عواس عليكتاب الموقعمقالات

تحولات الدولة

عواس علي

 

عواس علي

عواس خليل
عواس علي

المتمعّن في التاريخ يجد أنّ الدولة حسب المفهوم الاجتماعي تتوغل في التاريخ إلى حدّ البدايات البشرية, إذ خضعت إلى تحولات متوالية منذ الأُسَر البدائية الأولى التي شكلت القطيع البشري المنظّم تحت إمرة قائد القطيع, بدءاً من الفراعنة 3200 ق.م مروراً بالحضارة الصينية و سومر في بلاد ما بين النهرين فاليونان القديمة.

ومن خلال قراءة مبسّطة في علم الأنتروبولوجيا “علم الوجود الإنساني” نجد أن أغلب العلماء ينظرون إلى مراحل تطور الإنسان على أنه سلسلة تطوّرات العقل البشري, من الإنسان المتخلّف البدائي الضعيف أمام الطبيعة, إلى الإنسان العبقري في اختراعاته واكتشافاته, و ربّما أصاب العلماء في دراستهم للإنسان من حيث قدرته على التعامل مع الطبيعة لا بل السيطرة عليها, والقدرة على التعامل المتسارع مع الزمن. ولكننا لو نظرنا إلى الجانب الأخلاقي للإنسان البدائي (كما يدعونه) نجد أن هذا التفكير بعيد كل البعد عن الحقيقة, فالإنسان القديم كان أكثر أخلاقية في تعامله مع أقرانه ومع الطبيعة, ولو بحثنا في جانب واحد فقط وهو الجانب الفني سنجد الفنون التي أبدعها الإنسان القديم من حفره للكهوف, إلى المنحوتات التي خلّفها على أثره, التي حتى الإنسان المتطور لم يرتقِ في فنونه إلى ما أبدعه الإنسان القديم من أهرامات مصر إلى حدائق بابل المعلقة. ولو بحثنا في الجانب العلمي نجد أن الإنسان القديم أبدع أيضاً في العلوم, من علم الفلك إلى علم الطب وعلم الصناعات, و سنجد أن العلماء في عصرنا الحالي يقفون عاجزين أمام عجيبة الأهرامات التي بُنيت في عصر الملك خوفو, إذ يقدّر العلماء المدة الزمنية لبناء هذه الأهرامات بسبعة أجيال, وكل جيل يُقدّر عمره بسبعين سنة, و بمساعدة كافة المعدّات الموجودة في عصرنا الحالي.

ولو نظرنا إلى الإنسان القديم ومعتقداته نجد أن معتقداته كذلك كانت أكثر رحمة وألفة من الأديان التي ظهرت في العصور المتقدمة, فهذه الديانات تتسارع في مضمونها القسوة تباعاً, فالدين الإسلامي أشدّ قسوة من الدين المسيحي, والدين المسيحي أشدّ قسوة من الدين اليهودي, والأخير أشدّ قسوة من الديانة الزردشتية. تعال لنستمع إلى ما قاله بوذا, هكذا قال بوذا: “عليكم أن تكونوا مثل الماء والحليب اللذين يمتزجان مع بعضهما…ادرسوا سوياً, مارسوا تعاليمي, لا تضيعوا تفكيركم و وقتكم في التفاهات والصراع, استمتعوا بأزهار النور في موسمها واحصدوا فواكه السلوك القويم “. ونجد في مقدسات بوذا الشمعة وهي رمز التفاني في سبيل البشرية, و زهرة اللوتس رمز الجمال والحياة المؤقتة, والبخور رمز السمعة الطيبة والأعمال النبيلة, ولو عرّجنا على تعاليم زردشت الذي أمر أتباعه باتباعها: “طهارة الفكر والكلمة والعمل والنظافة والابتعاد عن كل دنس, الإحسان بالفعل والقلب, الرفق بالحيوانات النافعة, القيام بالأعمال النافعة, تعليم الناس الذين يجهلون العلم”.

إن كل الأديان التي عبرت حقبة ما قبل الميلاد, كلها كانت تحرّم  قتل الحيوانات النافعة حتى درجة تقديسها, ونجد أن الإنسان القديم كان أكثر رأفة بالطبيعة من الإنسان الحاضر, ونجد أيضاً أن التنظيم الذي كان يتّبعه الإنسان القديم مع أقرانه, كان أكثر أخلاقية من تنظيم الإنسان الحالي, فمن المعيب والمخزي أن يقوم البدوي بقتل أسيره, بالإضافة إلى حقّ الجوار, والحقيقة أن الخوض في هذا المضمار طويل, ونستطيع أن نقول إن الإنسان القديم كان أرقى إنسانيةً و روحانيةً من إنسان حاضرنا الذي يقدّس المادة ويفتقد إلى أدنى مستوى الأخلاق وذلك من خلال تعامله مع بني جنسه والطبيعة معاً.

ومن خلال البحث في الجانب التنظيمي للمجتمعات القديمة, نجد أن هذه المجتمعات البشرية كانت تعيش وفق نظام محدد يكاد يشبه الدولة الحديثة, و ربما العدالة التي كانت تحققها تلك المجتمعات أفضل من عدالة مجتمعاتنا في الوقت الحاضر, و نشأة الدولة كتنظيم اجتماعي حسب تاريخ مصر القديمة حيث يرجعه المؤرخون إلى (5000) عام قبل الميلاد, بحسب المؤرخ المصري “مانيتون” الذي يخبرنا عن تاريخ مصر حيث كانت مقسمة إلى إمارات, فاتّحدت هذه الإمارات فيما بينها وشكلت مملكتين ما لبثتا أن انفصلتا بعد حروب دامية, ومن ثم عادتا واتّحدتا مجدداً العام 3200 ق.م بداية عهد الأسرات, ونجد أن الملك “مينا” قام بوضع القوانين و شعار الدولة حتى بداية اندلاع الصراع الديني, فبدأ الصراع بين أتباع الإله “حورس” إله الإمارات الشمالية وأتباع الإله “حتب” إله الإمارات الجنوبية, واستمر ذلك حتى بداية نهاية الخلاف بين الأسرتين الشمالية والجنوبية, إذ تم التوصل لحل الخلاف باختيار وزيرين للملك, الأول من الإمارات الشمالية والثاني من الإمارات الجنوبية, أي تم تشكيل اتحادٍ بين الشمال والجنوب مشابهٍ إلى حدّ ما الاتحاد الفيدرالي في وقتنا الراهن, فالجنوب يمثله وزير والشمال يمثله وزير, وكلا الإمارتين تحت إمرة الملك الذي يمثل السلطة المركزية للإمارتين معاً.

وكذلك الحضارة الصينية, حضارة الخزف والحرير, التي لم يعثر علماء الآثار على ما يدلّ على صراعات خاضتها الإمبراطوريات المتوالية مع أطراف أخرى, وكل ما عثر عليه العلماء من خزف وفخّار يعود إلى (4000) عام ق.م , ولكن الازدهار يعود إلى العام (852) ق.م مروراً بالإمبراطور الذي وضع على باب قصره طبلاً خاصاً بشكاوى الناس, يضرب عليه الشاكي في حال أراد أن يبدي بطلبه للإمبراطور, وعلّق لوحاً يكتب الناس عليه ما يريدون إملاءه على الامبراطور. والفيلسوف “كونفوشيوس” ظهر كمصلح اجتماعي في الصين وكان يدعو إلى الزهد والمساواة بين طبقات المجتمع, والطلب من حكام الدولة (الإمبراطور وحاشيته) بالمساواة بين الشعب وإنصاف المظلوم, فكانت هناك دلائل على وجود دولة منظمة.

والحضارة السومرية, في جنوب العراق حسب العلماء, بدأت في بلاد ما بين النهرين من سومر عام (2800) ق.م, ثم الحضارة الأكادية بقيادة “سرجون الأول” وهو من قام بتوحيد بلاد ما بين النهرين, تليها الحضارة البابلية التي تمثل أوج حضارات بلاد ما بين النهرين بقيادة “حمورابي” الملك السادس للبابليين في القرن السادس عشر قبل الميلاد, والذي كان أول ملوك الإمبراطورية البابلية من الملوك الذين أدركوا أهمية فصل الدين عن سياسة الحكم, وحاول إبعاد الكهنة عن السلطة, و وزع سلطته على حكام الأقاليم المتسعة للإمبراطورية, وتنحصر مهمته كحاكم في الحفاظ على الأمن والاستقرار والإشراف على تنفيذ المشاريع, وكان جميع الحكام على اتصال دائم  بحمورابي, وكانت الأقاليم تُدعى دويلات وتعدادها ما يقارب الخمس عشرة دويلة.

 

ويخبرنا الباحث “توركلد جاكسون” من خلال الأنظمة السياسية وأثرها على النشأة الاجتماعية في العراق القديم, أن الأنظمة التي كانت متّبعة في بلاد سومر في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد كانت عبارة عن أنظمة اجتماعية, و يدعوها بالاجتماعية كون المجتمع السومري كان يشارك في اتخاذ القرارات من خلال المجلس العام الذي يتألف من مجلس المسنّين ومجلس الشباب, ويطلق عليها “توركلد جاكسون ” الديمقراطية البدائية, وكان هذا المجلس يُعتبر هيئة تشريعية يتخذ القرارات ويشرف على تنفيذها, وإلى جانب هذا المجلس كان هناك مجلس الآلهة الذي يمثل كل المقاطعات, والملك هو الوحيد القادرعلى حضور مجلس الآلهة لتُملي عليه الآلهة القوانين السماوية.

و الأساطير السومرية التي تواردت إلينا عبر الحفريات الأثرية, تخبرنا عن  التوصل لاختيار حكام الدويلات عن طريق الانتخابات, ومنها النص التالي: (في مجتمع انيل, اجتمعت كيش في مجلس كيش ليختاروا رجل كيش لهم, و وضعوه للملكية). و تم التوصل أيضاً إلى وضع عقوبات مشددة بحق المختلسين للمال العام والمسرفين (الاغتصاب, سوء استخدام الوظيفة, قطع الطرق, المهندس المسؤول عن بناء بيت ولم يكن أساسه وبناؤه متينَين, فانهار البيت وسبّب قتل من فيه, شاهد الزور, اللصّ الذي يسرق من المعابد والقصر الملكي).

ومن خلال سرد قصة ملك كيش مع كلكامش: (بعث حاكم كيش رسالة لكلكامش حاكم مدينة الوركاء, طلب منه الاستسلام والخضوع لحكمه, غير أن كلكامش لم يردّ إلا بعد أن استشار مجلس الشيوخ).                                                 إن ما نقله لنا علماء الآثار يجزم بأن الإمبراطورية البابلية كانت تُدار بشكل أكثر ديمقراطية من العصرالذي نحن فيه الآن, وإليك هذا النص الذي دوّنه “أوركاجينا” الملك السومري (2355ـ2242) ق.م : (لقد وضعتُ هذه القوانين لكي لا أسمح أن يقع اليتيم فريسة لظلم الأقوياء…وأضع حدّاً لكبار الموظفيين في ابتزاز أموال العامة من الشعب). والحضارة الآشورية التي امتدت إمبراطوريتها حتى السواحل السورية غرباً, حيث خاطب ملكها “أسرحدون” رعيته: (لن يبقى فقير في مملكتي ولن يكون للعراة وجود, سأجهز كل العراة والفقراء بالملابس و سأقضي على البؤس والعوز والحاجة, وستعود بابل مدينة المدن). والحديث يطول عن الحضارة اليونانية والحضارة الرومانية وحضارة مايا .

و إن ما يهمنا هو دراسة الجانب التنظيمي لتلك الحضارات, وسنتوقف عند:

ـ نظام الدولة عند الفراعنة.

ـ نظام الدولة عند اليونان بعد اندثار الحضارة الموكينية العام (1000) قبل الميلاد.

1ـ نظام الدولة عند الفراعنة:

 اتخذ نظام الدولة عند الفراعنة نظام الملكية المطلقة وكان الملك هو عبارة عن ابن الإله, فالإله يأتي إلى فراش الملكة الأم فتنجب الفرعون الأول أو الملك, فيكون بذلك ابن الإله, ثم حوّل الكهنة الفرعون إلى نصف إله من خلال تحقيق مكاسب مبطّنة, ثم ما لبث أن حوّل الكهنة الفرعون الملك من نصف إله إلى إله تام يملك كل شيء, ما فوق الأرض و ما تحتها, فتحوّل بذلك من نصف إله إلى إله كامل وتحول بالتدريج إلى معبود الشعب,

 

ويساعده في إدارة شؤون الدولة مجموعة من المساعدين أغلبهم من الكهنة المقربين من البلاط الفرعوني, وكانوا الدعاة الأساسيين لألوهية الملك, فكلما علا شأن الملك تحققت مصالحهم وارتفعت مراتبهم,  ولكن يجب أن لا تغيب عنا حقيقة النظام المتّبع في تلك المجتمعات من حيث الرقابة الشعبية على إدارة الدولة عبر محكمة الآخرة, وتُعتبر رقابة على تصرفات الفرعون, وهي رقابة شعبية تتجسد في الرقابة على تصرفات الملك تجاه الشعب والأخذ بشهادة الشعب, فالفرعون الذي لا يحصل على رضا الشعب يُحرم بعد موته من مراسيم الدفن الملكية و يُدفن خارج المقبرة الملكية, وتتجسد الرقابة عن طريق الشعب الذي يجتمع في صالة واسعة “صالة حوريس” و يتم الاستماع إلى الشعب تحت إشراف القضاة , فإن كان عهد الفرعون عهد رخاء وعدل و حقّق الرضا الشعبي, قررت المحكمة دفنه في مقبرة الملوك و شُيّع تشييع الملوك, وإلا حُرم من ذلك, و سيُجرّد في الآخرة من شرف الملوكية باعتبار الاعتقاد السائد في الحياة الأبدية بعد الموت, فكان الفرعون يحرص على نيل رضا الشعب, وحبذا لو بقي العالم على ذلك النظام, فالفرعون باعتباره إلهاً, والإله يجب أن يكون عادلاً لذلك نجد الفرعون يحضّ وزراءه على العدل, فكان القضاة يُقسِمون أمام الفرعون بأن لا يطيعوه إلا بما يأمر به العدل والقانون, وليس للفرعون أيّ سلطة على قرارات القضاة, فقد ورد في وصية الملك “تحومس الثالث” إلى “خمارع” بمناسبة تعيينه وزيراً: (لا ينبغي محاباة الأمراء والموظفين والسلاطين, ومن واجبك أن يتم كل شيء طبقاً للقانون, وأن يحصل كلٌّ على حقه, انظر إلى من تعرفه كما تنظر إلى من لا تعرفه).

وكذلك قسّم الفراعنة الدولة إلى دوائر حسب متطلبات الشعب, وكذلك أوجدوا المحاكم الإدارية التي يلجأ إليها الشعب ضدّ قرارات الملك, فقد أوصى الملك أحد القضاة: (لا تطرد موظفاً من عمله دون وجه حق). وكذلك تم التظلم من قبل الشعب على ثلاثة قرارات صدرت من الملك نفسه, فقام الملك بإلغائها, وأيضاً من توصيات الملك لأحد القضاة: (العدل أساس الملك). وكذلك تم تقسيم السلطات إلى ثلاث: شرعية و تنفيذية و قضائية, يرأسها الملك و يسند مهامها إلى وزراء يعملون تحت إشرافه وإمرته.

إننا نجد مما سبق أن شكل الدولة لم يتغير ذلك التغير الكبير الذي يتم الحديث عنه, ومازالت الدولة تحافظ على شكلها الباطني وإن كان هناك تغير من حيث الشكل, و ربما التغير نحو الأسوأ وليس نحو الأفضل, ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين دويلات الخليج العربي الملكية, فالملك مازال يملك كل ما فوق الأرض وتحت الأرض, وكل ما يقدمه للرعية هو عبارة عن مكرمة, ولا ننسى أن كل ما يقدمه القادة في الشرق هو مكرمة, وكلنا يعرف أن المكرمة تُقدّم من المال الخاص. والمتمعن في تاريخ الدولة يجد أن الدور الرئيس دائماً كان للكهنة الذين يدفعون بالقوانين باسم الإله, وهم من دفع بالملوك إلى الألوهية في الأساس, ونكاد لا نجد فارقاً شاسعاً بين نظام الدولة في سومر و بابل و اليونان وكذلك الصين, فكلها تكاد تتشابه في الأنظمة.

2ـ نظام الدولة عند اليونان بعد اندثار الحضارة الموكينية (1000) عام قبل الميلاد:

كانت المدن اليونانية تعيش حالة من الاستقرار قبل القرن الثاني عشر قبل الميلاد  في جزيرة كريت و جزر البلبونيز الموكيناي, وكانت مدناً مزدهرة في حضارتها “الحضارة الموكينية”, و قد برعتْ في العلوم والزراعة والفنون حتى غزتها الشعوب الفارسية وعثت فيها الخراب وأصبحت مدناً مستعمَرة, و ظلت على هذه الحال حتى اندمجت الشعوب الآسيوية في المجتمع اليوناني بعد اندثار الحضارة الموكينية في العام (1000) قبل الميلاد, واستعادت المدن اليونانية عافيتها وظهرت اليونان على شكل دويلات صغيرة متناثرة ولكنها تتمتع بمقومات الدولة, فلكلّ مدينة مجلسُها الخاص الذي يبحث في انعقاد جلسته مناقشة أمور المدينة ومتطلباتها والدفاع عنها, وكانت تتمتع هذه الدويلات بالديمقراطية وحرية الرأي, فلكلّ مواطن الحق في إبداء رأيه, وكانت السلطة بجميع أشكالها تتركز بيد الملك, وسرعان ما ظهرت طبقة الأرستقراطيين على إثر التطور الزراعي, وحدثت انقلابات عدّة على الملك المتّسم بسمة الإله, و توزعت السلطات على المجالس الشعبية, وهي مجالس الأعيان التي كانت تضم كبار الأرستقراطيين, وسرعان ما ظهر بعد ذلك مفهوم الديمقراطية في القرن الخامس قبل الميلاد, على إثر ظهور طبقة التجار وتبلور الآراء الفلسفية التي دعت إلى تنظيم المجتمع, عبر مشاركته في السلطة التي ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد, و ربما كان الإنسان مديناً للفلاسفة والفلسفة التي بدأت بالبحث عن الحقوق العامة للشعب, وربّما كانت بداية ظهورها عبارة عن أفكار فردية على يد الفيلسوف اليوناني والفقيه القانوني “صولون ” في القرن السادس قبل الميلاد, ثم تتابعت تلك الأفكار عبر القرون ما أدى إلى ظهور الدولة المنظمة في القرن الخامس قبل الميلاد, والدعوة إلى تنظيم الدولة وفق  الديمقراطية, فتشكلت المجالس الشعبية التي تضم الشعب الذي راح يشارك في السلطة, عبر المجالس الشعبية التي يتربّع فوق قمتها مجلس “العشرة” الذين يتم انتخابهم من الفرسان والأشدّاء, وتوالت الآراء الفلسفية التي تهتم بالجانب التنظيمي للدولة وظهر مفهوم العزل بين السلطات الثلاث ـ التشريعية والتنفيذية والقضائية ـ كما أُطلِق عليها في القرن السابع عشر عبر تقييد سلطات الملك اللا محدودة, وتم وضع أول وثيقة دستورية عبر التاريخ  في العام 1215( الماجنا كارتا ) في بريطانيا, والتي تضمنت الحدّ من صلاحيات الملك المطلقة تجاه الشعب, ولم تتبلور وتتّضح معالم تلك الوثيقة إلا في بداية القرن السابع عشر في العام 1789 بموجب الوثيقة التي أصدرتها الثورة الفرنسية التي كان أحد شعاراتها ( اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس), فكان بذلك بداية النضال ضد الكنيسة وتدخلاتها في السلطة, وربما كانت تلك الوثيقة التي أصدرتها الثورة عبارة عن أول إعلان عن الحقوق العامة والخاصة للمواطن الفرد وعامة الشعب, واستُمِدّت أفكار تلك الوثيقة من معاهدة “ويستفاليا” العام (1648) للميلاد على إثر ظهور التقسيمات  والاختصاصات في العلوم, فكانت بداية انطلاق جميع تلك الأفكار من أحضان الفلسفة.

ومن خلال الاطّلاع على التاريخ الذي مرّت به الدولة, نجد أن بداية الدولة كانت ذات طابع حكم فردي ضامن لحقوق الشعب, وما لبث أن تحولت إلى دولة ذات انفرادية في جميع الحقوق الشعبوية التي انحصر جُلّها في شخصية الملك, وتم رفع الرقابة التامة عن تصرفات الملك الإله الذي قسّم المجتمع إلى طبقات, عبر استدلالات الكهنة و إرشاداتهم.

والسؤال الذي يطرح نفسه: – هل التاريخ البشري وعلومه دائماً يتطوران بشكل لولبيّ نحو الأمام كما تدّعي الفلسفة الماركسية, أو أنه موهوب للبشر من الإله الأوحد كما تدّعي الفلسفة المثالية؟.

من خلال مقارنة بسيطة بين الدولة الحديثة والدولة القديمة, نجد أن الفارق شاسع بينهما, فالدولة الحديثة جُلّ ما تسعى إليه هو وصولها إلى ما كانت عليه الدولة القديمة من أخلاق, قبل ظهور الأديان على أيادي الأنبياء والكهنة الذين قسّموا المجتمع إلى طبقات, و ربما كانت العقوبات القانونية القاسية آنذاك هي الرادع بوجه تفشّي الفساد واللصوصية, وحتى العلوم التي كانت موجودة لدى المجتمعات القديمة مازلنا نفتقر إلى طريق الوصول إليها, كحضارة الفراعنة و حضارة مايا, و ربما توصّل العالم الحديث إلى مفردات تلك العلوم, لكنه مازال يقف عاجزاً أمام أسرار تلك العلوم.

لقد كانت بوادر ظهور الدولة في أوربا تشير إلى قيامها على أساس القومية والإثنية اللتين لا تقبلان غيرهما, ومن المؤسف أنها استمرت على هذه الحال متخفية خلف ستارات عديدة؛ من حقوق الإنسان إلى الديمقراطية كما هي عليه دول كثيرة في عصرنا الراهن, وإلى جانبها ظهرت الأفكار الأممية التي دعت عمال العالم إلى نبذ القومية و إلى التكاتف من أجل بناء مجتمع متساوٍ, و ربما كان الفكر الأممي قد قصّر بوضع الطبقة العاملة رأس حربة في نبذ القومية والتفرقة, وكان الأجدر به تجاوز الصراع الطبقي والدعوة إلى التكاتف القومي من أجل بناء مجتمع الأمة الواحدة الذي نادى به المفكر الأممي عبد الله أوجلان, الذي تجاوز بأفكاره الصراع الطبقي إلى الصراع الرأسمالي القومي, فالتجربة التي خاضتها البشرية مع الصراع الطبقي لم تأتِ بجديد سوى أنها استبدلت دكتاتورية الطبقة البرجوازية بدكتاتورية طبقة البروليتاريا, وسرعان ما تحولت تلك الدول إلى رأسمالية الدولة.

إن الدعوة التي وجّهها المفكر عبدالله أوجلان, تدعو إلى وقف الصراع القوميّ والإثنيّ والتحوّل إلى بناء مجتمع الأمّة الديمقراطية من خلال الحفاظ على خصوصية كل مكوّن, سواء كان مكوّناً قومياً أو إثنياً أو طبقياً, وتطوير هذه الخصوصيّة بما يخدم الحفاظ على التنوع الكوني الذي يشتمل على التنوّع البشريّ والتنوّع الطبيعيّ.

الدولة الحديثة تعريفها حسب مفهوم علم الاجتماع: هي كيان منبثق عن مجتمع منظم من حيث تفاعل هذا المجتمع مع ذاته, من أجل تحقيق مصالح الأفراد وخدماتهم.

ومن الواضح أن الهدف الاساسي من وجود الدولة حسب مفهوم علم الاجتماع هو الخدمة المجتمعية, فوجود الدولة مرهون بالخدمات التي تقدمها للأفراد المنضوين تحت لوائها, و ربما ما يناسب مفهوم علم الاجتماع لمفردات الدولة الحديثة هو مفهوم الإدارة التي تصبّ غايتها في تقديم الخدمات للمجتمع و رعاية مصالحه, و ربما ذهب بعض العلماء إلى تعريف الدولة من وجهة مغايرة, كما عرّفها العالم “آبن يمر”: على أنها بناء طبقي تسيطر فيها الطبقة القوية على باقي أفراد المجتمع, وتقوم باستغلال الأفراد لتحقيق مصالحها, ولا تكاد تفرق عن الاستعمار بشيء من حيث استنزاف طاقات الأفراد لمصالحها الشخصية.

ويكاد أن يكون هذا التعريف مقارباً للواقع أو يلامسه, فالدول الحديثة التي تقودها الأحزاب السياسية أو الأفراد من الطبقة الثرية, مثل “مجلس اللوردات في بريطانيا ومجلس الشيوخ في أمريكا” نجد أن هؤلاء قد تولَّوا زمام السلطة وهم من أثرياء المجتمع, ومن خلال الدولة يسعَون إلى تحقيق مصالحهم الشخصية, وتعترف الدولة الحديثة بذلك وقد تم تعيينهم في تلك المناصب كونهم الأكثر سعياً لتحقيق مصالح الدولة ومراعاة مصالحها, وفي الحقيقة هم يسعون من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية, فمجلس الشيوخ هو من يشرف على الاتفاقيات الدولية وموضوع الحرب والسلم في أمريكا, وهو من يقرر الاتفاقيات والمعاهدات الاقتصادية.

وقد عرّف العالم “هولاند” الدولة بأنها مجموعة من الأفراد تستوطن مكاناً ما, و تسيطر فيه طبقة معينة بفعل قوة ما, و بيدها قرارات الأمر والنهي والحكم كما يُطلب منها.

من خلال التمعّن في تعريف علم الاجتماع للدولة, نجد التعاريف الأخرى كلها تعاريف سلبية لأنها تأخذ في الحسبان الطبقة الحاكمة بالدرجة الاولى, التي تسعى دائماً إلى تحقيق مصالحها من خلال تنظيم الدولة أوالسلطة التي تمنحها الدولة لهذه الطبقة, بعيداً عن الشعب الذي هو المكوّن الأساسي للدولة.

تعريف علم الاقتصاد السياسي للدولة: لم يهتم علم الاقتصاد بالدولة و بأركانها بقدر اهتمامه بفن إدارة موارد الدولة وتحقيق الأرباح وتوزيعها, من أجل إيجاد الرفاهية للمجتمع, وقد قسّم علماء الاقتصاد الدول من حيث اقتصادها إلى دول رأسمالية ودول اشتراكية.

وقد ظهرت الرأسمالية في أوربا على إثر اختراع المحرّك البخاري في القرن السابع عشر, و عُرفت بالنظام الاقتصادي الذي يقوم على دعم التملّك الخاص لوسائل الإنتاج لتطوير الإنتاج العام و تناميه في سبيل تحقيق الربح.

أما الاشتراكيّة فهي نظام اقتصادي تتّبعه الدول عن طريق تملّكها العام (تملُّك الدولة لوسائل الانتاج).

 

وظهرت بذور علم الاقتصاد السياسي في أوربا على يد أبي الأفكار الاقتصادية العالم الاسكتلندي “آدم سميث” في القرن السابع عشر, وهو الذي ربط ما بين سياسة الدولة والاقتصاد, وتلاه في فكرٍ اقتصادي جديد نحا منحىً جديداً الفيلسوف “كارل ماركس”, الذي وضع أسس الاقتصاد الاشتراكي بعد شرحه المطوّل عن النظام الاقتصادي الرأسمالي, فقسّم الدول من حيث النظام الاقتصادي في كتابه “رأس المال” إلى نوعين: دول ذات نظام اشتراكي و دول ذات نظام رأسمالي, وجزم بحتمية انهيار الاقتصاد الرأسمالي الذي سيفقد قوته من خلال التآكل الذاتي.

وفرّق بين الأهداف الاقتصادية لكل من الرأسمالية والاشتراكية, فالاقتصاد الرأسمالي يهدف إلى جني الأرباح لبناء ثروات تتمثل في الشركات العملاقة, التي لا يهمها من الإنسان إلا ما يقدمه من عمل لجني الأرباح, ولا يُخفى على أحد أن رأس المال العالمي يُدار من قبل عائلة “رودتشيلد” التي تمتلك الثروة العالمية, وتتحكم في اقتصاد جميع الدول .

في حين أن الاقتصاد الاشتراكي يهدف إلى تملّك الدولة لوسائل الإنتاج في سبيل تقديم الخدمات للمجتمع, ويمنع تشكّل شركات كبيرة تهدف إلى تحقيق أرباح غير خدمية للمجتمع .

و بمختصر القول: – يهدف الاقتصاد الرأسمالي إلى جني الثروات, بينما يهدف الاقتصاد الاشتراكي إلى تقديم الخدمات للمجتمع.

و من المؤسف أن نجد الاقتصاد الاشتراكي ينهار أمام الاقتصاد الرأسمالي, وتتحوّل الدول الاشتراكية إلى دول رأسمالية لا يهمّها سوى تحقيق الأرباح, و يفقد الإنسان أمله الوحيد في المعاملة الإنسانية, ويتحوّل إلى مجرّد آلة يُقدّر عمره بالعمر الإنتاجي, و تُقدّر قيمته من حيث الربح الذي يحققه للرأسمال العالمي.

وأمام الصراع العالمي تجد نفسك واقفاً تتأمل وتبلج شفتيك وتقول يالَغباءِ هذا المجتمع الدولي, وتتذكر مجموعة الأطفال الأفارقة الذين جمعهم صحفي أوربّي و وضع لهم قطعاً من الحلوى في كيس وطلب منهم أن يتسابقوا, ومن يسبق ستكون قطع الحلوى كلها له, فما كان من الأطفال إلا أن ساروا سويةً حتى وصلوا معاً وتقاسموا قطع الحلوى, وعندما سُئلوا عن تصرفهم هذا أجابوا بأن الكيس يحتوي على قطع تكفينا جميعاً فلمَ التسابق؟.

وفي حقيقة الأمر تتكشف لنا في هذا العالم الشرس المتصارع الحقيقة التي تقول:”إذا كانت الأفكار بويضة فالاقتصاد هو النطفة التي تلقح تلك البويضة”, فلا بدّ إذاً من جني أكبر قدر من الثروة لتسود الأفكار التي تطرحها للعالم, أو ربما لتحمي نفسك.

ظهور علم الاجتماع السياسي: ظهر مع ظهور الثورة الصناعية في أوربا وتداخُلِ علم السياسة مع علم الاجتماع, بعد أن كان علم السياسة يدرس آلية النظم السياسية في الدول والحكم والإدارة, بينما علم الاجتماع كان ينصبّ على دراسة الظواهر الاجتماعية داخل المجتمع, و أول من زرع بذور هذا العلم هو العالم “مونتسكيو” حيث جاء في كتابه “روح القانون” ردّاً على ميثاق العقد الاجتماعي الذي دوّنه “جان جاك روسو” ودعا فيه إلى شرعنة التفرّد في السلطة, فنادى “مونتسكيو” بالفصل ما بين السلطات وبالسماح للمجتمع بالمشاركة في الشؤون السياسية للدولة, فظهور علم الاجتماع السياسي أخذ على عاتقه دراسة آلية السياسة وارتباطها مع المجتمع من حيث علاقتها بالأفراد وبالسلطة, أي علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقاتهم مع بعضهم البعض, وربّما كان جُلّ اهتمام علم الاجتماع السياسي ينصبّ حول الحرية الفردية والمساواة وفكرة مشاركة المجتمع في إدارة شؤون الدولة السياسية, على عكس علم السياسة الذي عرّفته جامعة كولومبيا بأنه العلم الذي يقوم بدراسة الحكومات والمؤسسات وعدد من السلوكيات والممارسات التي يقوم بها السياسيون.

أما الفرنسيون فقد عرّفوه بأنه العلم الذي يقوم بدراسة المجتمعات البشرية أو الإنسانية أي: “علم حكم الدول”.

والتعريف الأمريكيّ الذي جاء على لسان “دايفيد إيستن”: هو العلم الذي يقوم بدراسة التوزيع السلطوي الإلزامي لجميع القيَم في المجتمعات.

ومن المتعارف عليه أنّ هناك تعريفاتٍ كثيرة لعلم السياسة بين المجتمعات البشرية منها الساخر ومنها الجدّي, وتختلف هذه التعريفات حسب الموروث الشعبي لكل شعب, فبعضهم يعرّفه بفن الخداع والآخر بفن الكذب, أو أن تسلب الفرد حقه بدون أن يدري, أو أن تجعل الإنسان يحسّ بالشبع دون أن تقدم له طعاماً, ولا نعرف في الحقيقة مدى صحة ارتباط علم السياسة بعلم الكذب, فربما غلب طابع الكذب على علم السياسة من كثرة الوعود التي يقطعها السياسيون على أنفسهم وما يلبثون أن يتنصّلوا من وعودهم, ففي علم السياسة الجَمل يطير والتيس يُحلب, والحمار أرنب, وبعضهم ربط الأمر بالتملّق, فالشخص المتملّق يقال له شخص سياسي.

و ربما تعريف الفيلسوف “ميكافيلي” جاء الأقرب للواقع الشعبي, فهو يرى أن الهدف الأساسي من السياسة هو الحصول على السلطة والحفاظ عليها بأي وسيلة كانت, و ربما كانت أقرب الوسائل إلى الذهن لتحقيق ذلك الهدف هما العنف و الكذب, على عكس ما عرّفها الفيلسوف “أفلاطون”, أن السياسة تلازم الأخلاق بشكل مطلق ولا يمكن عزلها عن الأخلاق.

 

ربما يكون الواقع مغايراً تماماً للحقيقة, فالسياسي هو الشخص الذي يملك القدرة على امتصاص الأزمات و بناء العلاقات الاجتماعية على صعيد الداخل, والعلاقات الدولية الناجحة على صعيد الخارج, و يتماهى هذا التعريف مع تعريف الدبلوماسية.

ولكن يبقى التعريف الذي يتناسب مع ما يطرحه علم السياسة من أفكار بعيداً عن الواقع العالمي ألاَ وهو: فن إدارة موارد الدولة وتقديم أفضل الخدمات للشعب.

دعونا ننتقل من السياسة إلى الدولة, فقد كان للتاريخ كلمته في هذا المضمار, إذ تطرّق التاريخ إلى تعريف الدولة, فبعض العلماء لم يعتبر التاريخ علماً منفرداً بخاصيته, و ربما كان لهم جانب من الصواب في ذلك, وأكثرهم لم يعتبره علماً كون الأهواء والعواطف الشخصية قد تكون هي من تسيطر على كتابة التاريخ, و المدوّن للتاريخ له النصيب الأكبر في توجيهنا نحو الحقائق التي يريدها أو تطمير بعضها كما يحلو له, وكما يقال: “التاريخ ذمّته واسعة” و ربما المادية التاريخية من خلال دراستها لتطور المجتمع, لامستْ تطور الدولة عبر مراحل تاريخية, فالتاريخ في النهاية يدرس مراحل تطور الدولة والسلطة عبر الحاكم الذي يُرسَل بتوصية من الآلهة, مروراً بأنصاف الآلهة ثم الآلهة التامة, وصولاً إلى الحاكم المنبثق من الأرض من بين الجماهير التي اختارته لحنكته وجبروته, فالدولة مرّت بمراحل تطورت فيها كما ذكرها ابن خلدون: (مرحلة الظفر والانفراد بالمجد, الفراغ والدّعة, القناعة والمسالمة, فالإسراف والتبذير), وتعبر هذه المراحل بثلاثة أجيال:

ـ الجيل الأول: وهو الجيل الذي يقوم بالبناء.

ـ الجيل الثاني: وهو الجيل المحايد الذي يسير على خُطا الجيل الأول, وفي عهده تبدأ الدولة بالنمو حتى الوصول الى قمة تطورها, وثم تبدأ مرحلة انزلاق الدولة إلى التفرّد بالسلطة والدكتاتورية وفرض الضرائب, فترهق الشعب وتحفر قبرها بيدها.

ـ أما الجيل الثالث: فهو الجيل الهادم الذي تصل الدولة فيه إلى مرحلة تفشّي الفساد التامّ, و بعض الدول بحسب رأي ابن خلدون بدأت من آخر مرحلة, وتجاوزت المرحلتين الأولى والثانية فاختصرت المراحل على عجالة.

التعريف القانوني لدولة:

عرّفها القانون الدولي على أنها مجموعة من الأفراد تعيش في بقعة جغرافية محددة وتديرها إدارة ما.

أركان الدولة: تقوم الدولة على ثلاثة أركان: الشعب و الإقليم و الإدارة.

وبعض الفقهاء أضاف لهذه الأركان ركنين آخرين:

ـ فأما الركن الرابع: فهو ركن السيادة, فالدولة التي لا تمتلك سيادة كاملة على إقليمها لا تُعتبر دولة, وهذا الركن نجده مغايراً للواقع فهناك بعض الدول ناقصة السيادة ومع ذلك تُعتبر ذات كيان دولي, ولكنها بالمقابل تتمتع بحماية دولية من قبل دولة قوية, وهذه الحماية لا تنقص من سيادتها, كما هو الحال مع الحماية الفرنسية لإمارة موناكو.

ـ والركن الخامس: هو الاعتراف الدولي, إذ يجب أن تحصل الدولة على اعتراف دولي من قبل المجتمع الدولي, وهذا الركن يكاد يكون بعيداً عن الواقع الدولي, كون أكثر الدول حديثة النشأة غالباً ما يأتي الاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي بالتدرّج وعلى مراحل متتالية, فعدم الاعتراف الدولي الكامل لا ينقص من سيادتها و وجودها كدولة, ومثال ذلك أغلب الدول التي خرجت من تحت سيطرة الاستعمار في بداية القرن العشرين.

ـ الشعب: هو مجموع الأفراد الذين يعيشون فوق الإقليم الذي تبسط الإدارة سيطرتها عليه (تفرض الإدارة سيادتها عليه).

وفي الحقيقة إن عدد السكان أو تعداد الأفراد في الدولة لا يؤثر على قيامها أو على اكتسابها للشرعية الدولية مطلقاً, فهناك بعض الدول التي يتراوح عدد سكانها بضعة آلاف من الأشخاص وهي دول مستقلة ولها سيادتها, كما هو الحال مع إمارة موناكو الواقعة جنوب فرنسا, فتعداد سكانها ما يقارب (38) ألف نسمة, وكذلك دولة “سان مارينو” الواقعة شمال شرق إيطاليا و يبلغ تعداد سكانها ما يقارب (32) ألف نسمة, و دولة البحرين التي يبلغ تعداد سكانها ما يقارب مليون نسمة, فتعداد السكان لا يغير من الشعب كركن من أركان الدولة, وكذلك لا يتطلب شرط أن يتكلم شعب الدولة الواحدة لغة واحدة أو أن ينحدر من قومية واحدة, كل ما يهم أن يربطهم رابط الجنسية الواحدة للدولة.

ولا بدّ من التفريق بين الشعب حسب المفهوم القانوني للدولة والأمة:                          – فالشعب حسب المفهوم القانوني: هو جميع الأفراد الذين يحملون جنسية الدولة, بغضّ النظر عن قوميتهم أو معتقدهم أو لغتهم, وقد لا يوجد رابط بين شعب الدولة الواحدة, وقد تتعدد الشعوب ضمن الدولة الواحدة كما في سوريا, كالشعب العربي والشعب الكردي والشعب الأرمني والشعب الآشوري ..إلخ.

ـ ولكن مفهوم الأمة يُوجِب وجود رابط بين أفراد الأمة كالمعتقد الديني أو اللغة, ففي الأمة لابدّ من وجود رابط بين أفراد الأمة, كالأمة الإسلامية أو الأمة اليهودية, و يكاد القانون الدولي يطلب رابط الجنسية فقط من الشعب في الدولة الواحدة, وكل دولة تفرض قيوداً وشروطاً على منح جنسيتها لمن يرغب في مواطنتها, وهو القانون الذي يدعى القانون الدولي الخاص بكل دولة, و بموجب الجنسية التي يحملها الفرد يحقّ للدولة أن تفرض القوانين الخاصة بها على الفرد وأن تحدد واجباته تجاه الدولة, وبموجب الجنسية تحدد الدولة حقوق المواطنة لكل فرد من مواطنيها, وأغلب هذه الحقوق والواجبات تَرِد في متن دستور الدولة.

ـ الإقليم: ويشمل الإقليم البري والمياه الإقليمية والمجال الجوي, وكل تلك الأقسام من الإقليم محددة بموجب اتفاقيات دولية تفصلها عن أقاليم دول الجوار.

  • أ‌- الإقليم البري: وهو المساحة البرية التي تبسط الإدارة في الدولة سيطرتها عليها سيطرة تامة, وهو ما يُدعى بالسيادة, وإذا كانت هذه السيطرة ناقصة تُدعى الدولة بدولة ناقصة السيادة, ومساحة هذا الإقليم لا تؤثر على قيام الدولة أو على شخصيتها الاعتبارية, سواء اتسع أم ضاق, فبعض الدول مساحاتها لا تتعدى بضعة آلاف من الكيلو مترات المربعة, كما هو الحال مع دولة “سان مارينو” البالغة مساحتها ما يقارب (61) كيلومتراً مربعاً, ودولة البحرين البالغة مساحتها (598) كيلومتراً مربعاً, ودولة “الفاتكان” البالغة مساحتها (500) متر مربع, وكذلك إمارة موناكو مساحتها لا تزيد عن (1500) متر مربع. وقد يكون الإقليم البري غير متصل كأن يكون مُجزّأً كبعض الدول التي تتناثر جزرها في المحيطات والبحار مثل اليابان, والفليبين البالغة عدد جزرها (7641) جزيرة, وقد يكون الإقليم البري مفصولاً عن بعضه البعض و تفصله دول كما كان الحال عليه في الجمهورية العربية المتحدة بين سورية و مصر العام (1958), و يُعتبر الإقليم البري أرضاً ذات حرمة من قبل القانون الدولي ولا يحق لأيّ دولة الاعتداء على هذا الإقليم, وأيّ اعتداء على هذا الإقليم  يُعتبر اعتداء على سيادة الدولة و يتطلب ذلك المساءلة القانونية أمام المجتمع الدولي والمحاكمة, وكل ما هو في باطن هذه الأرض يُعتبر من ضمن التوابع لهذا الإقليم, كالأنفاق التي تمر من باطن هذه الأراضي.

والسؤال: هل يحق للدولة أن تبيع جزءاً من إقليمها لدولة أخرى؟                    في الحقيقة سُجِّلت حالات من البيع والشراء ما بين الدول, والأمثلة كثيرة على ذلك:

شراء الولايات المتحدة “لويزيانا” من فرنسا مقابل خمسة عشر مليون دولار, وذلك في العام 1801م, وتم توقيع عقد البيع بين الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون ونابليون بونابرت, وكذلك اشترت الولايات المتحدة ولاية “فلوريدا” من إسبانيا العام 1819م  مقابل خمسة ملايين دولار, وكذلك الصين, و أخيراً كما حصل عندما باعت مصر أيضاً جزر “تيران” و “صنا فير” للسعودية, وكذلك عمليات الإيجار, وآخرها تأجير الرئيس السوري ميناء طرطوس لروسيا.

و السؤال الآخر: أين يتم توثيق هذه العقود؟

إن من وجهة نظر القانون الدولي يُعتبر هذا التصرف تصرفاً رضائياً و بموجبه يتم انتقال هذه الأراضي بشكل رضائي من سيادة دولة لدولة أخرى, ولكن هذا التصرف الرضائي بين الدولتين يتولد عنه آثار تنعكس على المجتمع الدولي برمّته  في تغيير خارطة العالم المُقرّة حسب اتفاقيات دولية, ولذلك يتطلب توثيق تلك العقود أمام محاكم دولية, و كون الخلاف الذي سينجم عن هذا الاتفاق هو خلاف بين أطراف العقد وهو خلاف دولي, فإن فضّ النزاع يتطلب كذلك تدخلاً دولياً.

والآن ما هو موقف القانون الدولي من سكان الجزء المباع, وهل يُعتبرون جزءاً من الصفقة, وهل تسقط عنهم جنسية الدولة البائعة لزاماً؟ وإذا فرضنا أن الدولة المشترية لا ترغب بسكان الجزء المباع, فهل يحق لها أن تقوم بتوجيه إنذار للسكان بإخلاء الجزء المُشترى؟ وبالطبع هذا كله يتناقض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني.

وهذا السؤال مازال ينتظر الإجابة, وأكثر تلك الاتفاقيات جرتْ دون علم سكان الأراضي المباعة, وكل ما يتوجب على المواطن في الشرق أن يدعو ربه أن يمنَّ على قادة الدول لرفع الحاجة والعوز عنهم, و إلا تعرضوا للبيع جملة مع أراضيهم.

  • ب‌- المجال الجوي: في حقيقة الأمر لقد كثرت الاتفاقيات الدولية حول استخدام المجال الجوي بين الدول, وعرّفه القانون الجوي على أنه الأثير الذي يقع فوق المساحات البرية, و بعضهم اعتبره الأثير الذي يقع فوق المساحة البرية والمساحة البحرية, وبعضهم حدد ارتفاع هذا الأثير الذي يعلو فوق الأرض بقياسات مختلفة؛ فالفرنسيون اقترحوا أن يكون علوّ المجال الجوي (330) متراً فقط, مستأنسين بارتفاع برج إيفل الذي يرتفع (300) متر ويعلوه عامود هوائي بارتفاع (30) متراً. غير أن المتمعن في هذا الاقتراح يجده ينافي الصواب, فبعض ناطحات السحاب ترتفع أضعافاً مضاعفة قياساً ببرج إيفل, وأكثر الخلافات بين الدول كانت تدور حول الطيران الحربي, فالطيران المدني ليس له أثر على حرمة سيادة الدولة سواء كان عابراً في المجال الجوي أو هابطاً, و ربما أعظم اتفاقية حكمت المجال الجوي هي “اتفاقية شيكاغو” في العام 1944م, وإلى جانب هذه الاتفاقية, طالب بعض فقهاء القانون الجوي بحرية الملاحة في الجو, كون هذا المجال لا يمكن حيازته من قبل الدول, وقد جاء من نادى بعكس هذا التيار واعتبر هذه النظرية تهدد أمن وسلامة الدول, وبعضهم نادى بتحديد مسافة العلوّ كما هو عند الفرنسيين وأسوة بالمجال البحري المحدد على عمق المياه الإقليمية, وفي الحقيقة نرى أن المجال الجوي أخطر من مجال المياه الإقليمية بكثير, فالمسافة الممتدة في عمق البحر ربما تجنب الدولة الساحلية من خطر القذائف التي قد لا تصل الى إقليمها, ولكن في المجال الجوي مهما كانت المسافة التي تعلو فوق الإقليم مرتفعة, فإنها تهدد سلامة الدولة من خلال القذائف التي تسقط بشكل عامودي فوق إقليمها, لذلك كان من الأسلم اعتبار المجال الجوي هو الأثير الذي يعلو فوق إقليم الدولة مهما علا, وخاصة في وجه الطيران الحربي الذي أضحى قادراً على التخفّي وخرق مجال أي دولة كانت, وهذا بطبيعته يتناسب مع نظرية السيادة المطلقة للدولة على المجال الجوي, والإبقاء على المجال الجوي أمام الطيران المدني محكوماً بموجب اتفاقيات دولية تنظم الملاحة الجوية للطيران المدني.

وهناك اتفاق دولي “اتفاقية باريس” عام 1919م حول الملاحة الجوية, غير أن بعض الدول لم توقّع على هذا الاتفاق ومنها الولايات المتحدة الامريكية, وفي الحقيقة مازال استخدام المجال الجوي غير واضح المعالم تجاه القانون الجوي ويسوده الغموض, وكل ما هو معروف أن الطائرة التي تريد أن تعبُر المجال الجوي لأي دولة, لابدّ لقائدها من التعريف عن هوية الطائرة “جنسيتها” وإلا فمن حق الدولة المخترَق مجالها الجوي متابعة الطائرة المخترِقة لمجالها وإجبارها على الهبوط , وإلا تعرضت إلى هجوم و ربما إسقاطها, وهناك تساهل أمام الطيران المدني على عكس التشديد في وجه الطيران الحربي, والدول كلها متّفقة على عدم جواز خرق المجال الجوي لأي دولة من قبل الطيران الحربي, بدون اتفاقية مسبقة وعلم مسبق بالخرق الذي سيحصل من قبل الطيران العسكري, هذا وقد شهد العالم حوادث كثيرة في هذا المجال, حتى إن بعض الدول قامت بإسقاط طائرات مدنية لم تعرّف عن نفسها أو تجاوزت المجال الجوي بدون علم مسبق, وبات التخوّف من عمليات التجسس من قبل الطيران العسكري الذي  يتشبّه بالطيران المدني, ما فتح المجال والذرائع أمام بعض الدول بالاعتداء على الطيران المدني, وبعضها أدى إلى خلافات دولية بين الدول, ولابدّ من وضع قانون دولي صارم بخصوص الطيران المدني وخاصة بعد حوادث مفتعلة من قبل بعض الدول أودت بحياة آلاف المدنيين, وآخرها كانت الطائرة الأوكرانية التي تم إسقاطها من قبل وسائل الدفاع الإيراني.

وفي الحقيقة مازالت هناك خلافات جمّة حول القانون الجوي تنتظر الحل, ومن المؤسف أن المجتمع الدولي لا يكترث لهذه الخلافات حتى الآن.

  • ت‌- المياه الإقليمية أو الإقليم البحري: بدايةً لا يوجد قانون ناظم للملاحة البحرية بالمعنى الحقيقي, والقوانين الموجودة بعضها عبارة عن أعراف دولية, وأكثر المياه الإقليمية هي التي تم تحديدها من قبل الدول المحاذية للبحار, غير أن بعض الدول لم تلتزم بهذه الأعراف كالولايات المتحدة الأمريكية, ونستطيع القول إن المياه الإقليمية مازالت خاضعة لقانون القوى بالرغم من أن المشاكل حول المياه الإقليمية قد ظهرت في القرن الثامن عشر, غير أنها لم تُحلّ بشكل جذريّ حتى الآن, ففي العام 1702م حدد العالم الهولندي”بينكرشوك” المسافة بموجب البعد الذي تصل فيه قذيفة المدفع, وتبعه العالم “غالياني” فحدّدها بمسافة ثلاثة أميال أي ما يعادل (5,5) كم,  أي استناداً إلى المسافة التي تستطيع الدولة حمايتها بنيران مدافعها, غير أن هذه المسافة تغيرت بعد الاختراع المذهل للأسلحة, حيث تفرّدت كل دولة بتحديد مياهها الإقليمية, ففرنسا مثلاً حددت مياهها الإقليمية بثلاثة أميال للصيد و (12) ميلاً للجمارك, وتوالت المؤتمرات الدولية تحت إشراف الأمم المتحدة لحلّ الخلاف غير أنها لم تتوصل إلى حلّ مطلقاً, و يعود سبب الفشل إلى معارضة الدول القوية لتلك الحلول, وعلى ذلك استمرت النزاعات حتى العام 1958 بعد صدور قرار المحكمة الدولية على إثر النزاع الحاصل بين بريطانيا والنرويج, حول تحديد مصائد كل دولة في المياه الإقليمية, وعلى إثر صدور ذلك القرار تم عقد اتفاقية جنيف التي نصت على تحديد المياه الإقليمية بعمق (12) ميلاً بحرياً أي ما يعادل (22,2) كم, و تُعتبر المياه المحاذية للدولة وفق هذا العمق جزءاً لا يتجزّأ من إقليمها البري, وتمارس فيها كافة الصلاحيات وتطبق عليها كافة القوانين المحلية للدولة المحاذية, وتم إضافةً لهذه المسافة, مسافة (200) ميل بحري (370) كم واعتُبرت مياهاً اقتصادية للدولة المحاذية, ولها حق استثمار كافة الثروات و الموارد الاقتصادية في هذه المياه ومن حقها أن تحرص على النزاعات ضمن هذه المياه وحمايتها, ولكن لا يحق لها أن تمنع الملاحة البحرية في هذه المياه, وحددت الاتفاقية ما بعد هذه المسافة تحت مسمى أعالي البحار, وهي ملك مشاع ما بين جميع الدول, وأضافت الاتفاقية إلى حق الدول المحاذية في استغلال الثروات والموارد الطبيعية لهده المياه, واجباً على الدول المحاذية بتقديم المساعدة للسفن المنكوبة ضمن هذه المياه, ويتوجب عليها حماية السفن العابرة ضمنها من الأخطار, غير أن هذه الاتفاقية لم تحسم أمر الخلافات الحاصلة بين الدول حول مياه أعالي البحار, وخاصة بعد اكتشاف الثروات الباطنية ضمن هذه المياه, كما حصل مؤخراً  بين مصر و إسرائيل و قبرص واليونان و تركيا على إثر اكتشاف حقول الغاز في شرق البحر المتوسط, وحصل اجتماع تحت إشراف الأمم المتحدة العام 2013 ولكن لم يتمخض عنه سوى توصيات بأن تكون أعالي البحار مصدراً للسلم وليس مصدراً للنزاعات, والحقيقة أن أول أسباب عدم التوصل للحلول حول الخلافات الظاهرة هو الصراع بين الدول العظمى الداعمة للدول أطراف النزاع, فلكل دولة ضعيفة حليف قوي, و ثاني الأسباب هو ضعف الأمم المتحدة وعدم قدرتها على فرض قراراتها على الدول الأعضاء و إلزام أطراف النزاع بالالتزام بقراراتها, فنجدها دائماً تستظل تحت مظلة الولايات المتحدة الامريكية أو روسيا, ولا يُنفذ القرار إلا إذا كان قائماً على اتفاق ثنائي بين هاتين الدولتين.

ولا يغيب عن بالنا النزاعات الدولية حول الأنهار العابرة التي تنبع من دولة و تمرّ بأكثر من دولة أخرى كما هو حال نهر الفرات, الذي تتحكم تركيا بمنبعه, وتقوم بقطع مياه الفرات وتحويلها إلى أماكن أخرى ضمن أراضيها على الرغم من الاتفاقيات الدولية التي تحمي الأنهار العابرة, غير أن تركيا لا تلتزم بتلك الاتفاقيات مطلقاً, وتنال دعمها في وجه الأمم المتحدة واتفاقياتها عبر حليفها الأمريكي, الداعم لانتهاكاتها للقانون الذي يحكم مياه الأنهار العابرة, وكذلك بعض الممرات المائية ضمن الدول كقناة “السويس” وقناة “بنما” حيث اعتبرهما القانون الدولي ممرات دولية, و لا يحق للدولة التي تقع ضمنها هذه الممرات معارضة الملاحة البحرية لسفن دولة أخرى عابرة لهذه القنوات, و ربما لو أن حدود هذه الممرات كانت واقعة ضمن أقاليم إحدى الدول القوية لكان الأمر مختلفاً تماماً.

وعلى ذلك؛ أليس القانون الدولي مثيلاً للقانون القبلي أو العشائري حيث نجد القبيلة الكبيرة دائماً لها حصة الأسد؟ ألا يشبه قانون “القَبَضايات” أيام الدولة العثمانية حيث كان القبضاي في الحي يتقاضى ضريبة من جميع أفراد الحي؟ … ضريبة القوة التي يمتلكها.

إن المجتمع الدولي بهذه الصورة عبارة عن دولة مصغّرة يتربّع على عرشها أشخاص يتمتعون بالحصانة ضد القانون الدولي.

ـ السلطة “الإدارة”:

بعض الفقهاء اعتبر أن السلطة هي الركن الأساسي في الدولة كون الأرض موجودة قبل الإنسان, وكذلك الإنسان وُجد قبل ظهور الدولة, وحينما ظهرت السلطة  اكتملت أركان الدولة بظهورها, ولذلك نجد أن دراسة تاريخ ظهور السلطة هو ذاته تاريخ نشوء الدولة بشكلها القديم المتمثل في الزعامة.

ومن خلال الدراسة المترويّة لمراحل تطور الدولة نجد أن السلطة في المجتمعات البشرية سبقت ظهور الدولة المنظمة, وكانت عبارة عن الأشخاص الآمرين والناهين في المجتمعات البدائية, و ربما الأقرب إلى الواقع الحالي هو النظام القبلي المتبقي لدينا والذي كان سائداً حتى زمن قريب, ومازال سائداً بين القبائل والعشائر المتناثرة على مساحات واسعة في العالم, فالقبيلة لها شخص محدد يمثلها ويتكلم باسمها وهو الذي يقرّ حالة السلم والحرب, والباحث في هذه الأمور يجد أن القبيلة مازالت تحافظ على هذا الميراث البشري, وغالباً شيخ القبيلة هو من يمثل السلطة في القبيلة, و ربما نجد اتحاد عدد من القبائل تحت لواء شيخ واحد يمثل عدداً من القبائل أمام القبائل الأخرى على شكل”حلف”, وله الرأي في تقرير مصير القبائل المتحدة, وقد يتخذ الشيخ مجموعة من الرجال يستشيرهم في أمور القبيلة, وغالباً ما تبسط القبيلة سلطتها على مساحة محددة  بالاتفاق مع القبائل الأخرى, ويتم فيها تحديد المراعي الخاصة بالقبيلة, ولعلّ تطور القبائل في الخليج العربي و تحوّلها إلى دويلات خير مثال على ذلك, و نكاد نجد السلطة موجودة حتى على مستوى الأسرة الواحدة, فالأب أو الأم يمثل أحدهما السلطة فيها, وقد تكون السلطة موزّعة بينهما. وذهب بعض المفكرين إلى اتخاذ بعض الحيوانات مثالاً على وجود السلطة في القطيع, كقطعان الذئاب والقردة, وهذه نظرية الأسرة التي تردّ أصل نشوء الدولة للأسرة.

ولكن الحقيقة نجدها مغايرة للواقع, إذ يُفترض بالقانون الدولي أن لا يعطي أيّ أهمية للقوى وأن لا يفرّق بين الدولة القوية والدولة الضعيفة, ولكن الواقع معطياته مختلفة, فينقسم المجتمع الدولي إلى قسمين, دول قوية ودول ضعيفة.

ومن جهة أخرى نجد التشابه ما بين القبيلة والمجتمع الدولي من حيث السعي المتواصل من أجل الحصول على مركز القرار والسيادة, فكما نجد بعض الأفراد يتزاحمون على سيادة القبيلة نجد الدول تتنافس من أجل الحصول على سيادة المجتمع الدولي, و ربما الأحداث الأخيرة التي ظهرت مع فيروس كورونا تسحب البساط من تحت الدول التي تجد في نفسها سيدة العالم وتمنح الدور لغيرها, فشيخ القبيلة الذي يقف عاجزاً أمام معضلة تهدد حياة القبيلة يفقد حرمته أمامها, بينما هي تبدأ بالبحث عن البديل الأقوى والأجدر بفكّ رموز المعضلة.

ولكن السلطة في الدولة وإن كانت تتشابه مع السلطات التي تحدثنا عنها, إلا أنها تختلف باتساع سلطتها على إقليمها في مواجهة المجتمع الدولي بموجب القانون الدولي وفرض هيبتها على الإقليم, فلابدّ للسلطة في الدولة أن تكون سلطة وحيدة تبسط سيطرتها على مساحة إقليم الدولة كاملاً, وأن تمتلك حرية التصرف فوق هذا الإقليم وأن لا تنازعها سلطة أخرى على تصرفاتها, وإلا كانت سيادتها على إقليمها سيادة ناقصة, وما يميز السلطة كاملة السيادة أنها سلطة عامة يخضع لأوامرها وقراراتها وقوانينها جميع المواطنين في الدولة, بالإضافة إلى ذلك يجب أن تكون السلطة في الدولة سلطة مستقلة في قراراتها أمام المجتمع الدولي, بحيث تتخذ قراراتها بشكل منفرد بدون إملاءات من دول أخرى, حسب قوانينها الداخلية, وكذلك يجب أن تحوز هذه السلطة على القوة العسكرية التي تمكنّها من الدفاع عن شعبها وإقليمها من الاعتداء الخارجي, والتي تمكنّها من فرض قوانينها على الشعب ومحاسبة الخارجين عن القانون, وأن تمتلك الإمكانية التي تخوّلها في المحاسبة و إصدار القوانين والقرارات الإدارية, وهذا ما يُدعى بالسيادة الداخلية, وهي تختلف عن السيادة الخارجية, التي تكون في مواجهة المجتمع الدولي.

ويجب أن لا يفوتنا الغرض الذي نشأت من أجله السلطة, وهو تحقيق الأمن المجتمعي ورعاية مصالح الشعب على أفضل وجه, ويجب أن تحوز هذه السلطة على رضا الشعب, فإذا افتقدت هذه السلطة إلى رضا الشعب فإنها تتحول إلى سلطة غير شرعية, وبالتالي تفتقر الدولة إلى أحد أركانها في مواجهة المجتمع الدولي.  لكن الحقيقة أن شرعية هذه السلطة غالباً ما تُستمدّ من قبل الدول العظمى, فهي التي تقرر شرعية هذه السلطة من عدمها, والأمثلة تكاد لا تُحصى, فهناك بعض السلطات التي لا تحوز على رضا أغلبية الشعب ومع ذلك نجدها ذات سيادة شرعية على مستوى المجتمع الدولي, بموجب حماية إحدى الدول العظمى, وبعضها الآخر نجده غير شرعي حسب وجهة نظر الدول العظمى, على الرغم من أن السلطة قد تكون شرعية برضا الشعب بسلطتها, فتتدخل الدول العظمى باسم المجتمع الدولي وتغيّر هذه السلطة باسم عدم مراعاتها لحقوق الإنسان أو دعمها للإرهاب, والحقيقة هي أن الدول العظمى ترعى مصالحها من وراء كل ذلك, فالنظام الإيراني يكاد أن يكون نظاماً مستبدّاً و طاغياً بحق الشعب ومع ذلك نجد أن الولايات المتحدة و روسيا لا تعارضان وجود النظام الإيراني ولكنهما تطالبانه بالإصلاحات, وفي دول أخرى نجدها تدخلت و غيّرت النظام فيها تحت مسمى دعمها للإرهاب أو عدم مراعاتها لحقوق الإنسان, مثلما قامت فرنسا بالإطاحة بحكم  “سنكارا في بوركينا فاسو” عام 1987 بعد اغتيال رئيسها الشيوعي سنكارا, بسبب رفضه الاستعمار الفرنسي.

أقسام السلطة: تقسم السلطة حسب القانون الدولي إلى ثلاث سلطات: التشريعية

والتنفيذية والقضائية.

وأول من طالب بتوزيع السلطة المفكر اليوناني “صولون” في القرن السادس قبل الميلاد, والمشاركة في مواجهة حكم الأرستقراطيين, و تلاه  في ذلك الفيلسوف “أفلاطون” في نظريته في بناء الدولة, وطالب بفصل السلطات وتوزيعها على إدارات متخصصة, لكنّ نظريته في بناء المدينة الفاضلة ظلت عبارة عن حلم حتى جاء تلميذه “أرسطو” الذي طالب بتوزيع السلطة على ثلاثة مجالس هي: المجلس العام والمجلس التنفيذي والمجلس الأمني الذي يشرف على حسن تطبيق الأحكام ويلاحق المخلّين بالأمن المجتمعي, ونادى بوضع دستور للبلاد بموجبه يتم اختيار الحكام, وكانت آراءه  ضد نظرية الفيلسوف “أفلاطون” الذي استند في الحكم على نظرية “الفضيلة هي المعرفة”, وبموجبها دعا الحكماء والعلماء والفلاسفة إلى تولّي السلطة, وحسب ما عبّر عنه “أفلاطون” إن الإنسان لا يرتكب الشرّ إلا لكونه جاهلاً ولا يميز بينه وبين الخير, ونتيجة جهله يُساق إلى الرذيلة, لذلك طالب بتولّي العلماء والفلاسفة السلطة.

داومت معظم دول العالم على الصراع على السلطة, ما بين الأسَر الأرستقراطية و بقية الشعب وفق نظرية السلطة الإلهية, والمتتبع لتنقلات السلطة في عصرنا الراهن يجد أن بقايا تلك النظرية مازالت عائمة بين الدول, وإلا ما الدافع وراء الإبقاء على الملوك والأباطرة في سُدّة الحكم حتى يومنا هذا ـ وإن كانت سلطات رمزية ـ فللملك و فروع وأصول عائلته مخصصاتهم من الميزانية العامة للدولة, وتُعتبر ضريبة شرفٍ للملك على الشعب, ويُعتبر في بعض الأحيان مالكاً لكل ثروات الدولة, وما يقدّمه للشعب ليس إلا عبارة عن منحة أو عطاء مما يملكه, وكل الظنّ أن الملك  يختلف في شخصيته البشرية عن بقية الشعب الذي يحصل على قوته بعرق جبينه.

بعد الصراع القومي بين الشعوب وازدياد الظلم والاضطهاد وجباية الضرائب بإمرة الملك أو الإمبراطور, ظهرت بعض الشخصيات المناهضة للتفرّد بالسلطة, وأول من طالب في عهد الدولة الحديثة بالفصل ما بين هذه السلطات الثلاث الفقيه “مونتسكيو” في كتابه “روح القانون” بعد أن كانت السلطات الثلاث تتركز في يد الحاكم أو الملك.

وظهر في بداية القرن الواحد والعشرين اتجاه فقهي جديد يطالب بالتكامل بين السلطات الثلاث في الدولة بدل الفصل التام بينها, إذ أن الفصل التام بين السلطات الثلاث ينافي الواقع, فلابدّ لهذه السلطات أن تتعاون فيما بينها من أجل إنجاز المشاريع والقرارات بين إدارات الدولة.

ولا بدّ لنا من أن نفرّق ههنا بين الحكومة والسلطة, فالمعنى الضيّق للحكومة يشمل معنى السلطة التنفيذية, ولكن المعنى الواسع يشمل السلطة التنفيذية والحاكم؛ أي الرئيس.

فعندما نقول الحكومة الأمريكية نعني الرئيس الأمريكي بالإضافة للوزراء, وعندما نقول السلطة التنفيذية, نعني الوزراء فقط.

ـ السلطة التشريعية: وهي السلطة المختصة بوضع التشريعات القانونية و صياغتها وإقرارها.

ـ السلطة التنفيذية: وهي السلطة المسؤولة عن تنفيذ القوانين و القرارات الصادرة عن الإدارات في الدولة.

ـ السلطة القضائية: هي السلطة المسؤولة عن تطبيق القوانين على الجرائم والمخالفات المرتكبة.

و تختلف طرق تنفيذ المهام الموكلة لهذه السلطات حسب نوع النظام المتّبع في الدولة, ففي النظام الرئاسي طرق تنفيذ مهامها تختلف عما هو عليه في النظام البرلماني.

وصفوة القول: تُعتبر السلطة الركن الأساسي للدولة, وهذه السلطة غالباً ما يتم الاستيلاء عليها وإن كان ذلك عن طريق الانتخابات, ولكن تبقى الحقيقة متخفية خلف تلك الانتخابات, وخاصة في ظل الدول التي تقودها الأحزاب السياسية التي تدعو إلى الأمة الحزبية, بدل الأمة الديمقراطية التي يتمحور  ولاؤها للوطن الذي يتمثل بالشعب, بدل الولاء للحزب أوالقومية أوالطائفية أوالسلطة.

المراجع

1 ـ سحر الأسطورة ـ د. طالب عمران ـ منشورات وزارة الثقافة السورية 1991

2 ـ حضارة الفرات الأوسط “البليخ”ـ محمد العزوـ 2009 ـ دار الينابيع

3 ـ ما الديمقراطية ـ آلان تورن ـ ترجمة عبود كاسوحة ـ منشورات وزارة الثقافة السورية, دراسات فلسفية,75

4 ـ من الوعي الأسطوري ـ د. عبد الباسط سيدا ـ دار الحصاد ـ دمشق 1995

5 ـ موسوعة تاريخ الأديان ـ فراس السواح ـ سوريا. دار علاء الدين ـ 2007

6 ـ الديمقراطيات ـ أوليفيا دوهاميل ـ ترجمة علي باشا ـ وزارة الثقافة السورية 1988.

7 ـ الوجيز في الأنظمة السياسية والدستورية ـ د. فؤاد النادى ـ 1999

8 ـ القانون الدولي العام ـ د. محمد مجذوب ـ بيروت ـ  منشورات  الحلبي الحقوقية 2004

9 ـ النظم السياسية ـ د. عبد الغني بسيوني عبد الله ـ الدار الجامعية ـ المكتبة القانونية 1984

10ـ مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية ـ د. سام سليمان دلة ـ مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية 2002

11ـ تاريخ القانون المصري ـ د. محمود سلام زناتي ـ 1980

12 ـ نظام الحكم في مصر الفرعونية ـ د. محمد صادق إسماعيل  ـ  2010.

13 ـ ول ديورانت ـ قصة الحضارة ـ روسو والثورة ـ المجلد ـ 42 ـ ترجمة فؤاد أندراوس ـ مصر ـ  مكتبة الأسرة 2001

14 ـ جمهورية أفلاطون ـ نقلها إلى العربية, حنا خباز ـ سوريا ـ دار اسامة ـ 1999

15 ـ تعاليم بوذا ـ بوكيو ديندو كيوكا ـ ترجمة رعد عبد الجليل جواد ـ سوريا, دار الحوار ـ  2003

 

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى