أبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتملف العدد 56ولاء عبد الله أبو ستيت

«المليشيات» أهم أدوات القوى الإقليمية لتفتيت المنطقة

ولاء أبو ستيت

دول الشرق رهينة الجيوش غير النظامية

«المليشيات» أهم أدوات القوى الإقليمية لتفتيت المنطقة

ولاء أبو ستيت

ولاء عبد الله أبو ستيت
ولاء عبد الله أبو ستيت

كعادته القديمة الممتدة عبر العقود والقرون يعيش الشرق التليد إرهاصات تشكُّل جديدة لا أحد يعرف ما الذي ستؤول إليه رغم كافة المحاولات والمخططات والاستراتيجيات الرامية للهيمنة بصورة مباشرة من دول إقليمية أو غير مباشرة عبر سياسة الوكلاء من الدول وحتى الجماعات والمليشيات التي تُقاد من أجل تحقيق هذا الهدف.. وتبقى المُعادلة رهينة فهْمِ الجميع ملامح تلك المؤامرة الكبرى التي لا تريد للمنطقة أن تفيق من أزماتها وصراعاتها الممتدة، لكن في خضم كلّ ذلك فإن المخطط الأهم هو إحلال المليشيات محل الجيوش النظامية لتفتيت الدول والقضاء على هوياتها الثابتة أو المتعددة ويبقى السؤال الأبرز في ذلك: هل ننجو من هذا المخطط ونعي ملامحه فعلًا أو أننا نسير إليه بقوة لندخل درك أسفل من هاوية نهبط فيه بسرعة قياسية!

مقدمة

ستظل صيغة «المليشيات» أعقد ما يُهدد المنطقة خلال الفترة القادمة، فهي الصيغة التي لن تؤدي بالدول إلى ملمح الاستقرار المنشود، والذي يعد من أعقد وأهم مؤشرات الديمقراطية الكثيرة والمتداخلة، ويبدو أن مقولة الرئيس المصري الراحل أنور السادات الشهيرة «آخر الحروب»، التي قصد بها حرب أكتوبر 1973، كانت إرهاصة ذات أبعاد كثيرة ومتشابكة، فبالرغم من أنه كان يقصد وقتها آخر الحروب لمصر لكن الواضح فعلًا أنها كانت آخر حروب المنطقة بالشكل المعهود، حروب الجيوش (النظامية)، ولتبدأ مراحل مختلفة من الحروب التي تُعلن عن مسارات مختلفة من حروب العصابات، المليشيات، وحتى الجيوش غير النظامية التي تشكلت على حين غرة إمّا لدفاع فعلي، أو لتكون أدوات، والهدف منها كبير وكأنهم يجرّون المنطقة نحو حرب طوائف ومليشيات وجماعات راديكالية وأثنية لأغراض متسارعة.

لكن الأزمة أن كل هذا يخرج له مستفيد يسعى لجمع الأرباح والمكاسب من المنطقة، وإحداث مناطق نفوذ يُفاوض بها الغرب الذي فقد بوصلته في المنطقة، بعد أن أدخلها في أزمتها عبر تبنيه، بل وبناؤه أغلب تلك الجماعات المليشياوية التي شبت عن طوقه، وبدأت تُهدّده وتهدّد أمنه، وسلمه حتى في عقر داره.

الحالة في سوريا التي تتصارع فيها قوى إقليمية ودولية تنُمّ عن ذلك بوضوح.. تركيا في احتلالها الأرض في الشمال السوري خلقت مليشيات تُحركهم حتى اللحظة وفق الهوى، بل وباتت تنقلهم بسهولة من دولة إلى أخرى لتنفيذ أهدافها، ولتخرج يتيمة رغم غرابتها بدايةً، لكنها أصبحت جزء من الثقافة السمعية الجماعية، وهي  «المرتزقة السوريون» ستجد هؤلاء الذين صنعتهم تركيا في ليبيا وقت الحاجة إليهم، يتواجدون على الأرض ويعملون مع المليشيات الليبية على الأرض أيضًا من أجل أن تبقى ليبيا في أزمتها، ولا تخرج منها بأي حال من الأحوال، ستُحركهم تركيا إلى ناجورنو كارباخ، ليكونوا أدوات أيضا لتغيير المعادلة لصالح أذربيجان ومن ثم ترجيح الكفّة التركية هناك، بما يجعلها تتحدّث إلى الغرب من منطق قوة رغم زيفه، ورغم حالة الهشاشة الواضحة لتركيا على أصعد مختلفة ومؤثرة، ولن تتوقف بالتأكيد تركيا عن استخدامهم في كل ملف أزمة جديدة تفتحها في المنطقة.

بالمقابل ستجد أيضًا مساعي إيران التي جاءت سابقة على تركيا من أجل تغيير ملامح المنطقة وتفعيل مليشيات يأخذ بعضها الطابع النظامي أو شبه النظامي من أجل السيطرة الكاملة على دول واتّخاذها ركيزة لتهديد أخرى، كحالة جماعة الحوثيّ في اليمن، وتهديدها دول مجلس التعاون الخليجي وفي القلب منه المملكة العربية السعودية.

من هنا تبدو ملامح المشهد بأن المنطقة فيها قوتان ساعيتان نحو الهيمنة والسيطرة وفق استراتيجيات مختلفة، رغم اتفاقهما على الهدف، بل وتعاونهما على تقاسم نقاط النفوذ في الوقت الراهن في ملفات عدة لتحقيق أهداف مرحلية في مسيرة استراتيجيّة الدولتين تجاه المنطقة، وهو ما يستدعي تكاتفاً حقيقيًا للمواجهة وترتيب الأولويات.

وفي السياق تحاول الباحثة في هذه الورقة أن تقدم تتبعًا مرحليًا لتلك الحالة التي أوصلت دول الشرق إلى تلك المرحلة حتى باتت رهينة لجيوش غير نظامية أو بالأحرى مليشياوية واضحة الأهداف والتي في الأساس منها هو القضاء على الجيوش النظامية في المنطقة وشيطنتها بكافة السبل وهي المُعادلة التي تغيرت وساعدهم فيها حالة السيولة والانكسار في مشهد الاستقرار الشكلي الذي عاشته المنطقة قبل حِراك الثورات التي اندلعت شرارتها الأولى من تونس وتحرّكت الشعوب بروح بريئة، رافضة القمع الذي صمتوا عليه عقوداً، غير آبهين أو باحثين في محددات مؤامرة أو غيرها ليكون التحليل المُتبع في حالة المنطقة في الفترة من 2011 وحتى الآن.

 

بداية التأصيل الجديد للحالة المليشياوية في المنطقة

شهد الوطن العربي مع نهاية 2010 وبداية 2011 تحولات جذرية اتخذت طابعًا شعبيًا، وحركات تمرد ثورية بفعل الأوضاع التي عايشتها الشعوب، التي تم تهميشها إضافة إلى المطلب الاقتصادي والذي كان طابعًا عامًا لدى الدول التي ضربتها رياح التغيير، فيما عدا ليبيا التي لم يكن لدى شعبها أزمات اقتصادية، لكنهم في الوقت نفسه اعتبروا أن مقدرات البلاد الاقتصادية تصل إلى شخص واحد وأسرته وهو «القذافي» فكان ذلك مدعاه لتحركهم الذي كان أول غيث المليشاوية الآسن الذي سيمتد في المنطقة لتيخذ طابعًا يتماشى مع حالة كل دولة ويتعايش على أزمتها.

من ليبيا ظهرت أوائل تشكل المليشيات التي كانت وقتها ذات طابع وطني «ليبي» دون أي تدخّلات من مليشيات من خارج الحدود والجغرافيا الليبية، لكن تعدّدت المسمّيات لمليشيات تتبع دولاً وقوى إقليمية تسعى لفرض نفوذها بالقوة، وإن كانت المؤشرات وقتها لم تتصاعد بهذا الشكل بفعل تأثير ونفوذ الإخوان القوي في المنطقة، ومن هنا بدأت ملامح استغلال الشباب الليبي لحثّه على حمل السلاح باعتباره مطلبٌ وطنيٌّ بل إلهي لبناء ليبيا الجديدة، وساعد في ذلك حالة الحرب التي أعلنها القذافي على الشعب الليبي الذي انتفض ضدّه فجأة، ودون سابق حسابات منه، ومن كتائبه أيضًا التي تتحمل جزءاً كبيراً من الحالة التي أدّت بأول خطيئة عربية (الجامعة العربية) وهي المتعلقة بالناتو، ومطالبته فرض حظر جوّي، والتدخل في ليبيا.

 

«إيران» ووضع أولى لبنات الجيوش الموازية

في تلك الأثناء كانت إيران التي أصلت للحال المليشياوية منذ صعود الخميني إلى سدة الحكم، تتابع المشهد وتترقب تدخلا يُسهم في سيادة فكرها، حتى أن خامِنئ صعد إلى منبر الجمعة لتقديم خطبته الشهيرة بالعربية، ويقول: – إنّ تلك الثورات هي بنات أفكار الثورة الإيرانية 1979. وبالطبع لا ننسى أن الثورة الإيرانية كانت أول من قننت فكرة الجيوش غير النظامية بعد الثورة عبر إقرارها الحرس الثوري (حراس الثورة الإسلامية) الذي رافق تأسيسه ميلاد الدولة الخومينية، وكانت أهدافه كثيرة ومتشعبة، لكن الهدف الأساس هو حماية الثورة عبر هذا الجيش الموازي لمواجهة جيش الطاووس الذي لم يكن الخميني يثق في أنّه سيعمل لصالحه، وبالتالي جاءت فكرة الحرس الثوري متوافقةً مع الحالة، لِتبدأ المنطقة منذ هذا الوقت ملامح تشكًل جديدة لتيارات مليشياوية ستغرّد خارج سرب إيران من أجل هدف غريب وهو «حماية المستضعفين»، والحقيقة هو مسعى جديد من أجل إعادة حلم فارس الكبرى، لكن بمُحدّدات عصرية ساعد في تحولها وانتشارها الحرب العراقية الإيرانية التي نال فيها الحرس الثوري وحده مكاسب سياسية وشعبية دفعته للمضي قُدُمًا داخل إيران وخارجها، ومنها كانت أولى الإرهاصات مع حزب الله الذي أصبح رقمًا مهما في المعادلة بعد حرب 2006، إلى أن صار جيشًا موازيًا في لبنان الذي تحكمه الطائفية ثم أصبح قوة أكبر من قوة الجيش اللبناني بل ومُحرّكة لسياسات البلاد، ومُسيطرًا على الحالة التي فيها بملامح متعدّدة، ولتبدأ صيغة توسيع تجربة حزب الله في المنطقة، بل لتصبح عناصره أدوات في يد إيران والحرس الثوري من أجل تدريب مليشيات ذات بعد عقائدي في انتظار الفرصة السانحة.

إيران التي استغلت كلّ المشهد لصالحها برؤى تنظيرية بعد أحداث المنطقة في 2011، بدأت التواصل مع تنظيمات وجماعات راديكالية في المنطقة حتى لو اختلف البعد العقائدي فيها من أجل تمرير الحلم والغرض، ليخرج في مصر أحد المحسوبين على جماعة الإخوان وبعد حالة السيولة التي أصابت الدولة المصرية – إذا استثنينا من ذلك القوات المسلحة المصرية- للقول بأنّ الجماعة بصدد تأسيس حرس ثوري مصري، وكان ذلك في 2011، الأمر بالتأكيد الذي لم يكن للجيش المصري القبول به، وهو الجيش الوحيد القويّ الباقي في المنطقة، إذا ما جنّبنا أيضا حالة الجزائر التي كان وقتها جيشها وفق الدستور لا يمكن التحرّك خارج حدوده على الإطلاق قبل التعديلات الدستورية الأخيرة التي تحايلت على تلك الفقرة، وهو الأمر الذي لو كان تحقق لكانت المعادلة تعيش حالة جديدة من التأزّم، وربما لاحقاً نتطرق لفكرة استهداف الجيوش الوطنية إذا سنحت الفرصة والتي هي حالة غربية طرحها الغرب في إطار ملفت.

فالتحديث الذي سعت لفرضها على دولنا ليست في الشرق فحسب بل في العالم الثالث الذي يدّعيه منظرو العالم الأوّل الغربي الساعي إلى فرض كلّ أفكاره علينا فرضًا، وبمحدّدات عصرية تبدو ملامح بريق زائف لها.

عودة إلى إيران وسياساتها نحو صناعة الجيوش الموازية، والتي بدأت مع القول بأن الثورات هي استكمال فكرة الثورة الإيرانية في 1979، وصولًا إلى محاولات التحرّك في السياق لاستغلال المشهد سواء في البحرين، وصولاً إلى السعودية، ومحاولة تأليب الشيعة في المنطقة الشرقية، وبالمقابل فرض مزيد من سياسات السيطرة على العراق الذي باتت إيران منذ الغزو الأمريكي له تعتبره محافظة إيرانية عبر هيمنتها على صانعي القرار السياسي هناك، بل وأغلقت الباب للحوار مع دول مجلس التعاون الذي كان قد بدأ يأخذ أشكالا مختلفة في السنوات الخمس السابقة للحراك العربي الذي انطلق من تونس. ثم تأكيدها على شيطنة أي حراك يحدث في سوريا، واعتبار ما يجري فيها مؤامرة، رغم أنّ محددات الحالة متشابهة في المُجمَل، لتحوّل المسألة في سوريا وتحارب نيابة عن الأسد، وتكون هي اليد التي منعته فعليّاً من السقوط في مواجهة كافة التداعيات التي حصلت منذ انطلاق الشرارة الأولى في درعا، وتستمر المسألة حتى تتحدّث إيران عن تأسيس قوات باسيج سوري على غرار الباسيج الإيرانية التابعة لقوات الحرس الثوري، بصيغة أيضا تتعارض حتى مع حالة وفكر نظام الأسد الذي كان يعتبر أن ما غير الجيش قوات إرهابية، فلم نجد أي موقف أو ردّ على هذا الإعلان الذي تم في 2015 في ذروة تبدّل المشهد في سوريا، ولتعبّر إيران بذلك عن نصر عسكري بملامح جديدة مختلفة في سوريا.

ومما لا شك فيه أن الدور الإيراني في المنطقة بدأ يتعاظم، فالإمبراطورية ذات الأطماع التاريخية، بدأت باستكمال سعيها نحو تقنين مليشيات طائفية تعمل بنفس مسار قوات “الحرس الثوري”، بل وترتبط به بولاءات طائفية، ومذهبية، من أجل فرض سيطرتها على المنطقة.

وبدأت هذه التحركات مبكرًا من لبنان، عبر دعمها حليفها الأبرز (حزب الله)، مرورًا بالعراق، والذي أصبح ساحة خصبة لها، منذ دخول القوات الأمريكية إليه في 2003، وكذلك في اليمن عبر الحوثيين، الذين يلقبون أنفسهم بـ”أنصار الله”، وأخيرا سوريا، التي تخوض فيها إيران حرب بقاء إلى جوار حليفها بشار الأسد؛ لتعلن قبل أسبوعين عن تشكيل حشد شعبي “باسيج” في سوريا.

وتدين هذه المليشيات الطائفية بالولاء في المقام الأول إلى إيران، التي كان لها الدور الأهم في وجودها وتدعيم ركائزها؛ ما يستدعي ضرورة الوقوف لدراسة تبعات هذه السيطرة الإيرانية من جانب، وكذلك المخاطر التي قد تشكلها هذه القوات من الجانب الآخر.

ومن سوريا وفي نفس التوقيت تكون إيران قد أحكمت سيطرتها على الحديقة الخلفية للمملكة السعودية (اليمن) عبر سيطرة مليشيا الحوثي التي قضت إيران إلى تدريبها ووضعها على أهبة الاستعداد في انتظار اللحظة الفارقة التي قد تكون لحظة غفلة للآخرين لا تخلو من تقية واضحة فتكون التجربة أيضاً بجيش موازٍ مليشياوي يسيطر عنوة على العاصمة ويُدخل اليمن في أزمته الراهنة.

بالمقابل يظهر الحشد الشعبي بدعوة السيستاني لمواجهة داعش ولتتلقّف إيران الدعوة ويبدأ الحرس الثوري وخاصة فيلق القدس تجربة جديدة في العراق التي تُسيطر إيران على مقاليد الأمور فيها، بمشهد واضح لتجمع مليشياتها التي تحرّكها في العراق ضمن كيان واحد سرعان ما تعطيه الدولة صفة الرسمية، ليكوّن جيشاً موازياً مليشياوياً، وليتحرك السليماني داخل العراق، وكأنها محافظة إيرانية، وهو ما كشفه مقتله هو والمهندس على يد الولايات المتحدة.

 

تركيا وتأصيل سياسة المليشيات

رغم أنّ سياسة تحريك تركيا للمليشيات في المنطقة لتكون أداة فاعلة من أدواتها لتنفيذ استراتيجيتها تجاه المنطقة مدفوعة في ذلك بمشاهد تؤكد مساعيها للاستفادة من التجربة الإيرانية في تحريك المليشيات، إلّا أنّ القصة ربما قديمة في تركيا التي لديها من الجماعات والتنظيمات ما يُشير إلى هذا الملح لخدمة الأهداف التركية الشوفينية التي تتّحد بين آن وآخر عن تفوّق العرق التركي غير مدفوعة بحقائق على الأرض سوى الدولة العثمانية الدموية التي استمرّت كل هذا الوقت مستندة إلى سياسة الدم والقتل من أجل البقاء، فحتى الأخ يقتل سائر إخوته من أجل البقاء بفتوى لا تعرف أي دين يمكن أن يبرّرها، سماويٌّ كان أو وضعي أو بوذي أو غيره. وربما تستدعي المشاهد الحالية بالحديث إلى الذئاب الرمادية تلك الحالة المليشياوية التي ضجت منها أوروبا وتبرأ منها النظام التركي رغم أنها كانت أداة أردوغان وسلاحه الفتاك الذي يوجهه كيفما شاء خاصة في الساحة الأوروبية وبالأخص ضد الكرد هناك، وليس أوقع لكشف ذلك من تحالف أردوغان بهجلي.

سياسة المؤامرات العظمى التي اشتهرت بها الدولة العثمانية التي أرست أقوى أجهزة المخابرات في عصرها أيّما كانت التسمية؛ عسسٍ أو غيره لجأت قديماً إلى مواجهة أي حراكات شعبية من الداخل عبر عمليات قتل واستهداف ممتدة على طول التاريخ وصولًا إلى الأرمن وإبادتهم، هي نفسها السياسة الجديدة والنهج الجديد لأردوغان وأتباعه من الحالمين بالعثمانية الجديدة والذين بدؤوا في التنظير لها من فترة ما قبل ثورات الربيع مرتكزين في ذلك على مشتركات الثقافة والتاريخ حتى بدأ التحول السياسي في المنطقة وبدأت تركيا في الارتكان ليس لدعم المليشيات كما جرى مع بدايات الثورات بتحريك جماعة الإخوان وأتباعهم، وتصدير أردوغان نفسه بأنه خليفتهم وربما قائدهم، وبالمقابل تشدق الإخوان في دولهم بتجربة صفر مشاكل التي أحدثها أردوغان وحزب العدالة والتنمية، رغم زيف الاستدلال في جوانب عدة.

لكن بدأ التحوّل بسياقات مختلفة، بداية من استغلال المشهد السوري، وتقديم دعم مفتوح للتيارات المعارضة بداية من المجلس الوطني ثم الائتلاف السوري الذي كان ولا يزال يتخذ من تركيا مقرًا. وبالطبع كانت الأمور تسير وفق دلالة اتفاق إخوانية المشهد والهدف، وبرز التحالف التركي القطري بملامحه المختلفة حتى وصل الأمر بقطر ومن ورائها تركيا إلى إجلاس ممثل الائتلاف السوري (الشيخ معاذ الخطيب وقتها) على مقعد سوريا المُجمد خلال قمة الدوحة في مارس 2013،  وبدأت الأصوات النشاذ في المنطقة كلها تُنظر للحالة التركية وتُعيد إلى المسامع بقوة الحديث عن العثمانية وأنها كانت خلافة راشدة..!! حتى غيّر المصريون المعادلة في 30 يونيو 2013 وأخرجوا الإخوان عن المشهد، ليبدأ أردوغان الذي تصور أنه سيطر على مصر والإقليم بوجود الإخوان على رأس السلطة في مصر، إعلان حربه غير الشريفة على مصر والتي مارس فيها كل الأساليب والتي كان من أبرزها الدعم الذي قدمه بغطاء مادي قوي من الدوحة بهدف تغيير المعادلة في مصر التي كان جيشها هو الصخرة التي تحطمت عليها كلّ أطماعه وآماله هو وغيره، ومن هنا بدأت تحركات جماعات الإرهاب ومؤامراتهم وسياسات التخريب والتفجير التي استهدفت حتى المساجد ومن قبلها الكنائس وكان من الواضح أن كل من يُحرك ذلك هو أردوغان الذي فتح الباب لقادة التنظيم وكل الهاربين والمستهدفين لمصر، بل ومن تركيا وقبلها قطر خرجت عشرات القنوات والصحف والمنصات الإلكترونية التي تستهدف مصر بملمح مليشياوي واضح، برز بعدها هذا الانطلاق الداعشي الذي اعتقد أنّه محاولة ممن يريدون تفجير المنطقة برمّتها للالتفاف حول ما حدث وحول الحلم الذي قضت عليه مصر بثورة شعبها في 2013 والتي رافقها تفهم من قيادة الجيش الذي يرتكز على تاريخ طويل من الوطنية يمتد إلى ما قبل التاريخ ولا ينفصل عنه.

ومع غياب الإخوان عن حكم مصر وتواريهم عن المشهد بدأت تركيا في تغيير مسارات تنفيذ استراتيجيتها التي كان داعش أحد أدواتها بدليل فتحها الباب له ولعناصره للولوج إلى سوريا وحتى العراق عبر أراضيه بل ووصل الأمر إلى علاج عناصره هناك، وخلال فترة المواجهة مع داعش والتي برز فيها دور ووجود قوات سوريا الديمقراطية، والتي لا يمكن لتركيا أن تغفل عن هذه القوة الوليدة هي من بنات أفكار القائد الكردي عبد الله أوجلان الذي رغم سياسات تغييبه بالسجن 23 عام في جزيرة إيمرلي المعزولة، وفرض العزلة عليه من أجل عدم إصال رؤاه أو أفكاره.

الأمر بالنسبة لتركيا لا يتوقف عند حد أن الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا انطلقت من أرضية صلبة ثابتة وواجهت أعتى تنظيمات الإرهاب بل وشكلت أول انتصار فعلي عليه على الأرض. وإنما المسألة أن الكرد الذين تسعى الدولة التركية منذ تأسيسها على يد أتاتورك إلى تغييبهم وإبادة فكرهم والتضييق عليهم بصور مختلفة هم نفسهم الذين استطاعوا على هذه الأرض التي شهدت ملامح لانتشار فكر أوجلان في تسعينيات القرن الماضي بدأت تجني ثمار الأشجار المترامية التي زرعها أوجلان هناك بهدوء وثقة. ومن هنا كان التحول نحو تأصيل حالة الجماعات المليشياوية في المنطقة والتي لن توقفها تركيا في القريب بل وبدأت ومن أجل أن المسألة فيها كردًا تتخذ سياسات عديدة منها ضرب الكرد بالكرد تارة، فتح الباب لمليشيات أخرى، ثم في 2018 وبعد أن استحالت المواجهة المليشياوية بدأت حربها على عفرين ثم وسّعت الدائرة بين آن وآخر، ووضعت جماعات وتنظيمات ومليشيات لإحلالهم محل أهل المنطقة الأصليين في تغيير ديموغرافي واضح المعالم على مستوى الحجر والبشر والهدف في ذلك هو محاصرة الإدارة الذاتية التي حافظت شئنا أم أبينا على هذه المنطقة وتلك الجغرافيا التي كان يُراد لها أن تترك بيد إرهابيين، لتكون بؤرة مستقبلية من بؤر الصراع والحرب الطائفية التي يسعون للتحضير لها، بين سنّي وشيعي، ليأتي الكرد ويشكلوا حائط فصل وصد لإفشال تلك المحاولة في هذه المنطقة أيضاً، ولِتواصل تركيا سياسات بناء مليشيات مختلفة من جنسيات مختلفة لاستخدامهم وفق ما تريد تركيا في أي جغرافيا، وذلك كما أشرنا سلفا في ليبيا وأذربيجان وربما تظهر ساحات جديدة تستغل الأمور فيها.

وأخيرا؛ فقد أصبح من الواضح أن المنطقة فيها قوى إقليمية وحتى دولية تريد لها أن تكون منزوعة التأثير والقوات، وبالتالي يكون ذلك فقط عبر مواجهة الجيوش والسعي نحو كسرها وبالمقابل إحلال جيوش موازية للجيوش الوطنية النظامية في شكل مليشياوي ربما يُعطى طابع الرسمية من قبل بعض الدول وهنا تكون الأزمة.

وهذه الرؤية والتفكير ليس حديثاً وإنما يتم العمل من أجل إقراره منذ تحررت الدول في الإقليم من الاستعمار وأرست الدول دعائم جيوش وطنية كانت هي حائط الصد في أوقات كثيرة ومتعددة لكثير من مخططات تغيير المنطقة التي تشكلت للأسف بخرائط الاستعمار القديم (سايكس وبيكو)، لتبدأ مسارات الحديث عن حالة الجيوش الوطنية وتحييدها والحديث عن مسألة التدخل العسكري في السياسة وأنّ النخب العسكرية لابد أن تتوارى عن مشهد السلطة بإطلاق تعميمات واسعة ودون الاعتراف بخصوصية كل حالة، وخاصة بعض دول المنطقة التي بنت فيها النخب العسكرية مسيرتها ليست السياسية فحسب لكن الاقتصادية والثقافية في أوقات وتجارب واضحة في المنطقة.

من هنا يمكن القول: إنّ الحالة التي وصل إليها العالم الثالث، الذي كان يغط في الاستعمار بمختلف صوره أدت إلى صعود القوة المجتمعية الأكثر ثقلاً في مواجهة الوضع الخاص بالاستعمار وغيره مع الأحدث.

وشهدت دول العالم الثالث في خمسينيات القرن الماضي توجها عسكرياً متنامياً مع حركة الضباط الأحرار، التي ما لبثت إلا أن ألهمت قطاعاً كبيراً من دول العالم الثالث التي استلهمت فكر الثورة المصرية (تسمية بعدية) وسارت على خطاها.

من باب التذكير وحتى لا ننسى السبب في قيام هذه الحركة العسكرية التي قُدِّر لها النجاح بصورة غير متصورة، فقد كان ما جرى من فضيحة في حرب 1948، والتي بسببها ضاعت رقعة عزيزة من الأرض العربية لا نزال نسعى لاستعادتها أو بالأحرى استعادة جزء يسير منها لإعلان دولة فلسطين التي قضت هذه الحرب على وجودها.

والحقيقة أن علاقة ما هو عسكري بما هو سياسي تتباين بتباين الفترات والمحددات التي تحكم كل فترة. بل إنّ العجيب أن الأصل في المنطقة لحاكمية القادة العسكريين، وبروز نفوذهم في أروقة الحكم.. محمد علي باني الأسرة العلوية في مصر على سبيل المثال هو جندي كردي بالرواية الكردية قدم مصر ضمن قوات الدولة العثمانية واستطاع الانفراد بالحكم ليشكل حالة حكم امتدت عقوداً طويلة، تحديدًا من 1805 عندما خلص مصر من المماليك، وحتى 1952 حركة الضباط الأحرار، وحتى وصولًا إلى 2013 وثورتها ثم انتخاب الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي بعد الفترة الانتقالية وليس خافيًا ملامح الثورة التي يقودها في مصر في مختلف المجالات، والتي وصلت إلى أنه أقام عاصمة جديدة في وقت قياسي، أعلن عن مشاريع وطنية كبرى وعملاقة بداية من توسعة قناة السويس ما يطلق قناة السويس الجديدة.

والحقيقي أن هذه المنطقة فريدة بتجربتها وبحالتها فمن يعي حالة الفرادة والاختلاف فيها يمكنه مواجبة الأحداث أو أنه سيخرج عن الدائرة لتبقى المنطقة تواصل حالة المخاض الصعب الذي لا ينته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى