أبحاث ودراساتاسماعيل خالد اسماعيلافتتاحية العددمانشيتملف العدد 63

القوى المفترسة (دولة الاحتلال التركي نموذجاً) الحرب الأهلية السورية ما بين القانون الدولي والاحتلال 

إسماعيل خالد

إسماعيل خالد

اسماعيل خالد اسماعيل
اسماعيل خالد اسماعيل

تعتبر منطقة الشرق الأوسط من أكثر البؤر توتراً على الخارطة العالمية، إذ تعتبر مصدراً أساسياً لتصدير اللاجئين إلى دول العالم، ففي سوريا وحدها، وحسب المراكز البحثية والأرقام الصادرة عن المنظمات الدولية المهتمة, فقد أرغِم أكثر من (11) مليون شخص على النزوح  بشكل قسري من قراهم ومدنهم إلى مناطق داخلية أخرى، أو عبروا الحدود الدولية وانتشروا في دول متعددة, وقسم كبير من هؤلاء تعرضوا بشكل وآخر إلى عمليات تهجير كما حصلت في المناطق السورية التي تم احتلالها من قبل تركيا خلال أعوام 2016 وحتى 2019 م .

والهجرة القسرية للسكان لم تساهم في التغيرات الديمغرافية في المناطق التي تركوها فحسب، بل ساهمت وبدرجة كبيرة في تغيرات اجتماعية كبيرة في دول اللجوء، في لبنان على سبيل المثال، تسبب وصول أكثر من مليون لاجئ سوري في إثارة المخاوف من إمكانية اختلال التوازن الطائفي في البلاد، وهو الأمر الذي سبّب إرباكات للنظام السياسي في لبنان, حيث ساهمت هذه الاختلالات الديموغرافية الضخمة في تغيير الهوية الاجتماعية والسياسية للمنطقة على نحو لا رجعة فيه.

والحق أن الأطراف المتحاربة في مختلف أنحاء المنطقة قد تبنّت الطائفية كوسيلة للتحشيد، الأمر الذي زاد من استقطاب السكان على أسس دينية وعرقية، حيث استغلت كل من تركيا وإيران وروسيا الانقسامات الداخلية في سوريا حول مظالم سياسية واقتصادية واجتماعية تاريخية، لتساهم في دعم فصائل مسلحة قامت على تدريبها لتقوم بتنفيذ سياساتها في سوريا، والمتمثلة بتحقيق طموحات العثمانية الجديدة في استعادة الأراضي التي خسرتها بعد توقيع اتفاقية لوزان 2 عام 1923م وتطبيق ما يسمى بالميثاق الملّي.

يمكن صياغة مشكلة هذا البحث في التساؤل الرئيسي الآتي:

إلى أي مدى أثّر التدخّل التركي في شمال وشرق سوريا على أمن واستقرار السكان وعدم حدوث تغيرات ديموغرافية؟

وهناك بعض التساؤلات الفرعية الآتية:

١ – ما الأهمية الاستراتيجية للشمال السوري من منظور الحكومات التركية المتعاقبة؟

2 – ما أهداف ودواعي ومظاهر ومخاطر التدخّل التركي في الشمال السوري؟

3 – ما مستقبل هذه التدخّلات التركية في مناطق شمال وشرق سوريا في ضوء التطورات السياسية والتغيرات الدولية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط ؟

هناك دراسة سابقة قام بها جنكيز تشاندار (2012م) بعنوان: السياسة التركية “صفر مشاكل مع الجوار” ولا جوار من دون مشاكل, حيث أوضحت الدراسة  أن سياسة صفر المشاكل قد انكشف زيفها بعد الأحداث في سوريا، وقد قام الباحث بالتلميح إلى دور منظمة الأخوان المسلمين في المنطقة,  وتطرّق في دراسته إلى التدخل التركي في الشأن السوري الداخلي، واصفًا الوضع في سوريا بأنه غير مطمئن لتركيا، ويمكن لهذا الوضع أن يؤثر في الأمن القومي التركي.

المقومات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط والتغيرات الدولية الكبرى، وظهور القوى المفترسة

لا شك من أن وجود المقومات الجيوسياسية لدول منطقة الشرق الأوسط من ثروات طبيعية ومصادر طاقة وممرات مائية مهمة, قد أثر تأثيراً كبيراً على مواقع تلك الدول وجعلتها في صلب اهتمام واستراتيجيات قوى الهيمنة العالمية الكبرى, والتي دأبت باستمرار على استخدام تعدياتها وتناقضاتها القومية والأثنية، لتشكيل البيئة النموذجية لتدخلاتها في الدول كما حصل في سوريا، حيث  أثبتت تجارب العقدين المنصرمين من جهة أخرى أن تهميش منطقة الشرق الأوسط, وانتقال الاهتمام الأمريكي إلى شرق آسيا لملاقاة الصين كقوة اقتصادية صاعدة، لم يحل دون وصول بكين وموسكو وتركيا وإيران إلى المنطقة, وصياغة التفاهمات وفرض السياسات  مع أصحاب القرار فيها.

لعل من أكثر المصطلحات والمفاهيم الجوهرية التي طرحها “أنطونيو غرامشي” هو مصطلح /interregnum/  والمقصود به التغيرات التي تصيب الأنظمة القائمة لتصعد بدلاً عنها قوى أخرى مهيمنة, وهذه باختصار الفكرة التي أراد أنطونيو غرامشي إيصالها إلى العالم بدلاً من استخدام مصطلحات الهيمنة والاحتلال وصراع الدول فيما بينها, وكذلك نظريات المؤامرة والتي انصبت في مجملها على مفهوم الفجوة المعرفية، أي البحث عن تفسيرات سهلة لظاهرات معقدة متل التغيرات في النظام الكوني والنظام العالمي, وكذلك تفسيرات حدوث الأزمات الاقتصادية وغيرها.

لقد أصاب غرامشي في تحليله لتغير المجتمعات حين قال: “تتجلى الأزمة تحديدا في أن القديم آيل إلى الزوال، بينما لا يستطيع الجديد أن يولد، وفي فترة التريث هذه، يبرز عدد كبير من الأعراض المرضية”.

فإن كانت التغيرات في الأنظمة العالمية وفق حركة لا تنتمي إلى تاريخ ثابت وسياسة ثابتة وفلسفة ثابتة سواء على صعيد السياسي، والاجتماعي، والإيديولوجي، فالأمـــر جعل تلك التغييرات المنوهة والمختلفة في دائرة حددها الخطاب السياسي والجيوسياسي.

إن هنــاك علاقـة جدلية و ثالوث متمثل في الفلســفة، والسياسة، والتاريخ، حیــث یعتبــر غرامشــي الفلســفة البعيدة والمنعزلة عن الواقع وأحداثه وصراعاته، ولا توثقه ولا تعيشه، هي فلسفة لا تاريخية، بمعنـى أنهـا لا تتعامـل مـع وقائع تاريخية متغيرة، لأنها ساكنة, فغرامشي  لا ینظــر إلــى الواقع بعین واحدة، ولا یبحث فـي جانـب علـى حسـاب الجانـب الآخـر, إنه یتعامل مــع الواقــع المتنوع والمتعــدد والمتغیــر، والمحكــوم بــأكثر مــن ســلطة، ابتــداء بالسـلطة التقليدية بمؤسسـاتها المتعــددة إلـى الســلطة السیاســیة، ناهیــك عــن الســلطة الشــعبویة المتمثلـة بالخطـاب الـدیني الرمـزي، أو الشـعبي.

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، أسست الولايات المتحدة نظاماً عالمياً هيمنت من خلاله لسنوات على مصادر القرارات السياسية الدولية وموازين القوى كذلك, كان هيكله الأساسي مشابهاً لبريطانيا العظمى في منتصف القرن التاسع عشر، ولكن مع المؤسسات والمذاهب التي تتكيف مع اقتصاد عالمي أكثر تعقيدًا, ومع المجتمعات الوطنية الأكثر حساسية للتداعيات السياسية للأزمات الاقتصادية.

لقد تبلور النظام العالمي الأحادي القطب بعد عام 1965, فقد بات من الواضح أن النظام العالمي أصبح قائماً على أساس لم يعد يعمل بشكل صحيح، فخلال السنوات التي تلت ذلك، ظهرت أربع ظواهر للتحول الهيكلي للنظام العالمي:

– ظهور مصطلح القوى المفترسة المتمثلة في الدول الإقليمية التي تنصاع للنظام العالمي الجديد، ولا تتسبّب لها بتغيرات كبيرة.

– إعادة بناء الهيمنة مع توسيع سياسات الإدارة الأمريكية.

– تفكك أكبر للاقتصاد العالمي حول المجالات الاقتصادية المتمركزة في القوى العظمى.

– نشوء القوى المضادة التي قام بها العالم الثالث، والتي كانت بمثابة مقدمة للمطلب المشترك لنظام اقتصادي دولي جديد.

دور قوى الهيمنة العالمية والدول المفترسة، والآليات التي تتبع لها

إن إحدى الآليات التي يتم من خلالها التعبير عن المعايير العالمية للهيمنة العالمية, تتجسد في السياسات التي تعمل عليها القوى المفترسة عبر المنظمات الدولية,  ففي الواقع تعمل تلك المنظمات الدولية كعملية تتطور من خلالها مؤسسات الهيمنة وأيديولوجيتها، ومن بين الخصائص التي تظهر الدور المهيمن للمنظمات الدولية يمكننا ذكر ما يلي:

  1. تحتوي هذه المنظمات على القواعد التي تسهّل توسع النظام العالمي المهيمن على كافة المجالات والأصعدة.

2.هذه المنظمات هي نتاج للنظام العالمي وقوى الهيمنة العالمية.

  1. هذه المنظمات تشرّع أيديولوجيات وتغير ثقافات الشعوب, وتطبق قواعد النظام العالمي وقوى الهيمنة العالمية.
  2. تستغل هذه المنظمات نُخب البلدان وخبراتها ومواردها وإمكاناتها البشرية.
  3. تستوعب هذه المنظمات الأفكار المضادة لقوى الهيمنة العالمية وتعمل على صناعة أفكار تناسب قوى الهيمنة.
  4. تعمل على إجراء تغييرات جذرية للمجتمعات التي تعرضت للحروب عبر التغييرات الديموغرافية أو تغيير خرائط السيطرة على الجغرافيا.

تهتم الدول المهيمنة بضمان موافقة الدول الأخرى وفقًا للتسلسل الهرمي للسلطات داخل هيكل الهيمنة بين الدول, ويبدأ ذلك بإشراك بعض دول المنطقة أولاً حيث يتم تأكيد دعمها, ثم يجري السعي للحصول على موافقة من بعض البلدان الأكثر هامشية على الأقل. يمكن ترجيح المشاركة الرسمية لصالح القوى المهيمنة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمات حقوقية وقانونية وإنسانية مثل Human Rights Watch، أو يمكن أن تكون على أساس دولة / صوت واحد كما هو الحال في معظم المؤسسات الدولية الكبرى الأخرى.

هناك هيكل تأثير غير رسمي يعكس المستويات المختلفة للسلطة الحقيقية سياسياً واقتصادياً، وهو ما يشكل الأساس لإجراءات صنع القرارات الرسمية، كما تلعب المؤسسات الدولية دورًا أيديولوجيًا, فهي تساعد على تحديد المبادئ التوجيهية لسياسات الدولة وإضفاء الشرعية على بعض المؤسسات والممارسات على المستوى الشعبي. إنها تعكس توجهات مواتية للقوى الاجتماعية والاقتصادية المهيمنة.

تسعى تلك الدول المفترسة وعبر المنظمات الدولية إلى الاستحواذ على أعظم مواهب البلدان التي تعاني من اضطرابات وحروب وخلل في أنظمة حكمها، مذكّرةً بالممارسة السياسية للتحول. الأفراد في هذه البلدان حتى لو فكروا في الانضمام إلى المنظمات الدولية بفكرة تغيير النظام من الداخل، محكوم عليهم بالعمل ضمن هياكل الثورة السلبية, وفي أحسن الأحوال سوف يساعدون في نقل عناصر التحديث إلى الأطراف، ولكن فقط إذا كانت متوافقة مع مصالح السلطات المحلية القائمة.

الحرب الأهلية السورية و القانون الدولي

ظهرت هذه التسمية مراراً في الخطابات العامة لمسؤولي الأمم المتحدة Syrian civil war والتي ترمز إلى سنوات الأزمة السورية التي بدأت عام 2011 ومازالت تأثيراتها وتبعاتها تؤثر دون نهاية.

في الوقت الذي اتجهت فيه أنظار شعوب العالم  إلى  الأمم المتحدة لعلها تحدث تغييراً، كانت الأخيرة خجولة في مواقفها من هذه الانتهاكات الجسيمة طوال هذه السنوات، خجولة جداً أمام معاناة هذا الشعب, وهذا ما يؤكد فرضية أن الرعاة الرئيسيين للقرار والدول الكبرى لاتخاذ القرار يستخدمون مجلس حقوق الإنسان لدعم أجندتهم فحسب، ولحماية مصالح الدول العظمى.

بعد مضي أكثر من ثلاثة عشر عاماً على الحرب السورية والتي تخللتها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، نجد أن وضع الإنسان في سوريا وفق المعايير الدولية يعتبر في الحضيض، فوفقاً للعهدين الدوليين لحقوق الإنسان, تصنف هذه الحقوق في فئتين, هما الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وكل هذه الحقوق هي اليوم في سوريا في وضع متدهور بشكل جسيم, وماتزال تتدهور بشكل حادّ ومتسارع نتيجة استمرار الاحتلال التركي وانعدام سبل العيش في المناطق المحتلة من قبل دولة الاحتلال التركي.

الانتهاكات التركية بحق دول الجوار عموماً وسوريا في شمالها وشمال شرقها على وجه التحديد, تكاد لا تتوقف ولا تخلو من جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب, بدءاً من حرب المياه التي تمارسها على شعوب سوريا والعراق، وكذلك حرب المعابر والحصار والاستهدفات المستمرة بما في ذلك الهجمات الوحشية التي تستهدف المدنيين الآمنين في بيوتهم، وذلك باستخدام مُسيَّرات تخترق المجال الجوي السوري بالإضافة إلى القصف العشوائي على طول الشريط الحدودي الملاصق للمناطق السكنية,  فضلاً عن استهداف البُنَى التحتية والمنشآت الحيوية كمحطات النفط والغاز والمدارس والمستشفيات في عموم مدن وبلدات شمال وشرق سوريا, إضافةً لجرائم القتل العمد والإعدامات الميدانية, وكل تلك الانتهاكات تأتي بصورة ممنهجة ومدروسة هدفها الأساسي زرع حالة الخوف والتوتر والبلبلة, رغبة منها في إفراغ المنطقة من سكانها وتهجيرهم وإبعادهم عن موطنهم من أجل إقامة مشاريع استيطانية جديدة, والقيام بتغييرات ديموغرافية من أجل تغيير التركيبة والبنية السكانية وتغيير الحقائق وتشويه التاريخ, بالاعتماد على منظمات إخوانية تدعمها دول راعية للتطرف والإرهاب تحت مسميات جمعيات خيرية، وكل تلك الممارسات موثقة لدى المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية.

معايير القانون الدولي الإنساني والمناطق الآمنة

لقد حثت القوانين الدولية على حماية السكان وعدم التعرض للمدنيين، ففي اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية تنص المادة الثانية منها على: “تعني الإبادة الجماعية الأفعال التالية المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه تعتبر قتل أعضاء من الجماعة، إلحاق الأذى الجسدي أو الروحي بشكل خطير بأعضاء من الجماعة، إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً”. والمادة الثالثة منها تنص أنه يعاقب على الأفعال التالية: “الإبادة الجماعية، التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية والتحريض والمحاولة والاشتراك  في تلك الأعمال بطريقة أو بأخرى”.

وفي اتفاقية جنيف الرابعة تهدف القوانين إلى حماية المدنيين من الحرب, والبروتوكول المتمم الثاني لاتفاقية جنيف عن ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية, حيث تنص المادة الثالثة عشرة منها على حماية السكان المدنيين بحماية عامة، والمادة 14 حماية الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة, والمادة 15 حماية المنشآت الحيوية, والمادة 16 حماية الرموز والأعيان الثقافية وأماكن العبادة, والمادة 17 حظر التهجير والترحيل القسري للمدنيين.

وتم تعريف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في المادة 7 من قانون المحكمة الجنائية الدولية, حيث  يشكل أي فعل من الأفعال التالية جريمة ضد الإنسانية متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو بشكل ممنهج و موجّه ضد مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم: “القتل العمد, الإبادة, إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان, التعذيب, الاغتصاب, اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموعة محددة من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية”.

والبروتوكول (1) المادة (59-1) حظر الهجوم من قبل الأطراف المتصارعة على المناطق الآمنة.

الدور الإقليمي التركي في ضوء واقع النظام الإقليمي الشرق أوسطي

اهتمت السياسة الخارجية التركية بالدفاع عن القضايا العربية والإسلامية والتفاعل معها، خاصة في  سبيل الولوج والوصول إلى المنطقة عن طريق الحرص على قضاياها والاندماج بها، وقد أظهرت  تركيا اهتمامها بالقضايا الشائكة في المنطقة وأقحمت نفسها في خلافات وصراعات خارج  حدودها, رغبة منها في  ترسيخ مظهر القوة التي تعتمد على عمق وجودها الاستراتيجي في المنطقة, فتدخلت إلى جانب الجيش الأذري  خلال الخلاف الأرميني الأذربيجاني, وكذلك أرسلت قوات من المرتزقة التابعة لها إلى مناطق أخرى مثل ليبيا وقطر والسودان، وأيضاً تدخلت في القضية الفلسطينية حيث كرّست نفسها للدفاع عنها في المحافل الدولية كافة، ويعد هذا الاهتمام أحد ركائز دور تركيا في منطقة الشرق الأوسط، كما وحرصت تركيا على التحالف الاستراتيجي مع إيران، وتؤكد على حقّ إيران بامتلاك الأسلحة النووية، كما تجري مباحثات مع دول الاتحاد الأوروبي بصفتها عضواً في الاتحاد، كما تجتمع مع الدول العربية في القمم التي تعقدها من جهة، وتشارك في اجتماعات وزراء الدول العربية التي تُدعى إليها من جهة أخرى.

ترى تركيا من خلال نظريتها حول النظام الشرق أوسطي, أن حرب الخليج الثالثة التي اندلعت عام (2003م)، جاءت بعد متغيرات أمنية وسياسية واستراتيجية، دعت إلى إعادة تشكيل المنطقة على  نحو جديد، خاصة وأن الأنظمة العربية بدأت في الضعف والتآكل، وقد جاء دخول تركيا كطرف فاعل ومؤثر في الجغرافيا السياسية والأمنية للمنطقة، وبأساليب تقوم على استغلال المصالح، والرهان على توازناتها بين القوى المهيمنة في المنطقة مثل روسيا والولايات المتحدة, وينطلق التصور التركي من خلال إدخال دول الجوار الجغرافي (تركيا وإيران وإسرائيل) في إطار النظام الإقليمي الجديد، وهو ما جعل تركيا تتدخل في شؤون المنطقة العربية خاصة والشرق الأوسط على وجه العموم.

استطاعت تركيا استغلال الوضع المتردي للأنظمة  العربية، والتدهور الذي حصل في العلاقات بين أطرافها، مما جعلها تتوغّل إلى العالم العربي وتتفاعل مع مكوناته، وذلك من خلال رؤيتها  الخاصة للحفاظ على مصالحها و أمنها القومي، وخاصة أن علاقاتها مع بعض دول الإقليم قد تدهورت نتيجة  تباين وجهات نظر تلك الدول على الأحداث الدموية في سوريا، مما أوصل العلاقات بين تركيا وهذه الدول إلى التراجع الواضح، وقد بدا ذلك واضحاً مع إيران والعراق ومصر، وعليه استطاعت تركيا فهم الواقع العربي، واستغلال حالة الضعف والتردي، الذي يعاني منها النظام العربي، وبناء على  ذلك أقامت تركيا علاقاتها مع هذا النظام وفق مبادئ سياستها الخارجية واستراتيجيتها، على أساس  عوامل الضعف العربي المتراكم، ولم تجد تركيا صعوبة في الولوج إلى هذا النظام والتوغل فيه والتفاعل مع مكوناته, مما جعلها تجد موطئ قدم لها فيه.

كما تسببت تركيا بإحراج النظام الإقليمي العربي في أكثر من مرة، وكان للتهديدات التي أطلقتها  أنقرة تجاه النظام السوري فيما يتعلق بالقضية الكردية أثرها في كشف تركيا لترهّل النظام العربي، وذلك في الفترة التي سبقت التقاء المصالح التركية العربية، خاصة بعد نشوب الأزمة السورية، حيث اتفق الأتراك والجامعة العربية على احتضان المعارضة السورية في مؤتمرات على  الأراضي التركية تارةً، وفي مقر الجامعة الرئيس تارةً أخرى، ومن ناحية أخرى دعمت تركيا  توقيع وفرض عقوبات على النظام السوري من الجامعة العربية، وهو ما جعل تركيا أحد أركان  النظام العربي، كما أصبحت تركيا أحد أعمدة المؤتمرات العربية التي تُعقد بشأن سوريا أو غيرها داخل الجامعة العربية.

السياسات التركية في المناطق السورية المحتلة

إن التركيبة السياسية للعقلية التركية وحكوماتها المتعاقبة هي تحقيق الهدف ذاته, أي إعادة أمجاد  إمبراطورية تركية كبرى تمتد من الأناضول إلى آسيا الوسطى وأجزاء من روسيا, مروراً بكردستان وأرمينيا وشمالي سوريا والعراق والقوقاز، إضافة إلى مد نفوذها إلى كافة أرجاء العالم الإسلامي والعربي الشرق أوسطي، وذلك عبر التدخل في شؤون الدول الأخرى وتصدير الأزمات,  وهي لا توفر أي أسلوب أو طريقة لتحقيق تلك الأهداف وذلك عن طريق حرب  المياه التي تعتبرها  وسيلة للسيطرة وابتزاز الشعوب, وأيضاً من خلال السيطرة على مقدرات الشعوب وأساليب الحرب الخاصة، وإجبار الدول على التنازل والسيطرة و تحقيق مطالب الدولة التركية.

تبرز مظاهر سيطرة تلك القوى المفترسة المتمثلة بدول الاحتلال التركي, في ظهور العنف والإرهاب والتطرف في مناطق سيطرتها، وكذلك انتشار الأسلحة والفلتان والفوضى والميليشيات والفصائل التي تتخذ الطابع الارتزاقي، والتسارع الكبير في التسلح  مقترناً بحالات يلوح فيها استخدام العنف الجمعي، حيث تعتبر مشكلة العنف واحدة من أصعب القضايا التي تواجه العالم، وليست المشكلة مجرد تراكم العتاد العسكري فحسب، بل تفاقم التوترات المحلية في عدد من المناطق, والمقترنة في الغالب بانقسامات عرقية ودينية ومذهبية وبروز ظاهرة الإرهاب العالمي العابر للقارات, وتنامي الأصولية الدينية, التي تترافق مع انتشار وتوسع خطاب العنف والكراهية الذي لا يميز بين هدف عسكري ومدني, ومع أن مهاجمة هدف عسكري قد ينتج عنها خسارة مادية آنية، إلا أن الخسارة والشق المجتمعي الناتجين عن تأثيرات خطاب الكراهية عادة ما يستمران لأجيال, وقد تنتج عنهما نزاعات لا تتوقف لعقود قادمة.

تتغذّى مشاعر الكراهية لدى الأفراد أو الجماعات باستغلال الجانب الغرائزي والانتماءات الضيّقة والهويّات المغلقة من قبل القوى المفترسة، التي تقوم على التعصّب بادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة تحت مسوّغات دينية أو عرقية (إثنية) أو طائفية أو مذهبية أو أيديولوجية أو عشائرية أو غير ذلك، وهذه بدورها تنمّي الشكوك وتزرع الأحقاد بين الناس، لأنها تقوم على ادعاءات التفوّق، فيصبح “الآخر” خصمًا أو عدوًّا “وكلّ غريب مريب”، وبالتالي فهو لا يستحقّ ذات المكانة التي ينتمي إليها الفرد أو المجموعة.

والتعصّب يتضمّن الرغبة في الإقصاء والإلغاء والتهميش، والحطّ من قدر الآخر، وذلك قبل أن يتحوّل إلى فعل أو سلوك، إلّا أنه يصبح خطرًا حين ينتقل من التفكير إلى التنفيذ فيتحوّل إلى تطرّف.

والتطرّف يقترن بفرض الرأي بالقوّة بزعم امتلاك الحق، فيسوق حججًا ومبررات لذلك، وهكذا لا يتورّع المتطرّف عن اللجوء إلى العنف لفرض رأيه. والعنف هو نتاج استيلاء التعصب والتطرّف على عقل الإنسان، وتبرير ما يقوم به حتى ولو ارتكب مجازر، فلا ضير في ذلك, لأن الحقيقة ستكون إلى جانبه مدّعيًا أن غايته شريفة، بغضّ النظر عن الوسيلة التي يستخدمها للوصول إلى غايته. وبالطبع لا تعصم المبادئ الدينية أو القومية أو الأيديولوجية من ارتكاب المعاصي والآثام تحت الحجج ذاتها.

إن ثقافة الكراهية، هي نتاج فكر استعلائي متعصّب يدّعي احتكار الحق والحقيقة، بعضها يقوم على أوهام التفوّق التي يتم ضخّها بأساليب مختلفة من خلال مناهج التعليم والإعلام والخطاب الديني بالضدّ من الآخر، سواء بالممارسة العملية أو من خلال قوانين تمييزية تتعارض مع ثقافة السلام والتسامح والتنوّع والتعددية.

مع تصاعد الأزمة السورية، وامتداد تأثيرها على الأمن القومي التركي على حسب زعم الأتراك، بدأت الدولة التركية بمرحلة التهديد, وتدرّج ذلك حتى وصل إلى مرحلة التدخل العسكري داخل الأراضي السورية، وهو ما تمثّل في عدة عمليات عسكرية قامت من خلالها بمحاولة  احتلال لمناطق واسعة من الجغرافيا السورية، هذا التدخل  يتناقض  تماماً مع  القوانين والأعراف الدولية كافّة والتي تجرّم استباحة سيادة أي دولة من قبل دولة أخرى.

هدفت دولة الاحتلال التركي  من خلال تدخلها إلى تحقيق عدة أهداف، منها تخفيف العبء عن الضغوطات الداخلية السياسية ومنها الأسباب الاقتصادية, وأيضاً رسم وترسيخ حالة جديدة من الوجود التركي على الأراضي السورية بهدف دعم الفصائل المسلحة التي تدعمها, وأيضاً استعادة أمجاد الدولة العثمانية وتطبيق الميثاق الملّي.

مع تطور الأزمة السورية وزيادة عدد اللاجئين السوريين الذين تدفقوا إلى تركيا من ناحية، وعلى  الدول الأوروبية من ناحية أخرى، أصبح ذلك إحدى دعائم تركيا كورقة ابتزاز للمجتمع الدولي وللاتحاد الأوروبي  وحلف الناتو بصفة خاصة، وذلك لإقناعهم بشرعنتها للاحتلال بحجة أمنها القومي، فضلًا عن ذلك كان الاتفاق التركي مع بعض الدول العربية  في أحيان عديدة, يدفعها للتدخّل بشكل أو بآخر في الأزمة السورية.

كما استمر التدخل التركي في سوريا مع وصول التهديدات إلى أقصى درجة، حين دخلت القوات  التركية بمساندة “مرتزقة الجيش السوري الحر” إلى منطقة عفرين السورية والسيطرة عليها في  منتصف شهر آذار/مارس 2018م، وذلك بعد خوضها عملية  سميت بغصن الزيتون في  شهر كانون الثاني/يناير 2018م.

سعت تركيا من خلال هذه العملية إلى توسيع نفوذها، والحفاظ على مصالحها المختلفة في سوريا، والمساهمة في تأجيج الصراع، وتعزيز  فرص حضورها في ساحة الصراع الدولي.

لقد أسهمت التدخّلات التركية في الحرب الأهلية  السورية، وما نتج عنها من زعزعة للأمن القومي السوري في  زيادة مساحة الفوضى والحرب الأهلية في سوريا، كما تحولت المناطق التي احتلتها إلى بؤر تُدار فيها عمليات ممنهجة في القتل والإبادة والتغيير الديموغرافي وجرائم ضد الإنسانية  ومخاطر عديدة.

والخلاصة أن مؤشراً خطيراً يوضح مدى التدخل العسكري التركي في استباحة الأراضي السورية، كما يتضح من خلال تلك الاحتلالات التي  تهدف إلى استباحة سيادة دولة ليس من شأنها أن تهدد أمن جارتها القومي.

خلاصة :

أكد المفكر الأممي عبد الله أوجلان على أن الخليط الطبقي الهجين المؤلف من البرجوازية التركية والبيروقراطية المسمى بـ (أصحاب التركياتية البيضاء) والذي لا يخفى على أحد أنها تمثل الدولة العميقة التي تدير الدولة التركية وتتحكم بها وتوجهها، وترسم سياساتها, حيث تبنّى هؤلاء ومايزالون مشاريع إقصاء العناصر الديمقراطية والإبقاء على المؤامرات حيال الشعوب في المنطقة، حيث لم تغب المجازر إلى يومنا هذا, وتجسدت نماذج وحشية هذه الاستفزازات عبر الحرب الخاصة وحرب المياه والتجويع والحصار وضرب البنية التحية الخدمية وعبر الاستهدافات وغيرها.

إن سياسة دولة الاحتلال التركي جعلتها بعيدة عن هذا الدور الإنساني المتمثل في حماية السكان وتطبيق القانون الدولي الإنساني، عبر استغلالها أحداث سوريا لتمرير مشاريعها التوسعية, مما جعلها تتعامل مع الأزمة السورية كأنها داخل تركيا ذاتها، أما الهدف الآخر فتمثل  في رغبة الأتراك  في العودة للعب دور أساسي في منطقة الشرق الأوسط،  خاصة في ظل تغير أقطاب النظام الدولي، والذي يستدعي منها إعادة صياغة دورها الإقليمي من  جديد، كما من أهداف تركيا الاندماج في الاتحاد الأوروبي من خلال لعبها هذا الدور، وذلك  بتكوين عوامل ضاغطة تستطيع من خلالها الولوج إلى أوروبا عن طريق الأزمة السورية.

المراجع :

  1. روبرت كوكس ،غرامشي الهيمنة والعلاقات الدولية، مجلة الدراسات الدولية، بغداد 1983م
  2. ريتشارد أتش روبنز ، المشاكل العالمية وثقافة الرأسمالية، ترجمة فؤاد سروجي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان الأردن 2008م.
  3. عدنان صافي، الجغرافيا السياسية بين الماضي والحاضر، عمان: مركز الكتاب الأكاديمي للنشر والتوزيع، 1999م
  4. جنكيز تشاندار، السياسة التركية، صفر مشاكل مع الجوار، مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 93، 2012 م
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى