نارين عمر
مقولة التّاريخ يعيد نفسه لم تأتِ عبثاً أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة؛ ولمَ لا ونحن نعيشُ القرن الحادي والعشرين، العصر الذي يفتخر البشرُ فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى، العصر الذي يدعونه عصرَ تحرّرهم والتّمتّع بإنسانيّتهم وما تزال هناك قضايا ومشكلات تفسد كلّ هذا، وتعكر فضاء البشر وأرضهم، من أبرزها مشكلة القتل والتّعذيب النّفسيّ والجسديّ والانتهازيّة والاستغلال، لكنّ أبرز هذه المشاكل وأشدّها تأثّراً وتأثيراً هي مشكلة اغتصاب المرأة وخاصة في الحروب والغزوات ومختلف أنواع الصّراع المسلّح، مع العلم أنّ عمليّة اغتصاب المرأة في الحروب والغزوات والمعارك ليست جديدة، بل حدثت منذ آلاف السّنين، ولكنّها مفاجئة ومؤلمة لنا ونحن نعيشُ عصر المناداة بحريّة المرأة ومساواتها بالرّجل ومع الرّجل واعتبارها ذات كيان خاص.
على الرّغم من بعض القوانين الصّادرة من هيئة الأمم المتّحدة والقانون الدّوليّ الإنسانيّ وهيئاتٍ رسميّة أخرى تدعو إلى نبذ العنف الجسديّ ضدّ الإنسان وخاصة المرأة، وتعتبره جريمة حرب، وتطالب بوجوب معاقبة المرتكبين أفراداً كانوا أم حكومات، إلا أنّ كلّ ما صدر حتّى يومنا لا يلتزم به الأفراد ولا الحكومات، ويظلّون يمارسون عنفهم ووحشيتهم من دون الإحساس بالذّنب؛ فإذا اطلعنا على النّظام الأساسيّ للمحكمة الجنائيّة الدّوليّة نجده يصنّفُ الاغتصابَ وأشكال العنف الجنسيّ الأخرى ضمن قائمة جرائم الحرب والأفعال التي تشكّل جرائم ضدّ الإنسانيّة عند ارتكابها كجزء من اعتداء واسع النّطاق وممنهج ضدّ كلّ السكّان المدنيّين، مَنْ كان المعتدي والفاعل، وينبغي على جميع أطراف النّزاع المسلّح أن يلتزموا بمنع العنف الجنسيّ، وأن تقوم جميع الدّول بمحاكمة مرتكبيه؛ ولكنّ هذه الهيئات وخاصة المعنيّة منها بوضع المرأة تؤكّد في الوقت نفسه على عدم التزام الدّول وأطراف النّزاع والأفراد العسكريّين بمثل هذه القوانين والمقرّرات، وهذا ما تمّ تأكيده من قبل منظّمة العفو الدّوليّة في تقريرها الصّادر في عام 2002م عن المرأة والنّزاعات الصّادر في اليوم العالميّ للمرأة:
((الحروب والنّزاعات تحمل خوفاً وهولاً كبيراً للمرأة، ولا تقتصر مخاوف المرأة على الدّمار والاضطرابات والإصابات والموت، بل تمتدّ لتشمل خوفها من عمليات الاغتصاب والتّعذيب والأذى الجسديّ والجنسيّ والعبوديّة الجنسيّة أو الاقتصاديّة، والعلاقات أو الزّيجات الجبريّة)).
إذا كانت هذه الهيئات والمنظّمات والجمعيّات الدّوليّة والرسميّة المعنيّة بشؤون الأرض وما عليها من جموع البشر على علم تامّ بعدم التزام الدّول والحكومات وخاصة الموقّعة على مثل هذه القوانين بمضمونها، فلماذا لا تسارع إلى إصدار قوانين صارمة تلزم الجميع بالالتزام بها أيّاً كانت الجهة أو الدّولة أو الهيئة التي تخالفها، أم لأنّها تُخَطّ بأنامل القوى والدّول المتنفّذة، والتي تريد بها هدهدة الشّعوب والأمم، والّلعب على الّلحى والعقول؟
نعم، كلّ دول وحكومات العالم لا تراعي حريّة الإنسان وكيانه في الحروب والنّزاعات المسلّحة، وتغري رجالها وشبابها بالنّساء من السّبايا والأسيرات والمستضعفات، ولا تحاسب المغتصب الجاني مهما كانت درجة عنفه ووحشيّته، وما استخدام المرأة تحت مسمّى “زواج المتعة” في الحروب والمعارك في وقتنا الحاضر كما حدث في دول شرقيّة وإسلاميّة وعربيّة إلا نوعٌ مهين من أنواع العنف الجنسيّ ضدّ المرأة وضدّ الأمومة والإنسانيّة كلّها، والزّواج بالأسيرة من أكثر أنواع الاغتصاب بشاعة واستهتاراً بالقيم والمبادئ الإنسانيّة، وصفعة قويّة في وجه العالم وادّعاءاته الحضاريّة والتّقنيّة.
ونتساءل:
كيف يستطيع الرّجل الاعتداء جنسيّاً على امرأةٍ أسيرة، مقيّدة وهي تنهال عليه بكلّ أنواع الشّتائم والسّباب؟ كيف يرضى على نفسه أن يجرّب رجولته على امرأةٍ تحتقره ولا تبادله المشاعر والأحاسيس؟ ألا يحسّ بنقصه وضعفه كرجلٍ أمام ذلك الجسد المنهار الذي يحمل روحاً أبيّة، مقاومة؟ ألا يتذكّر أمّه وأخته وزوجته وابنته في تلك الّلحظات؟ ألا يتخيّلهنّ وهنّ يتعرّضن للفتك الجسديّ والنّفسيّ من قبل رجال آخرين مثله لا يرون في المرأة سوى جسداً للمتعة والعبث به؟ ألا يردعه فكره ووجدانه ونفسه بعد إقدامه على جريمته الأولى، فيتوب التّوبة النّصوح؟ أيُعقَل أنّه يرى رجولته الحقّة في عمليّة الاغتصاب هذه؟ ألا يؤنبه ضميره بالفعل الشّنيع الذي أقدم عليه بعد الانتهاء من لعبته الذّليلة؟
إذاً نطالب هيئة الأمم المتّحدة والمنظمات الدولية، الحكومية وغير الحكومية، بالإسراع إلى وضع قوانين ملزمة تجبر الجميع على عدم الّلجوء إلى ممارسة العنف الجسديّ والجنسيّ ضدّ المرأة وضدّ الرّجل والطّفل أيضاً، لأنّها تشكلّ إحدى أكثر الجرائم بشاعة ووحشيّة وظلماً تصل إلى حدّ الكفر والجبروت.
على كلّ المنظّمات المعنيّة بحقوق الإنسان والطّفولة المطالبة الفعليّة بإصدار قوانين تلزمُ جميع الدّول من دون استثناء بالالتزام بها، ووضع شروط قاسيّة تصل إلى أشدّ العقوبات لمرتكبيها.
يجب على المرأة أن تكون أكثر وعياً بوضعها، وأن تعدّ هذا الأمر في صلب اهتمامها، وتبذل كلّ ما بوسعها للحدّ من ارتكاب المزيد من هذه الأفعال الوحشيّة بحقّها وحقّ وجودها وكيانها. عليها أن تدرك أنّ هذا الموضوع يجب أن يبدأ من عندها، ويُحرَّك على مختلف الصّعد والمستويات، وأن تنطلق من توعية ذاتها ومفاهيمها نحو المطالبة بكلّ حقوقها المنهوبة والمسلوبة منها، وتواصل الّليل بالنّهار لتحقيق العالم الذي تنشده وتسعى إليه.
الحقوق تؤخذ بالحكمة والدّراية والمطالبة الحثيثة إنْ كانت القوّة هي جبهة المواجهة المضادة والجبّارة.
وبمناسبة الحديث عن العنف الجنسيّ في الحروب لا بدّ من المطالبة بوجوب وقف هذا النّوع من العنف في كلّ حين ووقت وليس في أوقات الحرب فقط، لأنّ اليوم الواحد من عمر البشر القاطنين على وجه الأرض يشهد على ارتكاب آلاف مثل هذه الجرائم بحقّ المرأة بل وبحقّ الأطفال من الذّكور والإناث معاً؛ كما يجب الإشارة إلى العنف الظّالم ضدّ الرّجل كذلك لإذلاله وإرغامه على أقوال وأفعال تنافي خلقه ومبدأه.
……………………………….