مصطفى السيدمقالات

النظامُ الاقتصادي الإسلامي والرأسمالية

  مصطفى السيد

  مصطفى السيد

مصطفى السيد
مصطفى السيد

يعيش العالمُ اليومَ الألفية الثالثة في حياة يشوبها القلقُ والخوف، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والانهيار الاقتصادي العالمي أواخر العام 2008, فأصبح كثير من الاقتصاديين يتساءلون حول هل ما زالت الرأسمالية نموذجاً صالحاً لقيادة المركبة الاقتصادية العالمية؟ وهل هناك نظامٌ أفضل وأقدر منها يستطيع القيادةَ والريادة ويحقق الاستقرار الاقتصادي ويعالج العيوب الكثيرة التي أظهرها تطبيقُ النظام الرأسمالي على الأفراد والمجتمع والدول، خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عم 1989 وسقوط الأنظمة الاشتراكية معه.

الاقتصاد قبل وبعد الإسلام :

كانت نظرةُ الجاهلية قبل الإسلام إلى الاقتصاد نظرةً مادية تفوق الروابط الإنسانية بين الأفراد كما تفوق القيم الإنسانية في حياة الإنسان، وكان ذلك في شبه الجزيرة العربية وفي الإمبراطورية الرومانية في الغرب وإمبراطورية فارس في الشرق. وكانت قريشُ تخشى من رسالة الإسلام، وهذا مبعثه العامل الاقتصادي، وهو الحرصُ على الزعامة في الكعبة باعتبارها المصدر الأكبر للنفع المادي لها، وبالتالي زعامتها السياسية على العرب، كما كان الصراع بين الفرس والروم إذ ذاك صراعاً اقتصادياً ومادياً.

لقد وصف القرآنُ الكريم قريشَ وعربَ شبه الجزيرة العربية بالطغيان الاقتصادي في اتجاههم في الحياة قبل الإسلام، فيقول لهم (كلا بل لا تكرمون اليتيم، ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لمّا وتحبون المال حباً جمّا) الفجر 17 -20

فكانوا يستهينون باليتيم وهو -الضعيف- فلا يحافظون على ماله إن باشروه ولا يحسون بإحساس الحاجة لدى المسكين فيتخلون عنه، كما لا يلتزمون بحقوق الميراث للصبي والمرأة فيأكلونه دون تمييز ويفرطون في حب المال بحيث يغلبون جانبه وينتهي بهم الأمر إلى الطغيان وتلك عادة في الإنسان، قال تعالى:

( كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى) العلق 6-7

حتى إنهم كانوا يدفنون بناتهم أحياء بعد الولادة مخافة الفقر وتجنباً للمذلة كما يدعون.

والمبالغة في تقدير قيمة الاقتصاد قبل البعثة النبوية يشير إليها القرآن الكريم في عدة آيات منها:

(زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من آمنوا…) البقرة 212

وفي آية أخرى (ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر) التكاثر 1-2

أي تكاثر الأموال والأعداد فلا تعرفون إلا التنافس في القوة المادية.

الاقتصاد بعد الإسلام: القرآن الكريم وضعَ بصورة واضحة وبسيطة الإطار الخارجي للنظام الاقتصادي الأمثل الذي يتلخص في تحريم المعاملات الربوية أخذاً وعطاءاً سواءً كان الربا محدد سلفاً أم آخراً وتنظيم علاقات الأفراد بالمجتمع ومنع الاستغلال سواء أكان ناشئاً عن نية خبيثة عند صاحب رأس المال، أو من طبيعة رأس المال ذاته دون دخل صاحبه فيه.

كما ذهب بعضُ فقهاء المالكية إلى اعتبار العامل شريكاً في قسم من الربح مع صاحب العمل، على أن يدفع صاحب العمل جميع التكاليف ويستقل العامل بعمل يده، وفي هذا يبدو حرص الإسلام العجيب على العدالة وسبقه بالتفكير فيها والعمل عليها.

كما منع الاحتكار والربح الفاحش وحل مشكلة التضخم المالي وحرّم ظلم الأجير بدعوة الانفاق في سبيل الله في أبواب الزكاة على المحتاجين فقضى على الفقر.

أما الرأسمالية فقد ارتبط اصطلاحها باسم المفكر والفيلسوف الاقتصادي (آدم سميث) حتى اعتبره البعض “أبو النظام الرأسمالي الحديث” وذلك في كتابه الشهير (ثروة الأمم) الذي نشر عام 1776 والذي ردّ فيه على التجاريين وهم أرباب الرأسمالية التجارية المتمثلة بشركة الهند الشرقية البريطانية التي قامت باحتكار استيراد السلع الشرقية وجلبها، كما اختصتها الحكومة بحق تصدير الذهب لمقايضته بتلك السلع مقابل عوائد جمركية على الواردات الضخمة التي تستوردها الشركة.

إلا أن الحقيقة أن المبدأ الرأسمالي وُجدَ قبل سميث بزمن، ولكن سميث كان من جدد هذا الفكر الذي مهّد لظهوره قبل قرون ويعود وفق الباحث فرنسوا بيرو إلى فترة الحروب الصليبية.

إن نشأةَ الرأسمالية بشكلها الحالي بعد اختراع الآلة أدى إلى تكديس الثروات في أيدِي أصحاب رؤوس الأموال وتضاؤلها في أيدي العمال، فصار صاحبُ رأس المال يشغل العامل لإنتاج أكبر قدر من المنتجات ويعطيه أجراً قليلاً لا يفي الحياة الكريمة لجمهور العمال ومستخلصاً لنفسه وحده فائض القيمة في صورة أرباح فاحشة يعيش فيها حياة ترف لا تقف عند حد.

فضلاً عن أن ضآلة أجر العامل كانت تمنعه من استهلاك كل إنتاج المصانع، لأنه لو أخذ من الأجر ما يكفي لاستهلاك الناتج كله أو معظمه لانتفى ربحُ رأس المال أو تضاءلَ إلى حدّ أقصى، وهذا ما لا تسمح به الرأسمالية لأنها تنتج للربح لا للاستهلاك. ومن هنا تتكدس البضائع سنة بعد سنة، فتبحثُ الرأسمالية عن أسواق جديدة لتصرف بضائعها فينشأ الاستعمار وما يتلوه من تطاحن وتنافس وتزاحم على الأسواق وعلى المواد الخام ينتهي بالحروب المدمرة.

الرأسمالية والدول الإسلامية:

لم تنشأ الرأسماليةُ في العالم الإسلامي، إنما انتقلت إليه وهو مغلوب على أمره، واقع في قبضة الأوروبيين، غارق في الفقر والجهل والمرض والتأخر, فظنّ الناسُ أن الإسلامَ في نظمه وتشريعاته لا يعارضها أو يقف دونها لأنه يبيح الملكية الفردية، والرد الطبيعي على ذلك يعرفه كلُّ دارسٍ للاقتصاد والذي يتمثل في أن الرأسمالية في صورتها الواسعة لا يمكن أن تقوم بغير الربا والاحتكار، والإسلام قد حرمهما كليهما قبل نشوء الرأسمالية بألف وأربعمائة عام.

الواقع أنه بعد حرب الخليج الثانية وظهور بوش الأب الذي دعا إلى قيام النظام العالمي الجديد، في تلك اللحظة انطلقت العولمة التي ستربط مصالح البشرية كلها معاً دون أن يكون هناك خصوصيات لأمة أو دولة، وظهر ما يسمى بالخصخصة وهو بيع القطاع العام للقطاع الخاص والتي كانت ولا تزال أكبر عملية نهب حتى وصلت إلى الصحة والأمن والجيوش الوطنية.

الرأسمالية والاستعمار:

إنّ تبعاتِ وجود النظام الرأسمالي واستمراره كانت ثقيلة على الإنسانية بشكل عام، فقد تسبب بكثير من الحروب وإراقة الدماء، حتى بلغ عدد القتلى أكثر من 70 مليون إنسان، وفي نقده للرأسمالية يقول فرنس وابيرو (هم يعتقدون أن الاقتصاد الرأسمالي هو نمط الاقتصاد التقدمي الوحيد الممكن واقعياً وفكرياً وأنه توثق تركيبه بعد نشأته بالقوى العفوية شبه الآلية الناشئة عن التبادل الحر، وأن العالم الحديث قد بني بأيدي الصناعيين والتجار الذين لا ينفكون يراجعون حساباتهم جاهدين باحثين عن طرق الكسب، وقد استبعد هؤلاء أو تجاهلوا في تاريخ الرأسمالية قعقعة السلاح وتصارع الجيوش وفتك الغزوات وحيل الدبلوماسيين وعنف الاضطهادات وأحداث القسر والإرغام على اختلاف أنواعها، فالتاريخ في نظر هؤلاء التحريين يعرض وكأنه نتيجة لعدد لا يحصى من العقود الموقعة وعمليات التشارك القائمة بين أنداد).

والحقيقة أنه منذ القرن السادس عشر أصبح تاريخُ الرأسمالية هو تاريخُ الأمم الغالبة المسيطرة وتاريخ الاقتصادات المسيطرة.

وفي ذلك يقول الباحث فرنسوا بيرد في كتابه الشهير (هذه هي الرأسمالية): (إن الظروف الممهدة للرأسمالية بدأت مع الحروب الصليبية في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي والتي أدت إلى تجميع الأموال المنقولة حينها)

وبعد انتهاء الاستعمار العسكري انتقلت الرأسمالية إلى ما هو أدهى منها وهو الاستعمار الاقتصادي الذي يتحكم باقتصاد الدول النامية ويفقر بمنحها القروض الاحتكارية ويتحكم بسياساتها حتى أعجزها ذلك عن النمو.

الرأسمالية والدين:

يرى الفيلسوف الألماني ماكس فيبر (1884-1920) في كتابه الأخلاق البروتستانتية وروح رأس المال أن الدينَ هو المحرك الأساسي لكل الأنشطة الاقتصادية والانتاجية للمجتمع على العكس من فكرة ماركس عن الدين، كما اعتبر الدينَ مهمٌ وأخلاقه تنعكس على السوق، بينما اعتبرَ ماركس أن الدينَ زفرة المضطهدين وتستخدمها الدولة للسيطرة على الناس، ووجد فيبر أن هناك صلة كبيرة بين أخلاق البروتستانتية والرأسمالية، ويجد أنها سمة إيجابية ويجب الإبقاء عليها باعتبار هذا المذهب تغلب على العقبات التي كانت موجودة في المذهب الكاثوليكي من تحكم رجال الكنيسة في مناحي الحياة والتحرر الديني من سلطة البابا وتحريم التجارة على العامة وغيرها.

ولاحظ فيبر أن الرأسمالية انتشرت في البلاد التي انتشر فيها المذهبُ البروتستانتي فانتعشت فيها الصناعاتُ مثل شمال ألمانيا وشمال فرنسا وشمال إيرلندا، بينما كان الاقتصاد ضعيفاً في الجنوب لأنهم من الكاثوليك، واعتبر فيبر أن البروتستانت يهودُ أوروبا تشبيهاً بحبهم للتجارة والأموال.

كما اعتبر الدينَ أداةً للتمتع بالملكية دون أن يمنع ذلك الزهد وأن الدين أوصى بالالتزام بالوقت والعمل.

يقول الباحث فرنسوا بيرو: (وليس من شك في أن العقائد الدينية… والتقاليد والعادات والطقوس التي يمارسها اليهود والبروتستانت قد كان لها أكبر الأثر في ظهور المؤسسات ونشأة ميادين النشاط المنيرة للرأسمالية).

 والواقع أن الرأسمالية قد خالفت المبادئ التي بنيت وحدثت فيها انحرافات وتجديد في فكرها حيث أحلت كلّ محرم في الدين في سبيل تحقيق المصالح الشخصية لصاحب رأس المال وخاصة فيما يتعلق بالفوائد الربوية والاحتكار.

حتى وجد استغلال كبير للدين في أمريكا خاصة في سبيل تحقيق مكاسب معينة، كالانتساب إلى كنيسة معينة بقصد الحصول على مكاسب كاستقطاب زوارها إلى مشروع أو انشاء بنك.

أما المبادئ التي بني عليها النظامين فهي كالآتي:

أ– أصول الرٍسمالية:

1-   الحرية الاقتصادية وما يتلوها من حق الربح والملكية الفردية.

2-   قوانين السوق القائمة على العرض والطلب .

3-   عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وتوليها وظيفة الحراسة.

 ب – خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي:

الاقتصاد الإسلامي لا يشبه أياً من الأنظمة الاقتصادية الأخرى لأن مصدره الأساسي هي الشريعة وهو يقوم على الأسس التالية:

1-   الملكية المزدوجة: للأفراد والدولة انطلاقاً من فكرة استخلاف الإنسان في الأرض.

2-   الحرية المقيدة: لكل فرد الحرية في ممارسة النشاطات الاقتصادية التي يريدها طالما لا تخالف الشريعة، فهذه الحرية مقيدة بقواعد تشريعية وأخلاقية فاذا تعارضت المصالح وجب تقديمُ المصلحة العامة على الخاصة كمنع الاحتكار والربا.

3-   العدالة الاجتماعية: وهي من أهم أسس الاقتصاد الإسلامي، ومن أهم صورها التوزيع العادل للدخل وتحديد طرق إنفاق المال.

 

ويمكن إيجاز أهم الفوارق بين النظامين بالتالي :

اولاً : في الملكية:

1-   الملكية الرأسمالية :

إن الملكية الفردية لعناصر الإنتاج تعتبر الأساس الذي بني عليه النظام الرأسمالي، فالمالك له مطلق الحرية في التصرف فيما يملك, وله الحق في استغلاله في أي مجال، فنتج عن ذلك طغيان هذه الملكية على الملكية العامة وملكية الدولة نفسها، فحولت غالبية القوى الاقتصادية الموجودة في البلاد من دولة ومجتمع، إلى رهائن بأيدي فئة قليلة من الأثرياء الجشعين الذين استغلوا حرية الملكية المطلقة، فقاموا بإنشاء البنوك الربوية والشركات المساهمة العامة العملاقة، ثم تلاعبوا في الأسواق المالية بأساليب شيطانية بهدف تعظيم الأرباح والسيطرة على الأسواق والثروات وابتلاع الشركات الصغيرة، وذلك انطلاقاً من حرية التصرف في الملك وتنميته بأية طريقة يريدها الرأسمالي، وذلك عن طريق المضاربات والتحكمات الاقتصادية والاحتكارات وغيرها، مما أدى إلى التذبذب في أسعار السلع الرئيسية في العالم مثل النفط والذهب والحبوب وغيرها من جهة، وفي انهيار أسعار الأسهم في البورصات من جهة أخرى، وبهذا تكون هذه النظرة الرأسمالية إلى الملكية الفردية سبباً آخر يضاف إلى أسباب الأزمات الاقتصادية الرأسمالية المستمرة.

 

2-   الملكية في الإسلام :

إن حق الملكية في الإسلام يخوّل المالكَ سلطاتٍ واسعة، ولكنها مقيدة في حدود مصلحة الآخرين وبالقدر الذي تقتضي مصلحته الذاتية.

يقرّ الإسلام الملكية الخاصة بوسائل التملك المشروعة لأنه حق طبيعي يتماشى مع غريزة الإنسان، فهو يسمح بالتملك عن طريق السعي والاكتساب أو الهبة و الإرث أو الوصية.

إن كسبَ المال مباحٌ محمود إلا ما كان كسبه بطريق الكسب غير المشروعة كالربا أو الرشوة أو الاحتكار أو الغش والابتزاز واستغلال النفوذ والسلطات وغيرها من طرق الكسب غير المشروعة.

إن كل من يعمل ويجد له ثمرة عمله، فليس من العدل أن يختلف الناس في العمل ويتساووا في الرزق، وهذا معنى قوله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم على بعض درجات)

وقال أيضاً: (والله فضّلَ بعضكم على بعض في الرزق)

إن هذا التفاضل في العلم والرزق لا يقوم على النسب أو القوة والمال وإنما يقوم على العمل.

فالإسلام يبقي على الملكية الفردية ويحيطها بسياج من الحماية ويذلل أمام الفرد سبل التملك والحصول على المال ولكنه إلى جانب ذلك يدعو إلى تل الدولة لتوجيه دفة الأمور الاقتصادية في حدود مقتضيات الصالح العام.

ثانياً : التفاوت الطبقي :

1-   التفاوت الطبقي في الرأسمالية: إن الغربَ يقيم علاقاته على أساس الطبقات التي تحتكر الامتياز، وهو نظامٌ هرمي لا يحترم سوى منطق القوة والثروة. يدور الصراع الطبقي فيه حول توزيع الدخل والثروة، فقد حلّ محلَّ الطبقات القديمة طبقاتٌ وحالات اضطهاد جديدة، فانقسم المجتمعُ الي معسكرين هما الرأسماليين الذين لا تتجاوز نسبتهم 1% يملكون وسائل الإنتاج والثروات والعمال المسحوقين المالكين لقوة عملهم فقط المجبرين على بيعها لقاء العيش. ويقول نعوم تشومسكي: (إذا نظرت إلى التاريخ وهذا التفاوت الطبقي فنحن في أمريكا نعيش أسوأ فترة في تاريخنا)

2-    الاسلام يذيب الفوارق بين الطبقات :

الإسلام ينكر الفجوات الواسعة بين الطبقات واستئثار فئة دون فئة بخيرات الدنيا فلا إفراط في الغنى ولا إفراط في الفقر.

فهو لم يدع حقَّ الملكية الفردية مطلقاً بلا قيود، فهو يجعل من اكتناز الأموال وعدم إنفاقها في الخير معصيةً كبرى لقوله تعالى: (والذين يكتنزون الذهبَ والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم)

وصلاح المال أن تتداوله الأيدي حتى لا يكون وقفاً على الأغنياء يتداولونه فيما بينهم، يقول تعالى: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)

وليس من الخير في غنى المال أن يجمعه الإنسان حتى يطغيه، تقول الآية الكريمة: (إن الإنسانَ ليطغى، إن رآه استغنى)

لقد حبّب الإسلامُ إلى الأغنياء أن ينفقوا الفضلَ من أموالهم في سبيل الله والصالح العام ولسدّ حاجات المعوزين.

ثالثاً : مشكلة الاحتكار:

1-   الاحتكار الرأسمالي:

تتمثل مشكلةُ النظام الرأسمالي في غياب المنافسة الكاملة وتدهور معدلات الأجور الحقيقية وقصور الطاقة الشرائية.

والاحتكارُ هو العقبة الأساسية التي تعوق النموّ الرأسمالي وتشده إلى مصيدة الركود

يقول موريس دوب: (إن هذه الاحتكارات خلال أزمة 1929 – 1932 قد أغرقت آلاف الأطنان من الحبوب والبن والمواد الغذائية الأخرى في البحار في الوقت الذي كانت فيه شعوب برمتها تتضور جوعاً ومات الملايين منهم، كما أنفقت الدول السوق الأوربية المشتركة 127 مليون مارك آلماني لإتلاف آلاف الأطنان من الفواكه والخضار وإبادة قطعان الماشية خلال عام 1974، وأنفقت بريطانيا أكثر من 12 مليون باوند استرليني لإتلاف كميات كبيرة من منتجات الألبان بنفس العام أيضاً) وذلك لهدف المحافظة على السعر.

ويتميز الإنتاج الرأسمالي أنه يقل فيها إنتاج السلع الضرورية التي تطلبها القاعدة الواسعة لقلة الربح منها, ويركز على السلع الكمالية التي يطلبها القادرون على الدفع

2-   منع الاحتكار:

المحتكرون في المجتمع الإسلامي منبوذون، يتبرأ منهم ويلعنهم كما جاء في الحديث النبوي: (الجالبُ مرزوقٌ والمحتكر ملعون)

وقال ص: (من احتكرَ طعاماً أربعين يوماً يريد به الغلاء فقد برئ من الله وبرئ الله منه)

لقد جاء في وصية الإمام علي –رضي الله عنه– إلى الأشتر النخعي عندما ولاّه مصرَ أنه قال: (واعلم مع ذلك أن في كثير منهم –أي التجار وذوي الصناعات– ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات. وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة… فامنع من الاحتكار فإن رسول الله ص منع منه… فمَن قارفَ حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقب في غير إسراف ودفعاً للحيلة في المضاربة بالنقد أو بالطعام لاحتكار وتحليل الربا عليه فقد نهى النبي أشد النهي عن مبادلة المعادن والأطعمة المتماثلة بزيادة فيها بقوله: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُرّ بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلاً بمثل يداً بيد… فمن زاد أو اشتراه فقد أربى…)

رابعا ً : علاج مشكلتي الفقر والبطالة:

1-   الرأسمالية ومشكلة الفقر:

بسبب طبيعة الرأسمالية وسوء توزيع الموارد والهزات الكبرى التي تعرض لها فإن النظام الرأسمالي يزيد الفقير فقراً ويزيد الغني غناً، وأغرقت الدول النامية بالديون والتدخل في سياساتها الاقتصادية والتفاوت الطبقي قد أثر ذلك على شباب العالم الذين يواجهون ارتفاعاً في معدل البطالة وانخفاض الدخل وظروف معيشية وعمل أكثر خطورة ولم يستطع النظام الرأسمالي بكل انتاجيته والثروات التي حققها في الحد من الفقر والبطالة وهي بازدياد مستمر، فقد أفادت الأمم المتحدة أن 815 مليون شخص حول العالم عام 2016 يعانون نقص التغذية.

 

2-    الاسلام وعلاج مشكلة الفقر:

يتجلى إعلان الإسلام لمبدأ التكافل الاجتماعي في نصوص كثيرة من القرآن والسنة نسوق بعضها:

(إنما المؤمنون إخوة)

(وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)

وفي الحديث الصحيح (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)

وفي الصحيح أيضاً: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ثم شبك النبي بين أصابعه تأكيداً لمعنى (يشد بعضه بعضاً)

وقال أيضاً (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه –أي يخذله– ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّجَ عن مسلم كربةً فرج اللهُ عنه كربةً من كرب يوم القيامة… ومن سترَ مسلماً ستره اللهُ يوم القيامة)

وما أروع قوله (ص): (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وهذا نوع رائع من التكافل الأدبي وهو الشعور نحو الآخرين بالحب والعطف وحسن المعاملة في السراء والضراء.

فالتكافل في الإسلام لا يقف عند حدود المال، إنما هو تكافل في كل علاقات الحياة ومنها العلم، فأوجب على العالم أن يعلم الجاهل ولا يظن عليه بعلمه أو يكتم ما أدركه من أسرار الكون أو الشريعة ويتجلى ذلك من قوله ( ص):

(من كتم علماً لجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)

ومن أوجه التكافل الاجتماعي في الإسلام:

1-   التكافل الأسري: لمّا كانت الأسرة هي الأساسُ الأول لبناء الأمة، فقد جعل اللهُ في محيطها ليس مجرد تكافل اقتصادي فحسب، بل هو تكافل إنساني متكامل يشمل العناية بالأطفال وتنشئتهم وإعدادهم للحياة جسمياً وعقلياً وروحياً وأوجب رعاية الآباء والأمهات عند الهرم، وكل ذلك في إطار من الحب والاحترام والعطف والشفقة، كما جعل الزوجين مكملين لبعضهما البعض، ووضع نظاماً واضحاً للنفقة فألزم الزوج بالنفقة على زوجته وأولاده والولد على والديه.

كما جعل الإسلامُ كلَّ واحد من أعضاء الأسرة مسؤولاً عن البقية، ففي الحديث (الرجل راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والخادم راعٍ في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته).

2-   التكافل بين الاقارب: يأتي الأقربون بعد الوالدين في وجوب التعاون، قال تعالى: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا)

وقال أيضاً: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله واولئك هم المفلحون)

كما قال (ص): (الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة) أي صلة رحم.

3-   الزكاة وعلاج مشكلة الفقر: العمل مقدس في الإسلام كوسيلة لكسب العيش، لكن الذي يقعد عن العمل والكسب اضطراراً لعجز أصابه أو جرح وقع فيه فله على المجتمع حقّ مفروض لا هوادة فيه يؤديه عنه كل من ملك نصاب الزكاة وهي إحدى الفرائض الخمس المفروضة التي بني عليها الإسلام.

والزكاة تنظيم اجتماعي وهي أساس التكافل الاجتماعي ومادة المساعدات الاجتماعية التي تقدم للفقراء والمحتاجين وحتى المدينين تؤدي عنهم ديونهم إذا كانت في غير سفه واسراف.

وهي تعالج مشكلة الفقر والحاجة، وهذا العلاج مبني على التعاطف بين الدافع والقابض، وهي رياضة للنفس للواهب والموهوب له لأنها تعودها نبل التضحية بالمال العزيز على النفوس وتعلمها مغالبة الحرص والسماح بالبذل والايثار والمسؤولية تجاه الغير فتشعر بتكافل الجماعة.

والزكاة ليست إحساناً وإنما هي عند جمهور الفقهاء تكليف مالي يتعلق بالمال بغض النظر عن شخصية المالك. وأما مصارفُ الزكاة فقد حددتها الآية بقوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله فريضة من الله والله عليم حكيم)

لقد أعطى الخلفاءُ الراشدون الفقراءَ حقهم حتى لم يكن ثمة محتاج لم تقم الدولة بحاجته، وكان عمرُ رضي الله عنه حريصاً على أن يصل إلى الفقير وصاحب الحق حقه في بيت المال الذي كثرت موارده من غير عناء يبذله المحتاج، لذلك اعتزمَ أواخرَ حياته أن ينتقل بنفسه إلى الأمصار ليعطي المحتاجين حقهم، وقال في ذلك (لئن عشتُ إلى هذه الليلة من قابل لألحقن أخراهم بأولاهم حتى يكونوا في العطاء سواء) ولم يكن عمر يفرق بين المسلم وغير المسلم فقد وجد مرة على باب لمسجد رجلاً أعمى يتكفف الناس فسأله عن حاله فعلم أنه يهودي فأجرى له رزقاً من بيت المال يكفيه.

كما أمر أن يعطى الصدقات قوم مجذومون من النصارى وأن يجري عليهم القوات، قال العقاد في (حقائق الإسلام):

(إن الإسلام قد جاء بالوسيلة التي لا غنى عنها في مكافحة الفقر وحل مشكلته يوم جعله ضرورة لا تباح للمسلم إلا كما تباح الضرورات التي لا حيلة منها ولا اختيار معها، وإنما فرض الزكاة لمن أصابتهم الضرورات وأقعدتهم عن السعي واستنفذوا مع المجتمع كل حيلة في تدبير العمل المستطاع ومن لم يكن منهم مستطيعاً عملاً بتدبير من الأمام أو بتدبير من نفسه فهو مكفول الرزق بما تجبيه الدولة من حصة الزكاة حقاً معلوماً يتقاضونه من الامام ولا هوادة فيه).

خامساً : البنوك والتعامل بالربا:

1-   المصارف الرأسمالية الربوية: ارتبط النظامُ الرأسمالي بسعر الفائدة، ولقد ارتبطت البنوكُ الربوية ارتباطاً وثيقاً بالاحتكارات، فنشطت في خدمتها عندما قلّ الطلبُ لارتفاع الأسعار وقلة دخول الناس، فهدد ذلك الرأسمالية بالأزمات، وهنا تدخلت البنوكُ الربوية عن طريق الإقراض والبيع بالتقسيط الذي دخل كل بيت فيها وطحن الجمهور بطاحونتين: الاحتكار الذي يغلي الأسعار والربا الذي يمتص بقية الدخل ويهدد حياتهم بالإفلاس ومصادرة الممتلكات.

ونظراً لأن الاحتكارَ أضعفَ القوةَ الشرائية للناس فقد استخدم البنوكَ لتنشيط الشراء بالدين والتعامل ببطاقات الائتمان الذي تحوّل إلى هوس لدى البريطاني الذي بلغت ديونه لشركات الائتمان 137 مليون جنيه في الثمانينات، وفي ذلك انتعشت الشركاتُ المصدرة لللبطاقات، ولكنها كانت سبباً في جلب البؤس والشقاء لعدد متزايد من الأسر التي أصيبت بهوس الائتمان في الثمانينات ووقعت فريسة له.

والمعلوم أن المواطنَ الأمريكي الآن لا يستطيع شراءَ منزل ويعيش بالإيجار بسبب سيطرة الشركات العقارية على سوق العقار ورفع الأسعار بشكل خرافي لا يتناسب مع الدخل.

 

2-   الربا والبنوك الإسلامية :

لقد أكد القرآنُ والسنة النبوية على تحريم الربا، وقد جاء حكم الإسلام القاطع في تحريمها في قوله تعالى» :يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنون، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون، وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون)

وفي الحديث (لعن أكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء)

 

إن للربا آثاراً مخربة وأهم أسباب تحريمه هو:

1-   إن حرمة الربا جاءت بنص قرآني قاطع.

2-   إن الربا هو أخذ مال إضافي دون حق واستغلال لحاجة الناس.

3-   يمنع المرابي من الاشتغال بالمكاسب والاعتماد على الربا وبالتالي تنقطع منافع الخلق.

4-   عادة ما يكون المقرض غنياً والمقترض فقيراً والربا يمكن الغني من أخذ مال غيره دون وجه حق.

5-   الربا يؤدي إلى انقطاع المعروف بين الناس.

أما البنوك الإسلامية:

فهي مؤسسات مالية نقدية ذات أهداف اقتصادية واجتماعية وأخلاقية تسعى إلى تعبئة الموارد وتوظيفها في مشاريع تتوافق ومبادئ الشريعة الاسلامية، ملتزمة بذلك بعدم التعامل بالربا أخذاً وعطاءً ومحققة التنمية الاقتصادية

وتحصل على مواردها المالية من أربعة مصادر رئيسية:
1- الودائع الجارية دون فوائد وعند الطلب.
3- ودائع الادخار

3-   الودائع الاستثمارية لمدة معينة بغرض الاستثمار وتستثمر هذه الأموال في الأوجه التالية:
أ- استثمار مباشر: وذلك بإنشاء شركات ومؤسسات تجارية تقوم بنشاط اقتصادي معين، تجاري أو صناعي أو زراعي
ب- استثمار غير مباشر: وذلك بالمشاركة مع آخرين في مشروعات يتقدم بها أصحابها للبنك لتمويلها.

والصيّغ التي يتعامل بها البنك مع المشاركين هى :
1– المشاركة: في هذه الصيغة يكون المال والعمل مشاركة من الطرفين (البنك والعميل) ثم ينال كل منها نصيبه من الربح على حسب الاتفاق، ومن الخسارة على حسب المشاركة في رأس المال.
2– المضاربة: في هذا النوع يقوم أحد الطرفين، بتقديم رأس المال، ويشارك الطرف الآخر بالعمل، ويسمى الأول رب المال، والثاني مضارب. ويقسّم الربح بنسبة متفق عليها مقدماً. على أن يتحمّل رب المال كل الخسارة، ويفقد صاحب العمل مجهوده فقط.
3– المرابحة: بيع عادي يتولاه البنك بعد وضع ربح محدد مسبقاً على السلعة، وفي هذه الحالة ينوب عن العميل في شراء واستيراد السلعة.

وأخيراً يجب الإشارة إلى أن كثيراً من الاقتصاديين تنبأ بسقوط الرأسمالية بسبب ما اتسمت به من أزمات اقتصادية وبطالة وتقلبات دورية واعتماده على الربا والاحتكار واستغلال العمال، في الوقت الذي يشغل الحديث عن الاقتصاد الإسلامي المنتديات الاقتصادية وخاصة بعد أن أشادت جهات دولية بميزاته المتعددة إلى جانب قيام البنك الدولي بإصدار صكوك تتطابق مع أحكامه مما يجعل كبار الاقتصاديين يعتقد أنه السبيل الوحيد للخلاص من الأزمات وإن كانت الطريق لا تزال طويلة أمامه.

 

المراجع :

1-   القرآن الكريم

2-   السنة والسيرة النبوية

3-   فولتشر، جيمس، مقدمة قصرة عن الرأسمالية،ط1، دار الشروق 2001

4-   سميث، ادم، ثروة الامم، العراق، معهد الدراسات الاستراتيجية 2007

5-   بيرو, فرنس، هذه هي الرأسمالية، بيروت، دار بيروت للطباعة والنشر 1953

6-   جريجوري، بولج – ستيوارت، روبرت، النظم الاقتصادية المقارنة، الرياض، دار المريخ 1994

7-   كمال، يوسف، الاسلام والمذاهب الاقتصادية المعاصرة، دار الوفاء ط2 – 1990

8-   شلبي، احمد، الاقتصاد في الفكر الاسلامي, مكتبة النهضة المصرية ط 10، 1993

9-   الطريقي، عبد الله، الاقتصاد الاسلامي اسس ومبادئ واهداف، مؤسسة الجريسي للطباعة، ط11، 2009

10-                      بن نبي، مالك، المسلم في عالم الاقتصاد، دار الفكر،ط3، 2000

11-                      الحموري، د قاسم – المومني، د رياض، مفهوم الاحتكار بين الفقه الاسلامي والاقتصاد الرأسمالي، حولية كلية الشريعة والقانون والدراسات الاسلامية، عــ 14 – 1996

12-                      الحموري، د. قاسم – الموفي، د. رياض، مفهوم الاحتكار في الفقه الاسلامي والاقتصاد الرأسمالي – حولية كلية الشريعة والقانون والدراسات الاسلامية 1996

13-                      دوب، موريس، دراسات في تطور الرأسمالية

14-                      الغزالي، محمد، الاسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين، الادارة العامة للنشر، ط6، 2005

15-                      ابو خليل، شوقي، الاسلام في قفص الاتهام، دار الفكر- ط5 -1985

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى