أبحاث ودراساتافتتاحية العددد. أنمار نزار الدروبيمانشيتملف العدد 55

الإسلام السياسي والإرهاب السياسي

الدكتور أنمار نزار الدروبي

الدكتور أنمار نزار الدروبي

أنمار الدروبي
أنمار الدروبي

مدرّس مادة الفكر السياسي

الإسلام السياسيّ والإرهاب السياسيّ

مقدمة:

قبل الحديث عن ظاهرة الإرهاب السياسيّ في تيار الإسلام السياسيّ، لا بد من التطرق وبصورة مختصرة

إلى تعريف مفهوم الإرهاب السياسيّ بشكل عامّ، فقد طُرِحت عدةُ تعاريف توضح المفهوم العام لظاهرة

الإرهاب السياسيّ، وهذه التعاريف تربط بين الإرهاب وتحقيق أهداف سياسيّة، أو بين الإرهاب والوسائل

التي تستعملها السلطة الحاكمة، بيد أن أغلب التعاريف قد ارتبطت بالمراحل الأولى لظهور مفهوم الإرهاب

الذي كان يُستخدم لتحقيق غايات سياسيّة، كأداة من أدوات الصراع بين السلطة ومعارضيها. لقد عُرف

الإرهاب السياسيّ “بأنه الاستخدام المنظَّم لوسائل استثنائية للعنف من أجل تحقيق هدف سياسيّ، كالاستيلاء

أو المحافظة أو ممارسة السلطة، وتحديداً هو مجموعة من أعمال العنف، مثل: اعتداءات فردية أو جماعية

أو تخريبية تنفذها منظمة سياسيّة للتأثير في السكان وخلق مناخ بانعدام الأمن”([1]). وقد عرَّف آخرون مفهوم

الإرهاب السياسيّ بأنه “استخدام العنف أو التهديد من قِبل فرد أو جماعة، تعمل إما لصالح سلطة قائمة أو

ضدها، والهدف من ذلك هو العملُ لخلق حالة من القلق الشديد لدى مجموعة من الضحايا المباشرة

للإرهاب، وإجبار تلك المجموعة على الموافقة على المطالب السياسيّة لمرتكبي العمل الإرهابيّ”([2]).

وفريق ثالث يرى أن الإرهاب السياسيّ هو الإرهاب الغالب حصولُه على المستوى الداخليّ، وغالباً ما تلجأ إليه

طبقة معينة أو فئة اجتماعيّة، مما يدفع إلى السيطرة على الطبقات أو الفئات الأخرى وإخضاعها. وقد عرّف

الفريق الأخير الإرهاب السياسيّ بأنه “الإرهاب الذي يؤدي إلى نشوب الاضطرابات والحروب الأهلية

والصراعات الداخليّة، فالفريق الحاكم يعمل على الاحتفاظ بالمكاسب والامتيازات التي يجنيها من وراء وجوده في

السلطة، بينما الفريق الآخر يحاول تحدي الفريق الحاكم وإجبارَه على التنازل والتخلي عن مكاسبه وامتيازاته”([3]).

وبالعودة إلى موضوع الإرهاب السياسيّ في تيار في الإسلام السياسيّ، فالمسألة السياسيّة كانت دائماً جوهريةً

في تاريخ الإسلام، ولم تفتعلهـا الحركات الإسلاميّة المعاصرة، أي ما يسمى اليوم بالإسلام السياسيّ، فقد شهد

التاريخ الإسلاميّ وجود علاقات من التلازم بين السياسة والدين كغيره من الأديان السماوية، إذ تم اللجوء للدين

من قِبل السلطات الحاكمة والحركات والفرق المعارضة بهدف إضفاء شرعية دينية على طروحاتها، بلغت

مسـتوياتها حدوداً عَبَّرَ فيها الصراع السياسيّ عن نفسه في أشكال مختلفـة مـن المذهبيـة الدينيّـة فـي مراحلَ

كثيرة. وينطبق هـذا علـى عصـرنا الحديث أيضاً، فقد تمت مواجهة مختلف أوجه الاحتلال بتضافر عنصرَي

الوطنيّة والدين في تشكيل الوجدان السياسيّ للشعوب في البلدان العربيّة والإسلاميّة، ففي بداية الاحتلال نشطت

مقاومة تحت لواء الجهاد بزعامـة مشايخ يُشهد لهـم بالمكانة الدينيّة في مجتمعاتهم.

لقد ورثت حركات الإسلام السياسيّ الثقافة السياسيّة والتنظيميّة من الحركات الوطنيّة والقوميّة والاشتراكيّة،

ولكن أضافت عليها أفكارها ومعتقداتها، وهو ما بين السياسة والمقدّس، وبين الدنيويّ والدينيّ، إن هذا

الخلط يقف وراء أسباب تطرّفها وممارستها للعنف، بيد أن الخطاب الإسلاميّ الاحتجاجيّ الرفضويّ يفتقر

إلى بدائلَ سياسيّة وموضوعية قادرة على الخروج من حالة الأزمة والانسداد التي كانت في أساس خطابه

المتطرف، وبمعنى أدق، إنها لم تستطع أن تبني مشروعاً سياسيّاً بديلاً عن المشروع الذي ترفضه، وتحتجّ

عليه بثورتها العنيفة أو السلميّة، وهذا ما يسمح بالقول: “إن الحركات الإسلاميّة المعاصرة تملك برنامج

ثورة وهدم دون أن تملك برنامج تأسيس وبناء، وفي الظن أن هذه نقطة الضعف القاتلة للمشروع السياسيّ

الإسلاميّ المعاصر في البلاد العربيّة، وفي مجموع العالم الإسلاميّ”([4]).

ومن هذا المنطلق نلحظ أنّ تيارات الإسلام السياسيّ، بقوة موقعها المتميز في ميزان القوى، كان من الممكن

أن تقدم مساهمة فعالة وتجرِبة ناجحة في إرباك السلطة وتغيير المشهد السياسيّ لدى النخب الحاكمة، عن

طريق ثورة ناضجة ضد النظم السياسيّة القائمة، غير أنها لم تستطع أن تقدم ولو دليلاً على أنها قوة بناءٍ

وليست قوة هدم، بسبب عدم وجود برامج واقعية لتجاوز الوضع المتخلف الذي ترفضه ([5]).

إنّ عودة الدين إلى واقع الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، لأسـباب موضوعية اقتصادية واجتماعيّة وسياسيّة،

ساعد على استثمار الرأسمال الدينيّ وتجنيده في الصراع السياسيّ، أو دفعه في اتجاه إنشاء حركات إسلاميّة

احتجاجية سياسيّة المحتوى ودينية الشكل، وإنّ هذه الحركات غالباً مـا تنشـأ وتظهـر نتـاج الظلـم والقمع

الممارسَين من قِبل السلطات الحاكمة، والإحساس بـــالتهميش والإقصاء اللذَين غالباً ما يؤديان إلى

الاغتراب أو الانضمام إلى الحركات المتشددة، نتيجةَ سوء توزيع الثروة وانتشار الفساد. ومن جانب آخر

تسعى هـذه الحركات الدينيّة ومن خلال استغلال شعاراتها، إلى اسـتقطاب كلّ من هو مقتنع بهذه الشعارات،

ومن هذه الشعارات على سبيل المثال: “الحاكمية لله وحده ولا حاكمية لبشر، وأنه لا بد من حكومة دينية

لإقامة النظام الإسلاميّ، وأنّ الجهاد فريضة غائبة يتعـيّن إعادتها لمواجهة أعداء التيار الإسلاميّ مـن حكام

ومفكّرين، ولا بـدّ مـن تطبيـق الشريعة الإسلاميّة، وإلا تتعـين الحرب على المجتمع بكامله، وأنه لا بدّ من

فرض الجزية على غير المسلمين، وإلا كان المجتمع جاهليًّا كافراً، وأنه لا يوجد إلا الحلّ السلميّ لمواجهــة

كل مشاكل المجتمع الوطنيّ والدوليّ، وأنه لا ينبغي أن تكون للمسلم أية جنسية إلا الإسلام، ويتعين ألا يكون

له ولاءٌ لوطنه بل لجماعة المسلمين”([6]).

إن ظاهرة الإسلام السياسيّ التي اجتاحت العالم العربيّ منذ أوائل السبعينيات، تُعدّ أخطرَ الظواهر السياسيّة

التي تواجهها البلاد العربيّة، ولعل من أسباب تلك الخطورة، ما تهدف إليه جماعات الأصوليّين من إعادة

صياغة المجتمعات العربيّة وفقاً للنموذج الإسلاميّ المتصوَّر في أذهانهم، بعد فشل النماذج الليبرالية

الراديكاليّة وعجزها جميعاً عن تقديم مشروع حضاريّ نهضويّ يضعها على طريق التقدم والنمو، والأخطر

في هذا المخطط “أنه اتخذ أسلوب العنف المسلح سبيلاً للقضاء على النظم القائمة، والوصول إلى السلطة

قسراً كوسيلة لتطبيق تصورات ورؤى تجنح إلى الماضوية، وتفتقر إلى النضج والواقعية”([7]).

إن كلمة أصولية تحمل في اسمها استعلاءً لأصحابها وتكبّرهم على أنهم وحدهم المتحدثون باسم الحق،

وأنهم خلفاء الله ووكلاؤه في الأرض، كما أنها تحمل في معناها اتهام الآخرين بالانحراف والمروق والكفر،

فهي أصولية أفرزتها الأزمات الاقتصاديّة والبطالة والفقر والحرمان، وكذلك انهيار التعليم وسطحية الثقافة

والفراغ الدينيّ، بالإضافة إلى ضعف المؤسسة الدينيّة، وهي في دعوتها إلى تحطيم كل أشكال النظم

الموجودة تحت ذريعة الجاهليّة والكفر، فكل طائفة تتصور أنها وحدها تحكم بما أنزل الله، وأن معها

التفويض الإلهيّ بالخلافة والحكم، وإقامة شرع الله، وأنها وحدها تمثل الإسلام. وبلا شك فإن الأصولية

تحولت إلى فتنة كبرى تأكل أفرادها، وتدفع بالمسلم في مواجهة المسلم، وخير دليل ما شهدته الساحة

الأفغانيّة من قتال شديد بين بعض الفصائل الإسلاميّة والحركات الدينيّة المتشددة، التي كانت تقاتل بعضها

بعضاً، والمدهش في الأمر أن وراء هذه الفصائل والجماعات دولٌ تنفق عليهم، فهناك تيارات إسلاميّة تابعة

لدولة شيعية، وأخرى تنفق عليها دول سنّية، وفصائل تقاتل في سبيل المصالح الأمريكيّة كجماعة شاه

مسعود على سبيل المثال في أفغانستان. ونتيجة لذلك لم يعدْ ولاء هذه التيارات والحركات الإسلامويّة إلى

الدين، بل بات ولاؤها للسياسة؛ فالإرهاب والقتل مستمران من أجل الوصول إلى السلطة والظفر بكرسيّ

الحكم ([8]).

لقد كانت هناك اتهامات متبادلة بين السلطات وتيارات الإسلام السياسيّ حول اللجوء إلى العنف في حلّ

الصراعات والتنافس السياسيّ، فيرى البعض أن العنف الذي تمارسه فصائل الحركة الإسلاميّة، هو نتيجة

التكوين التنظيميّ الذي يقوم بإعادة تنشئة وتربية الأعضاء، وما يتبع ذلك من فرض الأوامر على الأعضاء،

يضاف إلى ذلك الجانب الأيديولوجي، إذ تحتل فكرة الجهاد موقعاً مهمّاً في فكر الإسلام السياسيّ، خاصة أنه

قد ارتبطت هذه الفكرة بقضية جاهلية الدولة والمجتمع، ممَّا تجد لها تبريراً في محاربة الدولة والمجتمع مع

تمجيد مسألة القوة التي تعادل العنف لدى الحركات المتشددة، التي تُردّد مقولة أن المؤمن القويّ خير من

المؤمن الضعيف، أما الرأي الآخر فيعدّ عنف تيارات الإسلام السياسيّ عبارة عن ردة فعل، بمعنى أنه عنف

مضادٌّ بقصد الدفاع عن النفس، والوقوف ضد عنف واضطهاد السلطات الحاكمة التي ترى في حركات

الإسلام السياسيّ الخطر الحقيقيّ على وجودها ([9]).

 

من هذا المنطلق كان للأصولية الإسلاميّة تداعياتُها السياسيّة والعسكريّة الخطيرة، سواء على المستوى

الداخليّ للدول العربيّة والإسلاميّة أو على المستوى الدوليّ العالميّ، تلك التداعيات التي وضحت بقوة بعد

احتجاجات الربيع العربيّ، إذ أثبتت الأصولية الإسلاميّة في السنوات الأخيرة أنها أقوى قوة مذهبية سياسيّة،

وازداد خطرها، واتسعت رقعة نشاطها إلى أن وصلت إلى ذروتها بعد احتجاجات الربيع العربيّ، وذلك يعود

لسببين، أولهما: الغزو الأمريكيّ للعراق في عام 2003م بذريعة الحرب على الإرهاب، وثانيهما: استمرار

الاستبداد السياسيّ والظلم الاجتماعيّ الذي تمارسه الحكومات المركزية في العالم الإسلاميّ، الذي أدّى إلى

تكوّن بيئة حاضنة لقوى الإسلام السياسيّ، استفادت منها هذه القوى للمحافظة على وجودها التنظيميّ، إضافة

إلى تعزيز قدرتها على تحريك مشاعر الغضب ضد الحكومات القائمة، باللجوء إلى الشعارات الدينيّة المستترة

ذات السمة السياسيّة المعاصرة، بحيث أصبحت المحرك الرئيس للاحتجاجات الشعبيّة، بسبب ضعف القوى

الليبرالية والقوميّة واليسارية ومحدودية تأثير خطابها السياسيّ، وهذا التحليل ينسجم مع الفكرة التي تقول

“عندما تتراكم المشاكل في مجتمع معين، ولا تجد لها حلًّا أو أملاً في الحل، وعندما تُحتقن أموره إلى أقصى

حدّ، ويزيد فيه الكبت السياسيّ، فإنه ينفجر، وعندئذ يستخدم اللغة الدينيّة تبريراً لانفجاره إذا لم تكن لديه

غيرها”([10]). إن الحركات الإسلاميّة الأصولية المعاصرة تستخدم تصوراً ماضويًّا للإسلام كان يرتبط بواقع

آخرَ لا يمتُّ بصلة للواقع الراهن الذي تعيشه قيادات هذه الحركات وزعاماتها في العصر الحديث، فهذه

الحركات أو التنظيمات الجهاديّة لا تستخدم الإسلام كإيديولوجيا ثورية للإصلاح السياسيّ والاجتماعيّ، في

ضوء معطيات الواقع الراهن، كما حدث في مرحلة مقاومة الغزو الأجنبيّ، بل للوصول إلى السلطة فقط،

وحتى في حالة اهتمام الحركات الأصولية المعاصرة بالمشاكل السياسيّة والاجتماعيّة، فإن هذا الاهتمام

تستغله كغطاء اجتماعيّ وسياسيّ لممارستها الإرهاب السياسيّ والعنف ضد النظم السياسيّة القائمة في الدول

العربيّة، وكذلك إلى جذب الجماهير المهمّشة اقتصاديّاً والمضطهدة سياسيًّا للانضمام إليها أو التعاطف معها

إن الفاعلين الإسلاميّين في الساحة الإسلاميّة ينقسمون إلى ثلاثة تيارات رئيسية، وهي أولاً: تيار الإسلام

الدعويّ، ثانياً: تيار الإسلام الحركيّ، ثالثا: تيار الإسلام الجهاديّ، والأخير هو التيار الأكثر تشدداً وممارسةً

للعنف في العمل الإسلاميّ الذي تمثله الحركات السلفيّة الجهاديّة في العالم الإسلاميّ، وفي مقدمتهم تنظيم

القاعدة وفروعه المنتشرة بمسميات مختلفة في العالم، وخاصة تنظيم داعش، وجبهة النصرة، وجماعات

التوحيد والجهاد في عدة بلدان، وكذلك تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلاميّ، وجماعة أنصار الشريعة،

وحركة شباب المجاهدين في القرن الإفريقيّ، وغيرها من الجماعات والتنظيمات الجديدة. إن كل هذه

التيارات معروفة بعدائها وعدم إيمانها بالديمقراطيّة، فهي تُحرِّم الدخول في المجالس التشريعيّة، وتُكفِّر

الاشتراك بالانتخابات البرلمانية، بل ترفض كل العملية السياسيّة. ومن هذا المنطلق فإن الدول والأنظمة

السائدة تُعدّ أنظمة كافرة ومرتدّة عن الإسلام في نظر الحركات الإسلاميّة المتشددة، ولا يجوز التعامل معها

أو الدخولُ في أجهزتها، وإنما يجب العمل على الإطاحة بها عسكريّاً بالقوة من خلال مفهوم الجهاد كطريق

شرعيٍّ وحيد في تغييرها، وإقامة حكم الشريعة والخلافة بحسب معتقدات تلك الحركات وأفكارها ([11]).

إنّ الأيديولوجية الجهاديّة الحديثة تعيد مفهوم الجهاد نفسه ضد الكفر بوصفه مركزيًّا أو جوهريًّا في

الممارسة الإسلامويّة إذ حيث تنشد هذه الأيديولوجية إلى إعادة تأسيس أمة موحدة، وبناءً على ذلك ترفض

تقسيم الأمة إلى دول قومية محلية، لأنها تتعارض تعارضاً مباشراً مع قصد الإسلام، وهو بالتالي تقسيم غير

مشروع في رأيها. في الوقت ذاته تنتقد هذه الأيديولوجية أنظمة الحكم القائمة بسبب الاضطهاد والفساد

والتوافق مع الكفر العالميّ. ومن وجهة نظر الإسلاميّة الجهاديّة فإن الصراع بين الإسلام والغرب صراع لا

سبيل للتسامح فيه، وترفض كل الجهود الرامية إلى الوصول إلى حلٍّ وسطٍ والمصالحة مع الغرب، إذ تُعدّ

هذه الممارسات ليست أكثر من محاولات لتقسيم الإسلام وإضعافه. ويُعدّ رجل الدين الباكستانيّ (مسعود

محمد أزهر)، خيرُ مَن مثّل اتجاه الأيديولوجية الجهاديّة الذي كان قائداً لما يُعرف بجيش محمد، أبرزِ

الجماعات الإسلاميّة المتشددة في باكستان، وزعيماً لأخطر جماعات حرب العصابات العسكريّ الذي كان

يقود الجهاد في كشمير، إذ كانت طروحات أزهر معاديةً وبشكل كبير للغرب، بعد أن وصف الغربيّين

بالكفار الذين يحاولون استئصال الإسلام، وذلك عن طريق الهيمنة الغربيّة الكاملة. ويرى أزهر أن امتلاك

القوة واجبٌ والتزامٌ إسلاميّ، متّهماً الحكومات العربيّة بأنها تحارب الأصولية لأنهم يخشونها، وعليه يقول

أزهر: “إن الغرب مشارك في حملة كبيرة لإضعاف المسلمين وتقسيمهم، والغرض من هذه الدعاية هو أن

يُقنعوا المسلمين بأن المسلمين الأصوليين هم جماعة مختلفة من المسلمين، وأن تدميرهم صار ضرورة،

والحرب الأهلية بين المسلمين هي الطريقة المفضّلة”([12]). ويؤكد أزهر على أن الأصوليين ينشدون إلى

إعادة تأسيس الالتزام الأصليّ بالجهاد على المسلمين، ليستعيدوا القوة الإسلاميّة، ولكن الإستراتيجية الغربيّة

تسعى إلى تحويل الإسلام إلى مجرد ممارسة الطقوس والشعائر، وتحاول تفريغ الإسلام من المضمون

السياسيّ. أما الإسلام الليبراليّ، كما يصفه أزهر، فهو أيضاً يمتلك الإستراتيجية الغربيّة نفسها في قطع

حيوية الإسلام، وجعله بلا معنى ولا يستطيع تهديد الغرب، فالمصالحة والتحديث والتفسيرات الجديدة

للإسلام جاءت كلها لتدمير الإسلام وقوته بحسب رأيه ([13]).

سيختار الباحث بعض التجارب لنماذج الإسلام السياسي في الوطن العربي:

تجربة الإسلاميّين في الحكم في السودان:

ترجع نشأة الحركة الإسلاميّة في السودان إلى الحراك الطلابيّ في الجامعات السودانيّة، بهدف منافسة

العلمانيين واليساريين وأطروحاتهم الفكريّة، إذ دافع الإسلاميّون في البداية عن الديمقراطيّة، لكنهم بعد ذلك

ابتعدوا عن النهج الديمقراطيّ خصوصاً بعد تحالفهم مع النظام العسكريّ الشمولي في السودان بقيادة

(النميري)، لكن التحول الرئيس للحركة، بل انقلابها على مبادئ الديمقراطيّة قد حدث بصورة حاسمة بعد

انقلاب عام 1989م، وتسلّم تيار الإسلام السياسيّ الحكم في السودان. ويُعدّ المفكر والزعيم السودانيّ (حسن

الترابيّ) أحد أبرز قادة التيار الإسلاميّ وأهمهم في السودان، والنبراس لتيارات الإسلام السياسيّ، فهو

مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في السودان، وتلميذ حسن البنا مؤسس وزعيم جماعة الإخوان المسلمين،

في الوقت الذي كانت أفكار سيد قطب وتفسيراتها المتعددة تسيطر على الترابيّ وعلى عموم الحركات

الإسلاميّة، خاصة في المشرق العربيّ. لقد طرح الترابيّ نظريته في الحلّ الإسلاميّ على أساس أن الفكر

الإسلاميّ إنما هو “التفاعل بين عقل المسلمين وأحكام الدين الأزلية الخالدة، والتجارب التي يحصّلها في كل

زمان ومكان، فإذا ضاقت هذه المعارف ضاق، وإذا اتسعت اتسع، ولأنه يتكيف وينفعل بالظروف الراهنة

التي تحيط به، وبالحاجات التي يحسها الناس وبالوسائل التي تبيحها له ظروف الحياة، فالفكر الإسلاميّ هو

التفاعل بين عقلنا المتكيف بهذه العلوم، مع الهدي الأزليّ الخالد الذي يتضمنه الوحي والذي بيّنه الرسول

الكريم”([14]).

ووفقاً لهذا يرى حسن الترابيّ “أن الإسلام قادر على تأمين مخطط شامل للتطور الاجتماعيّ والسياسيّ

والاقتصاديّ، في مواجهة الأنظمة البديلة كافةً التي تطرح نفسها على الساحة من الاشتراكيّة

والشيوعيّة”([15]).

لقد استطاع الترابيّ خلال عشر سنوات أن يستقطب عدداً كبيراً من مريدي الطرق الصوفية المنتشرين في

كل ولايات السودان، كما تمكّن من الحضور بشكل ملحوظ في صفوف طلبة الجامعات السودانيّة. وبتاريخ

30 يونيو (تموز) من العام 1989م استولى مجموعة من الضباط التابعين للجيش السودانيّ على الحكم

بقيادة العميد عمر حسن البشير، بيد أن الأمر لم يكن واضحاً في البداية للمراقبين حول هوية الانقلاب

العسكريّ الجديد وتوجهات قادته، وقد ساعد هذا الغموض في أن ينال الانقلاب تأييداً شعبيًّا واسعاً داخليًّا

وخارجيًّا أيضاً من دول كثيرة في المنطقة، وقامت الحكومة الجديدة التي اتضحت هويتها الإسلاميّة فيما

بعد، من خلال تصريحات قادتها التي تؤكد على انتمائها لتيار الإسلام السياسيّ في السودان، بممارسة

العنف والإرهاب السياسيّ تجاه الدولة والمجتمع بعد أن قامت بسلسلة من الاعتقالات والانتهاكات التي

تعارض مبادئ حقوق الإنسان، من ضمنها: اعتقال الدكتور حسن الترابيّ نفسه الذي كان يوصف بمهندس

الانقلاب ورأسه المدبّر، إلا أنه تم إطلاق سراحه بعد فترة، ثم تقلّد مناصب مهمة في الدولة كان آخرها

رئيس البرلمان. في السياق ذاته لم يلتزم الإسلاميّون في الحكم بمبادئ الديمقراطيّة، ولم يقبلوا بالتعددية

السياسيّة، وقمعوا الحريات السياسيّة، ونتيجةً لذلك تحوّل تيار الإسلام السياسيّ في السودان إلى سلطة قمعية

مطلقة رفضت كل مبادئ الديمقراطيّة، وسيطر الإسلام السياسيّ على جميع مفاصل الدولة من خلال

استخدام الشعارات الدينيّة للتأثير في الشعب. وبالرغم من أن تيار الإسلام السياسيّ كان قد حظي في البداية

بتأييد كبير من الشعب السودانيّ، إلا أنه قد تراجع في السنوات الأخيرة، إذ واجه انتقاداتٍ واسعة وشديدة من

قِبل عموم المواطنين وأغلبية الأحزاب والحركات السياسيّة، بسبب ممارسته للإرهاب السياسيّ داخل الدولة

والمجتمع السودانيّ ما أدّى إلى تصاعد العنف السياسيّ ونشوء كثرة من المنظمات المسلحة التي أدّى

صراعها مع السلطة إلى تهديد الوحدة السياسيّة والجغرافية وتقسيم السودان إلى دولتين: جنوبية وشمالية

([16]).

إن تجربة الإسلام السياسيّ في الحكم، ومحاولات أسلمة المجتمع السودانيّ بالعنف لما يقارب ربع قرن،

خلقت إشكاليات كبيرة في المجتمع أدت في النهاية إلى عزلة تيار الإسلام السياسيّ وسلطته عن المجتمع

السودانيّ، بعد أن سعت الجماعة إلى صهر مكونات الشعب السودانيّ في قالب عربيّ إسلاميّ، في حين كان

المجتمع السودانيّ يتطلع إلى التعبير عن ذاته التعددية، ما خلق حالة من الاستقطاب أدّت إلى تجزئة السودان

([17]).

تيار الإسلام السياسيّ في المغرب والجزائر:

ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺩﺭﺍﺳﺔ الحركات الإسلاميّة المعاصرة في المغرب والجزائر، ﺍﻟﺮﺟﻮﻉ ﺃﻭﻻً إلى ﺍﻟﻨﻤﺎﺫﺝ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ التي

استقت ﻣﻨﻬﺎ ﺃﻓﻜﺎﺭﻫﺎ، ﻭﺑﻨﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﻠﻮﻛﻴاتها، وحتى ﺃﺳﺎﻟﻴﺐ ﻋﻤﻠﻬﺎ. وفي هذا الصدد نميّز بين تيارين

أساسيّين أطّرا العمل السياسيّ للحركات الإسلاميّة المعاصرة في الجزائر والمغرب، وهما: الأول يمثل

الفكر الحركيّ الإصلاحيّ. والثاني: الفكر الحركيّ الثوريّ الجهاديّ.

الحركة الإسلاميّة المعاصرة في المغرب:

إن المتتبع لنشاط تيار الإسلام السياسيّ في المغرب يمكن أن يلحظ تنامي هذه الجماعات واتساعها خاصةً

في الجامعات، بيد أن الحركة الإسلاميّة في المغرب تنقسم إلى تيارين أساسيين، وهما: حركة التوحيد

والإصلاح، وهي حركة دعوية وتربوية وفكرية وثقافية إسلاميّة وسياسيّة، عملها تجديديّ، وتسعى إلى

المساهمة في إقامة الدين، وتدعو إلى إصلاح المجتمع حسب المفهوم الإسلاميّ الوسطي، وهي في الوقت

نفسه تميل إلى الاندماج والمشاركة في العملية السياسيّة وفق أسلوبٍ وإستراتيجية تقوم على التوافق

والتراضي. أما التيار الثاني: فهي جماعة العدل والإحسان التي وضعت نفسها على مسافة من المؤسسات،

والابتعاد عن المشاركة السياسيّة وفق إستراتيجية تميل إلى استخدام العنف والمواجهة والصراع في سلوكها

السياسيّ، حيث تعدّ جماعة العدل والإحسان النموذج الإسلاميّ السياسيّ المغربيّ الذي كانت علاقته مع

الدولة المغربيّة تتّسم بالصدام والتوتر. وعلى هذا الأساس فرضت الدولة المغربيّة حصاراً سياسيًّا وإعلاميًّا

واقتصاديًّا واجتماعيًّا على جماعة العدل والإحسان، وتعتقد الجماعة بأن هذا الحصار المفروض عليها ليس

من قِبل الدولة فقط، بل إن الأحزاب السياسيّة في المغرب لها دورٌ كبيرٌ ومباشرٌ في هذا الحصار. وعموماً

فإن تيار الإسلام السياسيّ المتشدد في المغرب يرى أن الجميع يقف ضده ويتآمر عليه، ويهدّد وجوده سواء

من طرف الدولة أو الأحزاب السياسيّة، أو حتى وجود قوة أجنبية من خارج المملكة تحارب هذا التيار

تحديداً. ونتيجةً لهذا شعرت الجماعة بالقلق والخطر والتهديد، والتآمر عليها، والإحساس بعدم الثقة بالدولة

ومؤسساتها وأحزابها، مما أدى إلى اتّباعها مواقف متشددة تصل إلى أسلوب المواجهة باستخدامها العنف

تارةً، وميلها إلى القطيعة ورفض المشاركة في العملية السياسيّة تارةً أخرى، ولكن في الجانب الآخر نرى

أن هناك أحزاباً مغربية ذات توجهات إسلاميّة قد سُمح لها بالمشاركة في العملية السياسيّة ودخول

الانتخابات التشريعيّة في المملكة المغربيّة، وأبرزها: حزب العدالة والتنمية الذي يتبنى الاتجاه الإسلاميّ،

ويدعو إلى نبذ العنف، وقد شارك حزب العدالة والتنمية في انتخابات عام 2017م، وحصل على أغلبية

مقاعد البرلمان، وبالتالي أصبح السياسيّ (سعد الدين العثماني) رئيساً لوزراء المغرب إذ شغل العثمانيُّ

أمين عام حزب العدالة والتنمية بين عامي 2004م-2008م ([18]).

تيار الإسلام السياسيّ في الجزائر والإرهاب السياسيّ:

تُركز الدراسات المهتمة بالعنف في الجزائر المعاصرة على ما يُعرف بالعشرية السوداء، أي الفترة الممتدة

من العام 1990م إلى 2000م حين عرَف فيها العنف مستويات عالية فاقت ضحاياه ما يقارب مئة ألف

قتيل. والدراسات التي تختزل العنف وتاريخه في هذه الحِقبة الزمنية تعود عادةً إلى استعراض تاريخ

الحركات الإسلاميّة في الجزائر، باحثة عن لحظات من تأسيس للعنف في نشاطها وممارستها، كما لو أنها

المصدر الوحيد للعنف، لكن العنف في الجزائر لا يمكن أن يُختزل في هذه المرحلة، ولا في الحركات

الإسلامويّة الأصولية؛ فالعنف كان في قلب صيرورة نشأة الدولة الوطنيّة في حد ذاتها، أي كان وسيلة

أساسية للعمل السياسيّ منذ الوجود الاستعماريّ في الجزائر. وفي بداية الثمانينيات بدأت الحركة الإسلامويّة

تظهر إلى العلن مستغلة مجموعة من الظروف الداخليّة، فخطابها استُثمر في بداية الأمر في بناء شرعية

جديدة منافسة ومناقضة للشرعية الرسميّة للنظام القائم، إذ تُعدّ الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ الأفضل بين الجميع،

خاصةً أن نشاطها السرّيّ يرقى إلى سنوات السبعينيات والثمانينيات، أما قضية إلغاء المسار الانتخابيّ بعد

أن فازت فيه الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ، وحصدت أغلب مقاعد المجالس الانتخابيّة البلدية في انتخابات

1990م، ومن ثم أغلبية المقاعد النيابية في الانتخابات التشريعيّة عام 1991م، فلم يكن التفسير الوحيد

لاستخدام العنف من قِبل الحركات الإسلامويّة في الجزائر، بل يمتدّ إلى عمق الخطاب والبرنامج

والأيديولوجيا التي تأسّس عليها التيار الإسلامويّ في الجزائر. لقد اعتمدت الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ، منذ

سنوات النشاط السرّيّ على الخطاب الأخلاقيّ في المجتمع، ثم على النقد الأخلاقيّ لرجال النظام والسلطة،

وكانت في الوقت نفسه تتهم هؤلاء بفساد الأخلاق، وتستغل موضوع الفساد لمهاجمتهم من زاوية أخلاقية

دينية، فسبب الفساد في نظر الجبهة هو ابتعاد المسؤولين عن أخلاق الدين الإسلاميّ، بالتالي لا بد من إقامة

الدولة الإسلاميّة للقضاء على مظاهر الفساد والانحلال الأخلاقيّ في المجتمع والدولة. ولا يختلف خطاب

الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ في الجزائر عن باقي تيارات الإسلام السياسيّ، ذلك الخطاب الذي يؤكد على أن

الإسلام هو الحلّ لجميع مشكلات المجتمعات العلمانية، لكن رجال النظام لا يريدون لشرع الله أن يجد مكانه

في المجتمع الإسلاميّ الذي أفسدته العلمانية والحداثة، وما موقف المسار الانتخابيّ وإلغاء نتائجها من قبل

السلطة إلا دليلاً صارخاً في معاداتهم للشريعة والإسلام بحسب ادعائهم. إذاً وكما يرى التيار الإسلاميّ في

الجزائر، أن الفرضية التي قدمناها في هذه الدراسة تتمثل في خطاب الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ ذي

المرتكزات الأيديولوجية لمشروعها السياسيّ الحاملة للعنف، هو خطاب غير قابل للتحقق، سواء تم وقف

المسار الانتخابيّ أم لم يتمّ، فالجبهة الإسلاميّة للإنقاذ هي في الواقع نسخة متديّنة سلفية عن جبهة التحرير

الوطنيّ ([19]).

لقد أثرت تجربة الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ في باقي فصائل الحركة الإسلاميّة، ذلك لأن الخطاب الراديكاليّ

الذي تبنّاه قياديّو الجبهة، وخطابها السياسيّ القائم على نهج المغالبة والمطالبة بالتغيير الجذريّ، قد أخاف

النخبة الحاكمة، ما جعل الجيش يتدخل ليوقف المسار الانتخابيّ وحلّ الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ بعد فوزها

بالانتخابات. ولتجنب تَكرار ما حدث فقد وضع النظام السياسيّ آليات مختلفة تم من خلالها تشكيل

ضغوطات كبيرة على الأحزاب الإسلاميّة وتحييدها، منها على سبيل المثال: منع تأسيس بعض الأحزاب

الإسلاميّة، وكذلك منع أحزاب أخرى من المشاركة في الانتخابات، بالإضافة إلى تعديل الدستور وقانون

الأحزاب السياسيّة بشكل لا يسمح بتأسيس أحزاب تتخذ من الدين أيديولوجية ([20]).

الإرهاب السياسيّ في العراق بعد عام 2003م:

إن قراءة الوضع السياسيّ في العراق بكلّ ما جرى وما يزال يجري من أعمال عنف وعمليات إرهابية،

والبحث في الأسباب والتداعيات، يجب أن ينطلق من خلال وجود علاقة تأثير متبادلة بين البنى السياسيّة

والعنف الحاصل في البلد، وبما أن النظام السياسيّ هو عبارة عن مجموعة من التداخلات والتفاعلات

السياسيّة المستمرة في مجموعة سياسيّة، وأن النظام السياسيّ هو جزء من نظام اجتماعيّ يدخل في علاقات

معقّدة مع البناء الاجتماعيّ الكامل، واستناداً إلى ذلك لا يمكن عزل ظاهرة العنف والإرهاب السياسيّ في

العراق عن مجمل بنية النظام السياسيّ بعد عام 2003م، لأن الدولة وبنيتها السياسيّة تتحمّل جزءاً كبيراً من

المسؤولية عن الإرهاب السياسيّ، مثلما يتحمّل مستخدمو العنف الذين يمارسونه ضد الدولة والمجتمع في

آن واحد. لقد اشتركت في العملية السياسيّة في العراق بعد الاحتلال الأمريكيّ، أحزاب الإسلام السياسيّ

وحركاتٌ أصولية لعبت دوراً كبيراً في الحياة السياسيّة، بيد أن أغلب هذه الحركات والأحزاب قد اتسمت

أيديولوجيتها بالطابع الدينيّ والمذهبيّ، وبالرغم من محاولتها التحوّل إلى أحزاب سياسيّة والمشاركة في

العملية السياسيّة إلا أن الطابع المذهبيّ ما يزال يحكمها بشكل أثّر في أدائها وسلوكها السياسيّ، وفي الوقت

نفسه اتسمت هذه الأحزاب بالتعصّب الأيديولوجيّ الذي يجعل الحزب أو الحركة تنظر إلى مَن يختلف معها،

نظرة عدائية بدلاً من اعتباره حزباً يحمل وجهة نظر مغايرة، وأن صناديق الانتخابات هي التي تحكم

بينهما. ولكن في المقابل دخلت الساحة العراقيّة تنظيماتٌ إرهابية مثل القاعدة وداعش، تحمل فكراً

وأيديولوجيا التكفير كسلاح في مواجهة الخصوم، إذ إنها قد تغذّت من الظروف التي نتجت عن الاحتلال الأمريكيّ للعراق، وواقع المأساة الطائفيّة للسلطة السياسيّة، وهذا التناقض قد أنتج “عنفاً تبادليًّا، العنف

والعنف المضادّ الذي يؤدي إلى اضطراب الحركات الجدلية الثلاث: (الدين، السياسة، العنف)، وتحوّلها من

صورة الجدل إلى حالة الدوّامة التي تختلط فيها الأدوار، وتتبدل المراكز، فيكون السياسيّ دينيًّا وعنيفاً،

ويكون الدينيّ سياسيّا وعنيفاً، ويكون العنف دينيًّا وسياسيًّا”([21]). لقد اعتمد بناء النظام السياسيّ في العراق

على السمات الطائفيّة الأثنية، حيث تشكلت السلطة السياسيّة بتصنيفات أدت إلى تقسيم الوطنيّة العراقيّة مثل:

عرب سُنّة وشيعة وأكراد، وترتّب على هذا الواقع عدة تداعيات أبرزها: تقديم الولاءات الفرعية الطائفيّة

والأثنية والقبلية على حساب الهوية الوطنيّة والولاء الوطنيّ، وكذلك توليد شعور التهميش لدى طوائف

وجماعات معينة في المجتمع العراقيّ، وهذا كان نتيجةً للأخطاء الكارثية التي وقعت فيها أحزاب السلطة،

وهي أحزاب الإسلام السياسيّ بشقّيه السُنّيّ والشيعيّ، حيث استطاعت تلك الأحزاب والكتل السياسيّة عن

طريق عناصر ميلشياتها، التغلغل في كل مرافق الدولة العراقيّة ومؤسساتها وخاصةً المؤسسات الأمنيّة،

ومارست أقسى أنواع العنف والإرهاب السياسيّ ضد الدولة والمجتمع بالتهجير الطائفيّ والاعتقالات

والتغييب في السجون والمعتقلات، بالإضافة إلى عمليات الاغتيال والخطف وغيرها من أساليب العنف

والإرهاب السياسيّ، من خلال تلك المؤسسات والأجهزة الأمنيّة والشرطية التي شكلتها تلك الأحزاب

والقوى الإسلاميّة الحاكمة في العراق على أسس طائفية([22]).

حزب الله والدولة اللبنانيّة:

تأسس حزب الله في لبنان عام 1982م كجزء من جهد إيرانيّ لتجميع مجموعة متنوّعة من الجماعات

الشيعيّة اللبنانيّة المسلّحة تحت سقف واحد. ومنذ تأسيس الحزب لم يشارك في العملية السياسيّة إلا في عام

1992م إذ شارك في الانتخابات التشريعيّة، معتمداً على تعبئة جماهيره من خلال إصدار فتوى دينية

بوجوب انتخاب مرشّحي الحزب، بغية الوصول إلى الحكومة والمشاركة في السلطة، ومن خلال هذه

المشاركة السياسيّة في السلطة طرح حسن نصر الله أمين عام الحزب، مسألة الدولة القوية وإشكالية

المقاومة والسلاح، لكن الحقيقة في جوهرها تؤكد أن أهمّ ما جاء في منهاج حزب الله، يكمن في طموحه

بإقامة الدولة الإسلاميّة على غرار الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة، إلا أنه في الوقت نفسه ميّز الحزبُ ما

بين الفكر والبرنامج السياسيّ؛ بمعنى أن حزب الله يرى أن الفكرة السياسيّة لا تسقط إذا كان الواقع السياسيّ

غير مواتٍ لتطبيقها، كما هو الحال بالنسبة لفكرة إقامة دولة إسلاميّة في لبنان، فهي فكرة حاضرة على

مستوى الفكر السياسيّ، أما على مستوى البرنامج السياسيّ فإن خصوصيات الواقع اللبنانيّ لا تساعد على

تحقيق هذه الفكرة بحسب رأيه ([23]).

عند دراسة أدبيات الحزب وسياسته وطبيعة علاقاته وصلاته، والبحث في مواقفه وروابطه، يجب أن

نستحضر عقيدته التي يؤمن بها والطائفة التي ينتمي إليها، ومن خلال تحليل أفكار حزب الله وموقفه من

الدولة اللبنانيّة يتجلى لنا مدى الارتباط الوثيق بينه وبين إيران منذ نشأته، هذا الارتباط يمثّل الإيمان المطلق

للحزب بنظرية ولاية الفقيه كأساس لنشوئه في لبنان، بل إن أصل نشأة حزب الله جاءت بعد موافقة

(الخُمينيّ)، إذ استلهم الحزب أفكاره وتطلعاته من تجربة الثورة الإسلاميّة في إيران، ومن هنا كانت وما زالت

منطلقاته تقوم على توجيه الوليّ الفقيه المتمثل ب (الخُمينيّ) ومن بعده (خامنئي). استطاع الحزب أن يوائم

بعمله بين إسلاميّة المنهج ولبنانيّة المواطنة، وقد سعى حزب الله أن يمارس أسلوباً عسكريّاً تعبويّاً مزدوجاً في

تفريغ الدولة اللبنانيّة من داخلها؛ الأول من خلال إشاعة أجواء فوضى سياسيّة مقنّنة بإرباك التوازن الطائفيّ

السياسيّ الهشّ في لبنان، والثاني عن طريق التورّط في حروب مع الكيان الصهيونيّ بشكل منفرد من أجل

سحب قرار الحرب والسلم من الدولة لحساب الحزب. إن فكرة الدولة الموازية لدى حزب الله ليست طارئة

بناء على بنيته الطائفيّة الشيعيّة التي رافقته منذ بداية تأسيسه، والتي لا تعترف بشرعية الدولة، ولذلك كان

الحزب وما زال يسعى إلى إبقاء الدولة ضعيفة ومنهكة من خلال الاحتفاظ بسلاحه قبل اتفاق الطائف وبعده

([24]).

لقد اتّضحت الأهداف الحقيقيّة للحزب في الأزمات السياسيّة التي شهدها لبنان، عندما فرض حزب الله

وجوده على الدولة اللبنانيّة عبر عملياته العسكريّة ضدّ الجيش الإسرائيليّ، والتدخّل المسلّح في سوريا خلال

الحرب الأهلية التي اندلعت بعد الاحتجاجات الشعبيّة عام 2011، الأمر الذي عزّز من دوره المقرّر في

العمل السياسيّ في لبنان.

تيار الإسلام السياسيّ الشيعيّ في البحرين:

كان أهم ما طرحته الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة من تأثيرات في الوضع السياسيّ في البحرين، هو قيام العديد

من المنظمات الإسلاميّة، ففي عام 1980م ظهرت على الساحة السياسيّة (حركة الوحدة الإسلاميّة) وفي

العام نفسه ظهرت (حركة الشهداء الإسلاميّة)، كما تأسست في العام نفسه (حركة أحرار البحرين

الإسلاميّة)، وتُعدّ الأخيرة من التنظيمات الإسلاميّة الشيعيّة البحرينية التي لم تطالب بإسقاط النظام، بل كانت

مطالبها تتمحور حول العودة إلى الديمقراطيّة وإطلاق سراح المعتقلين السياسيّين، والسماح للحريات

العامة، ما أكسبها نفوذاً واسعاً بين أبناء الطائفة الشيعيّة في البحرين، خاصة وأنّ الحركة حرصت على

إصدار بياناتها من لندن وبيروت بخلاف الجبهة الإسلاميّة لتحرير البحرين، التي تصدر تصريحاتها من

طهران([25]).

كذلك يوجد في مملكة البحرين عدد من الحركات وتيارات الإسلام السياسيّ الشيعيّ، التي تأثرت بالحركة

السياسيّة الإسلاميّة الشيعيّة في العراق وأفكار مرجعية النجف، مثل (جمعية الوفاق الوطنيّ، الجبهة

الإسلاميّة لتحرير البحرين، خط الشيرازي، تنظيم حزب الدعوة). وتُعدّ جمعية الوفاق من أبرز هذه

التيارات التي تمثّل النفوذ الطاغي لتنظيمات الإسلام السياسيّ الشيعيّ في البحرين، بيد أن أجندة جمعية

الوفاق كانت وما تزال متوافقة تماماً مع الطموحات الإقليميّة الإيرانيّة. عموماً إن موقف التنظيمات الشيعيّة

في مملكة البحرين معارضٌ للدولة والسلطة، إذ طالبت هذه التنظيمات والحركات الحكومة البحرينية

بإصلاح النظام السياسيّ مقترحةً بعضاً من الخطوات منها: تعديل الدستور، وتعديل النظام الانتخابيّ،

وإصدار قوانين لتعزيز استقلالية القضاء، وتحريم التمييز على أساس الطائفة. وقد قاطعت معظم التيارات

الشيعيّة الإسلاميّة الانتخابات البرلمانية لعام 2002م، ومن ثم تغيّرَ موقفها من السلطة، وعادت لتشترك في

الانتخابات البرلمانية لعام 2006م إذ اتجهت إلى سياسة تهييج الشارع بمنحنى طائفيٍّ، بالرغم من أنهم

اشتركوا في العملية السياسيّة، ودعت إلى مظاهرات ومسيرات اعتصام أدّت إلى صدامات مع السلطة نتج

عنها سقوط ضحايا من الجانبين.  إن هذا التصعيد يعود إلى سعي تيار الإسلام السياسيّ الشيعيّ في

البحرين، وكما ذكرنا، متأثّراً بالتجربة الإيرانيّة، إلى إسقاط الأسرة الحاكمة، لا سيما أن إيران كانت وما

تزال تدعم جميع التيارات والتنظيمات والأحزاب الشيعيّة في البحرين وفي كلّ المجالات، وخصوصاً الدعم

الماديّ. ولتنفيذ هدف إسقاط النظام اتخذت جميع التنظيمات الشيعيّة في البحرين سياسة تدريجيّة، تتمثل

بالدعوة للإصلاح الشامل والجذريّ للنظام السياسيّ، لكنها تتباين في رؤيتها؛ فقسمٌ منها يطالب بالإصلاح

التدريجيّ بالاعتماد على مفاوضات جدّيّة مع السلطة، كونها تبنّت شعار الملكية الدستورية الديمقراطيّة

وإعادة صياغة إستراتيجية سياسات الدولة، وقسمٌ آخر كحركة الوفاق تدعو إلى النضال السلميّ للجماهير

لإجبار السلطة على التفاوض، في حين تطرح أحزاب وتنظيمات شيعية أخرى رؤيةً متباينةً بين إصلاح

النظام وأحياناً إسقاطه، والبعض الآخر دعا إلى إجراء استفتاء شعبيّ لتحقيق خيار التغيير ([26]).

لكن في نهاية الأمر تُجمِع أغلب التنظيمات الشيعيّة في البحرين على “ضرورة المشاركة الحقيقيّة في الحكم

والعمل من خلال النموذج الديمقراطيّ، وإقامة التحالفات السياسيّة مع الأطراف الأخرى بما يجعلها في

موقع اليسار دائماً من السلطة”([27]).

تعقيب الباحث:

إن دراسة ظاهرة الإرهاب وتفسيرها تحت غطاء دينيّ، تُعدّ من أهم البواعث والدوافع التي تدفع بالإرهابيّ

ليرتكب جرائمه الإرهابيّة، مع تأكيد أن مصطلح الدين المقترَن بالإرهاب لا يعني البتّة أن تعاليم الدين

الإسلاميّ وقيمه تدعو إليه، وإنما جاء هذا الاقتران نسبةً إلى التفسيرات المشوّهة التي أطلقها البعض على

بعض الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة، لتوفير شرعية تبرر رفضهم للآخر المغاير، وتكفيره

وممارسة العنف ضدّ الأفراد والمجتمع. وبالتالي فنحن أمام عنف مؤدلج يستند إلى قاعدة فكرية ومبادئ

ومفاهيم معينة، وهو العنف الأخطر الذي يهدد المجتمعات الحديثة، والذي ينطبق عليه وصف الإرهاب

بشكل دقيق، لأنه في هذه الحالة لم يعدْ جريمة عادية أو فعلاً غير مقصود، وإنما تحوّل إلى أيديولوجية قائمة

على مبدأ الإرهاب واستخدام العنف، من أجل الحصول على مكاسب سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينية وحتى

فكرية وثقافية، لا سيما إذا عرفنا أن هذه المجموعات تستهدف إقامة نموذج لدولة وقانون وقيم اجتماعيّة،

كالتي رأينا قسماً منها في أفغانستان إبّان حكم طالبان لها، أو”خلافة” داعش. ومن هذا المنطلق، فالبعد

الأيديولوجيّ للإرهاب، هو عقيدة يعتنقها الكثيرون تشرع القتل، وتحتكم دائماً إلى مبدأ العنف في الوصول

إلى غاياتها، ولا يُخفى أن أغلب أيديولوجيات الإرهاب تستند إلى مبدأ أصوليّ متطرّف يعتمد على الدين.

تقييم الباحث:

في نهاية القرن العشرين واجه العالم عملية إحياء للأصولية الدينيّة، إذ شكّل الدافع الدينيّ أهم سمة مميّزة

للإرهاب في الظروف المعاصرة، بعد أن أصبح الدين مرجعيّة مهمة وواحداً من المصادر الفكريّة الأساسيّة

التي تعتمد عليها الجماعات والحركات والأحزاب المتشدّدة، وهذا ينطبق على المنظمات الإرهابيّة التي

تستخدم الدين الإسلاميّ مرجعيةً نظريةً، مثلما تعتمد منظمات أخرى على اليهودية أو المسيحية، أو غيرها

من المنظمات التي تعتمد على أفكار التعصّب القوميّ. ونتيجةً لذلك أصبح العنف منتشراً والإرهاب

مستفحلاً، إذ إن الإرهاب ذا الطبيعة الدينيّة يمتلك خصوصية لأنه ينطلق من أفكار عقائديّة مؤدلجة وحركة

سياسيّة فعّالة، ومن خلاله يقترف ممارسوه أفظع جرائم القتل والاختطاف والممارسات الإرهابيّة الأخرى.

وفيما يخص البلدان العربيّة فقد شكّلت جماعة الإخوان المسلمين والجماعات المتفرّعة عنها، أولى هذه

الحركات التي استخدمت العامل الدينيّ لممارسة العنف والعنف المضادّ في سياق صراعات مع النظم

الحاكمة والدولة والمجتمع.

ولعلّ من أهم الأسباب الفكريّة التي ساعدت على ظهور الجماعات المتطرّفة، نجد التشددّ والغلوّ في الدين

الذي يكون نتيجة الفهم والتأويل الخاطئ لمقاصد الدين والشريعة الإسلاميّة، والذي تغذّيه عدّة عوامل تساعد

على انتشاره ونموّه، إذ يمثّل الخطاب الثقافيّ والفكريّ أبرز هذه العوامل، ذلك الخطاب الذي يقدّم العنف

والإرهاب على أنه يهدف إلى تطبيق الشريعة ومبادئ الإسلام، وإسقاط الأنظمة الظالمة ومقاومة الاحتلال

الأجنبيّ. وبناءً على ذلك يجري تبرير الأعمال الإرهابيّة من قتل أبناء الطوائف غير الإسلاميّة، وسبي

النساء والأجانب والمخالفين لهم والتمثيل بهم، وكل هذه الأعمال الإرهابيّة الأخرى التي قامت بها المنظمات

الجهاديّة السلفيّة وآخرها تنظيم القاعدة وداعش، حيث يجري تسويقها إعلاميّاً من قِبلهم على أنها أعمال

تخدم الدين والمقاومة.

وتأسيساً لذلك فإن تزييف النصوص الدينيّة، واستخدامها في غير مجراها الطبيعيّ، أدّى إلى حالة من

الفوضى في تفسير النصوص الدينيّة وتأويلها قادت إلى تنامي العنف، وخير دليل على ذلك قضية الجهاد في

الإسلام التي انحرفت تفسيراتها عن جوهر معناها في القرآن والسنّة النبوية، وبالتالي أصبح الجهاد إرهاباً

بعد أن تحوّلت فكرة الجهاد لدى جماعات الإسلام السياسيّ الراديكاليّة، إلى فكرة تكفير المسلم ومن ثَم

شرعية قتله، هذا بالإضافة إلى أن عوامل ﺍﻟﻔﻘﺭ ﻭﺍﻟﺤﺭﻤﺎﻥ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱّ ﻭﺍﻷﻤّﻴﺔ ﻭﻏﻴﺎﺏ ﺍﻟﻭﻋﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﺴﻲّ، تُعدّ

من بين أهم العوامل المؤدّية إلى ظهور الجماعات المتطرّفة وخلق ظاهرة العنف الإرهابيّ، تلك العوامل

جميعها أسهمت بشكل كبير في انتشار هذه الظاهرة في مجتمعاتنا.

الخلاصة:

كما ذكرنا في بداية تحليلنا لظاهرة الإرهاب السياسيّ، أن خطر الأصوليّة الإسلاميّة قد ازداد، واتسعت

رقعة نشاطها، ويرجع كل ذلك لعدة عوامل، أبرزها:

1ـ المعايير المزدوجة للدول الغربيّة فيما يخصّ حقوق الإنسان، ومن تجلياتها تأييد الأنظمة الدكتاتورية

في كثير من البلدان العربيّة والإسلاميّة، وتأييد سياسة إرهاب الدولة الإسرائيليّة ضد الشعب الفلسطينيّ

والشعوب العربيّة، كذلك الحصار والعقوبات الاقتصاديّة المفروضة على عدد من البلدان العربيّة

والإسلاميّة.

2ـ ممارسة القوة في العلاقات الدوليّة واللجوء لسياسة الغزو العسكريّ، كما حدث لأفغانستان عام 2001م،

والعراق عام 2003م بحجّة الحرب على الإرهاب.

3ـ تقديم المساعدات بما فيها الدعم العسكريّ للمنظمات المتطرّفة، وذلك لحسم صراعها مع الدولة

والمجتمع، كما حصل خلال الأحداث التي جرت في عدد من الدول العربيّة بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبيّة

عام2011م.

4ـ الاستبداد السياسيّ والظلم الاجتماعيّ الذي تمارسه السلطات في كثير من البلدان العربيّة والإسلاميّة.

ومن هذا المنطلق كان للأصوليّة الإسلاميّة تداعياتها السياسيّة والعسكريّة الخطيرة على المستوى الداخليّ

للدول العربيّة والإسلاميّة، تلك التداعيات التي وضُحت بقوة بعد احتجاجات الربيع العربيّ. لقد سعت

الولايات المتحدة الأمريكيّة إلى محاربة الإرهابيّين في العراق حتى يُمنَع وصولهم إلى بلدهم، لكنهم تناسَوا

أن هؤلاء لم يعودوا بحاجة إلى قطع آلاف الأميال والمرور عبر عدّة مطارات وتعرّضهم للاحتياطات

الأمنيّة العالميّة، للوصول إلى أي ولاية من الولايات الأمريكيّة، حيث يوجد في العراق إبّان الاحتلال

الأمريكيّ ما يقارب 150 ألف جنديّ أمريكي يشكّلون هدفاً لتنظيم القاعدة وباقي فصائل المقاومة العراقيّة.

ومن واقع الأحداث والمجريات فقد تحققت إستراتيجية تنظيم القاعدة بجرّ الولايات المتحدة الأمريكيّة إلى

حرب فاشلة في المنطقة من ناحية، وإشعال فتيل الحرب الأهليّة الطائفيّة من ناحية أخرى، تلك الحرب

الأهليّة التي أسهمت فيها دول الجوار بشكل كبير جداً ([28]).

ونتيجةً لهذا فقد ﺃﺼﺒﺢ ﺍﻹﺭﻫﺎﺏ ﻤﻥ ﺍﻟﻅﻭﺍﻫﺭ ﺍﻟﺨﻁﻴﺭﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺩﺕ ﺇﻟﻰ ﺯﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﺨﻁﺭ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻤﻥ ﺍﻹﻨﺴﺎﻨﻲّ، ﺇﺫ

ﺘﻌﺩّﻯ ﻤﺭﺤﻠﺔ ﺍﻟﻤﺤﻠﻴﺔ ﻭﺍﻨﺘﻘل ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴّﺔ، ﺒﺤﻴﺙ ﺃﺼﺒﺢ ﺇﺭﻫﺎﺒًﺎ معولماً، بمعنى أن يد الإرهاب طالت أغلب

دول العالم، فضربت في واشنطن ولندن وبرلين، ﻭﻜﺫﻟﻙ ﻓﻲ ﺸﺭﻡ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻭﺍﻟﺠﺯﺍﺌﺭ وتونس والمغرب ﻭﺤﺘﻰ

ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻌﻭﺩﻴﺔ، وبالتالي فإن الإرهاب أصبح ﻴﻤﺜّل ﻤﺼﺩﺭًﺍ من ﻤﺼﺎﺩﺭ ﺍﻟﺨﻁﺭ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲّ

ﺍﻟﻤﻌﺎﺼﺭ.

ووفقاً لما تقدّم، فنحن أمام مشكلة مهمة وهي، اعتماد الغرب على الخلط بين الجماعات الأصوليّة وبين الدين

الإسلاميّ، إذ تمّ إلصاق اسم الدين بالإرهاب، لكن هذا ينافي جانباً من الواقع، ذلك أن إلصاق صفة الإرهاب

بالإسلام وإعفاء الآخرين منها ستكون مقصودة ومغرضة، كما أن استخدام كلمة الجهاد والجهاديّين على

العمليات الإرهابيّة، هو الآخر أمر مقصود ومفتعل، لأن للجهاد شروطَه، والجهاد من أجل الحقّ هو غير

الإرهاب، بل هو جهاد دفاعيّ هدفه حماية البلاد والعباد من العدوان والإرهاب والظلم. وتجدر الإشارة هنا

إلى أن الحروب الدينيّة قديماً هي أحد أبرز الأمثلة التاريخيّة حضوراً عند الحديث عن العنف الدينيّ.

وفي النهاية فإن الخطاب الدينيّ ليس مجرّد كلمات تُلقى، وإنما هو رسالة ذات مضمون فكريّ ودينيّ

واجتماعيّ له أثر كبير في توجيه الإنسان، وإن إساءة استخدامه من قِبل الجماعات المتشدّدة التي تحاول

نشر أفكارها التي تهدّد الأمن والسلم الدوليَّين، لما تتضمّنه من أفكار العنف والتطرّف والإرهاب، توجب

على العلماء ورجال الدين مواجهة هذه التحدّيات الخطيرة من خلال تقديم الرؤية الصحيحة لمبادئ الإسلام،

وتصحيح المفاهيم، ومحاربة فكر الإرهاب والعنف والتشدّد والتطرّف، وذلك عن طريق التفسير الصحيح

للنصوص الدينيّة التي تؤكد مقاصد الشريعة السمحاء، ومن ثم تأسيس خطاب دينيّ متسامح.

 

([1]) مخيمر، عبد العزيز، الإرهاب الدولي، الناشر، دار النهضة، القاهرة، 1986، ص38

([2]) رفعت، أحمد، والطيار، صالح بكر، الإرهاب الدولي، الناشر، مركز الدراسات العربي الأوروبي، باريس، 1998، ص3

([3]) الغزال، إسماعيل،’ الإرهاب والقانون الدولي، الناشر، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1990، ص2

([4]) بلقزيز، عبد الإله، الإسلام والسياسة: دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسيّ، الناشر، المركز الثقافي العربي، المغرب، 2001، ص140

([5]) المصدر نفسه السابق، ص10ص11 ولاحقا

([6]) للمزيد راجع، العشماوي، محمد سعيد، الإسلام السياسيّ، مصدر سابق، ص13

([7]) إسماعيل، محمود، الإسلام السياسيّ بين الأصوليين والعلمانيين، الناشر، مؤسسة الشراع العربي، الكويت، 1993، ص8

([8]) للمزيد راجع، محمود، مصطفى، الإسلام السياسيّ والمعركة القادمة، الناشر، دار المطبوعات، القاهرة، 1992، ص25ص26 ولاحقا

([9]) للمزيد راجع، علي، حيدر إبراهيم، التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية، الناشر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996، ص253ص254

([10]) أركون، محمد، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟، ترجمة وتعليق، صالح، هاشم، الناشر، دار الطليعة، لا يوجد تاريخ الطبع، بيروت، ص294

([11]) للمزيد راجع، باروت، محمد جمال، يثرب الجديدة: الحركات الإسلامية الراهنة، الناشر، رياض الريس، بيروت، 1994م، ص13ص14

([12]) فوللر، غراهام إي، الإسلام السياسيّ ومستقبله، نقله إلى العربية، التوبة، محمد محمود، الناشر، دار العبيكان، المملكة العربية السعودية، 2006، ص286

([13]) المصدر نفسه السابق، ص285ص286 ولاحقا

([14]) الترابي، حسن، تجديد الفكر الإسلامي، الناشر، دار القرافي، المغرب، 1993، ص4

([15]) العقالي، محمد الدمرداش، الإسلام السياسيّ من عام الجماعة إلى حكم الجماعة، الناشر، المجموعة الدولية، القاهرة، سنة الطبع بلا، ص259

([16]) انفصل جنوب السودان وأسس دولة مستقلة في 5 أكتوبر 2012

([17]) للمزيد راجع، الأفندي، عبد الوهاب، وزين العابدين، الطيب وآخرون، مؤتمر الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتجاهات، الناشر، المركز العربي للأبحاث، الدوحة، 2012م، ص10ص11 ولاحقا

([18]) للمزيد راجع، عرب، إبراهيم، الإسلام السياسيّ والحداثة، الناشر، دار أفريقيا الشرق، المغرب، 2000، ص111ص112 ولاحقا

([19]) للمزيد راجع، إدريس، نوري، العنف السياسيّ في الجزائر المعاصرة من الأيديولوجيا الشعوبية إلى اليوتيبيا الإسلاموية، مجلة عمران، العدد 14/4، 2015، ص43ص44 ولاحقا

([20]) للمزيد راجع، سليماني، محمد، مشاركة الحركة الإسلامية في السلطة: نموذج حركة حمس الجزائرية، مذكرة تخرج لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسيّة، جامعة وهران، كلية الحقوق، الجزائر، 2012، ص139

([21]) زيدان، يوسف، اللاهوت وأصول العنف الديني، مصدر سابق، ص227

([22]) للمزيد راجع، العاني، إحسان شفيق، الأنظمة السياسيّة والدستورية المقارنة، الناشر، جامعة بغداد، كلية العلوم السياسيّة، سنة الطبع بلا، ص20، والزبيدي، رشيد عمارة، العنف السياسيّ في العراق، مجلة شؤون عراقية، المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، عمان، العدد صفر، 2009، ص47

([23]) للمزيد راجع، الخضري، أنور قاسم، حزب الله من النصر إلى القصر، الناشر، www.kutub-pdf.com ، ص113ص114 ولاحقا

([24]) هو الاسم الذي تعرف به وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، التي وضعت بين الأطراف المتنازعة في لبنان، وذلك بوساطة السعودية في 30 أيلول/ سبتمبر عام 1989

([25]) للمزيد راجع، الباز، أحمد، الثورة والحرب-تشكيل العلاقات الإيرانية الخليجية، الناشر، دار العربي، القاهرة، 2018، ص85

([26]) للمزيد راجع، العكري، عبد النبي، دور الحركة الإسلامية في انتفاضة 14 فبراير، الناشر، مركز البحرين للدراسات، لندن، سنة الطبع بلا، ص5ص6 ولاحقا

([27]) الخواجة، عبد الهادي، والمرشد، عباس، دراسة التنظيمات والجمعيات السياسيّة في البحرين، الناشر، المركز اللبناني للدراسات والبحوث، لبنان، 2007، ص30

([28]) للمزيد راجع، عطوان، عبد الباري، القاعدة: التنظيم السري، الناشر، دار الساقي، بيروت، 2007، ص8ص9

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى