أبحاث ودراساتافتتاحية العددعواس عليمانشيتملف العدد 54

  الاستراتيجية والأمن القومي

عواس علي

عواس علي

عواس علي
عواس علي

لم تكن الغاية من كتابة هذا البحث تقديم مادة لمجلة الشرق الأوسط الديمقراطي لملء صفحاتها، بل كانت الغاية الأساسية لفت انتباه الإداريين في الدولة ومفاصلها  للتعرّف على الشخص الاستراتيجي، الذي يمتلك قدرات استراتيجية وقادر على أن يرسم لإدارته استراتيجية تجعلها في نموّ متكامل ومستديم، وإلا فما عليه إلا أن يترك مكانه لغيره ويتيح الفرصة لمن هو أجدر بإدارة تلك اللجنة أو الإدارة، عبر رسم استراتيجية مُثلى، فالنتيجة المتولدة عن جهله بأمور الإدارة الناجحة التي تقوم على الاستراتيجية والتخطيط العلمي، تنعكس على جميع أفراد الدولة، وربما هو الناجي الوحيد عبر ما يتقاضاه من مرتّبات ومكافآت فاسدة.

ويجب أن نعلم بداية أن الغاية من وجود الدولة هي إشباع حاجات المجتمع، وتأمين الأمان والرفاهية للشعب، بموجب فرض قوانين تداري مصلحة الشعب وتغلّبها على المصلحة الفردية والخاصة.

ويجب أن نعلم أيضاً أن أهمّ ميّزة في الإدارة التي تنوي العمل على الاستراتيجية، هي أن تكون إدارة أو حكومة رشيدة.

فماذا تعني الحكومة الرشيدة؟

الحكومة الرشيدة هي الحكومة التي تمتلك الإمكانات والصفات التي تجعلها قادرة على وضع الخطط الاستراتيجية وتحقيق النمو المتزايد (التنمية المستدامة)، وبالإضافة لتلك الإمكانيات يجب أن يكون لدى تلك الحكومة الإيمان التامّ بالعمل من أجل المصلحة العامة، وأن تمتاز بالنزاهة المطلقة والتفاني، وألا ينظر أفرادها إلى المناصب في الإدارات على أنها تحقيق طموح لمكسب مادي في جمع الأموال والعيش بالترف والبذخ.

ويلخّص ذلك قول عمر بن الخطاب حيث قال: “وُلّينا على الناس لنسدّ جوعتهم ونؤمّن لهم صنعتهم و ندفع العدوّ عنهم”.

وتتلخص مهامّ الدولة أو الحكومة بتلك النقاط الرئيسية، فمن واجب الدولة أن تقوم بتأمين الغذاء للشعب، وأن تجد أو تخلق له فرص العمل، وذلك في سبيل مكافحة البطالة، والمهمة الثالثة التي ترتبط بالمهمتين السابقتين، هي تأمين الأمن والاستقرار، وذلك ما يدعى بالأمن القومي “الأمن الوطني” ولا يمكن أن تحقق الدولة مهامّها بدون تأمين الأمن الذي يزرع في نفوس الشعب الطمأنينة والاستقرار، وكل ذلك لا يأتي إلا مع وجود الحكومة الرشيدة.

وخير مثال على الحكومة الرشيدة؛ الرئيس السنغافوري والوضع العامّ لدولة سنغافورا التي كانت مستعمرة بريطانية حتى عام 1960، وفي عام 1965 نالت استقلالها، وكانت نسبة الأمية حينها تفوق 75 بالمئة بين السكان، و لكن الرئيس السنغافوري”لي كوان يو” انطلق من دافع الوطنية في تحقيق النموّ في فترة قصيرة جداً، وبدأ من التعليم والعمل على إيجاد ثقافة عامة للشعب، ثقافةٍ تحتوي على الالتزام والعمل الجادّ، وساعده في ذلك نزاهته وتضحيته وتماسكه مع فريقه الاستراتيجيي، وانطلق من أهمّ مفصل في النموّ وهو مفصل التربية والتعليم، لتصبح سنغافورا ثالث دول العالم من حيث الرفاهية للفرد، وفي معدّل الدخل يقول (لي كوان يو) في كتابه (من العالم الثالث إلى الأول): “بعد عدة سنوات في الحكومة، أدركت أنني كلما اخترت أصحاب المواهب والكفاءات كوزراء وإداريين ومهنيين، كانت سياستنا أكثر فعالية ونجاحاً”. وما يقصده كوان بالسياسة هي السياسة الاستراتيجية.

والأمر الثاني الذي يسرّع في عملية رسم الاستراتيجية والسعي لتحقيقها، هو البنية الاجتماعية المتماسكة، فلا يمكن لدولة أن ترسم استراتيجيتها وأن تحقق أهدافها العامة التي تتمحور حول حماية الأمن القومي، دون مجتمع متماسك يمتلك ثقافة وطنية تشمل القيم الأساسية للوطن، وتقدّمها فوق جميع القيم، وأن تحتوي جميع الثقافات الفرعية للأقليات الإثنية في المجتمع وتعمل على حمايتها وفق خصوصيتها.

القوة الشاملة

القوة الشاملة تعني أنّ الدولة يجب أن تمتلك قوة متكاملة من جميع الأطراف والمحاور، فالقوة العسكرية لوحدها لا تكفي، ولا بدّ أن يكون بجانبها قوة اقتصادية وقوة علمية، وقوة ثقافية وقوة إعلامية…الخ.

فأيّ نقص في جانب من جوانب القوة الشاملة يجعل تلك الدولة مهدّدة في أمنها القومي، ومثال على ذلك؛ الدولة التي تملك قوة عسكرية ضاربة ولكنها لا تملك مساحات لزراعة القمح، نجدها مهددة في أمنها الغذائي، ولا نستطيع أن نقول عن تلك الدولة إنها تمتلك قوة شاملة قادرة على حماية أمنها القومي.

بات العالم  في بداية القرن التاسع عشر مقسّماً بين  ثلاثة عوالم: العالم الأول والعالم الثاني والعالم الثالث، وربما في هذا القرن تحوّل التقسيم إلى عالم مصنّع للتكنولوجيا وعالم مستهلك لها، وقد نصيب فيما لو قسّمنا العالم إلى عالم يعيش وفق استراتيجية وعالم مشرف على حدود الاستراتيجية، وعالم آخر يعيش على الهامش ولا يعرف من الاستراتيجية سوى مفهومها الخاطئ.

إن وقع مفهوم الاستراتيجية على أسماعنا، يرسم في مخيلتنا ذلك المفهوم الذي يعني في مضمونه أنواع العلاقات الدولية والأحزاب والإدارات، فهناك علاقات استراتيجية وعلاقات تكتيكية، وفي حقيقة الأمر إن هذا المفهوم ليس إلا خطوة من الخطوات التي قطعتها الاستراتيجية في مضمارها عبر الزمن، حتى تحوّلتْ إلى مفهوم يحيط بجميع جوانب الحياة، فإذا كان الأمن القومي هو الهدف فالوسيلة التي لا بدّ منها للوصول؛ هي الاستراتيجية، والتخطيط هو عيون تلك الاستراتيجية، وربما كل الدول تسعى في سعي متواصل للوصول إلى القوة الشاملة التي بدونها لا يمكن تحقيق الأمن القومي.

بدأ ظهور مفهوم الاستراتيجية في الأساس، كمفهوم مرتبط بالقوة العسكرية، وتعني قيادة الجيش، أي اقتصر هذا المفهوم على القوى العسكرية وأسلوب إدارة تلك القوى في الحرب، وسرعان ما تحوّل ذلك المفهوم عبر الزمن إلى وضع الخطط العسكرية، وثم تحوّل إلى مفهوم عام وشامل لجميع جوانب الحياة، بداية من الأسرة والفرد وانتهاء بالدول. ومن خلال التطرق لمفهوم الاستراتيجية نجدها ترتبط ارتباطاً مباشراً بالتخطيط، فالاستراتيجية لا يمكن إيجادها بدون تخطيط.

التخطيط والاستراتيجية

التخطيط يرسم المسار الذي يمكن أن تمرّ عبره الاستراتيجية حتى تحقق هدفها، ولا بدّ من التفريق بين التخطيط الاستراتيجي والتفكير الاستراتيجي، فالأول ينطلق من تحليل الواقع الذي سينطلق منه، أما التفكير الاستراتيجي فيعمل على جمع أجزاء الواقع الذي سينطلق منه.

والتخطيط لا بدّ أن يكون له مواصفات، فالتخطيط الاستراتيجي يمتاز بالأمد الطويل، ويجب أن يحقق التكامل بالاستناد إلى استراتيجية الإدارات الأخرى، ولا يكون بمعزل عنها، ويحتاج لكادر متخصص ومؤهل وملمّ بجميع جوانب الاستراتيجية المراد العمل عليها  ومتماسك بنفس الوقت، فالكادر المتنافر لا يمكن أن يحقق نتائج إيجابية في عمله، و أن يكون لديه الإمكانية لدراسة الماضي وتحليله مقارنة بالحاضر الذي يحتوي و يتضمن الواقع الذي ستنطلق منه الاستراتيجية، للوصول إلى التنبؤ بالقدْر المستطاع لرسم ملامح المستقبل، ووضع الخطط البديلة، فلا يكفي رسم خطة واحدة، بل لا بدّ من خطط بديلة، وكذلك أن تتضمن الخطة الموضوعة المرونة لسهولة التعديل، في حال مواجهة العراقيل والصعوبات.

 

الاستراتيجية والتخطيط والتنمية المستدامة

إن غاية الاستراتيجية والتخطيط تحقيق تنمية مستدامة، والتنمية المستدامة تكون تنمية في الموضوع الذي تتناوله الاستراتيجية، وقد تكون تنمية بطيئة، ولكنها تتميز بالديمومة، وتحقيق تزايد في ديمومتها.

وقد تفرّعت الاستراتيجية حتى أصبحت ذات جوانب متعددة، الجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي والجانب الثقافي والجانب التعليمي والجانب السياسي والجانب الإعلامي، وأصبح الجانب العسكري للاستراتيجية هو الجانب الأخير، وتجتمع جميع هذه الجوانب لتشكل الاستراتيجية العامة للدولة.

ولا بدّ من التطرق للمفهوم الجديد للاستراتيجية، ولا بدّ أن ننوّه إلى أنه تمّ استخدام مفاهيم بسيطة لئلا يصعب على القارئ معرفتها وفهمها، ودون حاجة للرجوع إلى القواميس السياسية، فقد عملنا على تبسيط المفاهيم إلى الحدّ الذي يمكن للقارئ فهمها.

اتّسع المفهوم العام للاستراتيجية حتى أصبح يعني امتلاك الدولة نظرة بعيدة مدروسة، ومخططة لكافة جوانب الحياة لتحقيق هدف ما، ونعني بالجوانب العامة، الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي والتربوي والإعلامي…الخ.

وعندما نأخذ الجانب الاقتصادي لربما يتبادر لذهن المرء، أن الطبيعة كانت سخية مع بعض الدول بمواردها وشحيحة مع الأخرى، وهذا المفهوم مفهوم خاطئ، ففي أحد الأعوام عانت اليابان من ندرة اللحم، فما كان عليها إلا تصنيع اللحم من لحاء الأشجار، وهذا يعني أن الاقتصاد والموارد تتوقف على مدى التطور والبحث العلمي في الدولة، والمثال الآخر يُضرب بالسودان، تلك الدولة الواقعة على خط الاستواء وتمتلك مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والثروة الحيوانية، ومع ذلك نجدها تعاني من المجاعة مع كل هذه الظروف الطبيعية، فلا يكفي للدولة أن تمتلك الموارد الاقتصادية، بل لا بدّ لها أن تعرف كيف تستفيد من هذه الموارد، وتأتي الاستفادة من خلال رسم استراتيجية لكيفية استثمار هذه الموارد وتنميتها، فالدولة التي تملك أراضي زراعية يجب أن تقوم بوضع استراتيجية لاستثمار هذه الأراضي، عبر نوعية البذار الملائم، والأسمدة التي تحتاجها، والحراثة، وطرق الري، ونوع المحصول وتقديم الدعم للفلاح لتشجيعه على الزراعة، وتحديد المساحات الزراعية ونوع المحصول ذي الأهمّية بالنسية للدولة، لتأمين الحدّ الذي يجعلها تحافظ على أمنها الغذائي، وتلي أهمّية الأمن الغذائي أهمّية التسويق في الأسواق العالمية، فلا بدّ أن يمتلك ذلك المحصول القدرة التنافسية في الأسواق العالمية في الحدّ الفائض عن الحاجة، فالقمح المطلوب عالمياً هو نوع القمح القاسي الذي يصلح للخبز، والذي لا يحتوي على كمية من بذور النباتات التي تخالطه أثناء الحصاد، فلا بدّ من استخدام المبيدات للقضاء على الأعشاب التي تخالط القمح، والتي تُفقده قدرته التنافسية في الأسواق العالمية.

و الحقيقة أن الدولة يمكن أن تحقق أمنها القومي عبر تحالفاتها السياسية الاستراتيجية، ولا يمكن للدولة أن تحقق أمنها الوطني بمعزل عن الدول الأخرى، فالفائض من القمح يحقق مدخولاً من العملة الصعبة، الأمر الذي يُمكّن الدولة من شراء ما هي بحاجته من الأسواق العالمية عبر تحالفاتها السياسية.

والمُحزن أن بعض الدول تمتلك مخزوناً مائياً وأنهاراً، وتعاني من المخزون الاستراتيجي للقمح، وتعتمد على الزراعة البعلية، فتجد الفلاح يهرب من الزراعة المروية ويلجأ إلى الزراعة البعلية، كونها لا تتطلب منه سوى الدعاء والتضرّع لله ليمنّ على أرضه بقطرة مطر، وسبب تهرّبه هو عدم تقديم الدعم له من قبل الدولة (الحكومة)، وفي سنوات المواسم الخصبة تجده يحتار في تسويق محصوله، فتقوم الدولة بشراء محصوله بثمن بخس، فيضطر في السنة اللاحقة إلى الاستغناء عن الزراعة. ويُضاف إلى أسباب عدم امتلاك الدولة لاستراتيجية زراعية، أن الفلاح يهرع إلى زراعة الثوم الذي ارتفع سعره لندرة زراعته، فيتفاجأ بتدنّي سعره في العام التالي كون معظم الفلاحين قاموا بزراعة الثوم.

ولو تطرّقنا للجانب الإعلامي، فليس من الخطأ القول إن الحرب في هذا القرن انتقلت من الحرب العسكرية للحرب الإعلامية، ويجب أن نعلم أن الدولة تخصص ميزانية ليست بالهيّنة للإعلام ودوره في الحرب النفسية والمعنوية والاستخباراتية.

الدولة التي لا تملك استراتيجية إعلامية ليس لها مكانة بين الدول، فالإعلام هو محطة التعريف العالمي بالدولة  وقدراتها، ويكاد أن يكون الإعلام جزءاً لا يتجزّأ من القوة العسكرية، فالقوة العسكرية التي لا تملك استراتيجية إعلامية لن تستطيع أن تكسب الرأي العالمي وتأييده لها في أزماتها، فالإعلام الناجح يستطيع أن يغير مجريات الحرب، وأن يحوّل الحق لباطل والباطل لحق، وما أكثر المرات التي أظهر فيها الإعلام ناساً تتباكى على مقتل الأطفال، وبثّ صوراً مرعبة غيّرت وجهة نظر العالم، وكسبت الرأي العالمي للوقوف إلى جانبهم.

وربما المثال الحي هو الإعلام الأمريكي الذي يُظهر الجندي الأمريكي مدجّجاً بالسلاح كجندي خارق، يخوض الحرب بدون خوف ويحقق النصر دون خسائر، وهو يدافع عن الأطفال والنساء، بينما الإعلام الفاشل يُظهر كيف يقومون بقطع رأس أحد الصحافيين، وكيف يقتلون الجنود الأسرى، ويستطيع الإعلام الذي يملك استراتيجية تغيير مجريات الحرب على الأرض، عبر نقل صور حية من المعركة تظهر حقائق مغايرة للواقع.

ومن جانب آخر تجد الحوارات في الإعلام الناجح تجذب المشاهد لمتابعتها، عبر طريقة التصوير الاحترافي والحوار الناجح ذي الحيوية، بينما الحوار في الإعلام الفاشل تجده حواراً جافاً ومملاً، ويتم اتخاذ لقطة من جهة واحدة وبطريقة غير احترافية. ولا يفوتنا أن نذكر دور الإعلام وما يلعبه في الداخل من دور في تجييش الشعب وتهييجه، ضد جهة معينة، وما يلعبه من دور في إخماد المظاهرات والفوضى وتنفيذ سياسة الدولة الداخلية والخارجية.

يمتلك الإعلام الناجح استراتيجية ناجحة تتضمن:

1 ـ تحديد الأهداف العامة لعمل الإعلام

2 ـ تحديد الجهات المستهدفة

3 ـ تحديد الطريقة المؤثرة على الجهة المستهدفة إن كانت الجهة المستهدفة تتأثر بالدين أو العاطفة مثلاً

4 ـ انتقاء أفضل طرق التصوير التي تؤثر في المشاهد

5 ـ العمل على إظهار نقاط الضعف لدى العدو

6ـ العمل على إظهار نقاط القوة لدى القوى الحليفة

7 ـ الاحترافية العالية في نقل المعلومة للمتلقي، هذا على الصعيد الخارجي، أما على الصعيد الداخلي فإظهار منجزات الإدارة وما تقدمه من خدمات أساسية للشعب، بدون مبالغة مكشوفة تجعل ذلك الإعلام محل سخرية، فاللقطة الأولى هي التي تلخّص مضمون العرض، وتجذب المشاهد للمتابعة، ويجب أن يكون الإعلام تجاه الداخل منبراً للحقيقة التي يقبلها الشعب، فليس من المعقول أن الناس تفتقد السكر ويذهب الإعلام لإظهار مضارّ السكر، فذلك ما يجعل الموضوع الإعلامي ينعكس سلباً على الواقع الاجتماعي.

ويجب أن نعلم أن افتقاد الدولة للاستراتيجية، ينعكس سلباً على الوضع الاجتماعي الذي سنتناوله بالتفصيل، من عدم الشعور بالأمان والاستقرار، والاكتفاء الذاتي، والبحث عن طريقة الاكتناز للمستقبل البعيد لتأمين مستقبل عائلته، فيلجأ إلى الاختلاس والرشوة والفساد.

وبداية يجب أن نعرف أن الغاية الأساسية للاستراتيجية والهدف المنشود، هو تحقيق الأمن القومي للدولة.

والأمن القومي للدولة لا يتحقق بدون تحقيق القوة المتكاملة أو الشاملة.

والقوة المتكاملة لا تتحقق بدون التنمية الشاملة والمستدامة.

فهذه سلسلة مترابطة ببعضها البعض، ولا يمكن الاستغناء عن أي حلقة من هذه السلسلة، ولو فقدنا إحدى الحلقات، فهذا يعني أننا لن نستطيع تحقيق الأمن القومي للدولة، وهو الهدف لكل دولة في العالم.

فلا بد من التطرق للأمن القومي بداية وهو الهدف المنشود لكل دولة.

ربما مفهوم الأمن القومي مفهوم يضيق بجانب مفهوم الأمن الوطني، فلو نظرنا إلى ما يعنيه مفهوم الأمن القومي، فهو يشتمل على معنى أمن قوم معينين بذاتهم، أي قومية محددة بعينها، والحقيقة لو أجرينا استبانة لجميع دول العالم، فلن نجد دولة تضم قومية بحالها، فالقوميات تتعدد في كل دولة، حتى الفاتيكان ربما تتّحد في الدين لكنها لا تتّحد قومياً، وحين نقول الأمن القومي فنحن نعني قومية بذاتها في الدولة، و ننفرد عن باقي القوميات التي قد تُعتبر أقلية في الدولة، لذلك نرى أن مفهوم الأمن الوطني أعمّ وأشمل من الأمن القومي.

لكي تحقق الدولة أمنها الوطني لا بدّ أن تملك القوة الشاملة، والتي تتبلور في الاستراتيجية من جوانبها العديدة، والتي هي ذات الجوانب التي يشتمل عليها الأمن الوطني والذي يعني “أن الدولة يجب أن تمتلك كافة الاحتياجات التي تجعلها قادرة على ضمان الدفاع عن أمنها الداخلي والخارجي”.

وبداية سنتعرف على الجوانب التي يشملها الأمن القومي للدولة، حيث يشمل الأمن الداخلي جوانب أو مرتكزات عدة:

1 ـ الجانب الاجتماعي

2 ـ الجانب الاقتصادي

3 ـ الجانب الثقافي

4 ـ الجانب العلمي والتربوي

5 ـ الجانب الأمني

6 ـ الجانب السياسي

7 ـ الجانب الإعلامي

8 ـ الجانب العسكري

يعتبر الأمن القومي بمفهومه العام والمختصر هو: قدرة الدولة على الدفاع عن نفسها داخلياً وخارجياً.

فالجانب الداخلي مرتبط برضى الشعب وقبوله بالحكومة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا عبر تأمين الأمن المجتمعي، وذلك عبر تطبيق المساواة بين أفراد المجتمع من حيث الوظائف العامة والعدالة، وخاصة الدول التي تضم بداخلها أكثر من مجموعة أثنية، سواء أثنية دينية أوعرقية أو طائفية، وذلك ما ينعكس على شعور الفرد والمجتمع بالعيش في أمان واستقرار، ومن جانب آخر يأتي ذلك الشعور من تأمين الحياة الكريمة للشعب، وتوفير جميع حاجياته ومتطلباته، من السكن مروراً بالغذاء والدواء، فالدولة التي لا تستطيع أن تؤمن متطلبات شعبها، لا يمكن أن توفر الأمن المجتمعي، وإن توفر فهو عبر استخدام العنف والإرهاب ضدّ الشعب، وسيأتي اليوم الذي ينفجر فيه الشعب بوجه الحكومة، والأمثلة تكاد لا تُحصى في الشرق الأوسط وإفريقيا، فأغلب تلك الدول تعيش حالة استقرار داخلي وهمي، عبر استخدامها القوة والعنف ضد المعارضة الفردية أو المنظمة، وأقرب مثال على ذلك الحالة السورية والحالة اليمنية، فكنا نرى ظاهر المجتمع السوري يسوده الأمان والترابط المجتمعي، هذا في الظاهر ولكن الحقيقة المبطنة، أن الشعب السوري كان متشرذماً يعيش على شكل مجموعات أثنية، فالسنّة يشكلون مجموعة الأخوان المسلمين، والأكراد مجموعة قومية تشمل عدة أحزاب قومية، وكذلك التركمان والدروز، وكانت الحقيقة المبطنة هي: مجتمع مهلهل ومفكك  عبر الممارسات السلطوية من قبل الحكومة تجاه التنوع الأثني، خاصة تجاه الأكراد والسنّة، فأغلب المراكز في الحكومة والأمن يتبوّؤها رجالات من الطائفة العلوية المستولية على الحكم في سوريا، وسرعان ما انفجر ذلك الشعب وظهرت الحقيقة، مجتمع متفكك ومتصارع ولا يمتلك أدنى مقومات الثقافة الوطنية.

الجانب الاقتصادي

يجب أن نعلم أن مجمل الصراعات في بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا، هي عبارة عن صراعات اقتصادية مبطنة، فأغلب الحروب هي نتيجة مصالح اقتصادية، يراد تحقيقها عبر الحرب، وفي أكثر الأحيان تأتي على شكل أزمات مفتعلة من قبل الدول التي تمتلك القوى العسكرية و تعاني من أزمات اقتصادية، والأمثلة لا تحصى.

وربما من الحقائق أن الدول الفقيرة في تنميتها الاقتصادية، كانت تلك الموارد نقمة عليها بدل النعمة، فكانت السبب وراء اندفاع الدول الاستعمارية عليها.

ويقول بعض المفكرين إن الأمن القومي هو التنمية بذاتها، فالدولة التي لا تنمّي مقدراتها الاقتصادية تبقى عاجزة عن تأمين أمنها القومي، فالجانب الاقتصادي من الأمن القومي يشتمل على تنمية تلك الموارد لبلوغ حدّ الاكتفاء الذاتي، ومن ثم العمل على تنشيط التجارة الاقتصادية، وسبق أن تحدثنا عن صفات التجارة، ويجب أن يتم توزيع تلك الموارد والخدمات بشكل عادل بين أفراد المجتمع والمناطق، من بناء المعامل والمشاريع والخدمات العامة، ففي بعض الدول نجد أن الخدمات في بعض المناطق تتدنى عن البقية، كما هو الحال في إيران، فنجد الخدمات في المناطق السنّية أقلّ من المناطق الشيعية، وكذلك المناطق الكردية، ونجد أن أغلب الوظائف العامة في الدولة يحوزها الشيعة، وكذلك في إثيوبيا نجد أن الخدمات تتركز في المناطق التي يقطنها المهريّون وتقل في المناطق التي يقطنها التغريّون وبقية المكونات الأثنية.

كل تلك العوامل تجعل المجتمع مجتمعاً مشرذماً ومهلهلاً وغير متماسك، وتنعكس كل تلك الظروف على الأمن الوطني، فذلك الوضع يسهّل الدخول للدول الطامعة والتغلغل بين السكان والتحريض على الصراع الداخلي والحرب الشعبية، وبالتالي نجد أن الدول التي تمتلك القوى العظمى تجتاح تلك الدول بحجة الدفاع أو الوقوف إلى جانب بعض الأقليات، تحت مسمى حقوق الإنسان، فلا بدّ للدولة التي تطمح إلى الحفاظ على أمنها الوطني أن تعمل على تماسك البنية الاجتماعية لمجتمعها.

الجانب الثقافي

ربما يمتاز الجانب الثقافي في المجتمع بأهمّية خاصة، كونه يعبّر عن البنية الأخلاقية وأسلوب التعامل العام للأفراد مع بعضهم البعض، وأسلوب التعاطي مع المواقف الاجتماعية، ومدى الالتزام العام بالقوانين والقيم الاجتماعية المثلى والقيم الوطنية.

وتعكس الثقافة العامة الثقافة الوطنية، وغالباً ما تكون الثقافة الوطنية عبارة عن ثقافة مكتسبة، تعمل الدولة على زرعها في نفوس أفراد المجتمع، كتقديم المصالح الوطنية العامة على مصالح الأفراد، ومكافحة الفساد والالتزام بالقوانين والحفاظ على الأملاك والخدمات العامة. وسنوضح ذلك من خلال مقارنة بين بعض الدول، إذ يجد جلّ المفكرين والباحثين، أن الأسباب الرئيسية وراء انهيار معظم الدول الاستراكية، هو أسلوبها الخاطئ في بناء الإنسان، ببنية فكرية إيديولوجية حزبية “التمسك بالإيديولوجية الشيوعية ” والابتعاد عن البنية الوطنية، فنجد المواطن الروسي يقدّس الحزب أكثر من الوطن، وارتباطه بالحزب أكثر ارتباطاً من الوطن، والاهتمام بالبناء الفكري أكثر من البناء العلمي والتقني، مما خلق أزمة في الولاء الوطني لصالح الولاء الحزبي، وكذلك معظم دول الشرق الأوسط وإفريقيا، نجدها تقدّم الولاء للقيادات والأحزاب على الولاء للوطن، والولاء للمجموعة الأثنية سواء على مستوى القبيلة أو الدين أو القومية،  كل ذلك انعكس على البنية المجتمعية التي أضحت بنية متشرذمة، أما في الجانب الآخر فنجد في القارة الأوربية دولاً تحتوي على مجموعات أثنية تحتفظ بخصوصيتها، وتحمل ثقافة صغرى على مستوى الجماعة وثقافة كبرى على مستوى الوطن، وكان السبب وراء ذلك هو العمل على إيجاد ثقافة وطنية شاملة لمجموع الثقافات الصغرى، تحتوي على قاسم مشترك بين جميع الثقافات وهو الثقافة الوطنية الشاملة، التي تعمل على رفع القيم الوطنية وتقديسها، بدل الثقافات الفكرية والحزبية والإيديولوجية الضيقة، وكذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، هناك حزبان رئيسيان يعملان وفق الثقافة الوطنية الأمريكية العامة، ولا نجد أفكاراً إيديولوجية خاصة بأي حزب يعمل على تحقيقها.

الجانب التربوي العلمي

يُقصد بهذا الجانب، الجانب التعليمي، والذي ينطلق منه الجانب الثقافي، ويشتمل على العمل على تطوير التربية والتعليم في المدارس في كافة مراحلها، من الابتدائي وحتى الجامعة، والعمل على تطوير المناهج التعليمية والأخلاق العامة، وما يتناسب مع حاجيات المجتمع والقيم الإيجابية والتشجيع على التعليم، وتقديم العون للعاملين في هذا المجال عبر اكتفائهم المعيشي والعيش بكرامة دون الحاجة والعوز، وما أذكره من الامثلة في جامعة حلب، أنه كان أغلب الدكاترة المدرّسين في الجامعة يتزاحمون مع الطلبة على ركوب باص النقل الداخلي، بينما المسؤول الحزبي (حزب البعث) يأتي بسيارته الفارهة ويدخل بها إلى الحرم الجامعي، وكلنا يعلم أن التنمية في سنغافورا بدأها الرئيس “لي كوان يو” بأن منح المدرّسين والمعلمين  أكبر سقف من الرواتب، وكذلك التشجيع للأبحاث العلمية و توفير الأماكن البحثية للباحثين، ومنحهم الوقت الكافي بتفريغهم لمجالاتهم البحثية، وتقديم العون لهم.

الجانب الأمني

ينطلق الجانب الأمني من التعريف بالمفهوم الأمني ورجالاته، عبر العودة به إلى المسار الصحيح الذي انحرف عنه ذلك المفهوم.

فمفهوم الأمن ورجال الأمن يأتي من الحفاظ على أمن المواطن، وتوفير الاستقرار والعيش الآمن له، وعدم ترويعه وتخويفه، ومهمة رجل الأمن الأساسية هي زرع الأمان في الوطن والحفاظ على الأموال العامة، والخدمات العامة، غير أن الحقيقة في معظم بلدان الشرق وإفريقيا أن رجل الأمن مهمته الحفاظ على السلطة وتأمين الأمن لرجالاتها في وجه المواطنين، فبدل أن يقف رجل الأمن مع المواطن ضدّ السلطة، نجده يقف مع السلطة ضد المواطن ويعمل على محاربة كل من ينتقد أو يكشف حقائق الفساد في السلطة، فتحوّل من إنسان أمني مجتمعي إلى إنسان أمني سلطوي، غايته الحفاظ على السلطة وحمايتها، والتجسس على الشعب لمعرفة مدى ارتباطه بالسلطة أو الاساءة لها، فنجد غايتهم هي ملاحقة المعارضة وزجّها في السجون، وخير مثال ما حدث في تركيا ويحدث، فرجال الأمن مهمتهم تنفيذ أوامر الرئيس التركي في ملاحقة المعارضة واعتقالها وزجّها في السجون، بحجة العمالة لأطراف خارجية، وتهديد الأمن الوطني (الأمن القومي)، ونجد معظم الحكومات في البلدان النامية تضرب حولها طوقاً أمنياً لحمايتها من الشعب، ولا تنسى أن تجد لها عدوّاً خارجياً كشمّاعة تعلّق عليها أسباب اعتقال كل من يعارضها في أحكامها وقراراتها الفاسدة،  ونجد حتى القوى العسكرية في تلك البلدان التي تنحصر مهمتها بالدفاع عن أمن الوطن من الاعتداءات الخارجية، نجدها تعمل على الدفاع عن السلطة بدل الوطن، وقد تمّ الزرع في نفوس تلك القوى ثقافة “السلطة هي الوطن”، وقدسية أفراد السلطة قبل قدسية الوطن، ونجد ولاءها للسلطة أكثر من الوطن، لذلك يجب على الدولة أن تُوجِد قوى أمنية تحافظ على أمنها المتبلور في أمن المواطن، بدل الحفاظ على أمن السلطة، وغاية تلك القوى الحفاظ على أمن المواطن ومكافحة الجريمة، فلا بدّ من تصحيح مسار مفهوم قوى الأمن الذي يجعل المواطن يشعر بالأمن والاستقرار الذي ينعكس على بنية المجتمع وتماسكه.

الجانب السياسي

يُعتبر الجانب السياسي من الجوانب المزدوجة، فهو ذو بعدين، بعد خارجي وبعد داخلي، ويعكس الإطار الخارجي والداخلي للأمن الوطني (الأمن القومي).

فالإطار الخارجي يشتمل على الفريق الذي يضمّ العاملين في وزارة الخارجية والفريق الدبلوماسي والعلاقات الخارجية، ويجب أن تتوفر في ذلك الفريق أو الكادر؛ القدرة على بناء تحالفات دولية وتكتّلات إقليمية، ويعمل على تحقيق الاستراتيجية السياسية للدولة، والتي تتضمن القدرة على التفاوض وتحقيق المصالح الوطنية على المستوى الخارجي، وبناء علاقات دولية وكسب التأييد الدولي والرأي العالمي، لتحقيق السياسة الاستراتيجية للدولة وإدارة الأزمات الخارجية، وتجنيبها ويلات الحرب والصراع الدولي أوالعقوبات، عبر التفاوض.

أما على المستوى الداخلي، فيشتمل هذا الجانب على قدرة الحكومة على بناء تحالفات مع جميع القوى الداخلية، بالاتفاق على المصالح العامة الوطنية، ووضع سياسة داخلية تقوم على إشراك جميع مكونات المجتمع برسم السياسة الداخلية للدولة، عبر بناء ثقافة سياسية وطنية شاملة، واستنفار جميع القوى الموجودة في سبيل الوصول إلى تحقيق القوة الشاملة للدولة، ولا بدّ من التنويه إلى الأحزاب السياسية المعارضة منها والموالية، أن تمتلك برامج تعمل على بناء ثقافة وطنية عامة، تدين بالولاء للوطن قبل الولاء للأفكار والثقافات الحزبية ذات الآفاق الضيقة، والابتعاد عن الإيديولوجيات الحزبية التي تنعكس بشكل سلبي على تماسك المجتمع، ورسم السياسة الاستراتيجية  في الداخل والخارج، والعمل على استقطاب الأقليات الأثنية ضمن بوتقة المصلحة الوطنية.

 

الجانب الإعلامي

الجانب الإعلامي أيضاً ذو بعدين: بعد داخلي وبعد خارجي، ويعكس السياسة الاستراتيجية الإعلامية للدولة، التي تُعتبر السند القوي للسياسة الاستراتيجية الخارجية والداخلية للدولة من حيث التأثير على الرأي العام الدولي والداخلي.

فالبعد الخارجي للإعلام هو العمل على مساندة الفريق العامل على الاستراتيجية السياسية الخارجية للدولة، فالكل يعي دور الإعلام في تحجيم قدرات الدولة أو تضخيمها، وتخفيف واقع الأزمات الدولية أو الإقليمية على المستوى الداخلي أو العالمي، أو تضخيمها من حيث كسب الرأي العالمي وتأييده، لذلك لا بدّ من الدولة أن تعمل على إيجاد فريق إعلامي متخصص وقادر على خوض العراك في خضم الإعلام الدولي والإقليمي، عبر امتلاكه كادراً قادراً على نقل الاستراتيجية السياسية للدولة على المستوى الداخلي والخارجي، من خلال امتلاك كادر متعدد اللغات، واختصاصي في مجاله، ونحن كلنا نعي أن الإعلام له دور فعّال في الحروب والأزمات الدولية، حتى أنه اُعتبر في الحروب على أنه الجبهة الخلفية.

أما البعد الداخلي فيتبلور حول الرقابة التامّة على تصرفات الحكومة، ولفت انتباهها لبعض الأمور والمواضيع المهمة عبر النقد البنّاء، ونقل الحقيقة للمجتمع بطريقة واضحة وصريحة، والابتعاد عن بثّ المعلومات الدعائية الخادعة والمبالغ فيها، كونها تنعكس على مدى مصداقية الإعلام سواء الخارجي أو الداخلي، فبالقدْر الذي يكون الإعلام واضحاً وصريحاً في نقل الحقيقة التي تحوز على ثقة المجتمع الدولي أو الشعبي، يكسب القدرة على التأثير على الرأي العالمي والداخلي، فالإعلام ـ كلنا يعلم ـ أضحى بحدّ ذاته علماً في العمل في مجال محدد ومعين بذاته.

وخير مثال على ما فعله الإعلام ويعمله في إدارة الحروب والأزمات الدولية أوالإقليمية أو الداخلية، في تأجيج الصراع أو تخفيفه، وخلق أزمات مفتعلة كانت مبرراً لحروب طاحنة، واحتلال دول مستهدفة لثرواتها أو مواردها، وكسب الرأي العالمي.

فحرب الخليج الثانية التي سُميت بعاصفة الصحراء، كان الإعلام له دور فعال جداً فيها، فقد تم قصف العراق على مستوى عالٍ وصل إلى نسبة نصيب كل متر مربع من أراضي العراق صاروخ، ومع ذلك كان الإعلام العالمي الأمريكي يخرج علينا بتصريح فحواه: أن القوات الدولية لم تستطع أن تدمّر من القدرات العسكرية للحكومة العراقية سوى عشرة بالمئة، فترى الناس تهلهل وتزغرد للقوات العراقية، حتى صبيحة اليوم الذي أعلن فيه سقوط بغداد.

وفي الجانب الآخر وفي نفس السياق نجد الإعلام الإسرائيلي هوّل من آثار الصواريخ العراقية المطلقة تجاه إسرائيل، وراح يستنجد بالعالم كله، حتى وجدنا العالم كله يقدّم الدعم المادي والمعنوي والعسكري لإسرائيل، فكانت معظم الشعوب المؤيدة للنظام العراقي تهلهل، بينما إسرائيل تحصل على المساعدات الدولية مادياً ومعنوياً.

 

الجانب العسكري

كلنا يعلم مدى أهمّية الجانب العسكري بالنسبة لتأمين الأمن الوطني (الأمن القومي)، وقدرته على صدّ العدوان والأطماع الخارجية على الدول، فلا بدّ للدولة من امتلاك قدرات عسكرية واستراتيجية عسكرية دفاعية، وأحياناً هجومية، ويجب أن نعلم أن القوى العسكرية تتحكم بالقرارات الدولية، ومن ضمنها قرارات الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها، فالولايات المتحدة التي تمتلك قوة عسكرية استراتيجية، لها ميزانها الدولي في تنفيذ القرارات العسكرية المتخذة من قبل الأمم المتحدة، والقرار الذي لا توافق عليه الولايات المتحدة الأمريكية يكون عرضة لمهبّ الريح، وجميع القرارات الدولية تقع تحت تأثير القوة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية، ونعرف مدى تأثير القوة العسكرية على المفاوضات الدولية وحلّ الخلافات العسكرية، فالدولة التي تملك قوة عسكرية واستراتيجية عسكرية، تجعل الخصم يحسب ألف حساب قبل الإقدام على أي اعتداء عسكري، ونعلم بأن أمريكا تعتبر نفسها الحامي للسلم والأمن الدولي، عبر امتلاكها استراتيجية عسكرية تبسط هيمنتها على جميع دول العالم، وتعتبر أن تهديد السلم والأمن العالميين يعتبر تهديداً للأمن الوطني (الأمن القومي) الأمريكي، و نرى أن الأمن الوطني (الأمن القومي) الأمريكي يمتدّ إلى خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية، ولولا تملّك الولايات المتحدة الأمريكية لأسلحة استراتيجية، لما كانت قادرة على فرض عقوبات متنوعة على بقية الدول المنافسة لها في تملّك الأسلحة الاستراتيجية.

ويجب أن نعلم أن تحقيق الأمن القومي الشامل لأي دولة في العالم، يكون على حساب بقية الدول في العالم، فتملّك الصين لأسلحة استراتيجية عسكرية لضمان أمنها القومي، في حد ذاته تهديد للأمن القومي في الدول الأخرى، فالأمن القومي مفهوم نسبي وديناميكي، يتغير بين لحظة وأخرى، وإن كان هناك قوانين دولية حرّمت استخدام القوة العسكرية في حلّ النزاعات الدولية، ووضعت تدرّجاً لفرض العقوبات على الدول التي تهدد الأمن والسلم العالمي، عقوبات دبلوماسية وعقوبات زجرية وقانونية وعقوبات عسكرية، فإنه من المؤسف أن أكثر الدول لا تلتزم بتلك القواعد القانونية، ويتم فرضها حسب مزاجية بعض الدول التي تمتلك القوة العسكرية الاستراتيجية.

وعبر هذا السرد عن مضمون الاستراتيجية والأمن القومي والعلاقة بينهما، وبين التنمية المستدامة، والتداخل الحقيقي بين الاستراتيجية كمفهوم وبين الأمن القومي، والتنمية المستدامة، يكاد يصعب على المرء أن يفكّ التناسب بينهما، فهما مترابطان إلى الحدّ الذي لا يمكن الاستغناء عن أحدهما، فالاستغناء عن الجزء يؤدي إلى الاستغناء عن الكل، ولا بدّ لكل دولة أن تسعى إلى تحقيق الأمن القومي عبر التنمية الشاملة، التي لا يمكن أن تتحقق إلا عبر استراتيجية مخططة الأبعاد وشاملة ومتكاملة، لترتقي إلى مستوى امتلاك القوة الشاملة، وللعلم فالقوة الشاملة لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن بقية الدول الأخرى في العالم، وربما يُضرب المثل ببلوغ القوة الشاملة، اليابان كدولة قد ارتقت إلى المستوى الذي حققت فيه امتلاك قوة شاملة، ولكن الحقيقة غير ذلك، فما زالت اليابان بحاجة إلى بعض الدول في تقديم العون لها وبناء تحالفات معها، لتستطيع بلوغ حدّ امتلاك القوة الشاملة.

ولا بدّ من التنويه أن هناك جوانب أخرى للأمن القومي، لم يتمّ التطرق إليها، كالجانب التقني للدولة والجانب التكنولوجي والمعلوماتية والاتصالات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى