أبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتمصطفى شيخ مسلمملف العدد 60

الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على الشرق الأوسط

مصطفى شيخ مسلم

مصطفى شيخ مسلم

مصطفى شيخ مسلم
مصطفى شيخ مسلم

لطالما كانت صراعات الدول الكبرى ذات أهدافٍ مختلفة منها ما هو علني وعلى مرأى

ومسمع العالم، ومنها ما هو مخفي يضمر في غالب الأحيان النوايا الحقيقية التي أدتْ بنتيجة

الحال لتغذية هذه الصراعات وتطورها لتصبح حرب بشعارات مختلفة لعل أبرزها في

الحرب الروسية الأوكرانية، بحسب رواية موسكو، هو حماية الأقليات وتلبية لنداء القوميين

الروس الذين لم يترددوا للتعبير علناً عن رغبتهم للانضمام إلى روسيا.

كما وتعتبر هذه الحرب امتداداً للأزمات المتتالية فيما بين روسيا واكرانيا منذ تفكك الاتحاد

السوفييتي إلى اليوم، علاوةً على لنوايا الروسية التوسعية التي بدتْ تطفوا على الساحة

الدولية بداء من العمليات العسكرية التي نفذها الجانب الروسي في العام 2014 والتي انتهتْ

وقتذاك بالسيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم ومن ثم ضمها إلى روسيا الاتحادية،

مروراً بالحرب الروسية في أوكرانيا.

يبرر الروس – وهو التفسير الأكثر منطقية- هجومهم على أوكرانيا على انه بمثابة ضربة

استباقية في وجه حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي باتت مطامعه التوسعية غير خافية على

احد، مما يشكل خطورة على الأمن القومي الروسي الذي يرى بأن توسع (الناتو) في كل

حدبٍ وصوب من حولها، هو استكمال للمساعي الأمريكية والغربية القديمة الجديدة الرامية

لتطويق روسيا من كل حدبٍ وصوب، لتأتي الصين فيما بعد روسيا على قائمة الأهداف

الغربية، وكل هذا يأتي لتدعيم نظرية الغرب القائمة على أساس التفرّد بالنظام العالمي

الجديد الذي باتت تتضح معالمه والذي لا مكان لكل من روسيا والصين فيه، بحسب مهندسي

هذا النظام، وبالتالي يمكن القول بأن الحرب الروسية هي بمواجهة حلف شمال الأطلسي على

الأراضي الأوكرانية.

كشفت الحرب الروسية الأوكرانية منذ أيامها الأولى عن مدى تداخل وتشابك المصالح

الدولية بكل المجالات، لا سيما السياسية والاقتصادية والأمنية وتحديداً تلك التي تجمع طرفي

الحرب، أي كلاً من روسيا وأوكرانيا بدول الشرق الأوسط.

إذ أنّه سرعان ما حاولت دول الخليج وإسرائيل تأكيد بقائها في الحلف الروسي في وجه

أوكرانيا لمواجهة التهديد النووي الإيراني المستدام، وهذا ما كان واضحاً منذ بداية الحرب

الروسية الأوكرانية، فيما شكّلت احتياطيات النفط لدى دول مجلس التعاون الخليجي ورقة

مساومة لا تقدّر بثمن لتغيير أولوياتها الاستراتيجية وتوجيهها بعيدًا عن الغرب، فعلى سبيل

المثال، رفضت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية مطالب الولايات

المتحدة والمملكة المتحدة بزيادة إنتاج النفط لمواجهة ارتفاع أسعار موارد الطاقة، بل على

النقيض من ذلك، أجرت الدولتان الخليجيتان محادثات مع روسيا وأبدتا كامل الاستعداد في

سبيل حماية مصالحهم المتبادلة، ولا سيما على مستوى الطاقة.

كما وتسبَّبت الحرب الروسية الأوكرانية أيضاً بارتفاعٍ حادّ للأسعار العالمية للطاقة والقمح،

إذ تجاوزت أسعار النفط الخام (100) دولار للبرميل، بحسب خبراء في مجال النفط الخام،

ما ينذر بالتأثير المدمّر لهذا الارتفاع في الدول الهشّة بالفعل في الشرق الأوسط وشمال

إفريقيا، حيث تجد الدول الإقليمية التي كانت تكافح من الناحية الاقتصادية نفسها أضعف

وأكثر عرضة للضغوط الخارجية. هذه الديناميكيات خطيرة بشكل خاص في منطقة يكون

ارتفاع أسعار الخبز في كثير من الأحيان مؤشراً على الاضطرابات السياسية.

نستخلص من الأحداث المزامنة للحرب الروسية الأوكرانية بأنه لا يمكن أن يكون هناك

رابح من هذه الحرب المدمرة، لكن البلدان المصدرة للمواد الهيدروكربونية مثل قطر

والسعودية والكويت وليبيا والجزائر، قد تشهد تحسناً في أرصدة المالية العامة لديها وميزان

المدفوعات الخارجية وتعزيز معدلات النمو. ومن المحتمل أيضاً أن تشهد البلدان المصدرة

للغاز، على وجه الخصوص، زيادة هيكلية في الطلب من أوروبا، حيث أعلنت حكومات

الاتحاد الأوروبي عن اهتمامها بتنويع مصادر إمداداتها من منتجات الطاقة.

أمَّا البلدان غير المنتجة للنفط فسوف تتعرض لتداعيات سلبية قد تقود إلى توترات اجتماعية

إضافية، وفيما يتعلق بالتحويلات – لاسيما تلك التي يرسلها المغتربون في دول مجلس

التعاون الخليجي – فإنها لن تُعوِّض إلا عن جزء يسير من صدمة الهيدروكربونات (مثل

الأردن ومصر)، وأمَّا البلدان الأكثر تأثراً بحركة السياحة مثل مصر (التي يُشكِّل الروس

والأوكرانيون على الأقل ثلث السياح الوافدين إليها) فمن المتوقع أن تشهد ركوداً في هذا

القطاع، وما يرافق ذلك من تداعيات سلبية على معدلات التشغيل وميزان المدفوعات.

 

 

تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية من حيث مواقف الدول العربية والإقليمية

وجدت الحكومات العربية والإقليمية التي كانت تراهن في المرحلة الأخيرة على استرضاء

كل من الولايات المتحدة وروسيا، وجدت نفسها مضطرةً لأخذ موقف ما من الحرب الروسية

الأوكرانية، فعلى سبيل المثال في 2 آذار2022، صوتت 15 حكومة عربية لقرار إدانة

روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة (مصر، والبحرين، والكويت، ولبنان، وليبيا،

وموريتانيا، وعمان، وقطر، والسعودية، وتونس، والإمارات، واليمن، وجزر القمر،

وجيبوتي، والصومال)، فيما امتنعت ثلاث حكومات عربية عن التصويت لهذا القرار

(الجزائر، والسودان، والعراق)، في حين اعترضت سوريا على إدانة روسيا، وفضّل

المغرب ألّا يتخذ أيّ موقف بهذا الصدد.

أما على صعيد شركاء روسيا الإقليميين، فقد صوَّتَتْ تركيا بالإدانة، فيما امتنعت إيران عن

التصويت. قد تبدو هذه الإدانة لروسيا بأغلبية كبيرة دليلًا على حجم الضغوط الأميركية، لكن

الحكومات العربية والإقليمية المعنيّة تنازلت للولايات المتحدة من حيث الشكل في بيانات

الإدانة التي لا تأثير فعليًّا لها، وتمسكتْ بالمضمون، ما يعني عدم تحدي روسيا، وعدم اتخاذ

إجراءات ضدها. ولهذا الحياد الإقليمي حساباته وحيثياته ودوافعه.

رفضت السعودية طلباً أميركيّاً متعلّقاً بضخّ المزيد من النفط للمساعدة في الحد من ارتفاع

أسعار النفط الخام. لكن في الوقت نفسه، لم تَرُدّ منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، التي

تقودها السعودية، على قرار الولايات المتحدة وحلفائها في وكالة الطاقة الدولية بشأن ضخّ

60 مليون برميل من النفط من مخزونات الطوارئ لديها، لإمداد الأسواق العالمية بالنفط

الخام، من أجل احتواء ارتفاع الأسعار. أمّا الإمارات العربية فقد امتنعت عن التصويت

لمشروع قرار أميركي يندّد بغزو أوكرانيا، ويطالب روسيا بالانسحاب، مقابل دعم روسيا

لمشروع قرار إماراتي يصنّف الحوثيين جماعة إرهابيةً، ويوسّع الحظر على إيصال

الأسلحة إلى اليمن. كانت الإمارات أكثر وضوحاً في أخذ مسافة من الموقف الأميركي، وهي

تتمايز في سياستها الخارجية عن الولايات المتحدة منذ انتخاب بايدن، وقد تعزز هذا المسار

في ظل التقارب الأميركي – القطري في عهد بايدن، بعد التقارب الأميركي – الإماراتي في

عهد سلفه دونالد ترامب. من ناحية أخرى، برزت انقسامات داخلية في تونس والعراق

ولبنان، حيث تزداد الضغوط على هذه الحكومات لتخرج من حيادها وتدين الغزو الروسي

من جهة، أو حتى لا تنحاز إلى الموقف الأميركي من جهة أخرى. وعلى سبيل المثال، كان

موقف لبنان الرسمي مع إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا نتيجة الضغوط الأميركية في

ظل اعتراضٍ خجول من حزب الله وحلفائه، وهكذا، كان هذا الأمر بمنزلة تذكيرٍ جديد مفاده

أنّ نفوذ روسيا في لبنان يبقى محدوداً.

لقد أخذت كلّ من تركيا وإيران وإسرائيل مسافةً من روسيا، ولكن من دون تحديد هذه

المسافة، ووجد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي استفاد من تأزّم العلاقة بين

الولايات المتحدة وروسيا خلال السنوات الأخيرة، وجد نفسَه أمام فرصة استفادةٍ استراتيجيةٍ

من هذا النزاع مقابل عدم الإفراط في استفزاز الرئيس بوتين، مع ما قد يعنيه ذلك من تبعات

وإجراءات روسية عقابية محتملة قد تستهدف أسس الاقتصاد التركي. إنّ تركيا تؤيد أوكرانيا

في خطاباتها العلنية، وتوفر طائرات مسيّرة يستخدمها الجيش الأوكراني ليصدّ بها – بفعالية

– الهجومَ الروسي، لكنّ تركيا نفسها، في الوقت ذاته، ترغب في تفادي ارتدادات الحرب على

حدودها الشمالية، وترفض من ناحية أخرى – مقابل دعمها الضمني والعلني لأوكرانيا –

فَرْض عقوبات على روسيا مثلما رفضت سابقًا الالتزام بالعقوبات الأميركية على إيران.

ومن ثمّ، يحاول أردوغان تَرْك خطوط التواصل مفتوحة مع روسيا؛ إذ قال بعد اجتماع

الحكومة التركية: (نقول إننا لن نتخلى لا عن أوكرانيا ولا عن روسيا)، في موقف قد يكون

من الصعب ترجمته سياسيّاً على وقع المواجهات العسكرية.

كانت إيران في حيادها واضحةً أيضاً لسببين رئيسَين: أوّلهما أنّ روسيا لم تَقِف معها موقفًا

حاسماً في مواجهتها لإدارة ترامب والضغوط الأميركية التي مُورست عليها، أمّا ثانيهما فهو

متمثّل بأنّ الأولوية الإيرانية فوق كل اعتبار، وهي في الوقت الراهن إعادة إحياء الاتفاق

النووي ورفع العقوبات الأميركية عليها، وهكذا فإنها لا تحتاج إلى مواجهة “مجانية” مع

إدارة بايدن في مِثل هذا التوقيت الذي قد يعكّر صفوَ مفاوضات فيينا. إنّ رفض إيران

محاولات روسيا تعطيل مفاوضات فيينا يُظهر مرةً أخرى المصالح والأولويات المتناقضة

بين الطرفين، ويُظهر انعدام الثقة أيضاً، وذلك على الرغم من الشراكة الاستراتيجية التي

تجمع بينهما. لقد برز تخبّط وانقسام داخلي في الموقف الإيراني بين توجيه اللّوم بشأن الأزمة

الأوكرانية إلى الولايات المتحدة ومعاييرها المزدوجة من جهة، ومطالبة رسمية بوقف

الهجوم الروسي وبيانات دعمٍ لأوكرانيا، مثل تغريدة الرئيس الإيراني الأسبق، محمود

أحمدي نجاد، من جهة أخرى.

ثمّ إنّ روسيا وبعد أن دعمت الحكومة الإسرائيلية في بيان (وحدة وسيادة أوكرانيا

وأراضيها)، أعلنت عدم اعترافها بالاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان، وعلى الرغم من

أنّ هذه المواقف العلنية من الطرفين لا قيمة فعلية لها، فإنّ إسرائيل لم تذهب بعيدًا في

إجراءاتها، ورفضت طلبًا متعلّقًا بإرسال أسلحة ومعدات عسكرية إلى أوكرانيا، وهو رفضٌ

يعود إلى أسباب داخلية إسرائيلية، لكن الهاجس الرسمي الإسرائيلي هو أنّ إسرائيل إن

صارت طرفًا مع أوكرانيا فإنّ روسيا قد تَرُدّ عبر الحدِّ من تحركها الجوي فوق الأراضي

السورية لردع إيران وحلفائها.

ومن جانب آخر، فقد أظهر الهجوم الروسي على أوكرانيا هشاشة تحالف (أستانا) في سوريا

الذي يضم روسيا وتركيا وإيران. وقد تستفيد تركيا وإيران من عزلة روسيا الاقتصادية، لأنّ

الأخيرة ستضطر إلى الشراكة التجارية معهما، وستضطر أيضًا إلى التسوية معهما في

مناطق النزاع التي تتشارك فيها هذه الدول، على امتداد الجغرافيا السورية. وسقوط حكومة

الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي هو عمليًّا سيطرةٌ لروسيا على كامل الشاطئ

الأوكراني، ما يعني إحكام سيطرتها على البحر الأسود، فضلًا عمّا في هذا الأمر من تحدٍّ

لتركيا، وفي هذه الحال، ستكون تحت سيطرة روسيا قواعد بحرية في سيفاستوبول وشبه

جزيرة القرم وطرطوس.

تتعاون تركيا مع روسيا في أكثر من ملف إقليمي، لكنها تنافسها في سوريا وليبيا وأذربيجان،

وفي الوقت الراهن أصبحت تركيا فاعلةً في أوكرانيا أيضًا، وربّما لا يتجاوز بوتين بسهولة

قرار أردوغان المتمثّل ببيع طائرات مسيّرة للجيش الأوكراني، وبعد انتهاء الهجوم العسكري

على أوكرانيا، قد يكون موقفُه أقل مرونةً مع تركيا فيما يتعلق بإدلب، لكن روسيا غير قادرة

حاليًّا على فتح جبهتين، وأصبحت وضعيتها الدولية أكثر هشاشة من ذي قبل. بيد أنّ هذا لن

يثني بوتين عن تحقيق أهداف تضرّ بالمصالح التركية، على غرار مَنْعه 16 سفينةً تركية

محمّلة بزيت دوار الشمس الخام من العبور من خلال البحر الأسود، ما قد يؤدي إلى نقصٍ

من هذه السلعة في السوق التركية، وهو ما قد ينعكس حتى على المناطق السورية التي

تخضع للسيطرة التركية. لكن بشكل عامّ، أصبح بوتين يحتاج إلى أردوغان أكثر من احتياجه

إليه من قبل، على اعتبار أن تركيا لم تفرض عقوبات على روسيا، ثمّ إنّها قد تساعدها لكسر

عزلتها الدولية، لا سيما مع احتمال هجرة رؤوس الأموال الروسية والسُّياح لتركيا هربًا من

العقوبات. ولذلك، من المستبعد أن يؤدي التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا لإعادة

تموضع تركي كامل إلى جانب الغرب.

وإذا فشلت جهود إعادة إحياء الاتفاق النووي في الفترة المقبلة، فسيتعزز تقارب إيران مع

روسيا، وفي حال التوصل إلى تسوية ستأخذ إيران – على الأرجح – مسافة من روسيا. أمّا

الولايات المتحدة في هذه الحال، فقد تكون مضطرة إلى أن تردع كلًّا من روسيا وإيران على

نحو متوازنٍ، ذلك أنهما قد يمارسان الضغوط على إدارة بايدن في مناطق النزاع في الشرق

الأوسط لدفعها إلى طاولة المفاوضات، ولهذا السبب قد يعطي الهجوم الروسي على أوكرانيا

 

إدارةَ بايدن حافزًا لإنجاز اتفاق نووي مع إيران بحدٍّ أدنى؛ على نحوٍ لا يفتح معركةً داخلية

أميركية في حالِ تنازل الولايات المتحدة لإيران “أكثر مما يلزم” ضمن معايير التفاوض

الأميركي. أمّا إذا لم يحقق بوتين أهدافه في أوكرانيا، فإنّ هذا الأمر قد يدفع تركيا وإيران

وإسرائيل لاختبار روسيا في سوريا عند الضرورة، لا سيما في ظل الترابط المتزايد بين

الساحتين السورية والأوكرانية.

التداعيات على الأمن القومي والغذائي للشرق الأوسط

الصراع المسلح بين روسيا وأوكرانيا، من شأنه أن يؤثر سلباً في الأمن والاستقرار الإقليمي

بطرق أخرى، حيث أجّلت روسيا مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني، وذلك في وقت

كان الاتفاق قاب قوسين أو أدنى، لتطالب بعدئذٍ بضمانات بأن العقوبات الغربية على روسيا

لن تمنعها من التجارة مع إيران بمجرد إبرام صفقة جديدة، وهو ما يصعب على واشنطن

والعواصم الأوروبية منحه، لتبقى المسألة خاضعة إلى ما إذا كان يمكن لروسيا بالفعل إفشال

الاتفاق أم لا, ومن ثم المخاطرة بمزيد من التصعيد لبرنامج إيران النووي، وربما اندلاع

صراع إقليمي أوسع كاختبار لمدى استعداد موسكو للذهاب في تأجيج عدم الاستقرار في

المنطقة.

كما ستؤثر الحرب آنفة الذكر بالفعل في اقتصادات كثير من دول الشرق الأوسط، حيث تُعدّ

روسيا وأوكرانيا من بين أكبر منتجي القمح في العالم، فيما تتربع منطقة الشرق الأوسط على

قمة المستهلكين. وتعاني بلدان مثل اليمن، وسوريا، ولبنان، بالفعل انعدامًا في الأمن الغذائي،

وتقول منظمة الأغذية والزراعة (فاو) إن الجوع سيضرب 55 مليون شخص في جميع

أنحاء المنطقة، على سبيل المثال مصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم، فبين عامي

2020 و2021 حصلت على 85٪ من وارداتها من القمح من روسيا وأوكرانيا. وسوريا

أيضاً تستورد نحو ثلثي احتياجاتها من المواد الغذائية والنفط، ويأتي معظم وارداتها من القمح

من روسيا. ولبنان كذلك يستورد من أوكرانيا وروسيا أكثر من 90% من احتياجاته من

الحبوب، واحتياطاته من الحبوب لا تكفي إلا لمدة شهر تقريباً. ويستورد اليمن نحو 40% من

احتياجاته من القمح من هذين البلدين المتحاربين، وعدد من يعانون من الأزمة أو – الأسوأ-

من نقص حادّ في الأمن الغذائي في اليمن قفز من 15 مليوناً إلى أكثر من 16 مليوناً في

ثلاثة أشهر فقط في أواخر عام 2021. وستؤدي الحرب في أوكرانيا حتماً إلى تفاقم هذه

الدينامية القاتمة بالفعل في اليمن، كما يمكن أن يكون لارتفاع الأسعار أو اضطرابات سلاسل

التوريد، أثرٌ مدمّر في كثير من البلدان، سواء على مستويات المعيشة، أو على مستوى

الاستقرار السياسي، فغالبًا ما كان القلق الشعبي من ارتفاع أسعار الخبز حافزاً رئيسيّاً

للاحتجاجات والاضطرابات الشعبية في جميع أنحاء المنطقة.

وقد تكون للصدمات المُضاعَفة للحرب في أوكرانيا تداعيات مفجعة على بعض بلدان

المنطقة إذا لم يتم تعزيز المساعدات الإنسانية والإنمائية إليها في 2022. وللإحساس

بضخامة الأزمة وهول الخطب، على الصعيد الإقليمي، فلننظر إلى أن المنطقة وإن كانت

تُمثِّل 6% فقط من إجمالي سكان العالم، فإن بها أكثر من 20% من الذين يعانون من نقص حاد

في الأمن الغذائي في العالم.

أخيراً من وجهة نظر موسكو، إن عدم استقرار الشرق الأوسط مشكلة أكبر لأوروبا مما هي

لروسيا، مع استثناء جزئي لسوريا، حيث أصبحت القواعد العسكرية التي تحتفظ بها روسيا

في سوريا أكثر أهمية لموسكو من الناحية الاستراتيجية بعد قرار تركيا تقييد وصول السفن

الحربية الروسية إلى مضيق البوسفور والدردنيل.

ومن ناحية أخرى، فالاستجابة للتطورات في أوكرانيا شكلت تحدياً لكثير من الدول العربية

لمحاولتها عدم تقويض علاقتها مع موسكو، خاصةً أن البلدان العربية دائماً هي من الدول

المؤيدة صراحةً لمبادئ السيادة وعدم التدخل، وهي أعراف اتهمت إيران بتجاوزها خلال

العقدين الماضيين، تماماً كما تفعل روسيا الآن في أوكرانيا. وعندما يتعلق الأمر بالعلاقات

العربية مع القوى العالمية، فإنها تخشى أن يتم إجبارها على الانحياز إلى أحد الجانبين

(روسيا أو الغرب). صحيح أن كثيرًا من القادة العرب كانوا بارعين في الإبحار في تنافس

القوى العظمى خلال الحرب الباردة، على الرغم من كونها سياسة صعبة، إلا أن فقدان

العلاقات مع روسيا قد لا تكون له عواقب وخيمة على المدى القصير، ومع ذلك، تمامًا مثل

صانعي السياسة الغربيين الذين يخشون أن تحذو الصين حذو روسيا وتهاجم تايوان، تخشى

الدول العربية أنها قد تواجه يوماً ما اختياراً صعباً بين الولايات المتحدة (أهم شريك أمني

لها) والصين (الشريك التجاري الأكبر للمنطقة)؛ لذلك تدرك الدول في جميع أنحاء المنطقة

تمامًا أن إيجاد طريقة للموازنة بين القوى العالمية مهما كانت غير مريحة، هو أمر يجب أن

تعتاده.

كما يمكن للصراع الروسي الأوكراني أن يوفر لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نفوذًا

جديدًا مهمّاً على الولايات المتحدة وأوروبا، فمن المرجح أن تسعى كل من المملكة العربية

السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر إلى استخدام سياسة الطاقة لتقوية مواقفها، وقد

يكون تصنيف الولايات المتحدة لقطر حليفًا رئيسيًّا من خارج الناتو، مطلع عام 2022،

تأكيدًا لهذا الاتجاه.

أمّا أبرز التداعيات على المدى الطويل، فهي متعلّقة بقطاع الغاز، فمع توقّف مشروع (نورد

ستريم2)، وهو مشروع يربط الغاز الروسي بألمانيا عبر أوكرانيا بسبب العقوبات

الأميركية، وسحب الولايات المتحدة دعمها لمشروع أنبوب (إيست ميد) الذي عارضته

تركيا، وينقل غاز شرق المتوسط من إسرائيل عبر قبرص – اليونان إلى إيطاليا، قد يفتح

الهجوم الروسي على أوكرانيا احتمالات جديدة لأنابيب الغاز إلى أوروبا. ثمّ إنّ من دوافع

التزام تركيا الحياد بين روسيا وأوكرانيا إبقاء جسور التواصل مع الأوروبيين، ومحاولة

ضمان سيناريو عبور غاز شرق المتوسط إلى أوروبا عبر تركيا بدلاً من اليونان، أمّا في

حالِ كَسْب بوتين رهانه وسقوط مشروع (نورد ستريم2) نهائيّاً فهناك أيضاً خط (تورك

ستريم) الذي يربط روسيا بتركيا، والذي يمكن وصله بأوروبا.

وعن إيران فهي جاهزة أيضًا لملء فراغ الغاز الروسي في حال ازدياد عزلة بوتين الدولية

وتحوّله إلى عبْءٍ على حلفائه. وبعد أن استفادت روسيا، على امتداد فترة طويلة، من

العقوبات الأميركية والدولية على إيران، قد تنعكس الأمور، فتصبح إيران هي المستفيدة من

عزلة روسيا المستجدة في حال إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني. وإذا صحّت تقديرات

احتياط الغاز في حقل (تشالوس) للغاز في بحر قزوين، فإنّ إيران ستكون قادرة على المدى

الطويل، على نزع أوراق ضغط قوية من أيدي روسيا في تعاملها مع تركيا والاتحاد

الأوروبي، إنْ قررت التنافس مع روسيا في تصدير الغاز، ما قد ينعكس سلبيًّا على العلاقات

الثنائية بينهما. لكن إيران تحتاج إلى ترتيبات لوجستية ودبلوماسية قد تستغرق وقتًا لنقل الغاز

إلى أوروبا التي لا يمكن أن يصمد اقتصادها طويلًا في حال توقّف إمدادات الغاز الروسي.

وفي المدى المنظور، لا يبدو أنّ إيران راغبة في إعلان هذا التحدي، في ذروة المعارك

الروسية، أو أنها قادرة على ذلك. وحتى تركيا، ستُبقي – على الأرجح – سياسة استيراد الغاز

من روسيا وإيران؛ حتى تنوّع مصادر الطاقة، وحتى لا تصبح معتمدة على أيّ طرف منهما

بشكل كامل.

المراجع

– مركز الدراسات العربية الأوراسية.

– وكالات.

– ويكيبيديا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى