانسيس بيكون في النهضة العلميّة.

 

  • المبحث الأوّل – الأصنام الأربعة عند بيكون: وفيه شرح للأصنام الأربعة

أوّلاً – صنم القبيلة (صنم المجتمعيّة)

ثانياً – صنم الكهف (صنم المثاليّة والانعزاليّة)

ثالثاً – صنم السوق (صنم الأفكار السوقيّة)

رابعاً – صنم المسرح  (صنم الإيمان الأعمى بالسلف أي تقديس الماضيين)

المبحث الثاني: أساليب الحياة: وفيه سأتناول تحليلاً للأساليب الأربعة التي سيطرت على مدى التاريخ وهي متسلسلة حسب سيطرتها التاريخيّة: (الميثولوجي – الديني التوحيدي – الفلسفي – العلمي) وكيف أنّ العصر الحديث قد طغى فيه الأسلوب العلمي الذي نفى الأساليب الثلاثة السابقة.

أوّلاً – الأسلوب الميثولوجي

ثانياً – الأسلوب الديني التوحيدي

ثالثاً – الأسلوب الفلسفي

رابعاً – الأسلوب العلمي

خامساً – الأصنام الأربعة

  • المبحث الثالث – تحليل تناول بيكون للأصنام الأربعة، من الناحية الإيجابيّة من جهة، ومن الناحية السلبية من جهة أخرى.

أوّلاً – إيجابيات تحطيم الأصنام الأربعة

ثانياً – سلبيات تحطيم الأصنام الأربعة

الخاتمة: كلمة ختامية تتناول رأيي في هذا التناول.

 

 

 

 

 

التمهيد

كان روجر بايكون الإنجليزي أو الجدّ الأكبر لفرنسيس بيكون (1220 – 1292) فيلسوفاً وراهباً فرانسيسكياً وهو أوّل من أكّد على التجربة، ودعا إلى إعادة النظر فيما يتعلق بعلم الإلهيات، وتعلّم لغات مصادر الكتاب المقدّس،  ولاحظ أنّ في الكتاب المقدّس أخطاء، ودعا إلى العلوم التجريبيّة، وبالتالي كان الملهم لفرانسيس بيكون (1561 – 1626) بعد ثلاثة قرون، ليؤسّس المنهج التجريبي، الذي يتلخّص في مقولة بيكون: (إن بدأ الإنسان من المؤكدات انتهى إلى الشك، لكنه إن اكتفى بالبدء بالشك، انتهى إلى المؤكدات).

بدأ العصر الحديث باكتشاف قارة أميركا، وبدأ القرن التاسع عشر بثورات علميّة مذهلة، وكانت الأفكار العلمية التي طرحها جاليليو ونيوتن، القنبلة التي فجّرت عصر النهضة، من خلال التركيز على مبدأ الشكّ، وكان لبيكون وديكارت وقبلهما بايكون التمهيد لهذه النهضة الأوروبيّة، وأيضاً كان للثورة الفرنسيّة الأثر الكبير في رسم ملامح الليبرالية، والثورة الصناعيّة.

لقد كان موقع بريطانيا مساعداً للابتعاد عن الكنيسة، بحكم بردها القارس، وانزوائها في الشمال الغربيّ، فكانت مرتعاً خصباً للمفكّرين الذين ثاروا على اللاهوت الكنسي، وقد ظهر قبل خمسة قرون المفكّر الإنجليزي فرانسيس بيكون رائد الثورة العلميّة، والممهّد لثورة الانقلاب على سلطة الكنيسة في أوروبا، والممهّد لسيطرة الأسلوب العلميّ فيها، فقد أشار فرنسيس بيكون[1] في كتابه (الأورجانون الجديد[2]) إلى أربعة أصنام تقيّد الفكر، وهي (صنم القبيلة – صنم الكهف – صنم السوق – صنم المسرح)[3] ويجب تحطيمها لتحرير الفكر.

 

المبحث الأوّل الأصنام الأربعة عند بيكون

أوّلاً صنم القبيلة (صنم المجتمعيّة)

يعني الصنم الأوّل (صنم القبيلة) أي صنم العقل الجمعي الموجود في القبيلة، أو العرق أو أيّ جماعة أثنية أو طائفية ينتمي إليها الفرد، فعندما يتخلّص الفرد من صنم الجماعة المهيمنة على حرّيّة الفرد، يفترض بيكون انبثاق الإبداع الفرديّ، وبالتالي فإنّ القبيلة تفرض قيوداً على فكر الفرد، ولا تجعله يفكّر، بل يصبح أداة بيد الجماعة التي تسيّره، حسب مفهوم بيكون، ففي العقل الجمعيّ هناك ميول إلى الميتافيزيقيا، كالعادات والتقاليد التي لا معنى لها حسب رأيه، فيصبح الفرد عبداً للخرافة، والتقاليد البالية، ومعتعقدات الجماعة التي ينتمي إليها، وكلّما تحرّر من أسر هذه التقاليد يصبح حرّاً، فهو يدعو إلى رفض المجتمعيّة الذاكرة الجمعيّة، والتحرّر من سلطة الجماعة، والذاكرة، فهذه المجتمعيّة مغموسة بالعادات والتقاليد التي يراها بالية لا نفع لها، ففيها الخرافات، والميثولوجيات غير المنطقيّة، فيها أفكار متوارثة لا معنى لها، فيها سحر وشعوذة قد استمدّ من تراكم العصور، فيها أفكار تنتمي إلى ما قبل آلاف السنين، فعلى سبيل المثال هناك قصص عن الغول والعنقاء والتنين ولكلّ مجتمع في هذا الكون معتقدات راسخة، كتقديس القمح عند جماعة، وتقديس الذرة عند جماعة أخرى، أو تقديس البقرة عند جماعة أخرى، هناك إيمان بالتنجيم، والحظّ السيء، والغراب رمز الشؤم، والبوم رمز الخراب، وأفكار عن الجنّ، وغيرها من الأفكار التي تقيّد الفكر.

رأى بيكون أن التحرّر من هذه العادات وهذه السلطة المجتمعيّة سينحو الإنسان نحو الفردية، أي بمعنى الحرّيّة الفرديّة، فعندما يتخلّص الإنسان من سيطرة الأنا الأعلى (الدين – العادات – الأعراف…) سيتخلّص الإنسان من ربقة التحجّر، وسينحو نحو الحقيقة، فالحقيقة هنا فرديّة، أي عندما يتخلّص الإنسان من الأفكار القديمة يتخلّص من الأغلال، فالشكّ في كلّ شيء، يؤدّي إلى التمحيص والتدقيق، والوصول إلى جوهر الحقيقة.

إنّ معتقدات القبيلة أو العرق أو الطائفة تقيّد حدود العقل البشريّ بنظر بيكون، فإذا كان كرديّاً على سبيل المثال سينحاز إلى الكرد دون تفكير، وبالتالي سيتعاطف معهم، وهذا التعاطف سيبعده عن الحقيقة، فيجب أن يتخلّص من كرديته، وقرويّته، ونزعاته، وميوله، لتنجح نظرته إلى الأمور، أي يجب التخلّي عن العاطفة التي زرعتها جماعته فيه دون وعي منه.

 

ثانياً صنم الكهف (صنم المثاليّة والانعزاليّة)

والمقصود بالصنم الثاني (صنم الكهف) أي الجمهوريّة الفاضلة عند أفلاطون،[4] ومثال الكهف الذي أورده أفلاطون، حول نظرية المثل[5]، فالإنسان معزول في عالم خاصّ به، متقوقع على ذاته، فالحياة التي يعيشها هي انعكاس لعالم جميل خالد في مكان آخر، وهذا يعني أنّ الإنسان لا يعيش حياته الجميلة، بل يعيش ليرى الجمال الحقيقي الكامل في عالم سماوي آخر، قد تكون فكرة الجنّة مستوحاةً منها، أو استمدّ أفلاطون نظريته من الشرق الذي برزت فيه فكرة الجنة واليوم الموعود ما قبل وجود أفلاطون، وبالتالي يرى بيكون أنّ المثالية تدمّر الإنسان، وقد يكون هذا الصنم مكمّلاً للصنم الأوّل، فالصنم الأوّل يحارب الجماعيّة والأفكار المجتمعيّة، والعقل الجمعيّ والميتافيزيقيا، فالصنم الآخر هو المثاليّة، أو الروحانيّة، أو تحطيم الميثولوجيا، ففكرة أفلاطون ميثولوجيّة أكثر من أن تكون فلسفيّة، حول أن الحياة هي ظلّ الحقيقة، والمقولة الفلسفيّة المثالية المستوحاة من قصّة الكهف هي أنّ الإنسان يجب أن يدنو من جوهره ليصل إلى الكمال.

إنّ تحطيم هذا الصنم عند بيكون يعني تحطيم فكرة الخلود، وفكرة الابتعاد عن المنطق، والتبشير بالكونيّة أو العولمة، فالنفس البشريّة واحدة، ولا وجود لجواهر متعدّدة حسب نظرة بيكون، فليس الإنسان تابعاً لبيئته، وليس أسيراً لعالمه النفسيّ، فكلّ إنسان يستطيع أن يصل إلى الحقيقةعبر التخلّص من سلطة الميول والرغبات الشخصيّة والأفكار التي انبعثت من بيئته.

إن كان يدعو بيكون في تحطيم صنم القبيلة إلى التخلّص من العادات والتقاليد البالية والانقطاع عن الذاكرة المجتمعيّة في المجتمع الأكبر (القبيلة)، ففي تحطيم صنم الكهف يعني انقطاعه عن ميوله الشخصيّة، وذاتيته المفرطة، وعدم التقوقع في بقعة فكرية صغيرة، والخروج من الانعزاليّة في بوتقة فكره المستمدّ من أسرته الصغيرة؛ أي المجتمع الأصغر (الأسرة)، وفي كلا التحطيمين يدعو بيكون إلى تحطيم الأفكار المستوردة من الآخر.

 

ثالثاً صنم السوق (صنم الأفكار السوقيّة)

أما الصنم الثالث، فهو (صنم السوق)، أي سوقية المعلومة وتداولها عبر منظومة الصنم الأوّل، وهو الآراء والمعتقدات المغلوطة الناتجة عن تواصل البشر وتبادلهم المعلومات دون علم. وينتج عن هذا الصنم تشويه المصطلحات والتعريفات وتعميم الأمور، بسبب تداول البسطاء والعامة والدهماء لآراء علمية دون فهم ولا دراية ولا دراسة. فى المقاهى والأندية والأسواق وغيرها من مناطق تجمع الناس، حيث يتداول الناس فى شؤون الحياة والطبيعة والسياسة بلغة مشتركة بعيدة عن المنطق، فتفقد الألفاظُ دلالاتها الحقيقية وتستقر فى الأذهان مجموعةٌ من المغالطات المشوهة.

أي الابتعاد عن سوقيّة الفكرة، دون تمحيص وتدقيق، فالفكرة السوقيّة هي فكرة بعيدة عن الأكاديميّة، لأنّها طريقة تحليل تعتمد على الصنم الأوّل القبيلة، والصنم الثاني (الكهف) وبالتالي صنم السوق هو نتيجة تداخل الصنمين في المجتمعات الإعلاميّة؛ كالسوق، ففي المقاهي على سبيل المثال هناك أفكار وتحليلات وآراء وأخبار تعتمد على الإشاعات والطبقات، فعلى سبيل المثال إذا قال تاجر فكرة فإنّها تسوّق، وكذلك الأمر إذا روّج رئيس القبيلة فكرة ما فإنّها تسوّق، فالأفكار الموجودة في السوق ليست حقيقية، ومن هنا انبعث مصطلح (السوقيّ).

يروّج بيكون لفكرة الأكاديميّة العلميّة البعيدة عن كلام الشارع، والأرصفة، فكلام النساء على الأرصفة هو إعلام يروّج ويصبح حقيقة، فعند تحطيم صنم السوق، يعني هذا تحطيم الإعلام الشعبي، والترويج للإعلام المؤسّساتي، وبالتالي تزول سيطرة القبيلة على السوق، وتزول سيطرة صنم الكهف أيضاً، فهذه الأصنام متكاملة، ففي صنم السوق تُشوَّه المصطلحات، فعالم الدين يروّج للدين، وشيخ العشيرة يروّج لعشيرته، والقوميّ لقوميته، والكلّ لا يعتمد العلميّة أساساً، لأنّ الأسلوب السائد هو الديني والميثولوجي والفلسفي المثالي، وكي يروّج الأسلوب العلمي يجب أن يتحكّم العالِم بالسوق، أي بالإعلام.

 

رابعاً صنم المسرح  (صنم الإيمان الأعمى بالسلف أي تقديس الماضيين)

الصنم الأخير هو (صنم المسرح) وكان بيكون يقصد أرسطو وأمثاله من الفلاسفة والمفكرين، أي السلف، ويقصد به النقل قبل العقل، أي الاعتماد على أفكار السلف والنظرة التقديسية لهم، دون أيّ تفكير، وعلى أنّ أقوال الأوّلين عبارة عن نصوص مقدّسة لا يمكن أن تتغيّر، حتّى وإن أثبت العلم والمنطق خطأهم، وقد كان يهاجم مبدأ الناس المتحيّزين للفكر السلفي دون أيّ تفكير، وهذا يؤدي إلى الدوغمائيّة الفكريّة.

صحيح أنّ بيكون من مدرسة أرسطو، لكنّه يدعو المجتمع للتخلّص من سيطرة الفلاسفة الإغريق على التفكير الغربي (سقراط – أفلاطون – أرسطو) فهو يدعو إلى تحطيم صنم المسرح؛ للخروج من أسر أفكار السلف، وتقديس الماضي، وتأليه تلك الأفكار التي لا تقبل الشكّ أو النقاش، وكأنّ كلماتهم كلامٌ منزّلٌ لا يقبل الجدال.

يعتبر تحطيم صنم المسرح تحطيماً لكلّ المقدّسات، وتحطيماً لكلّ الأفكار التي لا تقبل الجدال، وبالتالي تحطيم للكتب المقدّسة، وكلّ الأفكار الإلهيّة، ومن هنا بدأ الفكر التجريبي، أي عدم القبول بأيّة فكرة لا تخضع للقياس والملاحظة والتجريب.

 

خامساً الأصنام الأربعة مجتمعة

لطالما كان الهاجس الوحيد للمفكّر والكاهن والقدّيس والنبي هو البحث عن الحقيقة، فهي الغاية المنشودة، وهي التطلّع للخلاص من ربقة الواقع الأليم، وتطهير الشعوب من الآلام، وبالتالي كان المفكّر بيكون من أولئك الباحثين عن الحقيقة، وكان الواقع القمعيّ في أوروبا والدوغمائيّة الدينيّة، السبب في الانفجار وتحطيم أصنام المعبد، فكانت هذه الثورة على كلّ القديم، بكل ما يحمله هذا القديم من إيجابيات وسلبيات، بكلّ الإرث التاريخي والذاكرة الجمعيّة والفرديّة.

إنّ الأصنام الأربعة لبيكون تتحد ضمن إطار واحد وهو الشكّ، فالشكّ وحده يؤدّي إلى اليقين، والعلم هو المقياس الوحيد للوصول إلى الحقيقة، ليغدو العلم الأداة العظيمة للاحتكار، لتستفيد الحداثة الرأسمالية من هذا العلم الذي كبّل الشعوب بأداة احتكار لا مثيل لها في التاريخ.

هذه الأصنام الأربعة تتحد في مسألة المقدّسات والهويّة، فلا حلّ لبيكون للتخلّص من جبروت الكنيسة إلّا بنسفها من جذورها، ونسف كلّ ما يشابهها من هوية جمعيّة، وذاكرة وتاريخ وقدسيّة الروح، وجمالية المثالية، لتتسرّب العلميّة إلى أدقّ تفاصيل الحياة الإنسانيّة في أوروبا لينتج عنها هذا الصرح المدنيّ الجميل من الخارج.

 

المبحث الثاني: أساليب الحياة

أوّلاً الأسلوب الميثولوجي

إنّ القضية التي طرحها بيكون هي قضيّة الأسلوب، أي أسلوب الحياة، فلاشكّ أن بيكون قد أحدث ثورة عارمة بمعالجته هذه الأصنام أو التابوهات التي تقيّد الفكر والعلم، وقد كان همّ الإنسان منذ انتقال الإنسان من الحياة البدائيّة (حياة عدم الاستقرار) إلى المجتمع الزراعيّ، هو البحث عن الحقيقة، وتفسير ظواهر الكون (الشمس – الرياح – المطر – الخير – الشرّ – الحبّ ….) وقد كان أوّل أسلوب اتّبعه الإنسان في نظرته إلى الحياة هو الأسلوب الميثولوجي، تُعتبَر الميثولوجيا[6] أيضاً أسلوباً وطريقةً للكشف عن الحقيقة، وقد عاش الإنسان ردحاً مع هذا الأسلوب، صحيح كانت هناك حروب للإمبراطوريات للبحث عن المجد والسلطة والمال، لكن لم يكن هناك التدمير للكون في الحروب العالميّة في قرننا الحالي وما قبله.

كان من إيجابيات الأسلوب الميثولوجي الانسجام مع الطبيعة، والحرّيّة البعيدة عن القدريّة، وإن كان عمر الإنسان العاقل 25 ألف عام، فقد ظلّ الأسلوب الميثولوجي منهجاً، وأسلوباً اتّبعه الإنسان قرابة 22 ألف عام، قبل سيادة الأسلوب الدينيّ،  وحتّى الآن نرى الأسلوب الميثولوجي ماثلاً لدى الكثير من الأقوام والشعوب، حتّى لدى تصرّفات الإنسان العلماني المتعصّب للعلمانيّة، مثلاً عندما يرى الشرقيّ قطعة خبز مرماة على الأرض يلتقطها، ولا يدوس عليها، وهذه تابع لقدسية القمح لدى شعوب الشرق الأوسط، لأنّه رمز الخير. وإنّ رفض الميثولوجيا يعني رفض كلّ هذا التاريخ الإنسانيّ للوصول إلى المعرفة والحقيقة.

لم تستطع هرميّة الدولة وطبقيّتها السيطرة على المجتمع كثيراً من خلال الأسلوب الميثولوجيّ، بما يمتلكه هذا الأسلوب من حرّيّة، وقدسيّة أقرب إلى الاحترام وليس التعصّب ورفض الآخر والابتعاد عن الدوغمائيّة، بعكس الأسلوب الدينيّ الدوغمائيّ، الذي يعتمد على المسلّمات، وكلام الله، والقدريّة، وهذا ما استثمره المتسلّط  ليشرعن وجوده على العبد، وليرضى العبد بالقدر واليوم الآخر، والعدالة الإلهيّة التي استثمرها السيّد على مدى ثلاثة آلاف عام وحتّى يومنا هذا، فكلما كانت الصرامة والصلابة موجودة في أسلوب ما، ينطوي في داخله الطغيان والجشع والاستغلال.

ومن سلبيات هذا الأسلوب أنّ التفسير الميثولوجي للكون بعيد عن الأسلوب العلمي، لكنّه ساهم في فهمه من خلال الأسئلة المطروحة، ومن خلال منهج الأسلوب العلمي المعتمد على اندماج الذات بالموضوع، واندماج الإنسان بالطبيعة، واعتبار الطبيعة هي السيّد، وإذا دمجنا ما بين الأسلوب العلمي لفهم الكون والأسلوب الميثولوجيّ, فسيساعدنا هذا في السير في درب الحقيقة.

 

ثانياً الأسلوب الديني التوحيدي

لقد تمّ الانتقال من الأسلوب الميثولوجي إلى الأسلوب الديني قبيل ثلاثة آلاف عام على وجه التقدير، ويعدّ الدين التوحيدي استمراراً لتعدّد الأديان الذي كان مرافقاً للأسلوب الميثولوجيّ، فتعدّد الأديان كان مكمّلاً للأسلوب الميثولوجيّ، فقد كانت الآلهة تمتلك صفات إنسانيّة، ولم تخلق بعد مرحلة رفع الإله إلى السماء، ورفعه فوق الطبيعة والمجتمع، وقد يكون أفلاطون قد دمج ما بين فكرة الدين والفلسفة من خلال رفع الحقيقة إلى ما وراء الطبيعة، وأنّ الإنسان هو ظلّ الحياة المثلى، وظلّ الحقيقة، “فالقاعدةُ الأساسيةُ في التعاطي الدينيّ، هي الحراكُ بموجب الكلام المُعزى إلى الآلهة التي تُعَدُّ فوق الطبيعةِ والمجتمع، بصفتِها غايةَ الحياة وسبيلَ الوصول إلى الحقيقة. وانحرافُ المرءِ أو حَيدُه عن هذا الكلام، يعني تحمُّلَه كل أنواع الأشغالِ الشاقة، وعيشُه شتى ضروبِ العبوديةِ وهو على قيد الحياة؛ بينما يكون مصيرُه بعد المماتِ جهنم وبئسَ المصير، إننا على عتبةِ عهدِ إنشاءِ الآلهة المقَنَّعة.”[7]

كانت الثورة الدينيّة التوحيدية ثورة مجتمعيّة، وكان الأنبياء والمرسلون والزاهدون والأولياء دعاةَ خير، باحثين عن العدالة الاجتماعيّة، رافضين كل أشكال التمييز، وقد خرجوا من فئات المجتمع المسحوقة، كالراعي والحدّاد… فإبراهيم عليه السلام ثار على الحكم والملك باسم الآلهة، ورفض العبوديّة، وهو من أوائل من دعوا إلى وحدانيّة الله، وجعله فوق الطبيعة والمجتمع، وخارجاً عن نطاق الحدس، وقد استطاع الأسلوب الدينيّ أن يكرّس الأخلاق ضمن المجتمع، واستطاعت الفضيلة أن تكون عنوان المجتمع الباحث عن الخلود، وبات المجتمع الإنسانيّ في طور التطوّر الأخلاقيّ الذي تميّز عن عالم الحيوان، “يتجسّد الجانبُ الإيجابي في الأسلوب الديني؛ في قطعه أشواطاً ملحوظةً في ظاهرة الأخلاق ضمن المجتمع. ففي هذه المرحلة، وفي ظل هذا الأسلوب، تعرضَت ثنائيةُ “الفضيلة – الرذيلة” لتمايزاتٍ كبرى، فقُيِّدَت بأحكامٍ قطعيةٍ صارمة. فالخاصيةُ الأساسية الملفتةُ للنظرِ في هذا الأسلوب، هي مرونةُ ذهنِ الإنسان، وبالتالي، اتسامُه بالمزيةِ التي تُمَكِّنُ من تأهيله ورسمِ ملامحه. وهذه الذهنيةُ التي تُمَيِّزُ الإنسان عن عالَم الحيوان، إنما تشكِّل الأرضيةَ الأسَّ للتطورِ الأخلاقي. ومن دون الرجوعِ إلى الأخلاق، لا يمكنُ تحقيقُ المجتمعيةِ أو القيامُ بالإدارةِ والتوجيه. فالأخلاقُ في الأسلوب تكوينةٌ وحقيقةٌ وإدراكٌ إداريٌّ لا غنى عنه بالنسبة للمجتمع. ومن دونِ الدخول في الجدال حول مضمون الأخلاق الإيجابي أو السلبي، فإنَّ التطورَ على هذا الصعيد يُعتبَر ضرورةً اضطرارية للوعي الاجتماعي. لا شك في أنَّ الأخلاقَ وعيٌ ميتافيزيقي[8]، ولكنّ هذه الخاصية لا تجعل منها موضوعاً تافهاً أو منبوذاً. ولن نبالغ إذ ما تحدثنا عن تفوق الأخلاق الدينيةِ نسبةً إلى الأخلاق البدائية السائدةِ في العصر الميثولوجي. إنَّ مجرَّدَ التفكيرِ بالمجتمع البشري مجرداً مِن الأخلاق، يعني انقراضَ الجنسِ البشري، أو القضاءَ على بيئة الحياةِ التي تحيطُ به. وربما أنّ ذلك أَشْبَهُ ما يَكُونُ بالديناصورات التي انقرضت لأنها لم تُبْقِ شيئاً من النباتِ الذي يُمكنُها أنْ تتغذى منه. الأمران سيان، ويخرجان من البوابةِ نفسِها، ويفيدان في نهايةِ المآلِ بسقوطِ الإنسان في حالةٍ يغدو فيها نوعاً عاجزاً عن تأمينِ سيرورتِه. مع العلمِ أنّ التدَنِّيَ الفظيعَ للأخلاقِ هو السببُ وراء تفاقُمِ قضايا البيئة في راهننا لدرجةِ الوصولِ بالبشريةِ إلى حافةِ الهاوية.”[9]

لقد اعتنقت الدولة هذا الدين الوحدانيّ، وجعلته أداة طيّعة لها، لترسيخ مبدأ السطوة والاستغلال، ووصلت الدوغمائيّة الدينيّة ذروتها في العصور الوسطى في أوروبا، إلى حدّ قتل أي شخص بتهمة الهرطقة، ومنع المفكّرين والعلماء من التفكير، وهذا ما مهّد لهذا العطس الفكري الأوروبيّ، وتفجير الطاقة الكامنة العلمية لنسف كلّ ما يمتّ إلى الأسلوب الدينيّ والميتافيزيقي والفلسفي المثالي.

لقد ظلّت الدوغمائيّة أسلوباً استمرّ عهداً طويلاً، وشرعنت العبوديّة، والخنوع للقدريّة، وإطاعة أولي الأمر الذين باتوا خلفاء الله في الأرض، وبات مفهوم (كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته) مبدأ تقسيم السلطات، للوصول إلى الراعي الأكبر وهو السلطان، واستمرّ هذا الأسلوب طيلة ثلاثة آلاف عام ونيّف إلى يومنا هذا في كثير من البلدان، وكثير من المجتمعات، ما مهّد لظهور الأسلوب العلميّ الذي كان بيكون رائده، للتخلّص من سلطة الكنيسة، وسلطة الراعي الأكبر.

إنّ قِدم الأسلوب الديني الحياتي أيضاً يترافق مع قِدم الأسلوب الميثولوجيّ، إذا أضفنا مرحلة تعدّد الأديان إلى مرحلة الأسلوب الديني، وكان ظهور مصطلح (الملك – الإله) بداية الجشع الإنسانيّ، وسيطرته على مقدّرات المجتمع وتقسيم للمجتمع إلى طبقات، وكان الأسلوب الدينيّ التوحيديّ على تضاد مع الأسلوب الميثولوجيّ الذي كان سائداً في المجتمع (الزراعي – النيوليتي)

لقد تحطّم الدين في الغرب، فعيسى عليه السلام شرقيّ، وكلّ الأديان منبعها الشرق، ولم يتحطّم كثيراً في الشرق، صحيح أنّ الشرق يعيش مرحلة اغتراب وابتعاد عن الهويّة في دمج ما بين الدين الشرقيّ، والعلم الغربيّ، لكنّ الدين قد أبيد في الغرب، وصار العلم مقياس كلّ شيء.

 

ثالثاً الأسلوب الفلسفي

أضحى الأسلوب الفلسفي مرافقاً للأسلوب الدينيّ، فقد ظهرت الفلسفات المثاليّة التي كانت مكمّلاً للأسلوب الدينيّ الأخلاقيّ، وظهر بالمقابل الأسلوب الفلسفي المادّي الذي مهّد للأسلوب العلمي، وقد كان سقراط وأفلاطون الممهّدَين للفلسفة المثالية التي دعمت الدوغمائية الدينية التوحيديّة، وبالمقابل كان أرسطو الممهّد للفلسفة الماديّة، وإن استفادت الدوغمائية الدينية التوحيدية من أرسطو أيضاً.

كانت الفلسفات المثاليّة أقوى من الفلسفات المادية في الشرق، (بوذا – كونفوشيوس – زردشت…) وقد قطعت الأخلاق الإنسانيّة شوطاً عظيماً بفضل هؤلاء المثاليين، وأفكارهم القيّمة الجميلة، ممّا أدّى إلى تأسيس علم الجمال، الذي كان روح المجتمع الإنسانيّ، وأرقى ما وصلت إليه الإنسانيّة، وكان تأثير أفلاطون على الشرق أكثر من تأثير أرسطو، وقد ترجمت كتب أفلاطون إلى الشرق، وتأثر بها الفلاسفة العرب والمسلمون، فقد كانت روحانيّة الشرق عنواناً بارزاً لسحر الشرق، بالمقابل استطاع أرسطو أن يخلّف تياراً فكرياً يعدّ بيكون وديكارت نقطة الانفجار لهذا التيار الذي مهّد للثورة العلميّة في الغرب، ما أدّى إلى كلّ هذه الطفرة العلميّة في خمسمئة السنة الأخيرة، من الاختراعات والاكتشافات الغربيّة.

كان الأسلوب الفلسفيّ المثالي مكمّلاً للميتافيزيقيا والدين التصوفيّ التزهّدي، واختلط عالم الدين والفيلسوف المثاليّ، وأضحت الفلسفة الماديّة أيضاً نتاجاً تصوّريّاً لعالم تندمج فيه القوى الماديّة والمثاليّة معاً، فقد ظلّ المنطق الأرسطي مسيطراً على تفكير الفلاسفة المادّييّن، إلى أن جاء بيكون ونسف كلّ الإرث الفلسفيّ.

 

رابعاً الأسلوب العلمي

بات الأسلوب العلمي ثورة على الأسلوب الدينيّ في الغرب، وكان روجر بايكون وفرنسيس بيكون وديكارت وغيرهم روّاد هذه الثورة، وقد كانت أوروبا أرضاً ممهّدة للخلاص من الدين، بسبب القرون الوسطى التي كانت مجزرة للعلم، فقد سيطر الأسلوب الميثولوجي والديني ردحاً من الزمن على أوروبا كما أسلفنا، ومهّدت الدوغمائيّة القروسطيّة لحصول هذا الانفجار.

لقد غدا العلم قوّة، فمن يمتلك مفاتيح العلم يستطيع أن يقود المجتمع، فقسّم المجتمع إلى جاهل متخلّف، وإلى عالم قائد، فمن كان يمتلك ثقافة المجتمع في معرفة الفلكلور والتاريخ الشفاهي والثقافة المجتمعيّة ليس عالماً، إنّ من يمتلك الشهادة العلميّة الموثّقة من الترسانة العلميّة العالميّة هو المثقّف والعالم.

كان العلماء دائماً شغوفين للبحث عن الحقيقة، فلم يكن هدف العلماء تدمير الكون، كان هدف العلماء إنقاذ البشريّة من هذه الأصنام، وقد أعدم كثير من العلماء نتيجة مخالفتهم لتقاليد الكنيسة، وكان بيكون عالماً يبحث عن الحرّيّة والحقيقة، وهو الأسلوب للخلاص من هذه الدوغمائيّة، لكن سيادة هذا الأسلوب قد حطّم البشريّة عوضاً عن أن تنقذها، فالقنابل النووية والعنقودية …. وحروب المعلومات والبنوك والصحة …. باتت تدمّر البشريّة، فعن طريق العلم وصل الاحتكاريّون إلى ترسانات من المال والسيطرة على مقدّرات العالم، وهذه الشركات العملاقة العابرة للقارات هي التي تحكم الكون، وهي التي ترسم المجال العلمي الذي يجب على العلماء أن يسيروا فيه.

لقد صار الفكر علميّاً بحتاً في قرننا الحالي، وقد غزا التعصّب العلميّ أسلوب الحياة في الغرب وصار يمتدّ إلى الشرق، فحصلت الكوارث الفكريّة في الشرق، إذْ ظهر الهجين الليبرالي العشائريّ، وظهر التديّن العلميّ، واختلط الدين بالقوميّة، والاشتراكيّة العلمية بالدين، فظهرت تسميات غير منطقية كتيار يدمج ما بين العولمة والتعصّب والتقوقع واليمينيّة واليساريّة… فظهرت شخصيّات فكريّة متناقضة كلّ التناقض، وظهر التشظّي الفكريّ في كلّ مكان في الشرق.

كان هذا التشظّي الفكريّ مناسباً للحداثة الرأسماليّة، فطالما هناك حروب وكوارث وانشقاقات ومذاهب هناك احتكار، وهناك سيطرة للرأسمال، فينشط العمران وبناء المهدّم، وتنشط الصحّة ومصانع الأسلحة، وتجدّد الأفكار نفسها، وهناك إعلام يرعب الشعوب التي تتطلع إلى الثورة، وترعب الحكّام الذين تهتزّ عروشهم.

بالأسلوب العلميّ تستطيع أن تفكّك كل الأديان، وتفكّك الأخلاق والذاكرة والهويّة، والانتماء، تستطيع أن تنفي التاريخ، وتصنع تاريخاً جديداً لا يقبل أيّ تاريخ، فبالتعصّب العلمي (العلمويّة) تستطيع أن تحطّم كلّ ما هو مقدّس، وكلّ المجتمعيّة، ليسيطر الاحتكار التاريخي، ويصبح المهيمن الفكريّ الأوّل والأخير.

 

 

المبحث الثالث تحليل تناول بيكون للأصنام الأربعة

أوّلاً إيجابيات تحطيم الأصنام الأربعة

إيجابيات التحرّر من صنم القبيلة (المجتمعيّة): يستطيع الباحث عندما يحلّل التاريخ على سبيل المثال أن ينظر إلى التاريخ نظرة موضوعيّة، فالإنسان العربيّ على سبيل المثال عندما يحلّل التاريخ العربيّ عليه أن يتجرّد من عاطفته القومية والدينيّة، فعندما يتحدّث عن الخليفة هارون الرشيد عليه ذكر إيجابياته وسلبياته ضمن الظروف التاريخيّة حينذاك، لا أن يذكر مناقبه الحسنة، والقوّة التي وصلت إليها الدولة العباسيّة في عهده، وتشجيعه للعلم والمعرفة، والثقافة والفن، وينسى الجرائم التي ارتكبها، وشهواته…. وكذلك العكس صحيح، فهناك من يصوّر هارون الرشيد على أنّه زير نساء ويشرب الخمر فقط، ويسهر، وله ألف جارية….

إنّ الكثير من كتب التاريخ على سبيل المثال تمجّد من الشخص الذي ينتمي إليه الكاتب، وتشوّه من الخصم، لأنّه لم يحطّم وإن قليلاً من صنم القبيلة.

 

إيجابيات التحرّر من صنم الكهف (صنم المثاليّة والانعزاليّة): يرمز الكهف إلى أنّ النفس الإنسانية المتّصلة بالبدن، مثل سجين مقيد بالسلاسل، وضع في كهف، وخلفه نار ملتهبة تضيء الأشياء وتطرح ظلالها على جدار أقيم أمامه، فهو لا يرى الأشياء الحقيقية بل يرى ظلالها المتحركة، ويظنها حقائق. لا شكّ أنّ هذا الكهف المقصود هو العجز في الوصول إلى الحقيقة، فلا يستطيع الإنسان الوصول إلى الحرّيّة، بل تظلّ الحرّيّة وهميّة، فإدراكنا الحسي قاصر للوصول إلى الحقيقة المخفيّة، فالأشياء الحقيقية هي الجوهر، وعلى هذا فإن الفيلسوف – حسب أفلاطون – هو الذي يرتقي بنفسه ويفكر في المُثُل الجوهرية التي تكمن وراء المظاهر الخارجية، ويعرف الحقيقة ويميز العَرَض من الجوهر.

وهنا رمز إلى الإنسان الواصل إلى الحقيقة بإنسان ينتمي إلى طبقة معيّنة، فليس كلّ إنسان بقادر للوصول إلى الحقيقة، وهنا مبدأ احتكار الحقيقة، بالمقابل ليست الحياة عبارة عن روح فحسب، ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بالروح فقط، فالمثاليّة والتقوقع على الذات لهما أبعاد سلبية، فعندما ينزاح صنم الكهف، ينزاح القصور الحسّي.

إيجابيات التحرّر من صنم السوق (صنم الأفكار السوقيّة): إنّ السوق لا يحمل معايير صحيحة في كثير من الأحيان، فيختلط الحابل بالنابل، وتكثر الإشاعات، ويعلو صوت الغوغاء، فهناك من يتحكّم بالسوق، التاجر والمتنفّذ والسلطويّ والغني وصاحب الجاه… أي أنّ هناك طبقة تتحكّم بالسوق، وعندما يتخطّى هذا الصنم، تستطيع الأفكار الصحيحة الوصول إلى الجمهور، فعلى سبيل المثال باتت وسائل التواصل الاجتماعي منبراً سوقيّاً، ومن المهم عدم تصديق كل ما يرد في وسائل التواصل هذه، فالمنابر الإعلاميّة ذات المصداقيّة هي التي يجب أن تزوّد المجتمع بالمعلومة.

إيجابيات التحرّر من صنم المسرح (صنم الإيمان الأعمى بالسلف أي تقديس الماضيين): من الخطأ تقديس أفكار الماضيين، فأفكارهم مرتبطة بالزمان والمكان، فلكلّ وقت تفكيره، ومن المنطقي الاعتماد على بعض أفكارهم، ونفي بعضها، فحتّى المفكّر ذاته تتغيّر أفكاره حسب الزمن، فأفكار الإمام الغزالي على سبيل المثال متفاوتة ما بين كتبه الأولى وكتبه الأخيرة، فقد كان متزمتاً متعصّباً في بداياته، ووصل إلى مرحلة الشكّ في نهايات حياته، وكذلك الشاعر أبو العتاهية فقد كان شارب خمر، وزير نساء، وغدا زاهداً فيما بعد.

.

ثانياً سلبيات تحطيم الأصنام الأربعة

إنّ معالجة هذه القضايا هي معالجة ثوريّة لا محالة، وقد أحدثت تغييراً في بنية الفكر الغربيّ، والفكر العالمي بالضرورة، وهي قضايا مهمّة علينا معالجتها للوصول إلى الحقيقة، لكنّ مبدأ تحطيمها ونسفها أمر فيه إجحاف كبير بحقّ تاريخ الثورات المجتمعيّة على مرّ التاريخ، فسقراط على سبيل المثال قد دفع حياته ثمناً للوصول إلى الحقيقة، والمسيح أيضاً، والحلاج، وهناك من أحرقت كتبه كابن رشد والتوحيدي… فقد قدّم المفكّرون والقدّيسون للبشريّة ما لم يقدّمه أحد، دفعوا حياتهم ثمناً للوصول إلى الحقيقة، خلّدهم التاريخ، وعند نسفهم يعني نسف التاريخ.

إنّ الأصنام الأربعة التي دعا بيكون إلى تحطيمها والممثلة في (صنم القبيلة – صنم الكهف – صنم السوق – صنم المسرح) تتلخّص في تحطيم (صنم المجتمعيّة – صنم المثاليّة والانعزاليّة – صنم الأفكار السوقيّة – صنم الإيمان الأعمى بالسلف أي تقديس الماضيين) أي كانت دعوته إلى تقديس العلم وجعل الأسلوب العلمي المنهج الرئيس في الحياة، والابتعاد عن المثاليّة الموجودة في الأساليب (الميثولوجيةّ – الدينيّة – الفلسفيّة) وجعل المقياس العلمي هو المقياس الوحيد للوصول إلى الحقيقة، ورفض التاريخ البشري وجعله تاريخاً بدائيّاً.

من هنا ظهرت المصطلحات التي نفت الماضي وأسمت العصور الوسطى عصور الظلمات، وعصور العبوديّة حتّى وصل الأمر ببعض المفكّرين الحاليين إلى تسمية الأسلوب العلمي نهاية التاريخ، كالمفكّر فوكوياما، فالأوروبيون والأميركيون لا يهتمون كثيراً بالأصل الآن، ولا يهتمون بالعرق، ولا بالتاريخ، كلّ ما يهمهم هو الحاضر، والمستقبل، وكلّ فكرة جديدة تنفي سابقتها، كأنّ ماركس قد أسّس للحتميّة التاريخيّة والديالكتيك لخدمة الحداثة الرأسماليّة.

لا شكّ أن الأسلوب العلمي كان موجوداً لدى العديد من الحضارات السابقة التي كان فيها دمجٌ ما بين الأساليب الأربعة للوصول إلى الحقيقة (الميثولوجيا – الدين – الفلسفة – العلم) فالحضارة الفرعونيّة على سبيل المثال كان العلم فيها متطوّراً، كعلم الهندسة والطب والفلك…. فهذه الأهرامات والتحنيط …. شاهد على ذلك، وغيرها من الإمبراطوريات المشادة، ولم يصل هذا التطوّر العلمي إلى اكتشاف الكثير من المجالات التي اكتشفها واخترعها أجداده، وكذلك لم يصل العلم إلى النهاية, فكلّ يوم هناك اختراع جديد، واكتشاف جديد.

لقد ذكر فرنسيس بيكون تحطيم الأصنام الأربعة التي تقيّد الفكر، في كتاب أسماه الأورجانون أي الإله، والعنوان يلخص فكره، أي تحطيم الإله، أو الآلهة، والدعوة إلى إله جديد، وهو العلم والمنطق، وأدواته (القياس والتجريب والملاحظة والتعميم والتحليل والتركيب…) ورفض كلّ أداة غير منطقيّة، أي رفض ذاكرة المجتمع وتحطيم عقله، ووضع روبوت عوضاً عنه.

كان بيكون من دعاة المدنيّة، ورفض المجتمع الريفي الذي ظلّ مُحافظاً إلى حدٍّ ما على هذه الأصنام الأربعة، فالمدنيّة والمدينة تنحو نحو الخلاص من الجذور والمقدّسات، فما يهمّ المدينة هو فائض الإنتاج والاحتكار وتكديس المال، واستغلال الريف، ووضع الريف في خدمة المدينة، والمدينة تعني التضخّم السكّاني، والسيطرة والسطوة والمال.

إنّ الشكّ البيكوني الذي مهّد للشكّ الديكارتي كان الممهّد للخلاص من هذا الأسلوب الديني في الغرب، فتحطيمه الأصنام الأربعة، كان مشابهاً  لتحطيم سيدنا إبراهيم لأصنام تعدّد الأديان وثورة الدين الوحدانيّ، والتشابه بينهما هو الوحدانيّة، أي وحدانية التفكير، والأسلوب الوحيد للوصول إلى الحقيقة، فالمنهج العلمي الذي دعا إليه بيكون كان في سيطرة الإله الجديد (العلم) وجعل الإنسان محور العمليّة الفكريّة، وأنّ الطبيعة مسخّرة للإنسان كي تكون حقل تجارب له، وبالتالي صار الإنسان هو محور الكون، بينما كانت الطبيعة محور الكون في الأسلوب الميثولوجيّ.

 

 

الخاتمة

في المحصّلة نرى أنّ التحرّر قليلاً من سيطرة هذه الأصنام الأربعة تفيد في الوصول إلى الحقيقة، فهناك الكثير من المعتقدات التي تكرّس قمع المرأة، وهناك الكثير من الأمثال التي تمجّد القوّة، والسيطرة…. إنّ التحرّر من هذه الأصنام يعني أن يكون هناك خطّ عريض من القيم المطلقة للوصول إلى الحقيقة (المجتمعيّة – الحريّة المجتمعيّة – نبذ السلطة – العدالة – الحقّ – الجمال – المحبّة – التعايش – السلم – الوفاء – الصدق…) فما يتوافق مع هذه القيم علينا التشبّث به، وما يؤدّي إلى زعزعة هذه القيم علينا رفضه، فتحطيم أيّ صنم يعني نسف السلبيات والإيجابيات معاً.

لكنّ تحطيمها يعني نسف الماضي، والذاكرة، والانقطاع عن المجتمع والنزوع نحو الفرديّة المطلقة والجشع والأهواء كما أسلفنا.

 

انتهى البحث

 

[1] فرانسيس بيكون (1561 – 1626) فيلسوف ورجل دولة وكاتب إنجليزي، وكان مستشارا للملكة إليزابيث، عرف بقيادته الثورة العلمية عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على “الملاحظة والتجريب “. اعتمد منهجه التجريبي على مقولة: (لو بدأ الإنسان من المؤكدات انتهى إلى الشك، لكنه لو اكتفى بالبدء في الشك، لانتهى إلى المؤكدات) وعدّ بيكون من أوائل الذين دعوا إلى تحرير الفكر والاصطباغ بالروح العلمية في العصور الحديثة في كل أوروبا.

[2] الأورجانون،  كلمة إغريقية تعني “الآلة”، أو “الأداة”.

[3] في كتاب “الأورجانون الجديد”، افترض بيكون أصنامًا أربعة، يجب على العقل الجمعي العالمي التخلص منها ، تلك الأصنام ترسّخت في العقلية الإنسانية على مر العصور، فزرعت في عقولنا مجموعة من الأوهام والخرافات والتقاليد الفاسدة باعدت بيننا وبين جوهر العقل الصافي ومعدنه الفطري الاصيل  فتعذر الوصول إلى الحقيقة.

[4] يسرد أفلاطون قصّة عن مجموعة من البشر مقيدين بالسلاسل داخل كهف مظلم ليس به إلا فتحة صغيرة، موجودة خلف ظهورهم. فلا يشاهدون من الحياة الخارجية إلا ظلال البشر السائرين بالخارج المنعكسة على جدار الكهف المقابل لعيونهم. فالعالم الخارجى وفق أفلاطون، خارج الكهف، هو عالم المُثُل وهو العالم الحقيقى غير المرئى لنا، وأما داخل الكهف، فهو الحياة التى نعرفها على الأرض وهى زائفة لا ترى من الحقيقة إلا ظلالها.

[5] تميِّز الميتافيزيقيا الأفلاطونية بين عالمين: العالم الأول، أو العالم المحسوس، هو عالم التعددية، عالم الصيرورة والفساد. ويقع هذا العالم بين الوجود واللاوجود، ويُعتبَر منبعًا للأوهام (معنى استعارة الكهف) لأن حقيقته مستفادة من غيره، من حيث كونه لا يجد مبدأ وجوده إلا في العالم الحقيقي للـمُثُل المعقولة، التي هي نماذج مثالية تتمثل فيها الأشياء المحسوسة بصورة مشوَّهة. ذلك لأن الأشياء لا توجد إلاَّ عبر المحاكاة والمشاركة، ولأن كينونتها هي نتيجة ومحصلِّة لعملية يؤديها الفيض، كـصانع إلهي، أعطى شكلاً للمادة التي هي، في حدِّ ذاتها، أزلية وغير مخلوقة، يشرح أفلاطون عملية سقوط النفس البشرية التي هَوَتْ إلى عالم المحسوسات –بعد أن عاشت في العالم العلوي- من خلال اتحادها مع الجسم. لكن هذه النفس، وعن طريق تلمُّسها لذلك المحسوس، تصبح قادرة على دخول أعماق ذاتها لتكتشف، كالذاكرة المنسية، الماهية الجلية التي سبق أن تأمَّلتها في حياتها الماضية: وهذه هي نظرية التذكر، التي يعبِّر عنها بشكل رئيسي في كتابه مينون، من خلال استجواب العبد الشاب وملاحظات سقراط الذي “توصل” لأن يجد في نفس ذلك العبد مبدأً هندسيًا لم يتعلَّمه هذا الأخير في حياته.

[6] كلمة يونانية مؤلفة من شطرين: Mythos وتعني الأسطورة، وLogy وتعني العِلم. أي علم الأساطير، وبخاصة تلك المتصلة بالآلهة وأنصاف الآلهة والأبطال الخرافيين عند شعب ما. وهو علم معني بالبحث في أساطير الأولين وتفسيرها. وينقسم إلى أربعة حقول: الثيوغونيا، وعلم نشأة الكون، والأنثروبولوجيا، وعلم الإيمان بالأخرويات والبحث فيها (المترجِمة).

[7] مانيفستو – المجلد الأوّل – الصفحة 28

[8] الميتافيزيقيا أو علم ما بعد الطبيعة، الفَوْطَبيعة: ويعني البحث في الموجودات اللامادية. وبينما كان يشمل قديماً البحث في الأمور الإلهية والمبادئ الكلية والعلل الأولى، فإنه عند المحدثين مقصور على البحث في مشكلة الوجود والمعرفة المطلقة التي يحصل عليها بالحدس المباشر. وبعض الفلاسفة يُعَرِّفه على أنه المعرفة بالعقل لإدراك حقائق الأشياء، لا ظواهرها، لذا سمي بالفلسفة الأولى (المترجِمة).

[9] مانيفستو – المجلد الأوّل – الصفحة 31

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى