عبد القادر رمومانشيتمقالات

سوريا في الحسابات الروسية الاستراتيجية

عبد القادر رمو

عبد القادر رمو 

عبدالقادر ابراهيم رمو
عبدالقادر ابراهيم رمو

تمهيد :

لابد لنا من التوقف على موقع سوريا على خارطة العالم جغرافياً واقتصادياً وسياسياً، لمعرفة سبب إطالة الأزمة والحرب الأهلية والكونيّة على مساحتها الجغرافية؛ الأزمة التي كانت في بدايتها حاجة أو مفتعلة وتحوّلت بعد ذلك إلى حرب اشتركت فيها جميع الأطراف الإقليمية والدولية. حربٌ وضعت أوزارها على أعناق أناس طيبين أصلاً ومعاشا،ً لكن شيطنتها وامتلاك خيوطها بأيدٍ خارجية، وتغلغل ذهنيات عنصرية شوفينية وإرهابية في صفوف شعبها، ثمّ سلب القرار من أيدي السوريين وتصييرهم فئران اختبار تارة، وأحجار شطرنج تارة وضحايا تارة وتارة نادٍ لإبراز العضلات الدولية… كلّ هذا الجور أثقل كاهل الشعب السوري، ممّا دفعنا للتفكير مراراً وتكرارا في البحث عن سبب كلّ هذا!

موقع سوريا على الخارطة العالمية :

تتميز سوريا بموقع استراتيجي منذ القدم، فهي تربط بين قارات العالم الثلاث (آسيا ، أوربا، إفريقيا) ومطلّة على البحر الأبيض المتوسط؛ سيّد البحار من خلال ربطه بين جهات العالم الأربع، واتصاله بممرّات مائية تعد الأهم عالميّاً (مضيق جبل طارق، البوسفور والدردنيل، قناة السويس) والساحل الشرقي النافذ في قارة آسيا.

وكذلك طريق التجارة العالمي (طريق الحرير)، فضلاً عن ذلك الثروات الباطنية والمائية والزراعية والحيوانية والفسيفساء الجميل والعجيب جداً الذي تتمتع به سوريا. كما أنّه كان من المفترض أن يمرّ خطّ الغاز الطبيعيّ عبر أراضيها إلى أوربا قادماً من قطر والخليج العربيّ لكسر احتكار روسيا لمدّ أوربا بالغاز الطبيعيّ، ولاختصار المسافة وتكلفة نقله. فضلاً عن المواد النفطيّة الأخرى من بلدان الخليج العربي إلى أوروبا بدلاً من الطريق البحري. ولا ننسى مجاورتها لإسرائيل أو ترسانة الغرب النووية على الساحل الشرقي للمتوسط. والأهم من كل هذا وذاك وبالنسبة للمعسكر الغربي المسيطر والمهيمن على القرار العالمي بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكية (المنتصرة في الحرب الباردة) من جهة، ومن جهة أخرى المعسكر الاشتراكي والدول الرافضة لهيمنة القطب الواحد متمثّلاً بأمريكيا وحلفائها من دول الناتو على العالم. وهذا المحور يتمثّل بالاتحاد الروسيّ، والدول الباحثة عن مكانة لها على الساحة الدوليّة، والمتطلعة إلى عالم متعدّد الأقطاب. فالمعسكر الغربيّ بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكية تنبه إلى تعافي روسيا، وعملها على تحقيق حلم أوراسيا الجديدة، وإفشال مخطّط الغرب برسم شرق أوسط كبير وجديد وفق مصالحهم، ولضمان استمرار هيمنتهم على العالم والمعسكر الشرقي بقيادة روسيا ومن خلفها دول ناهضة حديثاً كالصين وتركيا والهند و إيران وغيرها، فقد أدركوا أنّهم أصبحوا يملكون المقوّمات لكسر هيمنة القطب الواحد، وخلق عالم جديد متعدّد الأقطاب. ويبدو أنّ سوريا والصراع الذي يدور فيها بين هذه القوى العظمى بشكل غير مباشر غالباً أو مباشر أحياناً هو الذي سيحسم هذا الصراع وسيميل كفّة الميزان لأحدهما.

 

ماهية المشروع الأوراسي:

هو محاولة لخلق توازنات جديدة في العالم وإنهاء هيمنة القطب الواحد وهي حاجة حسب المفكر الروسي (الإسكندر دوغين) صاحب النظرية السياسية الرابعة والمؤثر جداً في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتخلص من الهيمنة الهاضمة لثقافات أغلب شعوب العالم، والبدء بمرحلة جديدة تقوم على تعدّد الأقطاب، وإنهاء الهيمنة الأمريكية على العالم.

مفهوم أوراسيا الجديدة بحسب المفكر الروسي دوغين: هي المنطقة المُعدّة للثورة ضد الهيمنة الأمريكية على العالم وهي المدافع عن عالم متعدد الأقطاب مع العمل على إيجاد استراتيجية تعترف باختلاف الثقافات المختلفة والعمل من خلال فروعها في العالم على نشر إيدولوجيتها التي لا تؤيد الوحدة الوطنية وهضم الآخرين، بل هي نوع من منح الناس بأن يحافظوا على عاداتهم وتقاليدهم ضد الحداثة الأمريكية المهيمنة، ويعتقد الأوراسيون بأنّ فوز (دونالد ترامب) برئاسة أمريكيا هو نهاية أحادية القطب.

ظهرت النظرية السياسية الرابعة على يد المفكر والباحث الاجتماعي والسياسي الروسي (الإسكندر دوغين) وهي الرفض التام للنظريات السياسية السابقة الثلاث (الليبرالية، الماركسية، والقومية الفاشية) (رفض الحداثة لصالح التقاليد) المشروع الأوراسي الجيوبوليتيكي الذي يعدّ في المحصلة رابطة جغرافية – اقتصادية – وتواصل برّي. فالأوراسية تعتمد على ثبات الحضارة البرية الروسية الأوربية في مواجهة العدو المشترك لحلفائها والمتمثل بالحلف الأطلسيّ بقيادة أمريكيا وبريطانيا كممثلين لحضارة البحار وسوريا تعدّ أهم المحاور الأساسية لأوراسيا، فبدون سوريا لا قيمة لأوراسيا وهي بوابة أوراسيا لحماية مصالحها، فقد دعت روسيا لإقامة جبهة إقليمية تحت مسمى محاربة الإرهاب في سوريا والعراق وشمالي إفريقيا تمهيداً للهدف الأسمى استراتيجياً وهو إنهاء دور هيمنة القطب الواحد والانتقال إلى مرحلة الأقطاب المتعددة، وبذلك تكون روسيا قد استردّت عافيتها وأخذت دور القطبية .

تعتبر روسيا نفسها المدافعة الأولى عن حضارة البرية الشرق آسيوية ضد هيمنة حضارة البحار المتمثلة بأمريكيا وبريطانيا وحلفائهما، كما تعتبر نفسها الوريثة الشرعية والمطلقة للإمبراطورية البيزنطية ودينها المسيحي ومذهبها الأرثوذكسي، ووريثة الديانة المسيحية عن اليونان القديمة وبالتالي حماية مسيحيّ الشرق، فضلاً عن كون ثلث سكانها مسلمين وتحدّها عدة دول مسلمة. وتتطلع روسيا لإقامة المشروع الأوراسيّ الذي يضم فيه الشيعة متمثّلين بإيران وريثة الإمبراطورية الفارسية والصوفية المسلمة المتمثلة بتركيا وريثة الإمبراطورية العثمانية.

وتعتبر سوريا من أهم ركائز المشروع لموقعها الرابط بين قارات العالم القديم الثلاث، فضلاً عن موقعها الاستراتيجي والتجاري المهمّ على المتوسط، ووفرة الثروات الباطنية والطبيعية فيها، وكونها آخر موطئ قدم للروس على المتوسط والمياه الدافئة، وإن استطاعت تنفيذ هذا المشروع ستخلق توازناً في القوى في العالم ينهي هيمنة القطب الواحد، أي إنهاء هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم، بالإضافة إلى تمكين روسيا من قطع الطريق عليها باحتكار مادّة الغاز الطبيعي الذي يراد له أن يصل إلى أوربا من دول الخليج مروراً بسوريا، فتركيا كما تكون قد نصبت كياناً عسكرياً وبمقومات اقتصادية على المتوسط وبجوار إسرائيل ربيبة أمريكيا وبريطانيا وحلفائهما وترسانة الغرب النووية شرقي المتوسط، وبالتالي تعود روسيا إلى الساحة الدولية كقوة عظمى تستطيع ضرب مصالح الغرب الرأسمالي في آسيا وشمالي إفريقيا وترغمهم على التعامل معها من منطلق الندية وكقوة مؤثرة ومسيطرة على قسم كبير من العالم فضلاً عن تحقيق الحلم الروسي الذي يراود الروس منذ مئات السنين بالوصول إلى المياه الدافئة والسيطرة على أهم طرق العالم التجارية الاقتصادية. ودائما كان هذا الحلم يتعرّض للفشل بسبب التدخّل الغربيّ من دول الاستعمار الغربي؛ البرتغال وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا، ثمّ لاحقاً الولايات المتّحدة الأمريكية. فبعد أن خسِر الاتحاد السوفييتي هيبته وكونه قوة عظمى في تسعينيات القرن الماضي على يد أمريكيا وبريطانيا وحلفائهما وتغلغل الغرب من خلال حلف شمالي الأطلسي (الناتو)، وعلى رأسهم أمريكيا في بلدان الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا، كانت سوريا هي آخر موطئ قدم للروس في الشرق الأوسط والبوابة شبه الوحيدة لعودة روسيا إلى العظمة واسترداد هيبتها الضائعة. لذلك لم يتوانَ الرئيس الروسي (بوتين ) بالتدخل بالشأن السوريّ وبكل الإمكانات ليحافظ على آخر ما تبقّى لروسيا من أمل في تحقيق البُعد الاستراتيجي لعودة روسيا إلى الساحة الدولية، ثمّ القبض على مفتاح هذه العودة بالوجود في سوريا بكلّ جدّيّة، وبالتالي الولوج إلى ساحة العظمة التي خسروها في الحرب الباردة أمام المعسكر الغربي وتنفيذ المشروع الأوراسي الذي يتّكئ على الإرث الفكري السلافي التقليدي وإلى القيم الأرثوذوكسية الشرقية الآسيوية.

ومن أهم المفكّرين الروس الذين لعبوا هذا التأثير على الرئيس الروسي بوتين والقيادة الروسية المفكر (الإسكندر دوغين) وبذلك يكون الروس قد ركبوا هذا التيار بدلاً من الفلسفة الشيوعية أو الرضوخ لليبرالية الغربية. وهذا المشروع مقنع إلى حد كبير بالنسبة للشعوب الشرق أوسطية والآسيوية (الإسلامية والعربية والصينية والهندية والتركية والفارسية وحتى اليابانية ) وغيرها ممّن لم ترضهم هيمنة القطب الواحد وفكر الحداثة الرأسمالية الغربية الهاضمة لثقافات الشعوب وكشعار لفكر دوغين : (الحفاظ على التقاليد والعادات الأصيلة) لشعوب أوربا والشرق أوسط وآسيا وإفريقيا ويرى دوغين بأنّ المشروع الأوراسي بدون سوريا لا قيمة له.

وقد ظهر جلياً في الآونة الأخيرة من حكم بوتين تدخل روسيا في مصائر الشعوب والدول بشكل كبير ومثالٌ واضح على ذلك تدخلها بجورجيا وشبه جزيرة القرم ثم ضمها إليها و أوكرانيا وأخيراً دعم الحركات اليمينية وخاصة في أوربا والتدخل في الانتخابات الأمريكية.

ومن منظور روسيا فهي عليها التدخل لملء الفراغ الذي سببه فشل مشروع أمريكيا (الشرق الأوسط الكبير) وفشل أوربا من خلال الاتّحاد الأوربي بكسر الهيمنة الأمريكيّة، وتعاظم دورها في العالم وخاصة في الشرق الأوسط، كما فشل الأوربيون في تحييد روسيا عن الأوضاع الإقليمية فضلاً عن تطلع تركيا للخروج من تحت العباءة الأمريكيّة، وبناء شخصيتها المستقلة وأن يكون لها دور قويّ على المستوى الإقليمي والدولي بعد هزيمتها وفقدانها عظمتها، وإمبراطوريتها مترامية الأطراف، وعلى يد الحلفاء أيضاً. وكذلك تطلّع إيران من سوط الهيمنة الأمريكية وبناء هلالها الشيعي لتكون أيضاً هي الأخرى دولة فاعلة على المستوى الإقليمي والدولي وهي وريثة الإمبراطورية الفارسية الضاربة في التاريخ، وبالتالي فتلاقي الرؤى والمصالح بين روسيا وإيران وتركيا وشعوب الشرق الأوسط وعدد من شعوب آسيا و أوربا و إفريقيا وهذا الهدف المشترك سيتحقق من خلال المشروع الأوراسي الذي يدعو إلى الحفاظ على العادات والتقاليد وخصوصية الشعوب وبدون المساس بالمعتقدات الدينية وإرث هذه الشعوب الثقافي والحضاري، فتركيا و إيران محكومتان بالتورّط في المشروع الأوراسي ومجبرتان على التطبيع مع روسيا؛ بغية تحقيق طموحاتهما التوسّعيّة والتي من المؤكد أنّها ستتضارب فيما بينها من جهة وستتضارب مع الطموح الروسي وفكر دوغين إن صدق الروس في تنفيذه من جهة أخرى.

أما الكرد في الحسابات الروسية، أو كأداة للمساهمة في تنفيذ المشروع الأوراسي، فهم سيكونون المشكلة في تضارب المشروع الأوراسي بحسب دوغين ومشروعي كل من تركيا وإيران. والكرد ذاتهم هم في الحسابات الأمريكية كأداة للمساهمة في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير. وربما الكرد لايزالون في حسابات كل من روسيا وأمريكيا هم تلك الهراوة ذاتها التي طالما احتفظت بها دول الاستعمار تحت ذلك المعطف الجميل الأنيق الذي يوحي بمشاريع إنسانية طيبة. فمنذ الحرب العالمية الأولى هم تلك الهراوة التي تكشف عنها الدول العظمى، وتلوّح بها بأن في الإمكان ضربها برأس الدول المستعمرة لكردستان إن لم يستجيبوا ويرضخوا لمشاريع الدول الأكبر، والأقدر على تغيير الخارطة السياسية للعالم. وبالطبع الفوبيا من قيام كردستان وحصول الكرد على حقوقهم المشروعة تحمّلهم على الرضوخ والتطبيع لمشاريع الدول العظمى في مقابل عدم استخدام تلك الهراوة على رؤوسهم الفارغة، فلا هم تخلصوا من فوبياهم ولا استطاعوا اللجوء إلى المنطق الإنساني والعقلاني السويّ وحلّوا القضيّة الكردية بطرق حضارية ديمقراطية، وسحبوا ورقة الضغط التي تستخدمها الدول العظمى فتخلّصوا من نقطة ضعفهم، وعاشوا هم وشعوبهم بسلام واستقرار وتمتّعوا جميعهم بخيرات ومقدرات البلاد، ولبرزوا على الساحة الدولية كأنداد للدول العظمى وواكبوا ركب التطور والتقدّم العلمي والحضاري ولا تلك الدول العظمى استطاعت أن تكون صادقة مع ما تطرح من أفكار إنسانية وشعارات حضارية وديمقراطية تتشدّق بها دائماً، ولا الكرد ذاتهم استطاعوا التخلص من حالة الانقسام والتوجهات المختلفة التي زرعها مستعمروهم بينهم، فظلوا ماضين في تشتتهم وفي تنفيذ أجندات مستعمريهم على حساب كينونتهم وشعبهم.

يحاول الروس تأسيس تواصل برّيّ اقتصاديّ خارج البقعة الأوراسية من خلال وضع مشروع استراتيجي ضخم لأجل وحدة سياسية خارج أوراسيا حتى، ولتحقيق تكامل قارّي حضاري تحت الهيمنة المركزية الروسية. فبحسب المفكر دوغين أو الملقب ب( دماغ بوتين ) فإن المفهوم الأوراسي الجديد يعتمد على تنشيط تحالفات تتوزع على ثلاثة محاور هي: الأوّل أوربي ألماني روسي محور برلين –موسكو، والثاني شرق أوسطي روسي أي محور موسكو طهران مع جذب تركيا إليه، والثالث كما ترجم مؤخراً محور موسكو طوكيو.

نقاط ضعف المشروع الأوراسيّ:

فبالنسبة لنقاط ضعف هذا المشروع على سبيل المثال: فسيكون هناك تصادم بين إيديولوجية روسيا والمشروع الأوراسي خاصتها. ففي حال نجاح المشروع والتحالفات والمحاور فبالنسبة للنظرية السياسية الرابعة التي طرحها دوغين فإن الكردَ سينالون خصوصيتهم، وبالتّالي فإنّ الحليفَين في محور الشرق أوسط – روسيا (تركيا وإيران) فلديهما إيديولوجيا؛ أن يتم التعامل معهم من خلال الدولة المركزية، وبذلك فإنّ الإيديولوجيا وقعت في تناقض وتصادم  .

أمّا بالنسبة لسوريا فهي تعد من أهم الركائز لنجاح المشروع الأوراسي وبوابة حمايته وحماية مصالحه لموقعها الجغرافي بين قارات العالم الثلاث، فضلاً عن إطلالتها على البحر المتوسط وجعل روسيا وحلفائها قوّة ضاربة في وسط العالم ومسيطرة على طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب. وفي حال عدم الفوز بسوريا يعني فشل المشروع الأوراسي وفشل المحاور الثلاث المفترضة التي تعمد روسيا إلى تنشيطها. والمشروع الأوراسي هو بالدرجة الأولى حماية الأمن القومي الروسي في أكثر من مجال، وتعتبر سوريا نقطة بداية نجاحه أو فشله، فإنّ روسيا إن خسرت الحرب في سوريا فقد خسرت كلّ شيء، وإنّ الحرب ستتحول إلى الداخل الروسي، خاصة وأنّ جيرانها المسلمين وثلث سكانها المسلمين يمكن أن يتحولوا إلى أرضية خصبة للجهادية والمنظّمات الإرهابية المتشدّدة المسلمة، فضلاً أنّ هناك من الروس وطبقتهم الثقافية المهمشين حالياً وهم (الحداثيون) الميّالون للسير في ركب الليبراليّة الغربية وسيكونون الخصم للمشروع الأوراسي والفكر السلافي، وسيتلقون الدعم من أمريكا وحلفائها، ويتحولون إلى التبعية بدل من البحث عن الندّيّة.

يرى المفكر دوغين أنّ الشرق الأوسط نقطة صدام جيوبوليتيكي مع الولايات المتّحدة، وانتصار روسيا فيه يجب أن يكون حتمياً، فروسيا مرّت بمرحلتَي الشيوعية والليبراليّة، ويتوجّب عليها الآن الدخول في مرحلة جديدة تعتمد على رؤية سامية تعمّ الفضاء الأوراسي الواسع، والسعي إلى إحداث تغيير عالمي على أسس أخلاقية جديدة، وليس على قيم مادية استهلاكية برجوازية، فمنذ بداية الأزمة السورية حثّ دوغين الرئيس بوتين للدفاع عن سوريا بكلّ قوّة، ودعا إلى معالجة الملفّ السوري من المنظور الجيوبولتيكي، فدمشق هي العاصمة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط التي يمكن الاعتماد عليها في إنجاح المشروع الأوراسيّ، وبناء أوراسيا الجديدة.

الإسكندر دوغين يميل إلى الجغرافيا لتبرير السياسة الخارجية لبوتين، ووفقاً له فإنّ الحرب ضد جورجيا، وضمّ شبه جزيرة القرم، والتدخّل في أوكرانيا، والحملة العسكريّة في سوريا، حيث لروسيا قاعدة بحريّة في طرطوس، كلّها إجراءات تمليها الضرورة الجيوسياسية التي تتخطّى كلّ الاعتبارات الأخرى.

يقول دوغين: إنّ الدفاع الشرس لروسيا عن مصالحها في سوريا مرتبط بشكل أساسيّ بمرحلة الحرب الباردة حين انتصرت حضارة البحار على حضارة اليابسة، فروسيا التي كانت تمثّل أكثر من ربع مساحة العالم لم تكن قادرة على النفاذ إلى البحار الدولية وهو ضعف خطير، ومن وجهة نظر الجيوسياسية فالحرب الباردة التي دارت بين المعسكر الغربي بقيادة واشنطن، والاتّحاد السوفييتي السابق ومجموعة الدول الاشتراكية بقيادة موسكو لم تكن صداماً إيديولوجياً، بل كان صراعاً جيوبولتيكيّاً، وما ترتّب فوق أرضية الجغرافيا هذا يعني بأنّ الصراع العالمي يدور أساساً بين القوى البرية والقوى البحرية وليس بين القوى الرأسمالية وغيرها من الإيديولوجيات كما يعتقد الكثيرون، لذلك نعتقد بأن الكرملين لن يتردد في الدفاع عن هذه المصلحة الجيوسياسية لروسيا حتى إن اقتضى الأمر صراعا ًعسكرياً طويلاً في سوريا، فروسيا بدفاعها عن سوريا تحافظ على نفوذها كقوّة دولية عظمى وتدافع عن وجودها في الساحل الشرقي للمتوسط فبالمثل: إنّ تدخّل روسيا في منطقة (دوبناس) شرق أوكرانيا، والذي أدّى إلى ضمّ شبه جزيرة القرم لروسيا واستقلال (دوسنيك و لوغانسيك) عن أوكرانيا كان ضرورة جيوسياسية لموسكو، فروسيا بفعلها ذلك تضمن بقاءها (( لو خسرنا دوبناس فإننا سنخسر القرم وبعد ذلك كل روسيا )) بحسب دوغين، وما لا ينبغي السماح به هو الاحتلال الأطلسي لأوكرانيا وليس سيادة أوكرانيا، فأوكرانيا لا تحتاج لأن تكون دولة تابعة والروس ليسوا ضد أوكرانيا السيادية إذا كانت ستكون حليفاً أو شريكاً لروسيا أو على الأقل أن تكون في الفضاء المحايد. يتحدّث دوغين عن عامل الضرورة وهذا ما يعنيه تماماً عندما يتحدث عن البديهية الجيوسياسية، وسوريا جزء من القضية ذاتها حيث يعتقد دوغين بأنّ سوريا هي الهدف الأبعد، لكن ليس بأقلّ أهمية من أوكرانيا، ويؤكّد أنّ وجود تنظيم داعش الإرهابي هو جزء من خطة الأمريكيين ويستند في هذا على اعترافات (زبيغينو بريجنسكي) الذي حصل على تفويض من الرئيس الأمريكي (جيمي كارتر) عندما كان مستشاره للأمن القومي مفاده: تمويل كتائب المجاهدين في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي والذي لاحقاً صار مفرخة للتنظيمات الإرهابية التي تهدّد العالم أجمع والتي تنشط حالياً في سوريا والعراق وليبيا، لذلك يعتقد دوغين أنه لمواجهة التهديد الأمريكي يجب على روسيا إظهار قوّتها الخاصّة، والتوقف عن استخدام الحل الدبلوماسي.

إذاً فالحرب السورية تُدار بين الأطلسيين والأوراسيين. ففي الشرق الأوسط اتّبعت أمريكيا مشروعاً يركّز على تدمير الدول الوطنيّة، وأطلقت عليه اسم (مشروع الشرق الأوسط الكبير)، وهكذا تخلق واشنطن حالة من الفوضى لفرض نفسها كقوة مهيمنة.

في تسعينيات القرن الماضي كانت روسيا ضعيفة ولم تصدر ردود أفعال على التعاظم الأمريكي، لكنّها في وقت مبكر من القرن الواحد والعشرين بدأت بالتعافي ببطء، والآن قرّر الرئيس بوتين معارضة سياسة الفوضى الخلّاقة الأمريكية في الشرق الأوسط، وبالتالي مساعدة روسيا العسكرية ضدّ الإرهاب في سوريا يمكن أن ينظر إليه بوصفه عملاً من أعمال الجغرافيا السياسية الأوراسية.

واستناداً على ما سبق فإن سوريا تقع في قلب المعركة بين ممثلي النظام العالمي أحادي القطب بقيادة أمريكيا وبين نظام متعدد الأقطاب بقيادة روسيا، فضلاً عن أن روسيا ترى تنظيم داعش الإرهابي تهديداً مباشراً للاتحاد الروسي وبأن هذا التنظيم الإرهابي هو نتاج السياسة الأمريكية الذي أُنشئ لنشر الفوضى، وتزويد أمريكيا في أيّ وقت بالذريعة المناسبة للتدخّل العسكري الخاص بها، ولهذا السبب فإنّ داعش موجود ليس فقط في العراق وسوريا، لكن أيضاً في آسيا الوسطى، فالعصابات الإرهابية هناك لها نفس الجهات الراعية، ونفس الفكر الإرهابيّ، فهم ينشطون الآن في أفغانستان وطاجيكستان وأوزبكستان وبالقرب من الحدود الروسية بالإضافة إلى شمالي القوقاز داخل الاتحاد الروسي نفسه.

يدرك بوتين جيداً أنّ نشاط الإرهابيين في آسيا الوسطى والقوقاز هو لخلق الظروف الفوضوية باستخدام داعش وأخواتها، وأمثالها من الجماعات الإرهابية، لذلك؛ فالمنطق وراء التدخل الروسي في سوريا واضح: هو احتواء الإرهاب في سوريا، وإلّا فعلى موسكو محاربتها في مناطقها الحيويّة وحتى على أراضيها.

في هذا السياق يقول دوغين: “سوريا هي خطنا الخارجي للدفاع، والخطّ القادم بعد سوريا هو على أراضي الاتّحاد الروسي وحتى داخل الاتحاد الروسي، علاوة على ذلك يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الانهيار التام لسوريا من شأنه أن يؤدي إلى انهيار دول أخرى في المنطقة، بما في ذلك شمالي إفريقيا كما حصل في ليبيا، لذلك يمكننا الحديث عن سلسلة من ردود الأفعال أو تأثير الدومينو في حال انهيار سوريا، وهذا بدوره يعني أنّ الملايين من اللاجئين والمهاجرين سيزحفون نحو أوربا لأنه لن يكون هناك المزيد من المستقبل لهؤلاء الناس في حالة الفوضى العارمة، وسوف يؤدي ذلك إلى زعزعة استقرار البنية الاجتماعية، وبالتالي إلى الشلل السياسي في أوربا”.

وهنا يجب ألّا ننسى أن آلاف الإرهابيين تدفقوا بالفعل إلى أوربا كجزء من تسونامي اللجوء إلى القارة العجوز، إذن فإنّ روسيا تقاتل لمنع هذا التطور والذي هو في مصلحة أوربا أيضاً، فروسيا تحتاج إلى أوروبا و أوروبا بحاجة إلى روسيا حتى إن لم تعترف بهذا الحكومات الأوربية.

على الصعيد التاريخي اعتبرت روسيا أوروبا بمثابة درع ضدّ التوسّع العثماني التركي، لذلك غرق أوروبا في الفوضى يعني تلقائياً تعرّض روسيا للتهديد على الحدود الغربية والجنوبية، وبالتالي فإنّ حماية أوروبا هي مصلحة موسكو فروسيا اليوم هي درع القارة الأوربية من أجل منع انزلاق أوربا إلى الفوضى، لذا فبحسب دوغين فإن روسيا تقاتل اليوم في سوريا على عدة مستويات وأصعدة : الكفاح ضد تطلّعات العالمية لهيمنة أمريكيا، وحماية مصالح الأمن القومي والأوراسيّة الخاصة بروسيا من خلال مقارعة العدو قبل أن يأتي إليها، ومنع انجرار أوروبا إلى الفوضى لأن مثل هذا التطور سيكون ضاراً بروسيا أيضاً .

ويرى الباحث والمفكر ( كيفورك ألماسيان ) في بحثه (الإسكندر دوغين والفلسفة الكامنة وراء استراتيجية بوتين): توازي قيمة أبحاث دوغين كتابات (زبغينو بريجنسكي وهنري كسنجر) ودوغين بما يقدّمه من نظريات كسر احتكار المفكرين والباحثين السياسيين لأمريكيا والغرب للتنظير السياسي والفكري منذ عقود، وبات ما يقدّمه دوغين من نظريات وأفكار وأبحاث سياسية واجتماعية يشكّل تحدياً جدّيّاً للمعايير الليبراليّة السائدة عند الغرب،  والأوراسية في الواقع أيديولوجيا معادية الغرب، بمعنى أنّها ترفض حقّ المجتمع الغربي لفرض معايير الخير والشرّ، وتسويقهما، و كأنّها قاعدة عالمية، فالأوراسيون لا يعارضون فقط الهيمنة الأمريكية الغربية التوسّعيّة، بل ويرون في القيم الليبراليّة خطراً على الحضارة الروسية، والمجتمع الأرثوذكسي المحافظ، وبالتالي فإنّ الروس الغربيين الحداثيين  الليبيراليين هم أيضاً خصوم للأوراسيين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى