أبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتملف العدد 64

دور العشيرة في الحفاظ على الإرث الاجتماعي

وليد بكر

وليد بكر

ما هي العشيرة:

العشيرة اسم مؤنث مذكره عشير، يُجمع جمعاً سالماً على شكل “عشيرات” أو جمع تكسير “عشائر”. يعود أصل كلمة العشيرة في المعاجم اللغوية إلى كلمة “العِشرة”، ويقصد بها “آل بيت الرجل”، وبالإنكليزية تدعى (CLAN)  وتعني بأنها مجموعة من الناس تجمعهم قرابة ونسب فعلي أو متصور. ويقول الشيخ “سعيد العمو” في موقع “عشيرة الهنادزة”: “العشيرة هي كلمة تعبّر عن العِشرة والمودة والإخاء والتراحم، وتتألف العشيرة من مجموعة أفراد تربطهم روابط كثيرة منها اللغة والدين والدم، أي مرجعهم إلى نسب جدّ واحد، والعشيرة هي أقل من القبيلة من حيث تعدادها وقوتها.. وكل مجموعة عشائر متحدة تسمى قبيلة، ولا تسمى عشيرة ما لم تكن أكثر من ثلاثة أفخاذ، يتزعم العشيرة شيخ عام العشيرة وعلى رؤساء الأفخاذ، أما القبيلة فتكون من ثلاث عشائر فما فوق يتزعمها “شيخ مشايخ القبيلة”، يقود ويتزعم العشيرة أحد أفرادها ومن صلبها تربطه رابطة الدم مع العشيرة، مشهودٌ له بالكرم والشجاعة والعدل والورع، وأفصحهم لساناً وأكبرهم سناً يسمى “شيخ العشيرة”، ومن خصائص شيخ العشيرة والعشيرة أن تتصف بالكرم والشجاعة والفروسية وحماية الدخيل والنزيل، العفو عند المقدرة، والتسامح وإكرام الضيف). تقول القصيدة في وصف رئيس العشيرة:

  • اجلس مع اللي راسو شايب       واللي تجاعيد الزمن في جفونه
  • يعطيك من خبرة حياته وماضيه درس، كثير من البشر يجهلونه

فقد يتم تجمع أعضاء العشيرة حول العضو المؤسس والسلف الأول، وقد تكون الروابط القائمة على القرابة الرمزية، حين تتشارك العشيرة في سلف مشترك (محدد) الذي يعتبر رمزاً لوحدة العشيرة. يقول موقع “إعلام بيت لام”: “الرئاسة أو المشيخة في المجتمعات العشائرية والقبلية تمثل سلطة معنوية، تهدف إلى إضفاء شعور بالترابط والانسجام تحت ظل سلطة مركزية موحدة، وهي ليست منصباً وجاهاً، بل كانت قوة معنوية تستمد منه القبيلة أسباب عزّتها وقوتها اتجاه الآخرين”.

والعامل المميز هو أنّ العشيرة جزء من القبيلة، ويمكن أن توصف بـ”بيت أو سُلالة”، فالقبيلة والعشيرة مصطلحان يستخدمان في الثقافة والتقاليد المجتمعية. وعلى الرغم من تشابه الأصول بينهما، إلا أن هناك بعض الاختلافات في المفهوم والترتيب بينهما، فالقبيلة هي مجموعة من الأشخاص الذين ينتمون إلى نسل واحد أو يحملون اسم عائلة مشتركة، وعادة ما تكون القبيلة أوسع في نطاقها من العشيرة، وتعتمد العلاقات داخل القبيلة على التعارف والاتصاف بالأخلاق الحسنة والصفات الطيبة والتقوى الدينية، والعشيرة تعني بالنسبة للرجل أقربائه وأسرته وقبيلته الواسعة، فهي تشمل الأجداد والأعمام والأخوال والأبناء والأخوة، ويعتبر الرجل رأس (شيخ) العشيرة، فيتم التعبير عن العشيرة من خلاله، وكان مركزه عموماً مصان ومحاط بهالة من التقديس والقدسية لدى أتباعه. فيما كان شاعر القبيلة بمثابة قناة إعلامية، يعمل على مدح الشيخ والعشيرة ويذكر مناقبهما في الجود والكرم والشجاعة والدفاع عن حياض العشيرة والقبيلة. ويمكن ترتيب ذلك المجتمع العشائري على الشكل التالي من الأكبر للأصغر: (القبيلة – البطن – العشيرة – الفخذ)، ولها فروع أخرى، فثلاثة أفخاذ وما فوق يشكلون عشيرة، وثلاث عشائر وما فوق يشكلون قبيلة، وعدة قبائل يشكلون القوم والأمة، ولكن يختلف ترتيب تلك المصطلحات من مجتمع إلى آخر.

دور العشيرة في المجتمعات:

باعتبار العشيرة كتجمع أكبر من العائلة والأسرة؛ سيكون حديثنا عن الدور الإيجابي لها في الحفاظ على القيم والمثل النبيلة وما تحويه من روابط متينة، من تكاتف وتعاضد ذاك المجتمع في وجه التفكك الذي تعانيه مجتمعاتنا، نتيجة تعشعش الفكر الرأسمالي المديني داخل كل مسامات فئات المجتمع، والآثار السلبية المترتبة فيما لو تخلت عن تلك المبادئ الأخلاقية التي تميزت بها العشيرة والقبيلة عبر تاريخها الطويل على يد الأجهزة الدولتية التسلطية المتحكمة برقاب المجتمع.

نستطيع القول إن العشيرة هي امتداد للمجتمع الطبيعي الذي عاش كتجمع سمي بـ(الكلان)، والتي طغى على حياتها الأخلاق الحسنة، وتؤمن بالأرواحية، أي كانت ترى كل ما حولها في الطبيعة بأنها تملك روحاً ولا يجوز التعدّي عليها، وحتى راح الإنسان في ظل هذا المفهوم يقدّس الأشياء التي يستفيد منها أو يتصور أنه يستمد منها الخير والمنفعة وسميت بـ(الطوطم) مثل الحيوانات والنباتات، حتى أصبح “الطوطم” رمزاً للقوة في التجمع والوحدة والتعاضد، والذي سيتطور لاحقاً إلى العشيرة والقبيلة، مثلما نراه اليوم من أعلام ورموز مقدسة للدول والكيانات.

وجد الإنسان في العشيرة/ القبيلة ورئيسها/ شيخها بديلاً للطوطم، وعادة يكون كبيراً في السن ذو خبرة وحنكة في إدارة العشيرة، ويقوم بمساعدته كبار أبناء العشيرة، بموجب عرف (عقد) شفهي غير مكتوب. ومن واجبات الرئيس (شيخ العشيرة) أن يحل جميع مشاكل العشيرة المختلفة، ويؤمن احتياجاتها ويدافع عنها إذا تعرضت لانتهاك أو ذلت من الداخل أو من قبل عشيرة وقوة مجاورة، فيحرص على الذود عن كرامة العشيرة وحريتها.

يقول المفكر “عبدالله أوجلان ” بهذا الصدد في مرافعته “المدنية الرأسمالية”: “يتحدث التاريخ المدون دائماً عن المدنيات الدولتية، أما ما يتعلق بكيفية عيش المجموعات طيلة ملايين السنين ضمن الأنظمة المشاعية، وكيفية تدبير شؤونها وأعمالها، فلا يندرج تحت إطار هذا التاريخ، بيد أنه ينبغي أن يكون هذا هو التاريخ الأصلي، باعتبار أن ما يعبر عن المجتمع نفسه هو تلك الحياة المشاعية التي عاشها النوع البشري ضمن فترة طويلة زمنياً وأوساط فسيحة مكانياً، هذا هو المجتمع الأصلي”.

على ضوء هذا الفهم؛ فإن العشائر والقبائل هي من أهم العناصر الاجتماعية التي تتحد من أجل الإنتاج والدفاع، وذلك نرى بأن الكلانات والعوائل شعرت بالحاجة إلى التحول إلى شكل “العشيرة” عندما باتت قاصرة عن حل قضايا الإنتاج والأمن المتصاعدة. فالعشائر هي ليست اتحادات مقتصرة على رابطة الدم فقط، بل هي عناصر ونواة المجتمع ولها ضرورتها لتأمين الإنتاج واستتباب الأمن، إضافة إلى تمثيلها التقاليد المعمرة منذ آلاف السنين. تظهر أهمية العشيرة في المجتمعات العربية أكثر في بداية نشر الدعوة الإسلامية، وطبعاً ماعدا الأخلاق الحميدة التي كانت تدعو إليها، فإن الكل كان يراها كعون للفرد وتساعده على إصلاح ذاته وأسرته، إضافة إلى تحقيق العدل والإنصاف ونصرة المظلوم. يقول الإمام “علي” لابنه “حسن” (عليهما السلام): “أكرم عشيرتك فهم أصلك الذي إليه تصير، وجناحك الذي به تطير، ويدك التي بها تصول، هم العدة عند الشدة”. لذلك نرى أنّ العشيرة تمارس دوراً مهماً ورئيسياً في ضبط سلوك أفراد المجتمع وحفظ كيانه، والإصرار على تماسك أفرادها بصورة خاصة، وباقي أفراد المجتمع بصورة عامة، وفضّ النزاعات والصراعات، ومعالجة المشاكل التي تحصل بين أفرادها أو مع العشائر الأخرى.

العشائر والقبائل هي من أهم القوى المحركة للتاريخ:

وكما ذكرنا أعلاه أنّ العشائر والقبائل، ووفق تشكيلتها وبُناها الاجتماعية تقتضي التعاون والدفاع معاً عن قيم ومثل القبيلة والعشيرة. يقول المفكر ” أوجلان” في مرافعته الثالثة “سوسيولوجيا الحرية”: “للعشائر حياتها القريبة من “الكومينالية”، والعشيرة هي الشكل الاجتماعي الذي يزدهر فيها المجتمع الأخلاقي السياسي بأقوى أشكاله، وبالتالي فالظهور المتواصل للعشائر كعدو لدود للمدنيات الكلاسيكية متعلقة بتلك المزايا، وكان يستحيل غزوها وإخضاعها للسيطرة، فإما أنها كانت تُفنى، أو كانت تحيا حياة حرة أبية”. ويتابع المفكر “أوجلان” بهذا الصدد في وصف العشائر والقبائل: “هي من العناصر البنّاءة للحركات الوطنية، إن القبائل هي من أهم القوى المحركة للتاريخ، إذ ما كانت للبشرية أن تتجنب التحول إلى العبيد أو إلى حشد قطيعي لولا مقاومات القبائل في سبيل تقاليد الحرية أو الكومينالية والديمقراطية. إن البنى العشائرية والقبلية هي التي تضفي اللون الأصلي على المجتمعات، أما إفناء الدولة القومية لجميع الثقافات العشائرية والقبلية عبر طغيان طابع مجموعة إثنية معينة فهو إبادة ثقافية بكل معنى الكلمة، بمقدور العشائر والقبائل أداء دورها الرئيس في تكوين الأمة الوطنية بدلاً من دولة الأمة أو أمة الدولة، وذلك بوصفها عناصر بنَّاءة فيهاط. ومن الممكن أن تقوم فيدرالية العشائر بتكوين قبيلتها الموحدة، والقبيلة بالأصل هي شكل من أشكال الفيدراليات الاجتماعية.

ارتأت العشيرة أن تعيش بعيدة عن الحضر (المدينة والمدنية)، لأنها رأت فيها تقييداً لحريتها وقيمها التي تفتخر بها (من عادات وتقاليد ورثوها من الآباء والأجداد)، واعتقدت أنها ستضمحل في المدينة على يد طبقة غريبة وسلطة احتكارية متحكمة بها، فبقي أفرادها ملازمين لقراهم، وحتى اختار أفرادها ضنك العيش في الصحاري والجبال والوديان على رفاهية المدينة، حتى أصبح ابن المدينة يُستهزئ به بأنه متخلف وغير حضاري؛ مع العلم أن العشيرة يسود فيها عرف مجتمعي (عشائري)، وهي مجموعة من القيم والمثل، عادة يكون ابن المدينة محروم منها، وهي مجموعة القواعد التي تحكم سلوك أفراد العشيرة، وتسودها المعتقدات والتصرفات الأخلاقية التي تُعتبر مقبولة حسب حياة العشيرة والقبيلة، وتشمل اللغة واللهجة وحتى اللباس والشكل والسلوك العام في العلاقات الاجتماعية والتي تعزز من شيمها ووحدتها. ولكن يمكن أن يختلف العُرف الاجتماعي من عشيرة إلى أخرى ومن زمان ومكان إلى آخر، فتتأثر بالعوامل الثقافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية، لكنها تبقى مرتبطة بالأصالة.

إنّ مجتمع الشرق الوسط مازال التنظيم المجتمعي العشائري “القبلي” يعيش فيه بكثافة منذ التاريخ وحتى اليوم. لقد كانت البشرية تعيش الحياة الحرة الطبيعية وتسودها الأخلاق الفاضلة، وكان الفرد فيها يدافع عنها ويضحي من أجلها، وكذا كانت العشيرة تحمي أفرادها بكل قوة، يقول المفكر “أوجلان” في مرافعته الرابعة (الشرق الأوسط): “ما كان قائماً هو فرد ومجتمع حقيقيان، ولكن عندما أرادت بُنى المدنية السطو على العشائر واستعبادها؛ حصلت تناقضات في العلاقة والصراع بين العشيرة المناهضة للاستعباد وبين الدولة، فباتت الجبال والبوادي أوساطاً للمقاومة.. وقد جهدت العشائر إلى الخلاص من هذه القضية بتحولها إلى قبائل وبتصعيد مقاومتها، إلا أنه غالباً تتفوق تنظيم قوى نظام المدنية بتقنيتها المسلحة الكبيرة. لقد قام النظام بنعت هذه الحركات والحكم عليها بأنها “بربرية”، لكن العكس هو الصحيح، إن الذي لا يرغب الانقطاع عن الحياة الإنسانية والحرية فهو نظام العشيرة “الكومونة”).

إنّ الانخراط في عرف العشيرة يعتبر عادة ضرورية للتكامل والتعامل السلس داخل مجتمع العشيرة والقبيلة، ويؤدي المآل لمن يخالفها بالعقاب والتشهير وحتى التبرؤ منه والطرد والنفي، وهكذا تحافظ العشيرة على حريتها وديمقراطيتها التي تناسبها.

يختلف نظام العشيرة مع عصور العبيد والأقنان والعمال، لأنّها كانت دائمة المقاومة والعصيان. إن أخطر تزوير للتاريخ والحقيقة من قبل مؤسسي المدينة هو استصغار دور العشيرة والنظر إليها بسلبية أحياناً، فلولا اتحاد العشائر والقبائل وعيش الحياة الديمقراطية “الكومينالية” فيها لما استطاعت مقاومة اعتداءات المدنيات العبودية، ولما تمكنت من الحفاظ على شكل المجتمع الذي نظم نفسه على أسس تاريخية وثقافية. لذا كانت العشيرة وجميع الأقليات والمكونات المجتمعية التي تشبهها قد حافظت على خصوصيتها، وكذلك الطرائق الدينية والمذهبية، وكانت في صراع دائم مع الدولة والسلطة المركزية المتشددة التي تعمل على احتوائها.

العشيرة وصراعها مع السلطة والدولة المركزية:

على الرغم من تلك المزايا الحسنة للعشيرة والقبيلة في الحفاظ على القيم والمثل والتراث الديمقراطي الحر، حيث قامت بانتفاضات عديدة وقدمت التضحيات الجسام، ولكن لم تنجح معظمها بسبب قوة النظام السائد واستخدامها للحرب الخاصة في التأثير على زعماء بعض العشائر وجعلهم تابعين لها، بل راحت تعمد على إذكاء نار التعصب داخل العشيرة ضد عشائر وإثنيات أخرى تناهض النظام القائم؛ فتصبح خطيرة وسلاحاً فعالاً بيد الدولة والسلطة القائمة، فتستميل إلى جانبها عناصر متواطئة وعميلة لها،  فظهرت بعض العشائر من هذا النوع، ووصلت إلى مرحلة بدأت تعاني من التفسخ والانحلال مع الزمن نتيجة ظهور متواطئين مع النظام والسلطة القائمة من بين صفوفها وجعلتها تابعة لها، لترهن حياة ومستقبل العشيرة لقوة النظام المستبد خدمة لمصالحها في الهيمنة المركزية.

تعمل الدولة للسيطرة والتحكم على كافة فئات الشعب، فيتحول النظام الحاكم إلى أمة سلطوية ودولتية،  فتعتمد على إدارات العشيرة المتواطئة والمعتمدة غالباً على المصالح  العائلية الضيقة، لكي تحافظ الدولة على وجودها عبر بعض المؤسسات المتبقية من العصور الوسطى، والتي تقبل التواطؤ معها كـ(الإقطاعية – المشيخات – الطرائق ورئاسة العشيرة والقبيلة)، فتقوم الحكومات الدولتية على مداراة بعض شيوخ القبائل ورؤساء العشائر واستمالتهم إلى جانبها وإغرائهم بمنحهم بعض المزايا، كإضفاء ألقاباً عليهم وتعليق أوسمة على صدورهم، أو تخويفهم وإهانتهم بواسطة سلطاتها وأجهزتها الخاصة وبمعاونة القبائل المناوئة لها. وطبيعة أفراد العشيرة البسطاء وناموس العشيرة يقضي بانقيادهم لطاعة لولي الأمر أي “كبيرهم”، فكانت مهمة شيخ العشيرة يسيرة ومبسّطة في الهيمنة على جميع أفراد العشيرة وقيادتهم حسبما يشاء، فكان ابن العشيرة محدود الأفق ولا يرى أبعد من محيطه الذي يعيش فيه، ونظرته كانت أنانية وسطحية اتجاه الوطن الكبير الذي هو أكبر من العشيرة والقبيلة. ولتعزيز قوته وسطوته وهيبته على العشائر الأخرى؛ يتعاون شيخ العشيرة مع الحكومات، ويضع إمكانات العشيرة والقبيلة في خدمة مصالح السلطة والدولة، لتقوم الأخيرة بإضفاء بعض رتوش الحداثة عليها لتبق مقبولة، وهنا تصبح العشيرة خطر على نفسها بتقيّدها بنظام مستبد، لتدور في فلكها بدل أن تكون في خدمة مجتمعها الحر.

التعصب والعصبية القبلية:

العصبية القبلية في اللغة هي شدة ارتباط المرء بجماعته، والجد في نصرتها والتعصب لمبادئها. ويُعرِّف “ابن منظور” التعصب بالقول بأنه “شعور داخلي يجعل الإنسان يتشدد، فيرى نفسه دائماً على حق، ويرى الآخرين على باطل بلا حجة أو برهان”. وبعبارة أخرى التعصب يعني نصرة الإنسان لجماعته بشكل أعمى، والذود عن قبيلته أو عشيرته ظالمين كانوا أم مظلومين، ويظهر هذا الشعور عادة على صورة مواقف وممارسات متزمّتة، ينطوي عليها احتقار الآخر وعدم الاعتراف بحقوقه وإنسانيته، فالتعصب بالمجمل هو ضد التسامح وقبول الآخر والتعايش معه.

العشيرة والتعصب لها في العصر الحديث:

من مآسي العشائرية والقبلية هو المغالاة في التعصب لها، فالتعصب ظاهرة قديمة حديثة، تجتمع فيها مفاهيم متعددة مثل التمييز العنصري والديني والجنسي والطائفي وحتى التعصب الفكري والثقافي، فالتعصب في علم الاجتماع هو مرضٌ اجتماعي يولِّد الكراهية والعداوة في العلاقات الاجتماعية والشخصية، بحيث يمنح التعصب صاحبه تمييزاً واهياً عن الآخرين، ويمده بأسباب وهمية باطلة لتفويت فرصة حل مشاكله وأزماته بطريقة منطقية وسوية.

أسباب التعصب ومن يذكِّيها ويستفيد منها:

ينبع التعصب من فكرة الضعف والشعور بالنقص الذاتي والدونية والبكاء على أطلال الماضي الخالي من العيب والنقص، والمغالاة في تضخيم الذات والافتخار بالذات والجماعة. إنّ المستفيد من نمو العصبية بهذا الشكل الرجعي هو من يعمل على انتعاشها، ومن يقف وراءها هم أصحاب سياسة مُحافِظة يدعون من خلالها إلى محاربة كل جديد ومتطور، ومحاربة الآخر واستحلال مكتسباته. صحيح أنّ التعصب للعشيرة والقبيلة ساهم في الحفاظ على وحدة الجماعة وتكاتفها وعلى القيم والمثل الطيبة والأخلاق الحميدة، لكن عندما ينفخ نظام الدولة وخاصة الدولة القومية في كير التعصب لإعادة إحياء عادات وقيم العشيرة لجعلها في خدمة نظامها القائم،  يبرز عنصر الإشكالية عند إكساء التعصب وإلباسها ثوب التفاضل والتمايز بين البشر، وإنكار الآخر وإقصائه، وبالتالي تظهر فكرة القوة والغريزة والأنانية المغرضة للعشيرة والقبيلة. وتحت شعار “فرِّق تَسُد”، تقوم أجهزة السلطة الإيديولوجية بإثارة النعرات والعصبيات العشائرية والطائفية، وجعلها تختلف فيما بينها وحتى تتقاتل أيضاً، ليتدخل نظام الدولة – ليبرز أهمية وجوده – ليسيطر على الوضع بالعنف والقوة، وتتوسع السيطرة لتصل إلى خنق كل تطلع نحو الحرية والديمقراطية للجماعات المهمشة الأخرى.

ونتيجة استخدام نظام الدولة للسياسة الخبيثة، بتفضيل جماعة وشيطنة أخرى (وخاصة المناهضين لها)، والتحريض على العنف بينهما عن طريق (شيخ العشيرة والموالين لها)، فإنها تقوم بإذكاء روح العصبية لدى العشيرة وتتظاهر بدعمها لها، لكنها في الأساس تزرع الفتنة والتفرقة وتقسم المجتمع حتى بين العشيرة والقبيلة الواحدة، لذا نشاهد اليوم عدة زعماء وشيوخ تدعي الزعامة والأحقية، واتجاهات وموالاة متعددة لدى العشيرة الواحدة. لتصل العشيرة (المتواطئة) مع النظام القائم، إلى مرحلة تعارض (بل وتحارب) فيها المجتمعات الحديثة التي تتبنى أسساً ومبادئ تتجاوز العصبية العشائرية والطائفية وتتطور بشكل مذهل، وذلك بحجة الحفاظ على الموروث التاريخي.

إن من أهم أسباب تأخر مجتمعاتنا المختلفة وعدم تطورها إلى مصافي المجتمعات المستقرة والمتطورة هو التمسك بالجانب السلبي للعشيرة والقبيلة، من خلال نشر روح العداوة والتناحر بين المجتمعات والشعوب، ألا وهي مناصرة الطرف الأقوى، وهي نظام الدولة المستبد التي لا تريد الخير للمجتمعات، وكل ذلك يصب لصالح رئيسها وفي خدمة الدولة الدكتاتورية ومن خلفها الرأسمالية والامبريالية العالمية، التي تجعلها باباً من أبواب وحجج التدخل في المنطقة عبر مناصرة طرف ضد آخر، لتنشب الحروب والنزاعات وتخلف الويلات، وذلك نتيجة ما ابتلت به العشيرة والقبيلة من عصبية عمياء لنفسها وطائفتها، بعد أن كان لها دور إيجابي في الحفاظ على الإرث الاجتماعي وتتمسك به، وكيف تحول التعصب للعشيرة إلى سموم ممنهجة لتدمير البنى الاجتماعية. 

الحلول الواجب اتباعها لمواجهة سلبيات العشيرة والعصبية:

من أولويات الطبيعة العشائرية، والتي بها أطالت بوجودها وأدامت نظامها لآلاف السنين، هو قيامها بتأمين حاجيات العشيرة الضرورية في الحياة الكريمة، وكذلك القيام بعملية الضبط الاجتماعي وتوفير الأمن والأمان داخل العشيرة. فالمجتمعات العشائرية تجعل من القانون العرفي الأداة الكبرى للضبط الاجتماعي لسلوك الأفراد الذين يخالفون الأعراف والقيم. ولأجل توطيد السلم الاجتماعي؛ على القيادات العشائرية والقبلية أن تقوم بإدارة سليمة للتعددية الدينية والمذهبية واللغوية، (إن وجدت)، وتفتح المجال والمساحة للتعبير وحرية الرأي فيما إذا كانت تتضمن القبيلة تنوعاً في مكوناتها وطوائفها، في ظل احترام متبادل، وأن يكون الجميع سواسية أمام العرف الاجتماعي دون تمييز، وإدارة الحكم الرشيد وتوفير تكافؤ الفرص لجميع الأفراد، دون تمييز. إن توفير العدالة يحقق الأمن والطمأنينة للمجتمع بأسره، فالإنسان بطبعه يتمسك بحقوقه ويحرص على صون حرماته والمحافظة على حريته، وهذا يعكس على تعميق الانتماء والولاء لذلك المجتمع الذي صانه وحماه، وحفظ كيانه ورعاه، فيقول أحد الحكماء: “الأمن أهنأ عيش والعدل أقوى جيش”.

تلعب العشيرة دوراً كبيراً في تحقيق السلم والتوافق الاجتماعي ولها أهمية بالغة في فض النزاعات بين الأفراد والجماعات وبطريقة سلسة ومفهومة للجميع، كما تساهم في نشر ثقافة السلم الاجتماعي، وذلك من خلال قانون يسمونه عادة بـ(السواني). إن هذا القانون تسير عليه وتلتزم به معظم العشائر. ولرؤساء/ شيوخ العشائر دور كبير في تحفيز عشائرهم وتوجيه قبائلهم في مناهضة السلطة المستبدة والجائرة الحاكمة أو المستعمر والمحتل الغريب، والقيام بقيادة الانتفاضات والثورات ضدهم، وأيضاً تساهم بشكل كبير في معارك التحرر والحرية والديمقراطية.

خاتمة:

كانت ومازالت العشيرة وحدة سياسية واجتماعية واقتصادية متكاملة ومتماسكة، خاصة في المجتمع غير المديني، وتمارس دوراً مهماً في ضبط سلوك وأفراد المجتمع وتحفظ كيانه من الأخطار المحدقة بها.

يجب نشر ثقافة السلام والتواصل الاجتماعي والمحبة والتسامح، وصون حقوق الإنسان، وتطبيق مبدا التعايش السلمي بين أفرادها والآخرين، وضرورة الابتعاد عن الظواهر السلبية التي تحض على التعصب الأعمى والحقد والضغينة وكراهية الآخرين، وضرورة تعليم وتوجيه المجتمع لأجل التخلص من المفاهيم الجاهلية الخاطئة والقيم والعادات والتقاليد البالية في الثأر والنظرة الدونية للآخرين، وخاصة للمرأة أو اعتبارها قاصر وعورة، ويجب عقد الاجتماعات والندوات والمؤتمرات بشكل مستمر في دواوين العشائر وغيرها لأجل النقاش وتبادل المعلومات والتعرف أكثر على الآخر والتفاهم حول الهموم والمشاكل المشتركة.

على جميع العشائر والقبائل والمكونات الإثنية الأخرى القيام برفع وتيرة الفعاليات والعلاقات الأخوية السلمية بين العشائر والجماعات المختلفة، ونشر روح التقارب والتعاون لما فيه خير جميع المواطنين في الوطن.

المراجع:

_________________________

1 – “بنية العصبيات” للكاتب “أحمد دالي” – مجلة الشرق الأوسط الديمقراطي – العدد /50/ أيلول – سبتمبر/2020

2 – المواقع الإلكترونية: ويكيبيديا – عرب سايكولوجي – صحيفة عمّون – طلبة نيوز – مقاربات للتنمية السياسية – عشيرة الهنادزة – قبيلة البو حمد – شبكة النبأ المعلوماتية – إعلام بني لام.

3 – عبد الله أوجلان – المرافعات / 2 – 3 – 4 / من “مانيفستو الحضارة الديمقراطية”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى