الكنيس اليهودي والكنيسة المسيحية في دورا أوروبوس (صالحية الفرات)-3-
ياسر شوحان
فصل من كتاب/
(DURA-EUROPOS AND ITS ART)
M.ROSTOVTZEFF
ميخائيل روستوفيتزيف
ترجمة : ياسر شوحان
تظهر الطريقة القصصية كواحدة من أكثر الأشكال ارتقاء في قصة ظهور موسى. فحلقة الوصل في هذه الصورة هي شخصية الطفل موسى، فقد مُثِّل ثلاث مرات في مراحل مختلفة من مسيرته : ظهوره مع أمه وأخته، والتقاطه من اليم من قبل ابنة فرعون، وأخيراً تبنيها له قبل الوصول إلى عرش أبيها. وقد استُخدمت الطريقة نفسها في قصة إيليا وابن أرملة صِرفا والتي تعتبر أكثر أمثلة الطريقة القصصية تميزاً، ويخبرنا رسام دورا قصة الهجرة الجماعية كالتالي : موسى يقود الناس المختارون خارج بوابة مصر. وخلف اليهود الذين يمشون بانتظام تظهر مصر وهي تعاني من الأوبئة وتمثل مصر بالأسوار والبوابة كما وصفت بالتوراة. ويتحرك اليهود في أنساق الجيش حاملين راياتهم، ويقودهم موسى كشخصية رئيسة في المشهد إذ يدل على حجمه المختلف عن الآخرين وأمامه الغيمة. ويستطيع كل مُطلع على التوراة أن يفهم هذه اللغة التصويرية. أما المشهد الثاني فيمثل البحر الأحمر والمصريين غرقى في البحر بعد أن زحف اليهود في الشق الذي أحدثه موسى في الماء، ثم يقود موسى اليهود بعد أن فتح البحر لهم. وهذه هي حلقة الوصل الرئيسة في تطور قصة موسى التي مُثِّلت في ثلاث أوقات، وكل واحدة من هذه المقاطع التصويرية توضح مشهداً بعينه، فالمشاهد المشتركة ذات صفة سهلة التمييز وتشكل الجزيئات الصغيرة فيها وحدة الصورة، ومع ذلك فالقصة لا يمكن أن تُميَّز بدونها.
ومما يدعو للأسف أن مشهد حزقيال مشهد مختلط جداً ويصعب تفسيره، ومهما يكن تفسيرنا فليس لدينا شك بأن عدة مقاطع من القصة مُثلت في صورة واحدة، ويدل المشهد على أن حزقيال قد رُسم مرتين في الصورة.
إن مساعي رسامي الكنيس ناجحة جداً، فالمشاهد التي استطعنا تمييزها بسهولة استطاع الزوار القدماء للكنيس تمييزها وفهمها بشكل أفضل، ولكن بقي لدى هؤلاء الفنانين شيئاً من الضعف والبساطة في معالجة المشكلة. فمن المحتمل أنه عندما بُني الكنيس في ذلك الوقت لم يكن للفنانين أي خلفية تقليدية أو موروث قديم، فلم يستطع الفنان التخلص من مشكلة النماذج الموحدة في الرسم. فقد ظل الفنانون اليهود في المجتمع اليهودي يحاولون التخلص من الصعوبات التي تواجههم في التصوير. أحدها على سبيل المثال الأيقونات وتراكيب المواضيع التوراتية. ولن أستغرب وجود طرق أخرى لمعالجة هذا الموضوع أي استخدام طرق وأدوات أخرى في أي كنيس آخر في فلسطين وسورية ومصر.
المشكلة الأخرى كانت في طريقة الرواية. فقد كان الفنانون الذين خدموا الديانة اليهودية يبحثون عن الأدوات لرواية القصة، وذلك لنقل الانطباع عن التطور المستمر في الأحداث. كما حاولوا بشتى الوسائل إنجاز هذه الغاية من الرسم، وهذا في اعتقادهم محاولات مختلفة لحل المشكلة، ومن المحتمل أنهم لم يسبق لهم أن شاهدوا المنتجات الفنية الهندية والرومانية والذي حاول فنانوها حل المشكلة نفسها، حيث أن أسلوب فصل الصور كان مألوفا ً لديهم في المشاهد الأسطورية والمنحوتات، ولكن لم يعرفوا أبداً الطريقة المستمرة في السرد. فالفنانون الذين عملوا في خدمة الديانة اليهودية كانوا سيستخدمون أدوات الفن المسيحي لو أنهم أطلعوا على طريقة حل هذه المشكلة، ولكن على ما يبدو أن الفنانين المسيحين كانوا يريدون حل هذه المشكلة بشكل مستقل عن الفنون السابقة.
إن المطلع على أعمال فناني الفترة السابقة للفترة الهلنستية المتأخرة بقليل يلاحظ أن الفنانين الهنود واجهوا الصعوبة نفسها وحاولوا التغلب عليها بطريقة مشابهة، وهذا ما حدث نفسه أيضاً لفناني بلاد الرافدين.
لقد تطرق الكثير من الباحثين والمختصين في هذا المجال إلى تأريخ الطريقة المستمرة في الرواية ولكن لم تُنشر دراسة شاملة عن هذا الموضوع حتى الآن. وسوف أشرح القليل عنها في ضوء الدلائل الرافدية الحديثة.
لقد زُينت المباني المقدسة والمعابد البوذية التي تعود لفترة آسوكا بالمنحوتات والرسوم، ولدينا اطلاع على الزينة النحتية للمباني المقدسة المختلفة العائدة للفترة الهلنستية والفترة الرومانية الباكرة كبهارهت، بوذاغايا (سور الشجرة المقدسة)، سانشي، ماثورا، أمارافاتي، غولي،… الخ، وفي كل واحدة منهم نجد أن الزينة كُرست بشكل خاص لموضوعين : عبادة بوذا في رموزه، وحوادث في قصة حياته على الأرض، وفي تجسيده الأول والأخير. وهذه الممارسات استمرت في البوذية ليومنا هذا ولكن تغير هام واحد حصل عليها، لقد دخل على هذه الديانة رسمٌ جديد خلال الفترة الهلنستية المتأخرة أو الفترة الرومانية الباكرة، وتمثل هذا الرسم بصورة بوذا والتي ابتدعها فنانون بوذيون باكتيريون وسرعان ما أصبحت هذه الصورة الدينية رمزاً للديانة البوذية.
ومن خلال رسوم جاتاكا وقصص حياة بوذا نجد أن الفنانين الأوائل في الديانة البوذية قد مضوا تماماً على الطريق نفسها الذي اتبعها الفنانون اليهود، فلم يكن هؤلاء الفنانون مقتنعين بإعادة نسخ المقاطع الفردية في القصة، ولكن حاولوا إخراج الطريقة المستمرة بأسلوبهم الخاص.
عندما تتوفر المساحات اللازمة للتصوير مع إغداق المال على الفنان فإن المراحل المختلفة للقصة تُرسم في صور منفصلة وأحياناً في لوحات منفصلة وخصوصاً على الأعمدة، وفي هذه الصور المنفصلة فإن فكرة الاستمرارية موجودة من خلال تكرار رسم بطل القصة.
لقد واجه فنانو البلدان المختلفة نفس المشكلة الجديدة بنفس الزمن. إذ كانت مساعي هؤلاء الفنانين هي توضيح القصص بالصور. إحداها الطريقة اليونانية، والطريقة الأخرى نجدها في الكنيس وفي الهند، فقد اختاروا الطريقة الأخرى. الطريقة التي ابتدعوها بأنفسهم أو التي كانت مألوفة بالنسبة لهم، فإما أن تكون هذه الطريقة موجودة لديهم من قبل أو أنهم اقتبسوها من بلاد مجاورة. فمن يستطيع الجزم بهذا ؟!.
إن حالة الفن المسيحي هي حالة أسهل بشكل عام. فعندما كانت الصور الهامة الأولى تُنفّذ في الكنائس المسيحية كان الفن اليهودي يستخدم طريقة الرواية المستمرة، فقد كانت البداية من اليهود ثم استعار المسيحيون هذه الطريقة. وإن لم يكن الأمر هكذا فإننا نرجِّح أن المسيحيين استخدموا الطريقة نفسها ولكن بشكل مستقل.
أما حالة الفن الروماني المنتصر فهي حالة معقدة أكثر من سابقاتها، وليس هذا هو المكان المناسب لدراستها. ولا تزال هذه الحالة معقدة أكثر لاكتشاف تفاصيلها من حيث أسلوب القصة المستمرة التي جاءت ليعتمدها العالم المسيحي فيما بعد.
وبالعودة إلى كنيس دورا فالوحدة هي الأسلوب السائد في التصوير مع بعض الاختلافات ولكن هل هذه الاختلافات تعود لفردية الرسامين، أم لجنسياتهم المختلفة، أم لاختلاف المدارس الفنية المحلية التي وُجدت بأنماطها المختلفة في الشرق الأدنى، وبكل الأحوال فإن معلوماتنا جدُّ ضئيلة في هذا المجال بحيث يصعب علينا إعطاء جواب على هذا السؤال.
من المحتمل أن نماذج صور كنيس دورا كانت نتاج الفن الرافدي والذي تعدّ الرسوم الدينية في دورا أمثلة عنه ولكن من المرجح أنها رُسمت بخبرات محلية وليس مستوردة، ولا ندري فيما إذا كان لدى هؤلاء الفنانين نماذج أخرى على غرار الفن الرافدي، أو من المحتمل أنهم أطلعوا على صور مماثلة في مكان آخر، وإن كان كذلك فإن هذه الصور تعود إلى المدرسة الرافدية والتي رُسمت ضمن تركيب سامي بعناصر يونانية وإيرانية، وأولاً وأخيراً هي عناصر سادت عند أغلب الفنون. ولا شك أن صور الكنيس تشكل انطباعاً مختلفاً عن الصور الموجودة في كانون. ولكن هذا يعود وبشكل رئيس إلى حالتها الأفضل من الحفظ، وتنوع المواضيع المعالجة فيها، بالإضافة إلى اهتمامنا المبالغ فيه حيالها.
وقد يكون شرحي عن الكنيسة شرحاً قصيراً، فكما بُني الكنيس بُنيت الكنيسة، أُعيد بناءها في منزل خاص متوسط الحجم لتستخدمه الجالية المسيحية في دورا. ولم يبنَ المنزل قبل أوائل القرن الثالث الميلادي، إذ أصبح ملائماً لمتطلبات الديانة المسيحية مباشرة بعد عام 232 م. لقد حُفظ هذا المنزل بشكل ممتاز ومخفياً ضمن كتلة المنازل الأخرى التي طُمرت بالمنحدر الترابي، وظل محافظاً على شكله في ذلك الوقت حتى بعد تحويله إلى كنيسة مسيحية من قبل مسيحيي القرن الثالث الميلادي. ولكن مسيحيو القرن الثالث كان لديهم عدة أسباب تمنعهم من أن يجعلوا بيت عبادتهم لافتاً للانتباه.
أُعيد تشكيل الكنيسة المسيحية كبيت شمل غرفة مستطيلة كبيرة الحجم، مع فناء عادي كأفنية المنازل الدورية مع ليوان كبير من المحتمل أنه استُخدم لوجبات الطعام المشتركة (agapai) أو استُخدم كمدرسة للأطفال المسيحيين لتعليمهم مبادئ المسيحية (يعود هذا الاعتقاد للسيد دو ميسنيل حيث عُثر على بعض الرسوم المخدوشة على جدران هذه الغرفة) وأخيراً غرفة صغيرة ذات بابين تُسهِّل الوصول إلى االفناء والليوان. ومن المرجّح أنها استُخدمت كبيت المعمودية، ولهذه الغرفة طابق ثانٍ يُصعد إليه من الفناء بواسطة درج.
( أظهرت التنقيبات الأثرية أن الكنيسة المسيحية هي أول كنيسة منزلية في العالم، وشكلت نموذجاً مميزاً في الانفتاح والتعددية . المترجم) .
إن بيت المعمودية هو الحجرة الوحيدة المزينة بالصور والذي احتوى أيضاً جرن المعمودية في نهاية الطرف الغربي من الحجرة والذي يعلوها الإديكولا المزينة بالرسوم. وتأخذ اللوحات فيها الشكل التزييني إذ طُليت الأعمدة بألوان تقلِّد الرخام الملون، كما زُيِّن القوس بمواضيع الأزهار والفواكه، أما القوس فقد أخذ شكل السماء الزرقاء المزينة بالنجوم.
أما الجدار الخلفي للناوس فقد زُيِّن بتراكيب الرسوم المتعددة ذات الطابع الرمزي : مشهد مهيب للراعي الصالح الذي يقف بالقرب من قطيعه الذي ملأ الجزء الأعلى من المشهد، وإلى الأسفل رُسم مشهد على مقياس أصغر بكثير من السابق لآدم وحواء، الشجرة، الأفعى. وكان الهدف من هذه الصور هو إيصال فكرة الخطيئة والغفران اللغز الرئيس للديانة المسيحية أولاً وأخيراً. بينما تركيب صورة الراعي الصالح فهو ذو حرية أكثر ومليء بالحركة، في حين رُسم آدم وحواء رسماً جامداً وبشكل تخطيطي.
غُطيت جدران غرفة المعمودية والمكان المقدس بالصور أيضاً. فقد قُسّم سطح الجدران إلى منطقتين، وصور هاتين المنطقتين موجودة على الجدار الجانبي الغربي في النهاية الجنوبية للجدار، أما رسوم الجدار الشمالي المنخفض فهي مفقودة بشكل كامل تقريباً، في حين أن رسوم الجدار الجانبي الشرقي موجودة في المنطقة السفلى منه فقط.
عند دخول الطلبة المسيحيين أو أعضاء الجالية المسيحية عبر هذه الغرفة يطالعهم مباشرة صور الجدار الغربي. ومن دون شك أن هذه المنطقة هي المنطقة الأكثر أهمية في هذه الغرفة. فقد شغلت المنطقة العليا رسوم تمثل معجزات سيدنا للتعبير عن الإيمان الذي يلعب جزءاً كبيراً من حياة المسيحي الصالح. ولا تزال هناك صورتان ماثلتان على الجدار وهي شفاء المشلول ومعجزة البحيرة، وتمثل الصورتان إيضاحاً رائعاً من الشك والإيمان. وفي كلاهما تلعب شخصية السيد المسيح الدور الرئيس فيه : ففي الصورة الأولى السيد المسيح يؤدي معجزة الشفاء، وفي الثانية يمدُد السيد المسيح يده اليمنى لمساعدة بطرس. إن تركيب الصورتين ذو طبيعة واقعية غير مقيدة. كما أن أسلوب المعالجة توهمي مشابه لأسلوب الصور نفسها التي عُثر عليها في مدافن سراديب الموتى (الكاتاكومب) في روما، وفي بعض البيوت في بومبي. فهذه الصور بعيدة كل البعد عن الصرامة والمنهجية.
إن الإيمان هو المبدأ التوجيهي للمسيحيين والمؤمنون وحدهم سيتم إنقاذهم. ولديهم الحق لوحدهم في الأمل وإيجاد حياة جديدة بعد الموت. ففي المنطقة السفلى تراكيب فنية رائعة لما ينتظره هؤلاء المؤمنون وهي إما أن تكون صوراً رمزية أو صوراً فريدة في نوعها. صورة السيد المسيح في قبره (لاتظهر صورة السيد المسيح فيها) قبر أبيض كبير ذو غطاء مطبق عليه يشغل الجزء الأيسر من الصورة، ولا يزال الوقت ليلاً، ونجمتان من الأمل تشعان في السماء. الفجر قادم، والليل ينجلي، وسينهض السيد المسيح قريباً من قبره. ثلاث مريمات (ثلاث نساء كل واحدة منهن تمثل مريم العذراء) يتحركن بمهابة نحو القبر، حاملاتٍ بأيديهن المشاعل والمزهريات المليئة بنبات المرّ. وشخوصهم في الرسم أمامية وحركاتهم بطيئة ومتناغمة، ووجوههن مليئة بالجدية والحياة الروحية بالمقارنة مع مشهد معجزات السيد المسيح.
المشهد التالي مشهد مبهم، ويقع على الجدار الشمالي المنخفض. ويمثل خمس نساء يسرن في موكب نحو اليسار. ولكن هل يمثلن صوراً لمريم أيضاً ؟.
أخيراً في المنطقة السفلى من الجدار الذي يقع بين البابين مشهد لداود وجالوت، كرمز للإيمان والنضال ضد القوة العنصرية الغاشمة. وكمقارنة بين الماضي والحاضر وبين الوثنية والمسيحية، وفي المنطقة نفسها إلى الجنوب من الباب الثاني نشاهد رمزاً للإحسان والإيمان، المرأة السامرية في البئر.
إن المخطط التزييني في بيت المعمودية مشابه تماماً لزينة الكنيس والمعابد الوثنية بدورا : فالرسوم الدينية الرمزية هنا في المركز، بينما توزعت الصور الإيضاحية على منطقتين في الجدران الأخرى.
من المحتمل أن الرسامين الذين نفذوا صور بيت المعمودية كانوا من مواطني دورا. وقلدوا الفنانين الذين عملوا في المعابد الوثنية في بعض النواحي، فعلى سبيل المثال تلك الصورة الأمامية للمشاهد البشرية وربما أيضاً في الطريقة القصصية المستمرة لمشهد المشلول، فأسلوب الصور بشكل عام أسلوب مثير للإعجاب ومختلف تماماً عن الأسلوب الرافدي. فتركيب الصور أكثر حرية كما أن هناك حركة حقيقية في بعض المشاهد وذات تأثير يوناني روماني كبير فيها، خصوصاً في مشهد النساء في الموكب ومشهد المرأة السامرية. فهذا المشهدان بشكل خاص لهما تركيب ومعالجة يونانية بحتة، وكذلك مشهد الراعي الصالح الذي يحمل على كتفه كبشاً ـ وليس حملاً ـ وقد يكون هذا عائداً إلى الاعتقاد الكلاسيكي، وقد استبدل هذا المشهد بشكل عام برجل يحمل حملاً. ولدينا الملاحظة نفسها على حمل الكبش بدل الحمل في تمثال صغير من العاج للراعي الصالح يحمل كبشاً في متحف اللوفر. وهذا التمثال الصغير ذو طابع يوناني صرف في إلهامه وتقنيته، وعلى الأغلب أنه يعود إلى أوائل القرن الثالث الميلادي، ومن الممكن أيضاً ملاحظة تأثير الكلاسيكية على المشاهد المشابهة التي نعثر عليها أحياناً في تدمر.
ومع ذلك فإن معالجة صورة الراعي الصالح، وصورة المعجزات، وصورة النساء في الموكب. ليست مشابهة تماماً لغيرها من الصور في دورا، وإنما تعكس أهدافاً مختلفة، فمن المحتمل أن من قام بتزيين بيت المعمودية رسام واحد وهذا جدير بالمقارنة مع صور الكنيس، فصور المعمودية المسيحية تعرض لنا انسجام المخطط ووحدة الأفكار واتفاق التراكيب، إذ رسمت الصور لإشهار مبادئ الديانة المسيحية والأفكار الرئيسة لها، ومن الصعب أن ننسب هذه الوحدة في الأفكار والمفهوم إلى بناة الكنيسة أو من كُلفوا من رسامين بتزيينها. فإننا نرى وراء هذه الوحدة موروثاً تقليدياً طويلاً، إذ أن هذا المخطط التزييني مألوف لدى المسيحيين في كافة أنحاء العالم المسيحي.
ولم يكن المخطط التزييني ذا أصول رافدية ولا حتى أسلوب الصور كذلك، فصور المعجزات والصور الانطباعية للنساء، والشخصية الكلاسيكية في صورة المرأة السامرية تعود بأصولها إلى من ابتدعوا الفن ضمن جو هيلنستي أكثر من صور دورا وبلاد الرافدين. وليس عليَّ التعمق أكثر في هذه المشكلة، فطلاب الفن المسيحي قادرون على إعطاء دقة أكثر في البيانات المذكورة سابقاً، وعلى أية حال فإنني أعتقد أنهم يوافقونني في النقطة الرئيسة على الأقل، وأعني أن فن الكنائس المسيحية جاء إلى دورا من الخارج ولم يتأثر هناك إلا قليلاً على يد فنانين محليين وامتزج بتأثيرات رافدية. وليس لي أن أحدد إن كان هذا الفن مجلوباً من الإسكندرية أو إنطاكية. وإنما بكل تأكيد لم يكن هذا الفن من روما وإيطاليا، وتشهد على ذلك العديد من مواضيع بيت المعمودية ذوات التراكيب والتي لا تتوافق أبداً مع التقاليد الغربية للفن المسيحي، وإنما كان تقليداً شرقياً كاملاً في جوهره.
في المحصلة تطرح دورا نفسها كمدينة تمثل حضارة فريدة تختلف عن أقاليم كثيرة في الشرق الأدنى وترتبط بالإمبراطورية الفارسية. وقد أطلقت عليها للتعريف اسم حضارات بلاد الرافدين. إلا أن معلوماتنا عنها جد ضئيلة لتمكننا من تتبع تاريخ بلاد الرافدين بعد سقوط دورا. ولكن يسمح لنا التخمين في هذا المجال القول أن الفن الديني الرافدي لم يختفِ بدورا. فله يعود الفضل في نهوض تقليد الفن المسيحي المعروف قليلاً. وقد توقع وجوده سترزغوفسكي والذي أطلعنا بشكل واسع من خلاله على هذا الفن وتأثيره على الفن المسيحي. وقد يتطلب هذا دراسة دقيقة يقوم بها من هم أكثر اطلاعاً مني على خصائص هذا الفن. ومع ذلك فإني مقتنع بأن نتائج دراستهم ستكشف لنا عن العديد من الميزات الهامة للفن الروماني المتأخر والفن البيزنطي المسيحي الباكر واللذان يعود أصولهما إلى الفن الرافدي.
وحيث أن الفن الديني الرافدي هو فن مستمر في بعض فروع الفن المسيحي فإن الفن المدني أيضاً مشابه له، إلا أن هذا الفن إيرانيٌ في جوهره أكثر من الفن الديني، فقد وجد هذا الفن استمراراً للفن الساساني العظيم والذي أثّر بعمق على فن الشرق الأقصى، حتى على الفن الإسلامي في الشرق الأدنى، كما أثر ببعض سماته على فن الفترة الرومانية المتأخرة وفن القرون الوسطى في الغرب. إننا ندين بالفضل لدورا لكشفها عن مرحلة الانتقال بين الفن الإخميني اليوناني الفارسي المتأخر وفن الفترة الساسانية.
كبيرة هي المساهمة التي قدمتها دورا لمساعدتنا على معرفة العالم القديم، فأغلب ما قلته كلاماً تخمينياً، والعمل الرائد يستند على الفرضية دائماً، والتقدم في المعرفة مستحيل بدون بيانات تعتمد على الحدس، وقد يثبت الخطأ. فأتمنى أن يقوم الزملاء والطلبة بتصحيحها إن وجدت، والتي قد تكون قادرة على إسناد استنتاجاتهم على مواد إضافية حصيلة أعمال تنقيب أخرى في بلاد الرافدين والمناطق المجاورة.