أبحاث ودراساتافتتاحية العددجميل رشيدمانشيتملف العدد 61

الرَّأسماليّةُ الشَّرقيّةُ.. النَّشأةُ وأهمُّ تمظهراتها وانعكاسها على الشَّرق الأوسط

جميل رشيد

جميل رشيد

جميل رشيد
جميل رشيد

يُعَدُّ مفهوم وقضيّة الرَّأسماليّة الشَّرقيّة وصراعها مع الرَّأسماليّة الغربيّة، من القضايا التي تستحوذ على اهتمام الباحثين والمفكّرين في الغرب والشَّرق، بعد أن تجلَّت معالمهما في غمرة التَّنافس الدّوليّ بين عِدَّةِ قوى، واشتداد الحروب والنّزاعات في العالم، سعياً وراء تقسيم مناطق النّفوذ وفرض هيمنتها على البَرِّ والبحرِ والجوِّ، لتصل حَدَّ طرح مشاريع عالميّة لكُلّ منهما.

إنَّ دراسة خصائص الرَّأسماليّتين ومعرفة نقاط التَّشابه والالتقاء بينهما، يتطلَّب بالدَّرجة الأولى العودة إلى تاريخ ومنشأ كُلٍّ منهما، وقبل ذلك يستوجب طرح السؤال التالي والإجابة عليه: هل بالفعل أنَّ هناك رأسماليّة شرقيّة لها وجودها كنظام اقتصاديّ وسياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ، أم أنَّه تعبير ومصطلح مجازي خلقته الرَّأسماليّة الغربيّة وابتدعتها لنفسها، لتُبرِّرَ هيمنتها وتُديم معها صراعاتها العالميّة وتستثمرها بما يتناسب ومصالحها في مناطق العالم المختلفة.

ولكن على الضفّة المقابلة، ألا تؤشِّر القفزة التّاريخيّة المفاجئة التي حقَّقتها بعض الدّول الشَّرقيّة، والتي كانت اشتراكيّة فيما سبق، وخاصَّة في مجال الاقتصاد، بأنَّها تزاوجت مع الرَّأسماليّة كنمط اقتصاديّ؟ وإذا ما أدركنا بأنَّه لا يمكن الفصل بين الاقتصاد والسِّياسة، فإنَّه يتَّضح بأنَّ سلوك هذه الدّول رأسماليّ بحتٌ، بكُلّ ما لها وما عليها من انتقادات ومزايا، مع قدرتها على الاحتفاظ ببعض الاختلافات والتمايزات الثَّقافيّة والاجتماعيّة، رغم أنَّها هي أيضاً في طور التغيّر والتبدُّل، نظراً لأنَّ بعضها تَمُرُّ بمرحلة الانتقال من نمط الإنتاج الاشتراكيّ المعتمد بشكل أساسيّ على التَّخطيط المركزيّ وسيطرة الدّولة على جميع وسائل الإنتاج، إلى الإنتاج الرَّأسماليّ، الذي عماده السّوق الحُرّة والمُلكيّة الخاصَّة. وهذا ما يقودنا إلى التَّسليم والإقرار بأنَّ تلك الدّول تسير في رُكبِ رأسماليّة خاصَّة، اشتراكيّة شكلاً، ومنسجمة مع النَّمط الرَّأسماليّ فعلاً وجوهراً.

غير أنَّه يمكن ملاحظة بعض الفوارق بين الرَّأسماليّتين، الشَّرقيّة والغربيّة، لجهة أشكال التَّنافس وإدارة النِّزاعات والصراعات في العالم، إن كانت على المستوى الاقتصاديّ أو السِّياسيّ أو العسكريّ وحتّى في الجانب الأخلاقيّ أيضاً، حيث تتباين توجُّهاتهما وأساليب التَّعاطي مع مختلف القضايا العالميّة، كالصراعات القوميّة وإدارة الحروب والتَّنافس على مصادر المواد الخام، وخاصَّة النَّفط والغاز.

كما تشكَّلت وفق النظريّات التي يطرحها كلا الطرفين، محاور واصطفافات أساسها الصراع على مناطق النّفوذ في العالم، ومحاولة منافسة الولايات المتّحدة في زعامة وقيادة العالم، وتشكيل أقطاب جديدة. وبموازاتها طرحت مشاريع، هدفها توسيع دائرة نفوذها وضمان مصالحها في مختلف بقاع العالم. والرَّأسماليّتان تتقاطعان مع بعضهما في هذه القضيّة، وتعتمدان عليها كنقطة مركزيّة في توجُّهاتهما المستقبليّة نحو إعادة ترتيب العالم وتشكيل خرائط جديدة تتناسب ومصالح كل طرف.

سنحاول في هذه الدراسة المقتضبة تسليط الضوء على النشأة التّاريخيّة لكُلٍّ من الرَّأسماليّتين الشَّرقيّة والغربيّة، ومحاولة تبيان هل لمصطلح الرَّأسماليّة الشَّرقيّة وجود على أرض الواقع، وتمتلك فلسفة خاصَّة بها، أم أنَّ كليهما – أي الرَّأسماليّة الشَّرقيّة والغربيّة – وجهان لعملة واحدة، ترميان إلى زيادة نفوذهما العالميّ على حساب الدّول النامية، وتعملان وفق قانون الرِّبح الأعظمي؟ أي أنَّهما في النِّهاية تُكمّلان بعضهما البعض، وإن اختلفت أدواتهما وأساليبهما في التَّعامل مع القضايا العالميّة.

كما سنُسلّط الضوء على انعكاس هذا الصراع العالميّ بين الطرفين على منطقة الشَّرق الأوسط، وتداعياته في خلق الصراعات ونشوب الحروب القوميّة والدّينيّة والمذهبيّة، وكذلك التَّنافس على مواردها وخاصَّةً النَّفط والغاز. وفي سياق بحثنا سنحاول الإجابة على التَّساؤل المطروح بكثرة: هل ستتمكَّن الرَّأسماليّة الشَّرقيّة أن تتصدَّر المشهد العالميّ وتغدو قوَّةً عالميّة على غرار الغربيّة، وتُعيد هندسة العالم؟ وما هي الدّيناميّات الأساسيّة التي تعتمد عليها في إطلاق هذه الاندفاعة نحو العالميّة، وهل بالفعل تَملُكُها، ولديها القدرة الاقتصاديّة والسِّياسيّة والثَّقافيّة لتتحوَّلَ إلى قوَّةٍ عالميّةٍ تَرسُمُ معالم المستقبل؟ هل هو عودة للحرب الباردة، ولكن بأساليب وطرق أخرى؟ أم هي تدور في فلك الرَّأسماليّة الغربيّة التي تُغيّر دائماً أشكال هيمنتها العالميّة؟

 

الولادة الجنينيّة للرأسماليّة الشَّرقيّة:

 

ولدت الرَّأسماليّة الغربيّة أواسط القرن الخامس عشر في أوروبا مع بدء الثَّورة الصناعية واكتشاف البخار، وسياسيّاً وجدت تعبيراتها في نشوء الدّول والسّوق القوميّة مع توقيع الدّول الأوروبيّة على معاهدة أوستفاليا عام 1648 ونهاية الحروب الدّينيّة وانفصال الكنيسة عن الدّولة وتأسيس الدّول على أسس علمانيّة وليس دينيّة، عبر العمل تحت شعار “الدّين لله والوطن للجميع.

إلا أنَّ إرهاصات ولادة الرَّأسماليّة الشَّرقيّة بدأت في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي في الدّول التي كانت آنذاك اشتراكيّة ومنضوية تحت راية حلف “وارسو” بقيادة الاتّحاد السوفياتي، كذلك وجدت تعبيراتها الأوَّليّة في الدّول التي عارضت اشتراكيّة السوفييت، وخَطَّت لنفسها اشتراكيّة خاصَّة بها، مثل الصِّين وألبانيا.

الخطوة الأولى نحو الرَّأسماليّة في دول أوروبا الشَّرقيّة جاءت من ألبانيا عندما انفصلت عن حلف “وارسو” وانضمَّت إلى الصِّين، ثُمَّ انفصلت عنها أيضاً، واستطاع زعيمها “أنور خوجه” أن يبنيَ اشتراكيّة هجينة مطعَّمة بالدّين، إلا أنَّه في الأساس اتّبع نهج رأسماليّة الدّولة، وهي بدورها شجَّعت الدّول الأخرى للتمُّرد على الاتّحاد السوفياتي، ومحاولة السَّير على الطريق الرَّأسماليّ، فاندلعت “ثورات البلدان الاشتراكيّة في أوروبا الشَّرقيّة؛ وساهمت في تطوير النَّزعة الشَّرقيّة، حيث رفعت تلك الثَّورات شعارات حُرّيّة الصحافة والخروج من تحت هيمنة السوفييت، وتحرير الاقتصاد”.

فالثَّورة التي قادها الإصلاحيّ في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 “الإكسندر دوبتشيك” أو ما سُمّي حينها بـ”ربيع براغ” أوصلته إلى السُّلطة، وأعلن عن جملة قرارات تضمَّنت حُرّيّة الصحافة والتَّعبير، وكذلك الانتقال إلى اقتصاد السّوق، وهو ما دفع الاتّحاد السوفياتي إلى إرسال الجيش الأحمر وقمع الثَّورة والقضاء عليها.

أجبر الاتّحاد السوفياتي دول أوروبا الشَّرقيّة للتوقيع على إعلان براتيسلافا، أكَّدوا فيها على “إخلاصهم للماركسيّة اللّينينيّة والأمميّة البروليتاريّة، وأنَّهم ضُدَّ الإيديولوجيا البرجوازيّة والقوى المعادية للاشتراكيّة”.

الغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا سَدَّ الطريق أمام تطوّر رأسماليّة شرقيّة في تلك الدّول، في وقت كانت تتطلّع للانضمام إلى العالم الغربيّ، وهي تُعدُّ تاريخيّاً جزءاً منه، ولكن بعد الحرب العالميّة الثانية، والمساومات التي حصلت في اتّفاقيّات يالطا بين كُلّ من ستالين وروزفلت وتشرشل، أفضت إلى إلحاق دول أوروبا الشَّرقيّة بالمنظومة الاشتراكيّة.

تمكَّنَ الاتّحاد السوفياتي من وأد محاولة نشوء رأسماليّة شرقيّة ضمن تلك الدّول، خاصَّة بعد أن أشرك جيوش خمس دول في حلف “وارسو”، هي “بولندا، ألمانيا الشَّرقيّة، المجر، وبلغاريا” في قمع الثَّورة الإصلاحيّة التي قادها الإكسندر دوبتشيك في تشيكوسلوفاكيا، ومنح الحَقَّ والشَّرعيّة لنفسه في التدخُّل في “حال تحوَّلت إحدى دول الكتلة الشَّرقيّة نحو الرَّأسماليّة”.

إلا أنَّ انتهاج الصِّين اشتراكيّة مُغايرة لاشتراكيّة الاتّحاد السوفياتي مُطعَّمة بالرَّأسماليّة منذ نشوئها، بعد الثَّورة التي أطلقها زعيمها “ماو تسي تونغ” عام 1949، جعلت التوجَّه الرَّأسماليّ ضمن الدّول الاشتراكيّة حُلُماً تسعى حكوماتها وشعوبها للوصول إليها. وهو ما تُرجِمَ عمليّاً بعد عمليّة الإصلاح التي قادها آخر زعيم سوفييتي “ميخائيل غورباتشوف” في عام 1986، عبر مشروع “البيروسترويكا” التي أفضت إلى انهيار الكتلة الاشتراكيّة بداية في دول أوروبا الشَّرقيّة، وإزالة جدار برلين، والاندماج بشكل مباشر مع النَّهج الرَّأسماليّ الغربيّ، حتّى أنَّ معظم الدّول انضمَّت إلى الاتّحاد الأوروبيّ وحلف الناتو أيضاً.

هذا الانقلاب لم يؤسِّس نهجاً رأسماليّاً شرقيّاً صرفاً، بقدر ما اعتبرت تلك الدّول تابعة وسابحة في فلك الرَّأسماليّة الغربيّة، وتمكَّنت خلال سنوات قليلة من الاندماج مع الدّول الغربيّة وحمل قيمها الثَّقافيّة والاجتماعيّة والسِّياسيّة والسَّير ضمن منظومتها الاقتصاديّة والعسكريّة أيضاً، بعد أن اتَّجهت إلى إعادة هيكلة دولها، وخاصَّة اقتصاداتها وفق المنظومة الاقتصاديّة الغربيّة.

رغم رَدَّة الفعل القويّة من دول أوروبا الشَّرقيّة على انهيار أنظمتها الاشتراكيّة، دفعها لتتوجّه نحو تبنّي القيم الرَّأسماليّة، وعلى جميع المستويات، الثَّقافيّة والسِّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، إلى أنَّها لم تتمكَّن من بلورة نهج رأسماليّ شرقيّ خاصٍّ بها، بل ظَلَّت في وضع المنقادة للعالم الغربيّ، وإلى الوقت الرّاهن.

الرَّأسماليّة الشَّرقيّة ونشأتها التّاريخيّة:

أطلق عدد من الباحثين والمهتمّين بالشأن الدّوليّ والإستراتيجيّات العالميّة اسم “الرَّأسماليّة الشَّرقيّة” أو “العالم الثاني” على دول المنظومة الاشتراكيّة والصِّين ومنغوليا (دول المعسكر الشِّيوعيّ) وجميع الدّول المرتبطة بها. وأخذت التَّسمية مكانها في الأدبيّات السِّياسيّة، لتنالَ الاهتمام من قبل أصحاب الفكر والفلسفة، خاصَّة بعد التمظهرات الاقتصاديّة والسِّياسيّة العديدة لها في عدد من تلك الدّول.

أدركت العديد من الدّول الاشتراكيّة السّابقة أنها بحاجة إلى هيكلة اقتصاداتها من جديد، بعد الانهيارات التي تعرَّضت لها، ولم تجد من طريق أمامها سوى الاندماج مع اقتصاد السّوق الحُرّ، خاصَّة بعد أن فقدت كُلّ مقوّمات صمودها أمام ضغوط ومؤثّرات ومغريات حياة الرَّأسماليّة الغربيّة، واختارت الرَّأسماليّة نظاماً سياسيّاً واقتصاديّاً لها، لكنَّها تمايزت عن الرَّأسماليّة الغربيّة في بعض التفاصيل، وفرضت عليها طابعاً شرقيّاً، مستمدّاً من خصوصيّتها الثَّقافيّة التي تكوَّنت عبر أكثر من نصف قرن في ظِلِّ العيش وفق الأسلوب والنَّمط الاشتراكيّ.

ويعتبر معظم الباحثين أنَّ نشوء الرَّأسماليّة الشَّرقيّة، كنظام اقتصاديّ سياسيّ فعليّ، إنَّما يعود إلى أواخر سبعينيّات القرن الماضي، وأنَّها بدأت مع التحوَّل الذي أجرته الصِّين بقيادة زعيمها “لي بينغ” في بُنية الدّولة الصِّينية، وتوجُّهها نحو الخصخصة والاقتصاد الحُرّ، والخروج من القوالب الاشتراكيّة الجامدة، وتَحرُّرها من القيود التي كبَّلت بها نفسها، خاصَّةً أنَّها فتحت الأبواب أمام جذب واستقطاب رؤوس الأموال الغربيّة نحوها، لتبدأ بعدها ثورتها الثّانية بعد الثَّورة التي أطلقها زعيمها التاريخي “ماوتسي تونغ” في أواخر أربعينيات القرن الماضي. فهجرة رؤوس أموال عائلة “روتشيلد” اليهوديّة وتمركزها في هونغ كونغ والصِّين بشكل عام، يؤكِّد ولادة الرَّأسماليّة في رحم الاشتراكيّة الصّينيّة.

فإن كانت سِمَةُ ثورة “ماو” في الصِّين ثقافيّة، زراعيّة بالدَّرجة الأولى؛ فإنَّ الثَّورة التي أطلقها “لي بينغ” كانت صناعيّة وتجاريّة في المقام الأوَّل، وتمكَّنت خلالها الخروج من حالة الانغلاق، والانطلاق نحو العالميّة.

إلا أنَّ انتقادات عديدة وُجِّهت لها، لجهة مواءمتها الاشتراكيّة مع نمط اقتصادها ذو التوجّه الرَّأسماليّ، وهذا دفع بالعديد من الباحثين إلى إطلاق صفة “الرَّأسماليّة الشَّرقيّة” عليها. وفي هذا الصدد يقول الكاتب عبد الله خليفة في دراسة له بعنوان “تداخلات الرَّأسماليّة الشَّرقيّة والتيّارات” منشورة في مجلة “الحوار” عام 2009 أنَّ “ما قامت به اشتراكيّة الحُلُم تلك، هي رأسماليّة الدّولة واقعاً”. وهو يقصد باشتراكيّة الدّولة في الصِّين، التي تلبَّست بلبوس الاشتراكيّة ولكن في جوهرها كانت رأسماليّة التوجّه.

وفي هذا الصدد يوضِّح المفكّر عبد الله أوجلان في مرافعته الخامسة أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبيّة بأن الصِّين تزوَّجت الرَّأسماليّة، ولكنَّها احتفظت باسم الاشتراكيّة شكلاً. ما يعني بأنَّ الرَّأسماليّة المتطوِّرة في الصِّين أخذاً نمطاً بنيويّاً تغلغل في بنية الدّولة، حتّى أطلق عليها اسم “رأسماليّة الدّولة”، ولكنَّها تجاوزتها مع مرور الزمن، بعد عودة هونغ كونغ إلى سيادتها، واندمجت بشكل كُلّي في النِّظام الرَّأسماليّ من حيث الاقتصاد والتّجارة والزِّراعة والصِّناعة، حتّى انتقلت معها إلى عالم الخصخصة، لتشكّل كارتلات اقتصاديّة ضخمة تنافس مثيلاتها في الدّول الغربيّة.

كما يطرح السَّفير السُّوريّ في الصِّين “عماد مصطفى” في مقالة له صحيفة “الوطن” السورية السؤال التّالي: “هل ما زالت الصِّين شيوعيّة؟” ويعتقد أنَّ هذا السؤال يراود أذهان الكثيرين، ويؤكِّد أنَّه يتفرَّع من السؤال الأول سؤالان آخران: ما الفرق اليوم بين الصِّين والدّول التي تتَّبِع النَّموذج الرَّأسماليّ والاقتصاد الحُرّ المحكوم بقوى السّوق؟ وأخيراً: ما المقصود بالاشتراكيّة ذات الخصائص الصِّينية في العصر الحديث؟”

ويستنتج السَّفير السُّوريّ من خلال حالات البذخ والتَّرف والرَّفاهية والأبنية الشّاهقة والطرقات السَّريعة والأنفاق الموجودة في الصِّين اليوم، بأنَّها لم تَعُد تلك الدّولة الاشتراكيّة التي عهدناها سابقاً في سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي، ويقارنها مع بعض عواصم الكتلة الشَّرقيّة، مثل براغ، بودابست، وحتّى موسكو أيضاً. فيقول “الصِّين لم تَعُد شيوعيّة إلا بالاسم فقط، وأنَّ كُلَّ شيء فيها اليوم إنَّما هو في جوهره رأسماليّ صرف يخضع لقوانين اقتصاد السّوق، ويستخدم أدوات الاقتصاد الرَّأسماليّ الحُرّ، بنسخته الليبراليّة الجديدة، لتحقيق النَّهضة والازدهار في الصِّين”.

الصِّين قائدة الرَّأسماليّة الشَّرقيّة:

لا شَكَّ أنَّ التطوّر الهائل وغير المسبوق الذي حقَّقته الصِّين خلال أربعة عقود الأخيرة، جعلتها دولة رائدة على الصعيد العالميّ، بامتلاكها قدرات اقتصاديّة هائلة جدّاً، حيث حقَّقت نموّاً اقتصاديّاً لم تتوقَّعه الدّول الغربيّة بالذّات. وتذهب بعض التَّقديرات إلى النموّ الاقتصاديّ لها بلغ 5.2 بالمئة منذ بداية هذا العام، ومن المتوقَّع أن ترتفع هذه النِّسبة حتّى نهاية العام. هذه القفزة والتي هي أشبه بثورة، لم تكن لتحصل لولا انتقال الصِّين من الاقتصاد الاشتراكيّ المُخطَّط نحو اقتصاد السّوق الرَّأسماليّ والخضوع لقوانينه، وكذلك دعم القطّاع الخاصّ، ما أدّى إلى تراكم الثَّروة لدى المجتمع والدّولة، على حَدٍّ سواء.

لا يمكن تجاهل أنَّ الصِّين أدارت ظهرها للاشتراكيّة كنظام يعتمد سيطرة الدّولة على المُلكيّة العامّة وأدوات الإنتاج، وتحوَّلت نحو اعتماد نمط الإنتاج الرَّأسماليّ بكُلّ ما يترتَّب على ذلك من تداعيات ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة. فلا يمكن الادّعاء بأن الصِّين لا تزال دولة اشتراكيّة، وهي تَسير بِنَهمٍ شديد في رُكبِ الرَّأسماليّة، وتخطّط لزيادة نفوذها في العالم، والوصول إلى مصادر المواد الخام والطّاقة، وتنافس دول الرَّأسمال الغربيّ في أكثر من بقعة في العالم.

هذا التَّحليل والاستنتاج يقودنا إلى التَّسليم بأنَّ الصِّين تحوَّلت إلى دولة إمبرياليّة تحت شعار الاشتراكيّة، فغزو سلعها للأسواق العالميّة حدا بها لأن تنتهج سياسة دوغمائيّة، إلا أنَّها في ذات الوقت سياسة مرنة لا تعتمد على القوَّة والسِّلاح. فرغم أنَّ ميزانيّة التَّسليح قد ارتفعت لديها في السَّنوات الأخيرة، إلا أنَّها تبقى أقلَّ ممّا تنفقه الولايات المتّحدة الأمريكيّة وأوروبا، في سبيل تعزيز نفوذها في العالم. فهي منذ اليوم الأوَّل اعتمدت ممارسة سياسة “القوَّة النّاعمة” في التسلّل إلى أكثر مناطق العالم حيويَّة وامتلاكاً لمصادر الطاقة والمواد الأوَّليّة.

رغم أنَّ الصراع بين الصِّين والولايات المتّحدة الأمريكيّة، والذي يَختصر الصراع بين الرَّأسماليّتين الشَّرقيّة والغربيّة، قد بلغ أوجه مع توجُّهِ الصِّين إلى مَدِّ أذرعها في أكثر من منطقة ساخنة في العالم، ومحاولة ربطها اقتصاديّاً معها، وخلق وقائع سياسيّة على الأرض تَحُدُّ من توجُّه عِدَّة دول لربط نفسها مع عالم الرَّأسمال الغربيّ، ورغم أنَّ الصِّين حقَّقت ثورة في مجال التَّصنيع، إلا أنَّها تبقى رهينةَ القوانين والتَّشريعات التي سنَّتها الرَّأسماليّة الغربيّة العريقة، والمُمسِكة بناصية الصِّناعة والتكنولوجيا، ولا تسمح بأن تتصدَّرَ الصِّين المشهد العالميّ وتنفرد بالرّيادة، وهذه هي النُّقطة الرَّئيسيّة للتَّنافس الذي قد يتحوَّل إلى صراع كبير بينهما. فلا تزال الصِّين رهينةَ التقدُّم الهائل الذي حقَّقته الرَّأسماليّة الغربيّة منذ نشأتها وحتّى يومنا هذا. ففي قضيّة شركة “هواوي” لصناعة الهواتف الخليويّة، التي سعت الصِّين من ورائها إلى منافسة الولايات المتّحدة والاستحواذ بمفردها على الأسواق العالميّة للهواتف الخليويّة، من خلال طرح منتجها بأسعار زهيدة، ووصولها إلى جميع المستخدمين، إلا أنَّ الولايات المتّحدة أجهضت محاولتها، عبر منعها استخدام برامجها على هواتف “هواوي”، ما أدّى إلى فشل تلك التَّجربة، وبالتالي إغلاق الشركة أبوابها وإعلان إفلاسها.

ولا تتوانى الصِّين عن إعلان منافستها للغرب الرَّأسماليّ، فهي تعارض بشدَّة الدَّعم الغربيّ المُقدَّم لتايوان، والتي تعتبرها إلى الآن جزءاً لا يتجزَّأ من أراضيها، وتسعى بشتّى الوسائل إلى عرقلة محاولات الغرب إنشاء قوَّةٍ اقتصاديّة منافسة لها على حدودها. فرغم أنَّها – أي تايوان – لا تستطيع مجاراة التطوّر الصِّناعيّ والتِّجاريّ الكبير للصّين، إلى أنَّها في ذات الوقت تُشكِّلُ مصدر قلق وإزعاج لها على خاصرتها الجنوبيّة الشَّرقيّة. وبدورها الولايات المتّحدة تواصل دعمها لتايوان وتُهدِّدُ بها الصِّين، في ذات الوقت الذي تُقدِّم فيها كُلّ التَّسهيلات الاقتصاديّة والتِّجاريّة لفيتنام من أجل تحقيق نهضة اقتصاديّة تقوّض الجهود الصِّينية في السَّيطرة على منطقة بحر الصِّين ووضع تلك الدّول تحت سيطرتها، استعداداً لتشكيل كتلة رأسماليّة على طرازها لمنافسة الولايات المتّحدة والعالم الغربيّ.

الصِّين ومشاريعها الرَّأسماليّة (الطريق والحزام):

اعتمدت الصِّين مبادرة “الحزام والطريق” لتربط العالم شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً بها، حيث ترى أنَّه سينضوي تحت سيطرتها 70% من خريطة العالم، أي ما يَقرُب من ثلثي سُكّان الكُرة الأرضيّة ويحقِّق لها ناتجاً إجماليّاً نحو 40% من الناتج العالميّ.

وتُعوّل الصِّين كثيراً على تنفيذ مشروعها هذا، وعلى ضوء ذلك رصدت له ميزانيّات ضخمة، وأنشأت طرقاً وجسوراً عملاقة، بدأتها من باكستان والهند، لتؤمِّن تدفُّقاً برّيّاً سَلِساً لسلعها عبر جميع البلدان لتصل إلى قلب دول الغرب الرَّأسماليّة، فهي تدرك جيّداً سيطرة الرَّأسماليّة الغربيّة على البحر، أو ما يُسمّى بالصراع بين “التيلوكراتيا” و”التالاسوكراتيا”، أي الصراع بين القوى البرّيّة والبحَرّيّة، فتحاول تفادي هذا الصراع وفتح الطرق أمامها لتتوسَّع أكثر من خلال إعادة إحياء طريق الحرير القديم، “حيث تعتمد على المنطقة الجغرافيّة لطريق التِّجارة التّاريخيّ، وتقول إنَّ المبادرة تعالج فجوة البُنية التَّحتيّة، وبالتالي تسريع النموّ الاقتصاديّ عبر منطقة آسيا والمحيط الهادئ وإفريقيا ووسط وشرق أوروبا”. وكذلك تسعى إلى فرض حصار على الدّول الغربيّة، بما فيها الولايات المتّحدة، ومنافستها على طرق التِّجارة الدّوليّة.

أطلقت الصِّين مشروعها هذا في عام 2013، وهو يُشكّل تحدّياً كبيراً أمام الرَّأسماليّة الغربيّة، التي تتحكَّم بمعظم المَمرّات والمضائق البحريّة في العالم، وتسعى من خلال هذا المشروع إلى ربط اقتصاديّات العديد من الدّول التي تقع ضمن جغرافيّة مشروعها باقتصادها، بل تعتمد على دول بعينها لإكمال مشروعها ووضعه حَيّزَ التَّنفيذ، مثل إيران وتركيّا والهند أيضاً.

ووفقاً لبعض مراكز البحث الإستراتيجيّة؛ فإنَّ تكلفة إنجاز المشروع، أو الميزانيّة التي رصدت لها الصّين تبلغ /900/ مليار دولار أمريكيّ سنويّاً، على أن تُضَخَّ للاستثمار في البُنية التَّحتيّة وعلى مدى عقد كامل. كما تُدرِجُ بعض تقديرات تلك المراكز مشروع أو مبادرة “الحزام والطريق” كواحدة “من أكبر مشاريع البُنية التَّحتيّة والاستثمارات في التّاريخ”. انطلاقاً من كون المشروع يُغطّي أكثر من 68 دولة، ونحو 65% من سُكّان العالم، ويغطّي نحو 40% من النّاتج المحلّيّ الإجماليّ العالميّ، وقد دخل المشروع حَيّزَ التَّنفيذ في عام 2017.

تسعى الصِّين من وراء مشروعها إلى ربط القارات الثّلاث آسيا، أوروبا وإفريقيا معاً، وترى فيها فرصةً لتأسيس مُحرّك نموٍّ عالميّ يتجاوز الرَّأسماليّة الغربيّة بزعامة الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وتعرقل مساعيها في فرض نظام عالميّ أُحادي القطبيّة ممثّلاً بـ”النِّظام العالميّ الجديد”. فكما أنَّ الولايات المتّحدة ومن خلال نظامها الجديد، تحاول تقسيم العالم بما يتناسب مع مصالحها ومشاريعها، كدولة رأسماليّة تتزعَّم العالم الغربيّ، كذلك الصِّين لم تتوقَّف عن طرح مشروعها “الحزام والطريق” لفرض توجُّهها الرَّأسماليّ الشَّرقيّ، ومن حيث النتيجة لا توجد فوارق كبيرة بين الاثنتين، إلا في بعض التَّفاصيل والأدوات والأساليب. ففي حين تعتمد الرَّأسماليّة الغربيّة وعلى رأسها الولايات المتّحدة وأوروبا، أساليب التدخُّل الخشنة والمَبنية على القوَّةِ العسكريّة بالدَّرجة الأولى، وتغيير أنظمة وخرائط سياسيّة، فإنَّ الرَّأسماليّة التي تتزعَّمها الصِّين، من الجانب الاقتصاديّ، تركّز بشكل رئيسيّ على إجراءات تحوّلات اقتصاديّة في الدّول التي ترمي ضَمَّها إلى مشروعها، لتتناغم مع طموحاتها كدولة توسُّعيّة، وتطرح نفسها كقوَّة جَذب واستقطاب في المجالات الاقتصاديّة والثَّقافيّة، ومن ثُمَّ الجانب السِّياسيّ، وهو ما يُشكّلُ دافعاً لدى تلك الدّول للقبول بالنَّموذج الصِّينيّ.

وهو ما شهدناه في إقبال دول الخليج العربيّ في التَّوقيع على اتّفاقيّات ثنائيّة مع الصِّين، وخاصَّة في الجانب الاقتصاديّ، وفتح أسواقها أمام البضائع والسِّلع الصِّينية، وهو بحدِّ ذاته يعتبر تحوّلاً كبيراً في التوجّهات السِّياسيّة لتلك الدّول، وهو ما يقطع الطريق على الغرب والولايات المتّحدة الأمريكيّة، رغم العلاقات التّاريخيّة بينهما، والتي لا يمكن تجاهلها والقفز فوقها بتلك السرعة المتوقَّعة.

كما تحتلُّ إيران موقعاً متقدّماً في المشروع الصِّينيّ، نظراً لموقعها الجغرافيّ الهام، ولخلافاتها الإيديولوجيّة مع منظومة الرَّأسمال الغربيّ، وتوجُّهاتها نحو لعب دور إقليميّ بدعم من الصِّين، إضافة إلى أنَّ الأخيرة تستورد ما نسبته 65% من احتياجاتها للطاقة من إيران، لذلك تعتمد عليها كرُكنٍ أساسيّ في بناء إستراتيجيّتها في المنطقة والعالم وتُقدّم لها كُلّ التَّسهيلات في تجاوز العقوبات المفروضة عليها من قبل الدّول الغربيّة.

فيما تركيّا هي الأخرى، ورغم ارتباطها حتّى العمق بالمنظومة الغربيّة الأطلسيّة، ومنذ خمسينيّات القرن الماضي، إلا أنَّها تحاول أن تكون جزءاً من المنظومة الشَّرقيّة، وتُبدي مقارباتٍ تارَّة تبدو مُشجّعة للانضمام إلى المشروع الصِّينيّ، مُستغلّة موقعها الجغرافيّ في الوصل بين قارتي آسيا وأوروبا، وتارَّةً تحافظ على مسارها ضمن معسكر الرَّأسمال الغربيّ، لتستفيد من لعبة التّوازنات الدّوليّة والإقليميّة، وتحقِّقَ تَمدُّداً ونفوذاً لها في المنطقة.

غير أنَّ كُلّ المؤشِّرات الاقتصاديّة والسِّياسيّة وحتّى العسكريّة، تؤكِّد أنَّه ليس بمقدور تركيّا الخروج من الدّائرة الغربيّة، فالدّولة التُّركيّة التي أنشئت بموجب معاهدة لوزان قبل مئة عام من الآن، مرتبطة مع الغرب بعلاقات بنيويّة تتجاوز الأنظمة والحكومات القائمة في تركيّا، ولا يمكنها الفِكاكَ منها بتلك السُّهولة المتوقَّعة، وما توقُّفُ تركيّا عن وضع منظومة صواريخ “إس – 400” الرّوسيّة في الخدمة العمليّة، إلا دليل على انعدام إمكانيّة اندماجها مع المنظومة الشَّرقيّة العسكريّة، وحتى إن أرادت تركيّا الانتقال إلى المعسكر الآخر، فإنَّ تكلفتها الاقتصاديّة ستكون باهظة عليها، ورُبَّما تتسبَّب في انهيار اقتصادها بالكامل. كما أنَّ الغرب لايزال يولي أهميّة إلى موقع ودور تركيّا في رسم إستراتيجيّاته في المنطقة والعالم، فلا تزال تركيّا تَحتلُّ موقعاً هامّاً في الإستراتيجيّة الرَّأسماليّة الغربيّة أمام تَمدُّدِ الصِّين وروسيّا باتّجاه أوروبا ومنطقة الشَّرق الأوسط، وستحاول الدّول الغربيّة الاحتفاظ بتركيّا كرأس حربة متقدّم في لجم المحاولات الرّوسيّة والصِّينية، وتَجلَّت هذه القضيّة بشكل أكثر وضوحاً بعد بدء الحرب الرّوسيّة في أوكرانيا، حيث تلعب تركيّا دور الحارس أمام توغُّل روسيّا في منطقة البحر الأسود، حتّى أنَّها منعت طائراتها من العبور عبر أجوائها، كما وضعت موانع على عبور سفنها الحربيّة من مضيقي البوسفور والدردنيل، إضافة إلى تزويدها أوكرانيا بالسِّلاح والعتاد، وخاصَّةً الطيران المُسيَّر.

والمناورة التُّركيّة بين المعسكرين الشَّرقيّ والغربيّ، سعياً منها في تعزيز دورها الإقليمي والدّوليّ، يقابِلُهُ إصرارٌ غربيٌّ على إعادة تركيّا إلى حظيرة الغرب والأطلسيّ، اعتقاداً منهم بأنَّها – أي تركيّا – لم تفقد دورها وأهميَّتها بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي، والقناعة المتشكّلة لديهم بأنَّ تركيّا تُشكِّلُ حجرةً عَثَرَةً أمام مشروع الصِّين “الحزام والطريق”، وستحاول الدّول الغربيّة بشتّى الوسائل إقحام تركيّا في الصراعات مع كُلّ من الصِّين وروسيّا، للحَدِّ من تمدُّدهما الإقليميّ والدّوليّ، مثلما شهدنا في سوريّا وفي أوكرانيا أيضاً.

ورغم أنَّ تركيّا أبدت استعدادها للانضمام إلى معاهدة “شنغهاي” للتَّعاون، إلا أنَّ تفكيرها ونهجها الغربيّ لا يتوافق مع الدّول الأعضاء فيها، فتركيّا التي تُعتبر دولة شرقيّة بموقعها وإرثها وثقافتها؛ إلا أنَّها غربيّة التوجُّه والتفكير، فلا تزال تحلم بالانضمام إلى الاتّحاد الأوروبيّ، وتحمل في جزء كبير من ثقافتها الجمعيّة القيم الغربيّة التي حملتها بعد تأسيس الجمهوريّة التُّركيّة عام 1923، رغم احتفاظ بعض الفئات والشَّرائح بقيمها الدّينيّة، إلا أنَّها من حيث الشَّكل انقادت وراء القيم الغربيّة في العمل والعيش، بل انسجمت معها وأصبحت جزءاً لا يتجزّأ منها.

لذلك من الصعوبة بمكان أن تجد تركيّا موقعاً لها ضمن الإستراتيجيّة التي رسمتها لها كُلٌّ من الصِّين وروسيّا، في عالمنا اليوم، بل ستبقى تدور في الفلك الرَّأسماليّ الغربيّ، ولا قَدرة لدى الصِّين وروسيّا على جذبها إلى معسكرهما.

 

المشروع الأوراسي الرّوسيّ وتناغمه مع مشروع الصِّين “الحزام والطريق”:

 

بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي، وتَخبُّط الدّولة الرّوسيّة إبّان زعامة بوريس يلتسين، تمكَّنت بعد وصول فلاديمير بوتين إلى قيادة الدّولة، من إعادة مكانتها العالميّة كدولة عظمى، والتأثير في مسار التطوّرات العالميّة.

طرح المفكّر والفيلسوف الرّوسيّ “الإكسندر دوغين” المشروع الأوراسيّ الرّوسيّ، والذي يعتبره العديد من الباحثين أنَّه بديل عن الاتّحاد السوفياتي، ويتمثّل بضَمِّ قارتي آسيا وإفريقيا تحت السَّيطرة الرّوسيّة. لاقت نظرية ومشروع دوغين قبولاً لدى عدد من النُّخب السِّياسيّة والثَّقافيّة في البلدان الآسيويّة وعلى نطاق ضيّق في أوروبا، مثل تركيّا وإيران، ويُمثّل حزب العمل التُّركيّ وزعيمه “دوغو برينجك” التيّار الأوراسيّ ضمن الدّولة التُّركيّة، ويسعى إلى الامتداد وخلق حاضنة شعبيّة له، كما له تأثير على دوائر الحكومة، بما فيها الرَّئيس أردوغان ووزارتي الخارجيّة والدِّفاع. ولعب هذا التيّار دوراً كبيراً في التقرُّب الحاصل بين تركيّا وروسيّا، إثر أزمة إسقاط الطائرة الرّوسيّة من قبل تركيّا داخل الأراضي السُّوريّة عام 2015.

يساور الدّول الغربيّة، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة، مخاوف من التّقارب الصِّينيّ مع روسيّا، ومن احتماليّة اندماج مشروعيهما الإستراتيجيّين، مشروع “الحزام والطريق” الصِّيني مع “المشروع الأوراسيّ” الرّوسيّ أو حصول تقارب إستراتيجيّ بينهما، وهو ما يُشكّل خطراً على مصالحها ووجودها كدول تتزعَّم قيادة العالم.

إنَّ أكثر ما تتخوَّف منه الرَّأسماليّة الغربيّة هو تنامي دور عالميٍّ للرَّأسماليّة الشَّرقيّة المتمثّلة بالصِّين وروسيّا، وعماد هذا التوجُّه الثُّنائيّ للدَّولتين، يجد تعبيراته في التحام القوَّةِ الاقتصاديّة الهائلة للصّين، مع القوّة العسكريّة الرّوسيّة، وهي تهدّد الولايات المتّحدة بانتزاع زعامة وقيادة العالم منها. وحسب بعض الخبراء الاقتصاديّين؛ أنَّه إذا حافظت الصِّين على مستوى نموّها الاقتصاديّ بالمعدّلات الراهنة؛ فإنَّها في غضون إحدى عشر سنة ستتفوَّق على الولايات المتّحدة، وبالتالي تكون لديها القدرة على فرض توازنات تلائم مصالحها. وكذلك الأمر بالنسبة لروسيّا، التي تمكَّنت خلال فترة حكم بوتين أن تُعيدَ الحياة لقطّاعات الإنتاج العسكريّ كانت متوقِّفة أثناء الفترة اليلتسينيّة، وتخلق نوعاً من التوازن العسكريّ مع المعسكر الغربيّ وتستعيد دورها على المسرح العالميّ؛ إلا أنَّها لاتزال تعاني من مشاكل اقتصاديّة عديدة، وزادت بعد العقوبات التي فرضتها الولايات المتّحدة وأوروبا عليها بعد حربها في أوكرانيا. فإن كانت روسيّا تبحث عن فضاءٍ جغرافيٍّ لوضع مشروعها الأوراسيّ قيد التنفيذ، والبدء به على شكل خطوات عسكريّة، تحت حجج وذرائع مختلفة، إلا أنَّها تفتقر إلى الأدوات والأساليب المشروعة في فرض نفسها كقوّة هيمنة في العالم، وتجلّى هذا الأمر في عدوانها الفظّ على أوكرانيا.

زادت خشية العالم الرَّأسماليّ الغربيّ من وقوف الصِّين مع روسيّا في حربها بأوكرانيا، عبر تقديم الدَّعم الاقتصاديّ لها، إلا أنَّ الصِّين وقفت تتأمَّل المشهد العالميّ، ولم تتسرَّع في قرارها بالانخراط مع روسيّا في حرب غير واضحة آفاقها، ورُبَّما تتسبَّب في اندلاع حرب عالميّة ثالثة. وتمكَّنت الدّول الغربيّة من توحيد مواقفها ضد روسيّا، وتحييد الصِّين عنها، عبر زيادة تكاليف الحرب والإنفاق العسكريّ الرّوسيّ، وهو ما لا ترغب الصِّين بدفع أكلافها على غرار أوروبا التي تعاني من ارتدادات الحرب بشكل مباشر، وأثَّرَت في أقوى اقتصاداتها، ألا وهو الاقتصاد الألمانيّ، حيث تتحمل ألمانيا العبء الأكبر لفاتورة الحرب الرّوسيّة في أوكرانيا، وهو ما أثَّرَ على سعر اليورو، حيث هبطت قيمته إلى أقلّ من الدّولار، واستطاع المستشار الألماني أثناء زيارته للصّين وتوقيعه عِدَّةَ اتّفاقيّات اقتصاديّة وتجاريّة معها، أن يُعيدَ التَّوازن لليورو.

ويقول المفكر “برانكو ميلانوفيتش”، وهو اقتصاديّ صربيّ – أمريكيّ، وأستاذ في جامعة مدينة نيويورك.  في دراسة له بعنوان “مستقبل الرَّأسماليّة صدام الرَّأسماليّات: الصراع الحقيقيّ من أجل مستقبل الاقتصاد العالميّ” نشرت في مجلة “فورين أفيرز” الأمريكيّة: “اليوم يتصارع معسكران رأسماليّان من أجل التفوّق: معسكر جدارة ليبراليّ، تقوده الدّيمقراطيّات الصِّناعيّة المُتقدِّمة، ومعسكر سياسيّ بقيادة الدّولة، تُشكّل الصِّين رأس حربته. ولكُلٍّ منهما مشاكل كبيرة تلوح في الأمام”.

فالصراع الرَّئيسيّ اليوم ينحصر بين الولايات المتّحدة والصِّين، وخاصَّة في المجال الاقتصاديّ، خاصَّة بعد أن تحوَّلت الصِّين إلى قوَّةٍ اقتصاديّة تُهدِّدُ تَفرُّدَ الولايات المتّحدة على زعامة العالم.

ويؤكّد “برانكو” أنَّ مستقبل العالم يتوقَّف على المنافسة، التي قد تتحوَّل إلى صراع بين الولايات المتّحدة والصِّين، فيقول “ينخرط هذان النَّوعان من الرَّأسماليّة – اللّتان تمثّلان الولايات المتّحدة والصِّين، على التوالي، مثاليهما الرّائدين – في منافسة دائمة مع بعضهما لأنَّهما متشابكتان للغاية. وتبقى آسيا وأوروبا الغربيّة وأمريكا الشّماليّة، التي تَضُمُّ مجتمعة 70 في المائة من سُكّان العالم وتُقدّم 80 في المائة من ناتجه الاقتصاديّ، على اتّصال دائم من خلال التِّجارة، والاستثمار، وحركة النّاس، ونقل التكنولوجيا وتبادل الأفكار. وقد ولدت هذه الرَّوابط والاصطدامات منافسة بين الغرب وأجزاء من آسيا، والتي أصبحت أكثر حِدَّةً بسبب الاختلافات في نماذج الرَّأسماليّة الخاصَّة بكُلٍّ منهما. وستكون هذه المنافسة – ليس منافسة بين الرَّأسماليّة ونوع من نظام اقتصاديّ بديل – هي التي تُشكّل مستقبل الاقتصاد العالميّ”.

ويورد “برانكو” حقائق تتعلَّق بالنّاتج الاقتصاديّ الصِّيني، ليشير من خلالها إلى أنَّ الصِّين غدت دولة رأسماليّة صرفة، فيقول “في العام 1978، جاء حوالي 100 في المئة من النّاتج الاقتصاديّ الصِّيني من القُطّاع العام؛ لكن هذا الرَّقم انخفض الآن إلى أقل من 20 في المائة. وفي الصِّين الحديثة، كما هو الحال في البلدان الغربيّة الرَّأسماليّة الأكثر تقليديّة، توجد وسائل الإنتاج في الغالب في أيدي القُطّاع الخاص، ولا تفرض الدّولة قرارات بشأن الإنتاج والتَّسعير على الشَّركات، ومعظم العُمّال عاملون بأجر. وتُسجِّلُ الصِّين علاماتٍ كرأسماليّة إيجابيّة في جميع هذه المجالات الثَّلاثة”.

وفي نهاية دراسته القيّمة؛ يضع “برانكو” مقارنة بين الرَّأسماليّة الشَّرقيّة المتمثّلة بالصِّين، وبين الرَّأسماليّة الغربيّة التي يطلق عليها اسم “الرَّأسماليّة الليبراليّة”، كما يُحذّر من استئثار طبقة عليا في الرَّأسماليّة الليبراليّة بالقوَّةِ الرَّأسماليّة، معتبراً أنَّها تشكل تحدّياً لها، فيقول “تتمتَّع الرَّأسماليّة الليبراليّة بالعديد من المزايا المعروفة، وأهمُّها الدّيمقراطيّة وسيادة القانون. وتُشكّل هاتان الميّزتان فضائل في حَدِّ ذاتهما، ويمكن أن يُنسب إلى كليهما الفضل في تشجيع تنمية اقتصاديّة أسرع عن طريق تشجيع الابتكار والحراك الاجتماعيّ. ومع ذلك، يواجه هذا النِّظام تحدّياً هائلاً: ظهور طبقة عليا تُديم نفسها ذاتيّاً، مصحوبَةً بتزايد اللامساواة. ويُمثّل هذان المظهران الآن أخطر تهديد لبقاء الرَّأسماليّة الليبراليّة على المدى الطويل. في الوقت نفسه، تحتاج حكومة الصِّين وحكومات الدّول الرَّأسماليّة السِّياسيّة الأخرى إلى توليد نموٍّ اقتصاديّ بثبات لإضفاء الشَّرعيّة على حكمها، وهو التزامٌ قسريٌّ قد يصبح الوفاء به أصعب باطّراد”.

 

انعكاس الصراع بين الرَّأسماليّة الشَّرقيّة والغربيّة على الشَّرق الأوسط:

 

تَحتَلُّ منطقة الشَّرق الأوسط مكانةً هامّةً في مُجمل الصراعات الدّوليّة، بل تُشكّل نقطة جذب للقوى المتصارعة على بسط نفوذها عليها، خاصَّة أنَّها تمتلك مصادر هائلة للطاقة (النَّفط والغاز)، إضافة إلى وجود ممرّات مائيّة، مثل قناة السويس، مضيق باب المندب، مضيقي البوسفور والدردنيل، وغيرها من الميّزات التي تجعلها ساحة تَشتدُّ في الصراعات والحروب، ولا تَشهد دولها استقراراً.

فإن كانت فرنسا وبريطانيا قد قَسَّمت المنطقة وفق مصالحها في بداية القرن الماضي وفقاً لمسطرة “سايكس” الإنكليزيّ و”بيكو” الفرنسيّ، ومن ثُمَّ جاءت معاهدة لوزان – التي تَمُرُّ الذِّكرى المئويّة الأولى لها هذا العام – ورسمت خرائط للمنطقة، جعلت منها قنابل موقوتة، قابلة للانفجار دائماً، إلا أنَّ سيادة الولايات المتّحدة زعامة العالم الرَّأسماليّ الغربيّ، دفعها، ومنذ أواسط القرن الماضي، إلى إعداد إستراتيجيّات وتصوّرات تتلاءم ومصالحها في المنطقة، وشَكَّلت محاور وتحالفات مع دول المنطقة، سعياً وراء رسم خرائط جديدة وإجراء تغييرات في أنظمتها القائمة.

فالتغلغل الأمريكيّ في المنطقة جاء على خلفيّة إدراكها بأنَّها خرجت مغبونة من التقسيمات التي حصلت في المنطقة في بداية القرن. فنسجت علاقاتها مع أنظمة المنطقة بشكل يتوافق مع مصالحها، فدعمت النِّظام الشاهنشاهي السّابق في إيران، والسُّعوديّة والأردنَّ وتركيّا ودولاً أخرى. ففي انقلاب مُحمَّد مُصدَّق الذي وقع عام 1953 في إيران، خَطَّطت له الولايات المتّحدة عبر جهاز الاستخبارات المركزيّة الـ(CIA)، بعد أن أمَّمَ مُصدَّق النَّفط الإيرانيّ، واستبعد الشَّركات الأجنبيّة من الاستثمار في إيران، وخاصَّةً الشَّركات الإنكليزيّة. وكذلك كانت الولايات المتّحدة وراء ثلاث انقلابات حصلت في تركيّا (1960، 1971، 1980).

كما شَكَّلَ تدخُّلُ الغرب في جميع الحروب التي اندلعت بين العرب وإسرائيل، خاصَّةً أثناء العدوان الثّلاثيّ على مصر، نهجاً ثابتاً لدى الدّول الغربيّة، حيث شاركت كُلٌّ من فرنسا وبريطانيا إلى جانب إسرائيل في العدوان. وكذلك كان الأمر في الحروب التالية، وإن كانت بشكل غير مباشر.

حتى الاتّحاد السوفياتي مارس دوره على المسرح العالميّ وفي التدخّل في الصراعات والنزاعات الدّوليّة كدولة رأسماليّة تسعى وراء تحقيق مصالحها، بعيداً عن الشِّعارات الخادعة التي كانت ترفعها من قبيل تحقيق السَّلام العالميّ والاشتراكيّة. صحيحٌ أنَّ تدخُّلها في عدد كبير من ملفّات الصراع الدّوليّ ساهم في توطيد السِّلم الدّوليّ أثناء فترة الحرب الباردة، مثل دورها في إنهاء العدوان الثّلاثي على مصر وكذلك في حربي 1967 و1973، إلا أنَّ تدخُّلها الفظِّ وغير المشروع في أفغانستان عام 1979، جاء من منطلق حماية مصالحها الدّوليّة، وليس لحماية السِّلم الدّوليّ، وتسبَّبَ ذاك الغزو في خسارات كبيرة لها طيلة عشر سنوات، واضطرَّ إلى الانسحاب منها بعد تعرّضه للهزيمة، إثر دعم المعسكر الغربيّ بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة ما سُمّي بالمجاهدين الأفغان ضُدَّ السوفييت، وحوَّلت معها أفغانستان إلى أكبر بؤرة للإرهاب في المنطقة والعالم.

وقعت روسيّا أيضاً في ذات المستنقع، بعد تخلّيها عن الاشتراكيّة وتحوّلها إلى دولة رأسماليّة بحتة، وهي اليوم ومن خلال بوّابة الصراع في سوريّا، وجدت موطئ قدم لها على المياه الدافئة في البحر المتوسِّط، بعد أن فقدت مكانتها الدّوليّة كقوّة عظمى إثر انهيار الاتّحاد السوفياتي، وتدخّلها في الحرب السُّوريّة، جاء من منطلق صراعها العالميّ مع المنظومة الغربيّة، بعد أن طرحت نفسها كقطب عالميّ ثانٍ يمكن أن يُغيّرَ التوازنات الدّوليّة ويُعيد رسم خرائط المنطقة وفق متطلّبات المصالح الرّوسيّة، وليس حسب مصالح شعوب المنطقة.

كما أن المنطقة شهدت تنافساً غير مسبوق بين روسيّا والولايات المتّحدة في مجال بيع الأسلحة لدول المنطقة، إضافة إلى حشد جيوشها وأساطيلها العسكريّة في عدد من دول المنطقة، سعياً وراء الحفاظ على مصالحها الحيويّة والوصول إلى مصادر الطاقة، إن كان في الخليج العربيّ أو إيران والعراق وحتّى سوريّا. وعلى ضوئها شكّلت تحالفات مع عدد من دول المنطقة، خاصَّة مع سوريّا وإيران، واستمالت تركيّا إليها، رغبة منها إخراجها من حلف “النّاتو” وضَمِّها إلى مشروعها الأوراسيّ.

فيما سلكت الصِّين سياستها المعتادة المعروفة بالسِّياسة النّاعمة، وحقَّقت اختراقات هامّة في عدد من دول المنطقة، وخاصَّة في منطقة الخليج العربيّ، كذلك يشير حضورها العسكريّ المحدود في سوريّا، إلى دلالات على أنَّ الصِّين تتّجه نحو تعزيز دورها على المسرح الدّوليّ عسكريّاً أيضاً، ولو بشكل رمزيّ، دون رصد ميزانيّات مالية ضخمة لها على غرار الدّول الغربيّة.

لم تجنح الصِّين للدّخول في تحالف إستراتيجيّ شامل مع روسيّا، كما كانت تتوقَّع دوائر سياسيّة غربيّة، وهو ما شكَّلَ ارتياحاً كبيراً لدى الولايات المتّحدة بالدَّرجة الأولى، ولم يتطوّر التّعاون بينهما إلى مستويات تشكّل فيها تهديداً كبيراً على الدّول الغربيّة، بل بقي ضمن إطار ضيّق، لم يتجاوز الاتّفاقيّات الثّنائيّة في مجال الطّاقة وتبادل السِّلع الاستهلاكيّة، دون الجانب العسكريّ الإستراتيجيّ.

ينعكس الصراع بين القوى الرَّأسماليّة الشَّرقيّة والغربيّة على دول المنطقة في عدم الاستقرار والعيش ضمن دوّامة الحروب والنّزاعات الدّينيّة والقوميّة، حيث تسعى جميع الأطراف إلى إثارة القضايا والخلافات الدّينيّة والمذهبيّة والعرقيّة لديمومة مصالحها في المنطقة، مستندةً إلى أنظمة لا تلتفت إلى مصالح شعوبها، وتضع مُقدَّرات بلادها تحت تَصرُّف الدّول الأجنبيّة في سبيل الحفاظ على نفسها.

 

الخاتمة:

 

إن كان القرن الواحد والعشرين قد بدأ بسيادة الولايات المتّحدة المسرح العالميّ كقطب أوحد، تفرض هيمنتها على بقاع عديدة من العالم، وتتحكَّم بالاقتصاد العالميّ من خلال الإمكانات الضخمة التي تمتلكها واستناداً إلى قوَّتها العسكريّة أيضاً، فإنَّ كُلُّ الدلائل تُشيرُ إلى تخلخل مكانتها الدّوليّة بعد تبوّأ كُلٍّ من روسيّا والصِّين مكانتهما العالميّة في غمرة الصراع على مناطق للنفوذ لهما. ويرى العديد من الخبراء والمختصّين في العلاقات الدّوليّة أنَّ العالم يتَّجه نحو تعدّد للأقطاب، خصوصاً بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، التي أعادت رسم العلاقات الدّوليّة والتوازنات بين مختلف دول العالم وفق أسس جديدة عنوانها الجديد عدم الاستقرار واندلاع حروب ونزاعات جديدة وتهديدات كبيرة على البيئة وانتشار للأوبئة والكوارث الطبيعيّة كالزلازل والبراكين وموجات التسونامي، وابتعاد الدّول عن أخلاقيّاتها ومبادئها.

هذا الواقع المُتغيّر في كُلِّ لحظة يفرض تحدّيات كبيرة على دول المنطقة، ويفترض بها أن تنأى بنفسها عن الصراعات بين القوى الكبرى، وتنتهج سياسات إستراتيجيّة متوازنة، فليس لديها القُدُرات الاقتصاديّة والعسكريّة للدّخول في أيٍّ من تلك الصراعات، والتي كما وصفها الرَّئيس الأمريكيّ السّابق دونالد ترامب بأنَّه “صراع الفيلة”، وعليها أن تلتفت إلى حَلِّ مشاكل التنمية والبيئة والتَّعليم والفقر في بلادها، وتسرّع في عمليّات بناء دولها الوطنيّة وتوسِّع من مساحات الحُرّيّة والدّيمقراطيّة في بُنى مؤسَّساتها وإداراتها، وتُشرك شعوبها في صناعة قرارتها الوطنيّة السِّياسيّة والاقتصاديّة، ولا تُقحم نفسها في أيٍّ من الأحلاف، بل تحافظ على ديمومة علاقاتها مع مختلف القوى.

إنَّ العالم يعيش حالة تَموّج وعدم استقرار في العلاقات الدّوليّة، نتيجة الصراعات التي تشهدها أكثر من منطقة، فجنوب شرق آسيا يشهد نزاعات بين الولايات المتّحدة والصِّين على تايوان، وكذلك هناك التَّهديد النَّوويّ الذي تُشكّله كوريا الشّماليّة، إضافة إلى الحرب الرّوسيّة في أوكرانيا، فيما تَمُرُّ منطقة الشَّرق الأوسط بمرحلة من التغيير بعد اندلاع ثورات الشُّعوب فيها، ولم تشهد أيُّ دولة فيها حالة من الاستقرار، بدءاً من سوريّا، تركيّا، العراق، اليمن، مصر، السودان، تونس ودول أخرى.

المراجع:

____________

1 – دراسة للكاتب عبد الله خليفة بعنوان “تداخلات الرَّأسماليّة الشَّرقيّة والتيّارات” منشورة في مجلة “الحوار” عام 2009.

2 – المفكّر عبد الله أوجلان في مرافعته الخامسة أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبيّة.

3 – مقالة للسَّفير السُّوريّ في الصِّين “عماد مصطفى” منشورة في صحيفة “الوطن” السُّوريّة.

4 – دراسة بعنوان “مستقبل الرَّأسماليّة صدام الرَّأسماليّات: الصراع الحقيقيّ من أجل مستقبل الاقتصاد العالميّ”، للمفكّر والاقتصادي الصربيّ – الأمريكيّ “برانكو ميلانوفيتش”، وهو أستاذ في جامعة مدينة نيويورك.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى