أبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتمحمد العزوملف العدد 64

الهجرات السكانية إلى “الرقة” بعد الغزو المغولي

محمد عبد الله العزو

محمد عبد الله العزو

محمد العزو
محمد العزو

في عام /1259/ علم أهل “الرقة” أن القوات المغولية تتجه إلى “الرقة” قادمة من “بغداد”, فدبّ الذعر بين السكان, وفي اليوم الثاني كانت “الرقة” خالية من السكان إذ هجرها أهلها وهاجروا إلى مدن غرب “سوريا”، والسؤال هل حقيقةً أنَّ “الرقة” بعد غزو المغول لها، وتدميرهم ثقافتها الحضارية وبنيتها الداخلية، بقيت قروناً طويلة أرضاً خراباً، سكنتها الغربان، وعافها البشر؟ وهل صحيح أنها لم تكن حتى الماضي القريب مأهولة بالسكان؟ سؤالان أثارا الكثير من الجدل بين أوساط الباحثين في تاريخ “الرقة”.

في حدود عام /1321/ م الموافق /731 /هـ، زار أبو الفداء “الرقة”، وقد ذكرها في تقويمه حيث يقول: “الرقة في زماننا مدينة خراب ليس فيها أنيس”، وبعد أكثر من قرنين وربع من زيارة “أبي الفداء” لمدينة “الرقة” لم نعرف عن أخبارها شيئاً يذكر، حتى جاء عام /1574/م حين زارها الطبيب “ليونهارت وولف”، حيث يَذكرُ في تقرير له وصفاً لقصر في المدينة و/1200/ جندي من جنود السلطان التركي وباحتمال كبير أنه “قصر البنات”، وكانت المباني والأسوار بحالة يرثى لها، يبدو أنَّه بعد التدمير الذي لحق بالمدينة إثر الغزو المغولي لها, قد بُنيت بعض مبانيها، وأنه حدث استيطان جديد ربما وقع مع إنشاء المراكز التركية، وكنقطة ومحطة هامة لطرق الاتصال بين “سوريا” و”العراق” ولم تكن حينها ذات أهمية تذكر، وحسب رأي الرحالة “ليونهارت” فإنَّ التجار فضّلوا أن يستعملوا الطرق التجارية ذات المسار الشمالي، المارة بالبيرة “براجيك” حيث تجتاز الفرات وتتابع طريقها إلى /أورفا/ (أديسا).

وفي عام/1650/م قام الرحالة التركي “أولياء جلبي” بزيارة إلى “الرقة”، وقد أكد في كتابه “سياحة ناما” أنَّ “الرقة” كان فيها سكان ثابتون، ويذكر أيضاً أنَّ “التركمان” قد دمروا المدينة وعلى أثرها أصبحت “الرقة” تابعة لأورفا (أديسا)، وحسب النظرية الشعاعية التي يقول بها علماء الآثار والتاريخ، فإنَّ “الرقة” كانت مكاناً للِّقاء الشتوي للعرب والتركمان، بينما هي في شهر تموز خالية على الإطلاق من السكان، وكانت “الرقة” في تلك الفترة وحتى في الفترات اللاحقة مكاناً قصياً, لذلك نجد أنَّ الرحالة الأوربيين المتأخرين، الذين كانوا يأتون عبر “براجيك” و”أورفا” والمنطقة، لم يذكروا “الرقة” رغم وجودها، ومن جهة أخرى نجد أنَّ بعض الرحالة الذين زاروا المنطقة في القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين، قد رسموا “الرقة” على خرائطهم، مثل الرحالة “ريتشارد بوكوك” و”ج.م كيناير”، وهذا يعني أنَّ المدينة مازالت حية رغم خلوّها من السكان. إنَّ الانقلاب الجديد في حياة مدينة “الرقة” قد حدث في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حيث بدأ الاستيطان الجديد لمجمل وادي الفرات والجزيرة السورية “الجزيرة الفراتية”، إذ كانت البداية متواضعة ومع مرور الزمن تكونت مجموعة من المدن من بينها “الرقة” إنّ هذه القبائل تعود في أصلها ونسبها إلى الأرومة العربية الأصيلة, وأن كل القبائل العربية منذ الألف الثالث ق.م، هي في حالة حركة دائرية مستمرة, بعضها تحضَّر واستقر في القرى وفي الحواضر, وبعضها الآخر استمر في حركته الدورانية. إن تدوين تاريخ أي قبيلة أو أي عشيرة أو أي مكوّن آخر، يتطلب منا امتلاك وثيقة علمية، نعتمد عليها في صحة ما نقوله, لذلك فالحديث عن قدوم الهجرة السكانية الأولى إلى أرض “الرقة” القادمة من “العراق” مثل قبيلة “الأبي شعبان” والقبائل الأخرى مثل قبيلة “البو جابر”، وقبيلة “المعامرة”، والعشائر الدليمية، وغيرها إلى”سوريا” بشكل عام و”الرقة” بشكل خاص، يتطلب أن يكون بين أيدينا مثل هذه الوثائق، ورغم كل الصعوبات التي تصادفنا, فإننا نستطيع إلقاء الضوء على مثل هذه الهجرات, ولكن بحذرٍ شديد، وخلافاً لكل ما قيل حول هجرة هذه القبائل, ومن أنها هاجرت إلى أرض “الرافدين” في نهاية القرن الثاني الهجري, فإننا نقول, مع المعذرة الشديدة: إنّ قبائل “الأبي شعبان” والقبائل والعشائر الأخرى كانت متواجدة في أرض “العراق” و”سوريا” منذ أكثر من ألف سنة أو أكثر، قبل القرن الثاني الهجري. أما الهجرة الثانية فقد حدثت في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، عندما قدمت موجة كبيرة من قبائل “عنزة” (الفدعان) من الجزيرة العربية، هرباً من الجدب والقحط، الذي حلَّ بأرض “نجد” و”الحجاز”، وقد استقرت هذه القبائل على النحو التالي: “ضنا الوِلِدْ” إلى الغرب من نهر البليخ, بين “مسكنة” وتل “أبي هريرة” ومخفر “الحمام”، في حين أنَّ “ضنا ماجد” استقروا في الشرقي، أي شرقي نهر البليخ, وكانوا في الشتاء يعبرون نهر الفرات إلى الجهة الشامية “النجعة”, علماً أن قبيلة عنزة كانت متواجدة في شمال “سوريا” منذ القرن الرابع قبل الميلاد. أما الهجرة الثالثة إلى مدينة “الرقة” فكانت في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي, أي بعد عام /1850/م، وكانت أوائل المجموعات المهاجرة، عبارة عن مجموعة من الأفراد وليست على شكل عشائر, استقرت حول المخفر التركي الذي أقيم في حدود عام /1860/م لمراقبة عبور النهر وحفظ الأمن في المنطقة، وهكذا نجد أنَّ تأسيس المخفر قد لعب دوراً أساسياً في جذب المهاجرين وتثبيت المسكن في “الرقة”, وأنَّ أغلب المهاجرين الجدد قدموا من “أورفا” و”الموصل” و”العشارة” و”ديار بكر” الذين شكلوا النواة الأولى للمدينة الناشئة أي أغلب هؤلاء هم من سكان الحدود. الرحالة “الليدي آن بلنت” مرت بالرقة عام /1878/م وأكدت في كتابها “قبائل بدو الفرات” ترجمة “أسعد الفارس” أنها لم ترَ سكاناً داخل الأسوار الأثرية وربما هي محقّة في ذلك كونها مرت في المدينة أثناء فترة الصيف، والسكان في هذه الفترة هم خارج المدينة بعضهم يمارسون زراعة الخضار على ضفة الفرات اليسرى بعد انحسار ماء النهر نحو الجنوب، وكانوا يسكنون في بيوت مبنية من القصب والزلّ ونبات السوس تسمى “سيباط” أو “عريشة”, والبعض الآخر من السكان يكونون قد رحلوا مع ماشيتهم إلى مناطق الشمال أو الجنوب، وراء مساقط الغيث والكلأ وفي نهاية فصل الصيف يعودون إلى المدينة.

الرحالة “زاخاو” زار “الرقة” عام /1879/م حيث أشار في كتابه (رحلة إلى سوريا وبلاد الرافدين) أنه كان هناك مجموعة من السكان يقطنون في دور سكنية مشيّدة من مادة اللبن في الزاوية الجنوبية الغربية من المدينة القديمة، وأن عددهم يقارب مئة شخص ويقول: “أعتقد أنَّ التجار هاجروا إليها من مدينة “حلب”. أما انطباع عالم الآثار “أرنست هرتسفلد” الذي زار “الرقة” في عام /1907/م فقد أكد بأنها (مدينة حديثة جداً)، وأنها كانت تضم مركز بريد وبرق, وأن سكان المدينة كانوا يعيشون من التجارة مع العرب المحيطين بالمدينة من صناعة قصب السكر ومن حفريات اللقى الأثرية، وبعد خمس سنوات من زيارة “هرتسفيلد” للرقة، وفي شهر أيار من عام /1912/م قدم إلى “الرقة” الرحالة التشيكي “لويس موزيل”، وقد أكد أنه وجد فيها سكاناً عددهم /300/عائلة, ولكن هذا الرقم قد يكون نتيجة لتقديرات غير مؤكدة والسبب في ذلك عدم وجود استقرار سكاني في المدينة في تلك الفترة الزمنية ليشكل مساحة أفقية واسعة, والمهاجرون الجدد عبارة عن مجموعة من الأفراد وليس عائلات وليست على شكل عشائر, استقرت حول المخفر التركي الذي أقيم في حدود عام /1860/م لمراقبة عبور النهر وحفظ الأمن في المنطقة، وأطلق عليهم فيما بعد العشائر القولية نسبة للمخفر العثماني القراقول, ولم نسمع بهذه التسمية داخل الدولة العثمانية على الإطلاق، كما أن الوثائق العثمانية لم تشر إلى هذه التسمية. إلا أن الآثاري “أبو فرج العش” أشار إلى العشائر “القولية” في “الرقة” عام/1917/م وقال عنهم أنهم من سكان الحدود. مرة ثانية نجد أنَّ تأسيس المخفر قد لعب دوراً أساسياً في استقرار السكان الأوائل الذين شكلوا النواة الأولى للمدينة الناشئة. وبعد عام/1915 م هاجرت مجموعات جديدة إلى الرقة منها عشائر عربية مختلفة ومكوّنات غير عربية مثل الهجرة الكردية إلى الرقة، والهجرات الأرمنية، والسريانية، والأرمنية والشركسية، والشيشانية, وجميعها وضعت لبِنات جديدة في بناء مدينة الرقة الناشئة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى