الصراع الأثني والوطنية في سوريا الصراع الأثني والوطنية
عواس علي
عواس علي
إنّ الباحث في هذه الجملة القصيرة يجد بأن الشرذمة الاجتماعية والخلخلة الوطنية في الدولة الواحدة, تأتي من القِصر في الشعور والحسّ الوطني والانتماء لوطن يعيش فيه الفرد, ويشعر بالتمسك بذلك الوطن ويفضّله على غيره من الأوطان, وذلك الشعور بالانتماء يضعف مع التمايز أو التباين في التعامل من قبل الحكومات المحلية مع فئة محدّدة بعينها على حساب فئات أو قوميات أخرى والقصر في منح الحقوق الشخصية أو الحقوق العامة لتلك الفئات أو الأقليات أو القوميات, بغضّ النظر إن كان ذلك التمييز مقصوداً وممنهجاً أو غير ذلك, وغالباً ما يكون ذلك التمييز مقصوداً أو مفتعلاً, بغاية إضعاف أطراف يُتوقع منها المعارضة للسلطة, وأكثر تلك المفارقات توجد في دول العالم الثالث الذي يفتقر لأدنى حقوق الديمقراطية, وتعتبر المناصب في السلطة لدى الأفراد المتولّين مناصب لجني منافع مادية ومعنوية, على عكس غيرها في الدول الأوربية التي تعتبر المناصب في السلطة هي مناصب خدمية لا يُقبل جني المنافع من ورائها.
وغالباً ما يأتي التمايز من قبل أفراد السلطة في تلك الدول لغايات متعددة تهدف إلى سيطرة فئة أو أقلية أو طائفة بعينها على بقية مكونات المجتمع الواحد في الدولة الواحدة, وبالطبع بعد ظهور الدولة القوميّة في بدايات القرن العشرين، ما يعكس الشعور لدى المكونات الأخرى بعدم الانتماء الحقيقي للدولة أو الوطن.
ويعتبر الضعف في ذلك الشعور بالانتماء للوطن أحد أهم أسباب الضعف في الدولة في مجالات شتّى, سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي, أو العسكري, ولنبحث في ذلك على سبيل المثال في سوريا, ولنأخذ مثالاً على ذلك الصراع العلوي السنّي والصراع العربيّ الكرديّ في سوريا, من حيث التشرذم المجتمعي في الدولة و ضعف الشعور بالانتماء للوطن السوري, ربما كانت البداية مع تسلم صلاح جديد زمام السلطة في 1966، ومع تسلّم الرئيس حافظ الأسد لمقاليد السلطة في سوريا, عام 1970 ونجده قام بتصفية معظم القيادات التي قد تنافسه في السلطة وهي من غير الطائفة العلوية, مثل سليم حاطوم وغيرهم, وربما كانت الصحوة بين السنة والانتباه لذلك الأمر جاء متأخراً قليلاً, وخاصة في المحافظات الشرقية كالرقة ودير الزور والحسكة وأريافها, فنجد أن معظم القيادات الأمنية التي تقوم على مركز القرار من العلويين, خاصة في الفروع الأمنية والعسكرية, وكان ذلك عبر فتح أبواب التجارة للعرب السنّة بحكم تعرّقهم في مجال التجارة سواء في حلب أو دمشق, فالتاجر السني انشغل بالتجارة عن السياسة, بينما اتجهت غالبية المجتمعات العلوية إلى التطوع في الجيش واستلام الفروع الأمنية، وذلك لفقرهم، وسيطرة الإقطاع السنّي.
وفي فترة التحول إلى النظام الاشتراكي, نجد أنّ التأميم طال معظم الإقطاعيين من السنّة بينما لا نجد لطبقة الإقطاع وجوداً بين أفراد الطائفة العلويّة, وربما يعود السبب إلى الطبيعة الجغرافية للأماكن التي يقطنها أفراد الطائفة العلويّة, فالمساحات المزروعة صغيرة جداً لديهم, وبعد ذلك تمّ حصر الضرائب على جميع الواردات من السواحل السورية بيد فئة معينة من المقرّبين لحكومة حافظ الأسد وهم من أبناء أخوته وأعمامه (شأن أي دولة عندما يتسلّم الحاكم فيها السلطة، فتبرز فئة الأقارب) فأي مادة كانت تدخل عبر الميناء يتم استيفاء الأتاوة عليها من قبل هؤلاء العناصر, بينما التاجر السني يضيف تلك الأتاوة على سعر المبيع لتلك المادة مع الحفاظ على أرباحه الخاصة كتاجر جملة, فنجد أن معظم رؤوس الأموال أضحت بيد التجّار العرب من الطائفة السنية بينما مفاصل السلطة الرئيسية بيد أفراد الطائفة العلوية, وفي فترةٍ ما بدأ الوعي السياسي ينتشر بين السنة, وكانت البداية مع نشاط أعضاء حزب الإخوان المسلمين الذين كانوا عبارة عن تنظيم خاص بالمكوّن السنّي الغالب في سوريا, يتستّر تحت عباءة الدين الإسلامي, ولكنه في حقيقة الأمر كان عبارة عن تنظيم يهدف إلى محاربة كلّ من هو ليس بعربيّ سنّي، وخاصّة العلويين في سوريا, وخير مثال على ذلك مجزرة كلية المدفعية في حلب التي نفّذها أعضاء حزب الإخوان المسلمين من قبل إبراهيم اليوسف وعدنان عقلة, حيث تم فرز تلاميذ الضباط من العلويين وقتلهم بشكل جماعي, وكان الردّ على ذلك من قبل النظام العلوي هو الإبادة التي اتّبعت في مدينة حماة ذات الغالبيّة السنّية؛ منبع حزب الإخوان المسلمين، (فمنهج الإخوان المسلمين واضح أنّه ضدّ كلّ الأثنيات غير السنية، وهو الذي زرع فكرة الصراعات في سوريا ومصر على وجه الخصوص)
كانت تلك المجازر المنظّمة بداية اتساع الهوّة بين المكوّن السنّي والمكون العلوي, مع رفع شعار سوريا الأسد, والأسد رمز للعلويين, بعدها راح العلويون يتعاملون مع تلك الهوة بحذر بينما ظهر لدى السنة ضعف الشعور الوطني لوطن يتملكه العلويون, فكانت بداية ضعف الشعور الوطني لدى السنة, خاصة في الجيش نجد أن معظم الضباط من العلويين, بينما العناصر غير الفعالة جلّهم من السنة, ولا يخلو الأمر من وجود ضباط من السنة ولكنهم ليسوا بأصحاب القرار, فالضابط العلوي الصغير يتحكم بالضابط السني الذي يعلوه رتبة, و تضاف إلى ذلك الفروع الأمنية التي تراقب تحركات الفرد داخل المجتمع والانصراف عن المهمة الأمنية الأساسية لتلك الفروع من تأمين الأمن المجتمعي إلى الرقابة الصارمة على المجتمع في جميع فئاته, والعمل على ربط المجتمع بتلك الفروع عبر تجنيد أفراد من المجتمع كعملاء لتلك الفروع مقابل بعض المنافع الشخصية البسيطة.
تشير بعض الدراسات أنّ في فترة من الثمانينيات من القرن المنصرم أصبح لكل مواطن يُشك بعمله في السياسة ثلاثة مراقبين, وبالرغم من كل تلك الرقابة فقد تم تحويل عناصر حزب البعث إلى عناصر أمنيين مهمتهم مراقبة تحركات الأشخاص الذين هم خارج الحزب, فتحول الحزب من حزب جماهيري منظم وفق إيديولوجية العروبة والنظام الاشتراكي إلى حزب أمنيّ مهمّتُه الحفاظ على السلطة بقيادة الرئيس حافظ الأسد, فتحول هؤلاء العناصر في الحزب من عناصر وطنية ذات أهداف سياسية تتمحور حول الوحدة العربية إلى عناصر أمنية مهمتها الحفاظ على السلطة قبل كل شيء, وهنا نجد أنّ الانتماء الوطني ضعف لدى هؤلاء العناصر وتحولوا من الانتماء الوطني إلى الانتماء الحزبي الأمني السلطوي, فكانت الشرذمة الثانية بعد الشرذمة السنية, فأصبح بذلك لدينا فئتان ذات انتماء وطني ضعيف: الأولى الفئة السنية والثانية هي الفئة الحزبية الأمنية.
إضعاف الشعور الوطني لدى القوميات الأخرى في سوريا:
ربما تأتي القومية الكردية في سوريا في المرتبة الثانية بعد القومية العربية, وكانت البدايات من ظهور الحزام العربي القومي الذي تم طرحه من قبل الرئيس جمال عبد الناصر الذي راح يخطط إلى بعثرة الأكراد في الشمال حيث يقطنون بأغلبية ساحقة, فتقصّد شرذمتهم وتطعيم تلك المناطق بزجّ عائلات عربية بينهم, وآخرها مشروع تهجير المغمورين من الأراضي التي تمّ غمرها بمياه سد الفرات, إلى المناطق التي يقطنها الأكراد بأغلبية فائقة, وتمّ الاستيلاء على أراضيهم وتوزيعها على العرب المغمورين, ناهيك عن تجريد هؤلاء الكرد من جنسيتهم السورية.
كانت تلك التصرفات كافية لجعل المواطن الكردي يفقد انتماءه الوطني لوطنه سوريا, وراح يبحث عن انتماء آخر لوطنه الأكبر كردستان, فظهرت أحزاب سياسية أرادت أن تعدّل المسار عبر الانتماء الوطني لسوريا لكنها فشلت فشلاً ذريعاً, فقد كان المواطن الكردي قد فقد حسّه الوطني والانتماء في ظل وطن جرّده من أقل الحقوق الشخصية, ومن حق التملك, فكانت تلك الفئة هي الفئة الأكبر والأقوى بين الفئات الفاقدة للشعور بالانتماء الوطني, وإلى جانب ذلك راحت العناصر البعثية تعمل على تجذير الصراع بين السنة الوافدين للمناطق الكردية كمحتلين للأراضي الكردية والكرد في تلك المناطق, وكان ذلك عبر مخططات أمنية من قبل قيادة حزب البعث المتمحورة في شخصية الرئيس حافظ الأسد, وراحت تلك الهوّة تتسع حتى ظهور قرارات سياسية سرية تهدف إلى حرمان الكرد من حق التملك في بقية المحافظات الشرقية كالرقة والحسكة, وظهور عناصر أمنية حزبية راحت تعمل على تأجيج الصراع عبر تصوير الأكراد على أنهم أصحاب مخططات دولية وتنظيمات سياسية تهدف إلى اقتطاع جزء من الأراضي السورية وتشكيل دويلة لهم, والحقيقة لو تمعنّا في تاريخ معظم الأحزاب السياسية الكردية فلن نجد أي حزب يهدف إلى إنشاء دويلة أو انعزال أو انفصال عن الوطن الأم سوريا, وبالرغم من ذلك كان يتم اعتقال الناشطين الكرد ومحاكمتهم بتهمة اقتطاع جزء من الأراضي السورية, والغريب في الأمر أن جميع الأحزاب السياسية الكردية كانت تعمل على ترسيخ الوحدة الوطنية لسوريا في برامجها السياسية وأهدافها, غير أنّ المواطن الكردي لم يكن يؤمن بانتمائه الوطني لسوريا مطلقاً, وينظر لسوريا على أنها بلاد العرب فقط, ونستطيع أن نقول: إنّ الأحزاب الكردية فشلت في إقناع المواطن الكردي بانتمائه الوطني لسوريا إلا بين القيادات العليا, فلم يعد يهمه من سوريا غير كلمة كردستان.
في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم كان ظهور حركة الإخوان المسلمين كتنظيم مسلح, حيث تنبّهت السلطة المتمركزة بيد العلويين لذلك الأمر, فظهرت بعض التنظيمات السياسية المرتبطة بالسلطة تهدف إلى ربط الكرد بالطائفة العلوية عبر حزب الإمام المرتضى, وجعل الواحد والعشرين من آذار عيداً للأم وإصدار قرار بجعل ذلك اليوم عطلة رسمية, والحقيقة لم تكن الغاية هو عيد الأم, بل كان الغاية هو جعل ذلك اليوم عطلة لعيد نوروز ومنح الكرد هامشاً من الحرية في احتفالاتهم القومية, وبذلك اتسعت الهوة والتشرذم ما بين الكرد والسنة على حساب تقارب وهمي بين الكرد والسلطة العلوية.
الانتماء الوطني وانعكاسه على الثورة السورية السنية:
في الحقيقة أقول “الثورة السنية” من خلال الحقيقة التي انحرفت عنها الثورة من ثورة وطنية إلى ثورة سنية, وربما يعود السبب إلى الافتقاد لتنظيمات سياسية وطنية تحمل برامج وأهدافاً وطنية تشرف على قيادة الثورة, وسبب فقدان تلك التنظيمات يعود إلى القبضة الأمنية التي كان يتمتع بها النظام, والأحكام العرفية المطبّقة من قبله, حيث يُمنع تجمّع أكثر من شخصين بالإضافة إلى ربط المجتمع بأغلبيته بالسلطة وفق مفهوم أمني تحت مسمى محاربة إسرائيل, وأيضاً قوّة تنظيم الإخوان المسلمين القادر على سدّ أيّ فجوة سياسيّة أو عسكريّة.
والحقيقة كان النظام يهدف من تلك القبضة الأمنية إلى الحفاظ على السلطة في الدرجة الأولى, فبدل تلك التنظيمات السياسية القائدة للثورة وجدنا ظهور مجموعات عسكرية تم تشكيلها بشكل عشوائي بقيادات سنية عسكرية منشقّة عن السلطة, ليس لها أي برنامج سياسي وطني, وكل غايتها محاربة النظام الطائفي العلوي, حسب تعبيرهم، وفي الطرف الآخر كان التخطيط من قبل النظام لجعل تلك الثورة عبارة عن عصابات مسلحة طائفية من خلال زجّ بعض العناصر الموالية للنظام بين صفوف تلك المجموعات العسكرية وتحريفها عن حقيقة ما تهدف له الثورة, فنجد تلك المجموعات العسكرية راحت تعيث فساداً وخراباً في البلاد.
ويذكر بأنّ عدد المجموعات العسكرية في الرقة وريفها بلغ عام 2013 مئة وخمساً وعشرين مجموعة, وبدل البناء تقصدت التهديم والتخريب, وجلّ عناصر تلك التنظيمات كانت من ذوي الأهداف الربحية والمالية, فراحوا يخرّبون بلدهم من خلال الصورة التي كانت قد ترسخت في ذهنهم على أن سوريا هي ملك لآل الأسد, ولا يكبحهم أي حسّ أو شعور وطني لتلك البلاد, فتمّ نهب المصارف وتدمير المدارس وتخريب الأملاك العامة والقتل على الهوية الطائفية, بالإضافة إلى اعتقال كل من يمتلك برنامجاً أو وجهة نظر سياسية وطنية, فتمّ تصفية هؤلاء الأفراد بطريقة ممنهجة, والبقية الناجية هربت إلى خارج البلاد وتحولت إلى عناصر مرتزقة تخدم أهدافاً دولية خارجية, أو الركون في أحد الزوايا والوقوف كمتفرّج على ما يحدث.
دور العشائر الإقطاعية:
إن الحقيقة التي يجب أن نكشف الغطاء عنها هو دخول العشائر على خط الثورة, ورفع شعارات بعيدة كل البعد عما تريده تلك العشائر, في الحقيقة لم يكن الهدف الحقيقي لثورة تلك العشائر الحرية والديمقراطية بالقدر الذي يهدف إلى إعادة أمجاد تلك العشائر في الإقطاع, وأصبح الصراع عبارة عن صراع بين النظام وتلك العشائر على أساس الانتقام من النظام الذي أمّم ممتلكات تلك العشائر من الأراضي والمطالبة بعودة تلك الأملاك لمالكيها, فتمّ تشكيل مجموعات مسلحة لكل عشيرة تحت أسماء مختلفة تهدف في الدرجة الأولى إلى حماية تلك العشائر والمطالبة بعودة الإقطاع فقط.
نجد في الجانب الآخر في المناطق الكردية أن ما جرى مختلف تماماً عمّا جرى في المناطق العربية, فالشعب الكردي المنظّم كانت له واجهة سياسية حقيقية برزت في بداية الصراع وتنبّهت للصراع الحقيقي, ألا وهو أن الصراع الحقيقي هو صراع طائفي إسلامي على السلطة ولا يمتّ بأي صلة لمطالب الثورة, فنجد الكرد بواجهتهم السياسية سلكوا خطّاً مغايراً عن المعارضة والنظام, وحافظوا على الممتلكات العامة وابتعدوا عن التخريب, وقد تنبّهوا لذلك في بدايات الثورة, وربما حاول البعض من الأطراف والمجموعات المسلحة ربط الأمل الأكبر في الحراك على الكرد والاستفادة من الصراع ما بين الكرد والنظام, لكن القيادة السياسية الكردية ابتعدت عن ذلك الصراع الذي رأت فيه صراعاً طائفياً على السلطة, فحاول الكرد تنظيم مناطقهم وإدارتها ذاتياً بعيداً عن ذلك الصراع, لكن التدخّلات الدولية وعلى رأسها السلطة في تركيا, وجدت أن تلك الإدارة الذاتية تشكل خطراً على مستقبل الدولة التركية, خاصة وأن تعداد الكرد في تركيا يفوق ثلاثين مليوناً, فوجدنا ما قاله الرئيس التركي بأنه سيحارب التواجد الكردي حتى لوكان في المريخ, فتم استغلال تلك المجموعات المسلحة وزجّها في صراع مع الكرد بدل الصراع الأساسي مع النظام, فتحولت تلك المجموعات المسلحة إلى مجموعات مأمورة لتنفيذ مخططات وأهداف السلطة التركية, فقد تم تشكيل غطاء سياسي لتلك المجموعات المسلحة غايته إيجاد التبرير لكل ما تقوم به تلك المجموعات من تخريب وقتل وتهجير, ومن المؤسف أن السلطات التركية استفادت من الصراع بين الأحزاب الكردية المتشرذمة واستطاعت أن تجرّ عدداً من تلك الأحزاب الكردية إلى حلقة ذلك الغطاء السياسي الهادف لتبرير احتلال أجزاء من الأراضي السورية من قبل الدولة التركية.
التدخلات الدولية والاستفادة من ضعف الشعور الوطني لدى قيادات الثورة:
إن أخبث ما قامت به الدول التي رأت تحقيق مصالحها عبر الصراع الأثني في سوريا, هو تشكيل غطاء سياسي لتلك المجموعات العسكرية المرتزقة على شاكلة قيادة سياسية وتقديم الدعم لها, والحقيقة كان جلّ هؤلاء المكوّنين للغطاء السياسي أشخاصاً يفتقدون للانتماء الوطني, والبعض منهم تم إغراؤه مادياً للعمل ضمن صفوف ذلك الغطاء, وحقيقة ذلك الغطاء هو العمل على تحقيق مصالح تلك الدول المنشئة لذلك الغطاء, والتبرير لأفعال تلك المجموعات العسكرية, وكان على رأس تلك الدول السلطة في تركيا, فكانت المحتضن الأول والداعم لتلك المجموعات العسكرية التي تفتقد الحس والشعور الوطني, وجلهم أشخاص لا يعرفون ولا يفقهون في السياسة ولا في الوطنية أدنى مفهوم أو وعي, فتم إنشاء غطاء لتلك المجموعات المسلحة في بداية الثورة وتم رسم برنامج لتلك المجموعات لمحاربة الكرد الذين يشكل وجودهم ككيان في سوريا رعباً للسلطة في تركيا, فجمَّعت تلك المجموعات المسلحة تحت غطاء سياسي ووجّهتهم إلى محاربة الكرد بدل النظام, والعمل على ربط أجزاء من سوريا بالدولة التركية بطريقة جغرافية وسياسية واجتماعية وثقافية.
والسؤال الغريب, كيف لمواطن يمتلك القليل من الوطنية يعمل على احتلال جزء من بلاده من قبل دولة مجاورة, ويهيّئ ذلك الجزء ليكون جزءاً من تلك الدولة ثقافياً وجغرافياً وسياسياً تحت مسمى محاربة النظام الدكتاتوري؟ لو أجرينا مقارنة وجدانية وسياسية لوجدنا أن النظام الدكتاتوري يفوز بالقليل من الشرف والأخلاق مقارنة بتلك المجموعات العسكرية التي تعمل على بيع جزء من وطنها لدولة أجنبية, وهي أشدّ دكتاتورية من النظام, وربما يأتي أحدهم ويقول: ألم يبع النظام كذلك أجزاء لروسيا وإيران؟.
نعم التواجد الروسي هو تواجد على مستوى حكومي وليس على مستوى شعبي, فالروس لم يفرضوا لغتهم ولا ثقافتهم ولا عملتهم, ولم يعملوا على ربط سوريا بروسيا جغرافياً, والكل يعلم ويدرك أن ذلك التواجد هو تواجد على مستوى علاقات دولية وفي أي لحظة يمكن أن تنتهي تلك العلاقات وينتهي ذلك التواجد, وكذلك التواجد الإيراني والتواجد الأمريكي, كل ذلك الوجود هو عبارة عن وجود بموجب اتفاق دولي بين الحكومات, لكن الوجود التركي لا يرتقي إلى مستوى العلاقات الدولية, بل هو احتلال ممنهج ومدروس, الغاية منه ضمّ تلك الأجزاء لتركيا سياسياً وثقافياً وجغرافياً.
الصراع الأثني في ظل المصالح الدولية
المصالح الدولية دائماً تبحث لها من منفذ لبناء علاقات مع دول أخرى على أساس تحقيق مصالحها, ولا يمكن تحقيق مصالح دولة على حساب دولة أخرى بدون وجود ضعف في أحد الأطراف, فنجد أن روسيا كانت أول المنجدين للنظام من خلال تحقيق مصالحها السياسية في المنطقة في مواجهة أمريكا, وكذلك التواجد الإيراني الذي يعتبر أن النظام العلوي في سوريا هو نظام شيعي وهو أحد فروع المذهب الشيعي, والحقيقة التي يريدها النظام الايراني من خلال وجوده هو بناء عالم إسلامي شيعي عبر ربط إيران بالبحر المتوسط, فسوريا تعتبر الفاصلة بين العراق الذي تجذّر فيه الحكم الشيعي ولبنان المحكوم فعلياً من قبل حزب الله الشيعي, لذلك نجد إيران تعمل جاهدة للوصول إلى البحر المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان, وترغب في جعل الأنظمة في تلك الدول أنظمة إسلامية شيعية, فلولا التخلخل والتشرذم الأثني في سوريا لما استطاعت إيران أن تستغل ذلك الصراع وترسخ وجودها على أساس طائفي إسلامي, فالتشرذم والصراع الأثني في أي دولة يفرض على الأطراف المتصارعة الاستنجاد بدول أخرى, وبالتالي يتحول ذلك الصراع من صراع شعبي إلى صراع دولي, فالصراع الحقيقي في سوريا لم يعد صراعاً شعبياً أو ثورة شعبية, بل تحول إلى صراع دولي بين أمريكا وروسيا وإيران وتركيا, فتلك التدخلات الدولية هي إحدى صور إنتاج الصراع الأثني الذي ظهر من خلال الثورة السورية, والغريب أن الشعب السوري ينتظر الحل ولا زال يطالب بالحل من قبل النظام والمعارضة, والحقيقة أن النظام والمعارضة لا يملكان مفاتيح الحل, فقد تم تسليم المفتاح لدول خارجية وباتت هي من يمتلك الحل, ومن المؤسف أنّ تلك الأطراف التي بيدها مفتاح الحل عبارة عن أطراف دولية متصارعة تريد أن تحل قضايا عالقة بينها منذ عهود على حساب حلّ الأزمة في سوريا.
والحقيقة التي يجب أن تقال: أنّ معظم الشعب السوري كان يفتقد للوطنية, وكان عبارة عن مجتمع مهلهل ومتشرذم، أغلب ولائه للسلطة والطائفة والعشيرة, ومجمل الأسباب كانت تنحصر فيما قام به النظام في سوريا على أساس ممارسة التفرقة بين مكونات الشعب السوري, وتأجيج الصراع بين تلك المكوّنات على أساس ممنهج, ما جعل ذلك الشعب شعباً يفتقر إلى الوطنية.