أبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتملف العدد 62

 الأمم المتحدة ودورها في تدمير الشعوب وترسيخ ثقافة هيمنة الدول

أسامة خليل أحمد

 الأمم المتحدة ودورها في تدمير الشعوب وترسيخ ثقافة هيمنة الدول-

مؤشرات انهيار الاعتبارات والقوانين الإنسانية – الحروب والصراعات المستمرة

أسامة خليل أحمد

يبدو لنا من الوهلة الأولى من قراءة العنوان أننا أمام معنيين متضادين لمسمّى واحد هو الأمم المتحدة, فكما يعلم جميعنا بأنّ الأمم المتحدة واحة لكل دول العالم تجمعهم بغية التقارب والحد من الحروب عن طريق الحوار والمناقشة تحت مظلّتها، واستبدال العنف الدولي بالدبلوماسية التشاركية والتبادلية بين مختلف دول العالم, لكنّنا نستطيع وبتتبع بسيط لمسيرة السلام العالمي منذ نشوء الهيئة العامة للأمم المتحدة وحتى الآن, سنجد أنها لم تقدم شيء لهذا السلام, وعلى العكس من ذلك, نجدها وفرت لبعض الدول المعتدية مُناخاً آمنا ومحصنا بقوانينها وصلاحيات ممثليها الكبار, لتتحوّل الهيئة لملجأ آمن لإرهاب الدول.

لا أعتقد بحال من الأحوال بأن فكرة إنشاء مؤسسة دولية تعمل على حفظ السلم والأمن الدوليين كانت فكرة مجدية من الأساس، لأن من أسس للفكرة وعمل على تطبيقها وقيادتها هم أنفسهم قادة الحروب قديما وحديثا، فدول كالمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا، دول لطالما تغذت على دماء الشعوب الأخرى واحتلت أراضيها ونهبت ثرواتها، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي نشأت منذ بدايتها على جماجم السكان الأصليين، واستعبدتهم لسنوات وما زالت مظاهر العنصرية تجاههم تظهر للعلن بين الحين والآخر, دول كهذه كيف لها أن تؤسس للأمن والسلم الدوليين وكيف لها حماية حقوق الشعوب في تقرير مصيرها وكيف لها أن تحترم سيادة واستقلال الدول الأخرى وهي التي منحت نفسها قديما وحديثا؟ قبل نشوء الأمم المتحدة وبعده أيضا الحق في التدخل في شؤون الدول الداخلية لدخول أراضيها برّاً وجوّاً واحتلالها بشكل عسكري مباشر أو بأشكال أخرى غير مباشرة باتت معروفة للقاصي والداني وحتى عندما جاء إلى الشرق الأوسط بحجة مساعدة العرب على نيل استقلالهم من الدولة العثمانية, جاؤوا شاهدين أنيابهم الحادة, مقلمين أظافر الجشع ليتبين فيما بعد أنها كانت لنهش جسد الشرق الأوسط, لا لمحاربة العثمانيين, وأثبتوا تأمرهم على الشعوب عندما استحدثوا ما يسمى بدولة إسرائيل على أرض فلسطين، وعندما شتتوا شمل الكرد في الشرق ووزعوهم على أربعة دول، وأيضاً عندما تأمروا مع عصابة من العرب المتنفذين لتقسيم المنطقة العربية إلى أقطاراً صغيرة ودعموا حكم الدكتاتوريات فيها ليكونوا عوناً لهم في قمع الشعوب وإفقارهم وتجهيلهم، وتأمروا مع الحكومات الدكتاتورية العربية في تقاسم ثروات المنطقة بأشكال مختلفة وفتحوا لأولئك الحكام البنوك ليحولوا الأموال المسروقة إليها وبعد ان تذرّعوا أنّ العثمانيين جماعة إسلامية مؤدلجة وجاهلة ومريضة (وهذا ليس ببعيد عن الواقع) راحوا يقدمون الحماية والسلاح لجماعات إسلامية متطرفة، وليست جماعة الإخوان المسلمين أولها ولن تكون (داعش) أخرها.

هذه الحقائق يعلمها الجميع حكومات وشعوب والمؤسف بأنّنا رغم ذلك مستمرون في الخوض مع الخائضين.

إننا بحاجة لشجاعة كافية لتثبيت هذه الحقائق والتصريح بها، والتأسيس لمرحلة جديدة تقودها الشعوب الرافضة لهذه العبودية المقنعة بشعارات وعهود ومواثيق وبروتوكولات لا تتعدى كونها خديعة نفسية تنطلي على من قبلوا بضعفهم واستضعافهم وهم في أحسن الأحوال يحاولون مجاراتها كواقع غير قابل للتبديل وهنا تحديداً تكمن قضيتنا الرئيسية في هذا المقال.

 

الأمم المتحدة

النشأة – الأهداف

1865-كان هذا تاريخ نشأة أولى المنظمات الدولية للتعاون، ليأتي بعدها الاتحاد الدولي للاتصالات 1865 والمسمّى باسم الاتحاد الدولي للبرق، أما العام 1874 فشهد إنشاء اتّحاد البريد العالمي، وهما الآن من وكالات الأمم المتحدة المتخصصة، فيما شهدت لاهاي في العام 1899 عقد مؤتمر السلام الدولي الذي عمل على وضع أدوات تسوية الازمات سلمياً والعمل على منع الحروب وتقنين قواعد الحرب واعتمدت اتفاقية التسوية السلمية للمنازعات الدولية وأنشأت محكمة التحكيم الدائمة التي بدأت العمل عام 1902.

وفيما يخص ميثاق الأمم المتحدة، فقد كان ميثاق الأطلسي الموقع 14 أب أغسطس 1941 هو ما استندت عليه الدول، ميثاق الأطلسي الذي كان قد صدر بعد اجتماع الرئيس الأمريكي روزفلت وتشرشل رئيس وزراء المملكة المتحدة آنذاك، وأعلنا خلاله عن مبادئ مشتركة محددة في السياسات الوطنية لبلديهما، أملينَ منها بناء مستقبل أفضل للعالم بحسب الميثاق وقد ورد في فقرتها الثامنة ” إنشاء نظام أوسع ودائم للأمن العام مستقبلاً “.

وقد سبقت خطوة إعلان ميثاق الأمم المتحدة الصادر26حزيران /يونيو- والنافذ  في 24 أكتوبر 1945, خطوات أخرى كانت على شكل اجتماعات رباعية وثنائية، ففي 1 كانون الثاني يناير 1942، 26 دولة بينها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة واتّحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية والصين، اشتركوا في برنامج المشترك للأغراض والمبادئ المتجسدة في الميثاق الأطلسي والتي باتت تعرف بـ ” إعلان من قبل الأمم المتحدة ” وفي وقت لاحق 21ى دولة أخرى انضمت إلى الإعلان الذي تضمن أول استخدام رسمي لمصطلح ” الأمم المتحدة “، وكان روزفلت أول من اطلقها.

وبدأ العمل في التحضير لمؤتمر سان فرانسيسكو على مدار 3 سنوات، ففي الفترة بين 18 تشرين الأول أكتوبر وحتى 1تشرين الثاني نوفمبر 1943 عقد في موسكو مؤتمر رباعي ضم (الولايات المتحدة الامريكية – المملكة المتحدة – الاتحاد السوفييتي – الصين) واصدروا اعلان مشترك يخلص إلى ضرورة إعلان منظمة دولية عامة، وتعتمد مبدأ المساواة في السيادة بين جميع الدول المحبة للسلام، وتكون العضوية مفتوحة لكل الدول كبيرها وصغيرها, لصون السلم والأمن الدوليين، وكانت هذه أولى الوثائق الرسمية التي تحدثت عن منظمة دولية لحفظ السلام بعد الحرب العالمية الثانية، وتم تشكيل لجان وطنية للدول الأربعة تعمل بشكل منفصل على صياغة الميثاق للمنظمة الدولية المزمع إنشاؤها.

ظلّت التحرّكات مستمرة، ليعقد مؤتمر طهران في 28 وحتى 1 ديسمبر 1943 جمع المؤتمر جوزيف ستالين؛ رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي وتشرشل وروزفلت ونتج عن المؤتمر ما عرف بـ (إعلان القوى الثلاث – طهران)، وتضمنت / فقرة ” المسؤولية العليا ملقاة على عاتقنا، وعلى الأمم المتحدة لإحلال سلام يحظى بحسن نية الغالبية العظمى من شعوب العالم ويقضي على الخوف من الحرب لأجيال عديدة.

فقرة ” السعي للتعاون والمشاركة الفعالة من جميع الأمم، كبيرها وصغيرها، التي تكرس شعوبها للقضاء على الاستبداد والعبودية والتعصب”.

وخلال صيف وخريف 1944 جرت لقاءات منفصلة بين ممثلي الدول الأربعة / الولايات المتحدة- المملكة المتحدة والاتحاد السوفيتي والصين/ في دومبارتون اكس وذلك في سياق محادثات واشنطن حول منظمة السلم والأمن الدولية، وتمّ التوصل عبرها إلى اتفاق حول المواضيع الرئيسية وإصدار وثيقة مشتركة في 9 أكتوبر 1944 وعرفت باسم ” مقترحات إنشاء منظمة دولية عامة”, وكانت هذه الوثيقة هي وثيقة العمل الأولية لمؤتمر سان فرانسيسكو 1945، أما إجراءات التصويت في مجلس الأمن فقد تم إقرارها في شبه جزيرة القرم, ضمت تشرشل وروزفلت وستالين وتم إعلان ما يلي: ” عند إنشاء منظمة دولية عامة مع حلفائنا في أقرب وقت ممكن, نحن عازمون على الحفاظ على السلام والأمن….  لقد اتفقنا على دعوة مؤتمر للأمم المتحدة للاجتماع في سان فرانسيسكو في 25 أبريل 1945 لإعداد ميثاق يمثل هذه المنظمة على غرار الخطوط المقترحة في المحادثات الرسمية ل ” دومبارتون اكس “.

وكما نجد في جميع التصريحات والاتفاقات والإعلانات والوثائق التي صدرت عن مجموعة العمل الدولية التي أسست لإنشاء منظمة الأمم المتحدة، فإنها دائماً ما هدفت إلى السلام والأمن الدوليين ليكون هذا المبدأ والشعار الأساسي انطلقت منه هذه المنظمة الدولية، حيث كانت الرؤية لجميع الدول مشتركة ومركزة على مبدأ السلم والأمن الدوليين.

 

ميثاق الأمم المتحدة جسر العبور الأول للاستبداد ولهيمنة

تزامن الإعلان العالمي لميثاق الأمم المتحدة الصادر في 26 حزيران /يونيو 1945 مع الصراع الدائر بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والتي أسفرت عن ضرب هيروشيما وناكا زاكي, بالقنبلة الذرية, فكانت الأولى في 6 آب / أغسطس 1945، والثانية في 9 آب / أغسطس من نفس العام، لتختلط أجواء السعي المزعوم من قبل الدول العظمى, للسلام ورائحة الدم المنتشر من أجساد أكثر من 200 ألف قتيل, خلفته القنابل الذرية، التي أطلقتها نفس الدول التي كانت تصدر الشعارات والمواثيق الدولية الهادفة، بحد زعمهم, لإحلال السلام والأمن في العالم، وهذا تماما ما يدفعني للقول بأنّ الهدف المعلن من تأسيس وإطلاق مؤسسة دولية كالأمم المتحدة من قبل تلك الدول، كان إحلال السلم والأمن الدوليين, أمّا الهدف المبطن وغير المعلن والحقيقي كان إيجاد مظلة دولية تشرعن استعمارهم لباقي الدول وتغطي على جرائمهم محتمين بقوانين تلك المؤسسة التي لا تتعدى كونها خديعة كبرى انطلت على دول العالم, فسارعوا للتوقيع، دون وعي كاف لما يقدمون عليه، لقد منح الموقعون فعلاً الدول الاستعمارية شرعية التدخل في دولها وتخطي مبدأ السيادة، وإعلان العمليات العسكرية هنا وهناك بحجة تطبيق القانون الدولي وحماية حقوق الإنسان فيها.

لقد أعفت الدول العظمى نفسها من المواجهة المباشرة، وأخرجت حكوماتها من دائرة الاتهام بتصعيد العنف الدولي عبر الحروب، بجعلها لمؤسسة الأمم المتحدة وأخذت المؤسسات الدولية المنبثقة عنها مكانة وصفة حكومة عالمية تضم الجلّاد والضحية، لتنوب هذه الحكومة العالمية عنهم في متابعة مسيرة استبداد الشعوب والدول الصغيرة ونهبهم واستغلالهم وتمزيقهم وباسم القانون الذي ارتضوه لأنفسهم.

يقول الرحالة العربي: ” الإرهاب يعمل خارج القانون، والاستبداد فوق القانون…. الإرهاب ينسف ويقتل ويفخخ ويفجر ويخطف، ضد كل القوانين والمبادئ الإنسانية، والاستبداد يقتل ويقنص ويعدم ويصفي ويعتقل في حماية مظلة صورية من الشرعية والقانون”.

أما روبرت جرين يقول في كتابه / قواعد السطوة/، القاعدة8 /123 ” استدرج الآخرين لفعل ما تريد”.

حقاً هذا ما تفعله دول الاستبداد العالمي في الوقت الذي كانت هي من يعلن الحروب ويقودها، استدرجت دول العالم باسم السعي للسلام والأمن الدوليين للتوقيع على صك الخضوع الأبدي، فأصبحوا يقتلون باسم القانون ويحتلون الدول باسم القانون، بل وتحولوا من دول محتلة ومجرمة إلى ملجأ تتهافت عليها الحكومات والشعوب لتستنجد بهم.

هل تعتقد بأني أبالغ في هذا الوصف؟! إذا كان كذلك، فبرر لي ما سبب سنهم لقانون النقض، والاستحواذ عليه لأنفسهم.

برأيي، إن سياسات الدول الكبرى تنطلق من اعتبار أن العلاقات الدولية بناء قوامه هندسة تنافسية على الاستحواذ, وعليه يتمّ الربط بين قوتها الداخلية كدولة تنمو وتعظم قدراتها, وبين قوّتها الخارجية التي تمكّنها من الاستحواذ على مقعد قيادي في العالم، وتعتبر هاتان القوتان عنصران يتفاعلان باطّراد وينمّي كلٌ منهما الآخر, و لضمان استمرار تنامي هاتين القوتين فإنها تستمر في الاستحواذ داخل اللعبة الدولية إلى أبعد حد ممكن، ما يتيح لها في مرحلة ما بتخطي حتى الصيرورة التاريخية، وجعلها قادرة على الدوام على خلق أسباب هذا التنامي لقوتيها وصنع الذرائع التي تبيح لها الاستمرار.

لقد تم تثبيت قانون الفيتو في غفلة وضعف من شعوب العالم وحكوماته، قانون يشرعن لهذه القوى تعطيل ما شاؤوا في هيئة الأمم ومؤسساته وتمرير ما يوافق مطامعهم ويحصر التفاوض فقط بين الدول التي تملك هذا الحق (حق النقض)، الشيء الذي يرغم أيّ دولة في العالم على الاصطفاف والتقرب والتذلل لإحدى هذه الدول.

وبحسب ما نشره موقع الأمم المتحدة، ووفقا للباحث في العلاقات الدولية والمدير السابق لمركز التنظيم الدولي في كلية الشؤون الدولية العامة بجامعة كولومبيا/ إدوارد لاك/ فقد عملت الولايات المتّحدة الأمريكية على إضعاف دور الأمم المتحدة في القضايا الكبرى، ومشروعات الأمم المتّحدة الرئيسية، لكيلا تتدخل الأمم المتحدة في سياسات الولايات المتحدة، أو تعارضها وأضاف / لاك/ ” إن آخر شيء تريده الولايات المتحدة هو وجود أمم متحدة مستقلة، لها ثقل عالمي”,  وبالمثل صرح سفير الولايات المتحدة السابق مونبيسان ب “أنّ وزارة الخارجية الأمريكية كانت ترغب في إثبات أنّ الأمم المتحدة ليست فعالة”.

وفي كتاب: الصومال – الفرص الضائعة” يتحدث الكاتب محمد سحنون وهو الذي كان سابقا ممثل للأمم المتحدة في الصومال، يتحدّث عن فشل تدخل الأمم المتحدة في الصومال ويذكر أنها أي (الأمم المتحدة) أضاعت فرصاً لمنع المآسي الإنسانية الكبرى ما بين عامي 1988-1991.

وهناك الكثير الكثير من الأمثلة حول عدم فعالية وجدية عمل الأمم المتحدة في قضايا السلام والأمن الدوليين، وأيضا القضايا الإنسانية خلال النزاعات وبعدها.

 

الأمم المتحدة بين قضايا الشعوب ومصالح الحكومات

بالفعل لقد استطاعت منظمة الأمم المتحدة أن تجمع حول طاولتها عدداً مهماً من حكومات دول العالم الشرق والغريب، لكنّ السؤال هل كان هذا التجمع يعمل من أجل سلام الشعوب أم من أجل سلام الحكومات؟!

يمكننا الإجابة عن هذا السؤال من خلال بعض الأمثلة عن جهود الأمم المتحدة والحكومات الممثلة فيها في مجموعة من القضايا والأحداث الدولية.

لقد اوردنا في فقرتنا السابقة ما يخُص تزامن الإعلان عن هيئة الأمم مع الاعتداء السافر للولايات المتحدة الامريكية على كل من ناكا زاكي وهيروشيما بالكيماوي، فانظر معي ماذا فعلت الأمم المتحدة ومجلس الأمن حيال هذه الأحداث التي سأوردها:

  • الإبادة الجماعية في بانغلادش 1971
  • الإبادة الجماعية في كامبوتشيا
  • الإبادة الجماعية في رواندا 1994
  • مذبحة سيربيرنيتسا 1995
  • الحرب الأهلية الصومالية 1992-1993
  • مجزرة قانا في فلسطين
  • مجزرة حلبجة في كردستان العراق
  • مجزرة ديرسم في كردستان تركيا
  • مجزرة شنكال وسنجار في كردستان العراق
  • مجزرة تل حاصل وتل عرن في سوريا

وهذه مجرد أمثلة لأحداث كثيرة جداً حدثت، وما زالت تحدث حول العالم، ناهيك عن المجازر التي ينفذها الحكام أنفسهم على شعوبهم من عنف وتجويع وتجهيل واستبداد وعنصرية، إضافة إلى جرائم التطهير العرقي والتغيير الديمغرافي كالذي يجري الآن في مدينة عفرين شمال سوريا.

وهناك أيضاً الكثير من الانتقادات والتوثيقات التي تدين الأمم المتحدة نفسها، كحكومة عالمية، كتلك التي وردت حول سلوك وفودها من قوات حفظ السلام في الكونغو الديمقراطية وهاييتي وليبيريا وساحل العاج والسودان.

لقد ظهرت الأمم المتحدة بمظهر العاجز أحياناً، ومظهر المتآمر حيناً آخر خلال العديد من الأحداث الدولية، ولعلّ ما يجري في الشرق الأوسط خير دليل على ذلك، ومنها تفاصيل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من حيث الاعتداءات المتكررة من قبل إسرائيل على المقدسات والمدنيين الأمنين العزل من جهة وتنامي تيارات فلسطينية إسلاموية من جهة أخرى، وأيضاَ القضية الكردية التي ساهمت مصالح الحكومات فيما بينها ودائماً تحت قبة هيئة الأمم، في تمييعها ومحاولة التخلص منها بشكل نهائي.

متجاهلة مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها تجاهلاً تامّاً، بتعاملها مع القضية الكردية على أنّها مسائل داخلية للدول التي تضمّه، للتوصل مع مرور الزمن إلى إنهائها كقضية شعب وأرض متجاهلة أحقيتهم في تقرير مصيرهم على أرض وجودهم التاريخي، كذلك الشعب الأفغاني الذي عانى الويلات على يد تنظيم طالبان المتطرف الذي ترك مؤخراً مرة أخرى بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، تحت حكم الإرهابيين لتتكرر المأساة من جديد.

فإذا كانت الأمم المتحدة قد نشأت لإحلال السلام وحماية شعوب العالم من الظلم والاستبداد والاحتلالات، فما بالها لا تستطيع الدفاع حتى عن قراراتها ولعل القرار 2254 الخاص بسوريا هو أقرب مثال على ذلك.

الحقيقة تكمن في أن الأمم المتحدة ساهمت فعلاً في باستبداد الشعوب وقهرهم من خلال تأمينها غطاء دولي يحمي ويشرعن ويكرس حكم الحكام من دكتاتوريين وشموليين باستمرارهم كأعضاء فيها، أي أنّها منحتهم تلك الحماية عبر قوانينها كقانون السيادة وغير ذلك من القوانين المتعلقة بالشؤون الداخلية للدول، وفي أحسن أحوالها تمنح الدول الكبرى حقّ التدخل والحسم، لتتحول تلك الدول بدورها إلى محتل بغطاء من الشرعية الدولية يقتل ويسلب وينهب تحت مظلة القانون الدولي.

لقد حوّلت الأمم المتحدة وجهة النُخب من النضال الثوري إلى النضال القانوني باعتبار وجودها مظلّة دولية تتصرف وفق القانون الدولي فصار النضال عبر الأمم المتحدة ومؤسساتها أبرز السمات الحضارية لدى النخب، وبذلك تمّ التخلُص من الفكر الثوري المجتمعيّ باعتباره وتصويره على أنّه صورة بدائية للدفاع عن الحقوق وفي المحصلة تضيع دماء الشعوب وأحلامهم بين أروقة الأمم المتحدة والصالونات السياسية التي تجمع اللجان والوفود والمبعوثين لعقد صفقات ترعاها الدول الكبرى.

إن ترسيخ هذه الصورة وهذه الاليات المرتبطة بهيئة الأمم، مكنت الحكومات وسهلت عليها عملية إحباط أي حراك شعبي، وتحولت الخديعة الدولية إلى حقيقة واقعة غير قابلة للتبديل تحملها النخب المجتمعية من سياسيين ومثقفين وغيرهم في حقائبهم وذهنيتهم، فتراهم يعتبرون مجرد إدانة الأمم المتحدة لجريمة ما نصراً مؤزراً، وتحوّل نضال الشعوب إلى سباق من أجل الحصول على مجرّد اعتراف من الأمم المتحدة، أو إقناع مؤسساتها بإعلان بيان أو استنكار أو تصريح، بينما تئنّ الشعوب تحت وطأة جبروت حكامها المتحكمين في أدق تفاصيل حياتها.

ولعلنا نرى ما ارتكبته الحكومة التركية وترتكبه من جرائم داخل بلادها وخارجها من قتل وتهجير واحتلال دون أي تحرك أو موقف أممي واضح على مرّ عقودٍ من الزمن، ذلك لأنّ تركية الدولة حليف استراتيجيّ للدول المتحكمة بقرار الأمم المتحدة، ولعل هذا أكبر دليل على أنّ هيئة الأمم المتحدة صنعت لحماية الحكومات وسياسات الدول الكبيرة في العالم وأذرعها من حكام دول صغيرة.

 

الشعوب بين ثقافة الحقوق وواقع الخضوع

لطالما عملت الأمم المتحدة عبر إعلامها ومؤسساتها وقنواتها الدبلوماسية على نشر ثقافة حقوق الإنسان، وبرزت للشعوب كمؤسسة دولية راعية لهذه الحقوق وحامية لها عبر أدبيات وشعارات وقوانين، ولقد استطاعت بالفعل اختراق الفكر الجمعي للمجتمعات وتوصلت عبر الزمن, من خلال فبركة الأحداث وخلق التصورات ورسم السيناريوهات في ظل تعاملها مع القضايا الدولية, توصلت إلى تشكيل بنى معرفية جديدة للعقل البشري, هذه البنى المعرفية أسست لجيل فكري ينظر للخضوع على أنّه مدنية معاصرة متطورة وعبر نظرياتها في الفلسفة والفلسفة السياسية وعلم النفس البشري وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع السياسي، ساحات استثمرتها بطريقة فعالة للتلاعب بالبناء الفكري للإنسان والمجتمع, فصار الإنسان يتغنى بحقوق الإنسان والحرية، لكن ليس بروح اجتماعية، وإنما انطلاقا من الفردانية المفرطة لينظر كل شخص إلى نفسه على أنه مركز الكون، وأنّ حقيقة الوجود تكمن فقط في وجوده هو ووعيه لها, وعندما يتحول الفرد إلى مركز يقوم بربط كل تلك الحقوق والقيم بذاته المستقلة، ولهذا تجد أنّ كل شخص بات ينظر لما كان سابقا قضية جماهيرية، بات ينظر لها على أنها قضية تتأصل في ذاته الواحدة وضمن دائرته الخاصة, فتجزأت القضية وتحوّلت إلى شخصنة عفنة, وتعدّدت الشروحات وزاد التنظير وتكاثرت الأحزاب، واختلطت الرؤى والأفكار، وبرزت كنقيض لبعضها البعض أحيانا, ودائما القضية واحدة.

إنّ المهاجر من بلاده إلى بلاد أخرى بصفة (لاجئ)، صار يتباهى ببلد اللجوء، ويتقمص مظاهره، ويعتبر نفسه قد انتصر على واقعه، فيتحدث عن طموحاته وأحلامه، وسعيه في تحقيقها، في بلد صار يراه بلداً حرّاً، وأرضاً خصبة لحياة كريمة للإنسان وتطوره، وهو في الحقيقة لا يتعدى كونه لاجئاً طحنت الحرب ذاكرته، وسمات وجوده الأصلي، ومظاهر تجلي جوهره كإنسان ينتمي إلى مجموعة من الإحداثيات الجغرافية والمعرفية والنفسية، وليست هذه المظاهر المستحدثة التي لبس ثوبها سوى مظاهر للخضوع الطوعي.

إننا في الحقيقة بتنا نمشي بالتوازي بين ثقافتنا الحقوقية وخضوعنا الطوعي، فكلما زادت ثقافتنا بـ (الحقوق الإنسانية) زاد خضوعنا الطوعي، لقد زادت معارفنا وتناقص إدراكنا ووعينا.

 

الحروب والصراعات المستمرة في العالم مؤشرات واضحة لانهيار الاعتبارات والقوانين الإنسانية

لم تكن الحروب والنزاعات المحلية والإقليمية والدولية يوما ما وليدة اللحظة والصدفة، إنها استمرار وتراكمية لصيرورة تاريخية، ولذلك لا يمكننا فصل بعضها عن بعض، أيا كانت جغرافية الصراع أو طبيعته، ولا يمكن أيضا فصل السياسات الدولية عن سياقها التاريخي، وبالتالي حتى تأسيس هيئة الأمم لم يكن نابعاً من مجرد الحاجة إليه، ولم يكن نابعاً من مجرد رغبة في تحقيق ما أسموه بـ (السلام العالمي)، لم يكن عفويا أبداً ولا بريئاً….

لقد تصاعدت وتيرة العمل من أجل السلم والأمن الدوليين بالتوازي مع تصاعد العنف الدولي، الذي أخذ أشكالاً مستحدثة، وبأدوات أكثر تقنّعاً، فالعنف يتسرّب إلى تفاصيل الحياة البشرية اليومية بهدوء واتّزان.

وإذا أردنا التحدث عن جدوى وجود هيئة الأمم وعملها بعيداً عن كل ما سلف, فيمكننا ببساطة التحقق من فشلها الذريع في المضي قدماً ولو بخطوة واحدة تجاه تحقيق العدالة والسلام والأمن في العالم، وجغرافية العالم بأسره تشهد بصورة تلقائية على ذلك الفشل، حروب في الشرق والشرق الأوسط والغرب والشمال والجنوب، شعوب تعدادها الملايين، يموت أطفالها جوعا, انظر المجاعات في افريقيا كمثال, فيما شركات الدول الراعية للسلام تستثمر وتشتري ثرواتها بأبخس الأثمان, شعوب تعدادها الملايين بلا وطن, شعوب تعدادها الملايين مازالت عبارة عن معسكرات ومستعمرات, شعوب يباع أبناؤها في سوق النخاسة الدولي, مصانع الجنود, اللقطاء, صناعة الأوبئة والفيروسات, إبادات جماعية, تهجير, تجارة البشر والأعضاء البشرية كلها تتم عبر شبكات الدول الكبرى.

تصاعد التسلح والسباق نحو صنع أكثر الأسلحة فتكا بالطبيعة والإنسان, تغييرات مناخية سببها سلوك البشر المؤذي للطبيعة, تصاعد التطرف والطائفية والعنصرية في كثير من البلدان, تنامي العصابات والجماعات الإرهابية, ثقافة الارتزاق وتشغيل المرتزقة في مهام من قبله هنا وهناك ضمن إطار التنافس الدولي على السيطرة.

كل شيء يدل على تنامي الصراعات وتكاثرها وتعدّد أوجهها، وذلك بعد مرور ما يقارب الثمانين عاماً على إعلان ميثاق الأمم المتحدة، وإن هذا التزايد والتنامي ليس إلا دلالة واضحة على انهيار القوانين والقيم والاعتبارات الإنسانية.

الخُلاصة

إن اللغة هي ميكانيزما لتجسد الموجودات والمحسوسات على صعيد المعقول واللامعقول، وعليه فإنّ كل التعابير المصاغة حول الإنسانية في أطرها القانونية والمجتمعية الأخلاقية، إنما هي تجسيد لشيء ما، لكنّ الطامة الكبرى في هذه القضية، لأن هذا التجسيد صوري ووهمي لدرجة الخروج من المعقول إلى اللامعقول قياساً وتمثيلاً مواجهاً للواقع القائم فعلاً، فيظن الكثيرون بأنّ الحلول تكمن في رأس الهرم الهندسي للتشكيلات السياسية والقانونية في العالم، في حين أنّ الأصل هو اللبنة الأساسية التي شكلت قاعدة بُني عليها هذا الهرم الهندسي؛ بمعنى أنّ الحل هو في القاعدة (الجماهير – الشعوب).

إنّ مؤسسة كالأمم المتحدة ومجلس الأمن أو (مؤسسات الدولة)، لم تستطع فعل شيء في هذا النحو، والأساس هو العمل على تحقيق مواجهة فكرية حقيقية وأصيلة في وجه الأوهام ودائرة الخداع الدولي، وهذا لن يكون إلّا عن طريق نضال فكري حرّ، وبناء معرفي متشبّع بالحقائق وشجاع بقدر كافٍ، للمضي نحو التغيير.

إننا بحاجة إلى مرونة كافية للتعامل مع الكتلة المعرفية الصلبة التي كونتها سياسات عالمية على مر قرون وعصور، لنستطيع البدء باختراقها وخلق نواة جديدة لبنة معرفية أصيلة ومتجددة تستند إلى قيم الطبيعة والإنسان، وتبلغ مبلغ التحرر من كلّ الزيف الذي تم تثبيته في عقول الناس كحقائق وكواقع يستحيل تغيره.

على الشعوب أن تؤمن بنفسها إلى حدّ التصوف، ولا تستهين بأي جهد قد تراه صغيراً أمام الواقع، التغيير في البُنى المعرفية وبناء فكري جديد هو سبيلنا الوحيد من وجهة نظري، لتحقيق السلام العالمي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى