أبحاث ودراساتاسماعيل خالد اسماعيلافتتاحية العددمانشيتملف العدد 56

الفلسفة البيئية من تيودور أدورنو إلى المفكر الأمميّ عبد الله أوجلان

إسماعيل خالد إسماعيل

الفلسفة البيئية من تيودور أدورنو إلى المفكر الأمميّ عبد الله أوجلان

والمواضيع الإشكالية في قضية البيئة

إسماعيل خالد إسماعيل

اسماعيل خالد اسماعيل
اسماعيل خالد اسماعيل

“الفكر الذي لا یفسّر سوء الوجود، یبقى ظالماً لتسميته، فالحقيقة لا تكون حقیقة، وتظلّ الفلسفة عبثاً. ومع ذلك على الفلسفة ألا تستسلم، وإلا كان النصر للعبث اللاعقلاني، ذلك لأنّ العبث هو الحقيقة في شكل مقبول للبشر في أي مكان وزمان متى ما توارت الحقيقة باستسلامهم. حتى في ذروته، یبقى الفن محاكاة، وتبقى العين الطامحة لرؤية العالم بألوانه الحقیقیة هي المقاومة العنیدة ضد تعفن العالم، وفي اللا محاكاة یكمن الوعد بالمحاكاة ”

تيودور فيزنغراد أدورنو

مقدمة

ما زال الإنسان ورغم المراحل الحضارية التي مر بها عبر التاريخ، وإلى اليوم يتعامل مع الأنساق البيئية بعقلية استغلالية مثيرة للعجب كما لو أن الطبيعة خزان لا ينضب..

لقد فهم أخيراً أنه يعيد إنتاج نفسه عبر أفعاله في الطبيعة، كما أنّ التطور التقنيّ يفعل فيه فعله بعمق على المستوى الجسدي والنفسي والثقافي؛ وكل ما نقوم به اليوم سيؤثر على إنسان المستقبل الذي سيكون كما أردنا له أن يكون. إذا نحن أسأنا “صياغته”، بمعنى صياغة الظروف المستقبلية التي ستحتضن وجوده، نكون بذلك قد لوحنا به في طريق ذات اتجاه واحد، وسيكون من المستحيل عليه تفكيك وجوده وإعادة تركيبه وفق رغباته هو مهما اتسع إدراكه وارتقت همته وإرادته.

إذا لوّث الإنسان المعاصر البر والبحر وأباد الكائنات الحية سيكون قد تسبب إلى الأبد في اضطراب “سلسلة عمل” ابتدأت مع بداية الكون، ويكون قد فعل ذلك لأسباب تافهة فرضتها طريقة العيش المعاصرة.

من هنا أهمية التناول الفلسفي لقضايا البيئة ومحاولة فهم السياق المفاهيمي المرتبط بأوضاع الكائنات الحية في الطبيعة وعلاقة الإنسان بها، ودراسة شبكة العلائق التي تشكل الأنساق البيئية وتطوراتها الكمية والكيفية ومآلاتها وتحولاتها، وهذا ما نروم الإسهام فيه من زاوية فلسفية عبر استدعاء أطروحات “الفلسفة البيئية” المختلفة، خصوصاً منها فلسفة “أخلاق الأرض” اختبار مدى صرامتها ومعقوليتها وقابليتها للرضوخ والامتثال.

 

مفهوم الأيكولوجيا العميقة Deep Ecology

إنّ أبرز ما أثار الاهتمام في مجال الفلسفة البيئية الوليدة هو مفهوم الأيكولوجيا العميقة Deep Ecology، فماذا يقصد بهذا المفهوم؟ الأيكولوجيا العميقة حركة بيئية أطلقها في العام 1973 الفيلسوف النرويجي آرني نايس عندما نَحَتَ هذا المصطلح واجتهد في إعطائه أساسًا نظريًّا، وتصف هذه الأطروحة نفسها بـ”العمق”؛ لأنها تطرح أسئلة أعمق عن مكانة الحياة الإنسانية.

وتنبني “الأيكولوجيا العميقة” على مبدأين أساسيين وهما:

1-  تبصُّر علمي في ترابط منظومات الحياة كافة على الأرض، إلى جانب فكرة أن المركزية البشرية طريقة غير موفَّقة في رؤية الأشياء، ويقول الأيكولوجيون العميقون، بهذا الصدد، بأن موقفًا أيكومركزيًّا هو موقفٌ أكثر انسجامًا مع حقيقة طبيعة الحياة على الأرض. إنهم، بدلاً من اعتبار البشر كشيء فريد تمامًا في الكون، يرون البشر كخيوط لا تتجزأ من نسيج الحياة.

2- المكوِّن الثاني للأيكولوجيا العميقة هو ما يسميه آرني نايس: “حاجة الإنسان إلى التحقُّق الذاتي”. فبدلاً من التماهي مع أنانية البشر، ينبغي علينا أن نتعلَّم التماهي مع الشجر والحيوان والنبات، ومع النطاق الأيكولوجي ككل، وهذا ينطوي على تغيير جذريٍّ فعلاً في الوعي، لكنْ من شأنه أن يجعل سلوكنا أكثر انسجامًا مع ما يخبرنا العلم بأنه ضروري من أجل تحسين حال الحياة على الأرض؛ أي أننا ينبغي أن نمتنع عن فعل أشياء معينة تضرُّ بالأرض…

وقد تعرضت الأيكولوجيا العميقة النابعة أساساً من نظرية “أخلاق الأرض” لسيل من النقد اللاذع يتّهمها بالاستناد إلى الشمولية الميتافيزيقية، وكونها يمكن أن تصب في اتجاه فظيع سياسياً. إن فكرة اعتبار الغلاف الحيوي كوحدة شاملة محتوية على قيمة جوانية تتجاوز قوة عناصره المكونة منعزلة بما فيها الإنسان، تثير معارضة شديدة من طرف من يرون فيها بوادر العودة إلى “رومانسية” شمولية ولا عقلانية.

لقد أصبح لزاماً اليوم تدبير الثروات الطبيعية مع احترام “السلامة البيئية” باعتبارها “مطلبا” يندرج ضمن مفهوم العدل مثلما الشأن بالنسبة للتوزيع العادل للثروات. إن تداعيات حماية الطبيعة أو تدميرها وما يترتب على ذلك من إيجابيات أو سلبيات ينبغي أن “تقتسم بشكل عادل” بين مجموع المواطنين؛ إذا كان “الهدف المثال” في الفلسفة السياسية هو “إقامة العدل”، فإن “الهدف المثال” بالنسبة للفلسفة البيئية هو تحديد “الحقوق والواجبات” في علاقة المواطن بالوسط البيئي من حيث التمثل والحماية والاستشراف.

– ثمة علاقة على المستوى الابستيمولوجي بين مصطلحي “علم البيئة” و”علم الاقتصاد” وهما مشتقان من “oikos” ومعناها “بيت”، ممّا يتيح طرح سؤال إشكالي قد يضيء بعض جوانب العلاقة بينهما، وهو هل لهذا الأصل اللغوي المشترك علاقة بارتباط مفهوميهما بالتنمية المستدامة .

– إنّ مصطلح اقتصاد يعني في بيئة اليونانية “قانون المنزل”: أي حسن تدبير الشؤون العائلية ولم يكتسي المصطلح مفهومه الحالي إلا خلال القرنين 17 و18 حينما أدار ظهره لمفهومه القديم. وخلال القرن 19 تجسد مفهوم الأيكولوجيا بمعنى علم المجالات الطبيعية لم يكن على الأرجح يستحضر الجذر المشترك بين “أيكولوجيا” و”إيكونوميا”؛ لأنّ هذا الأخير عرف تغييرات كبرى بين أرسطو وآدم سميث خصوصا فيما يتعلق بربط المفهوم بفكرة “النظام العام” خصوصا “نظام العناية.

وانطلاقاً من هذه المقاصد يمكن تعريف “الأيكولوجيا السياسية” باعتبارها “منظومة قيم” تنطوي بالضرورة على ثلاثة مجالات للتطبيق: العدل داخل الدولة، والعدل بين الدول، والعدل بين الأجيال.

وجدت هذه الفكرة تقعيدها في نقد العقل الغربي من طرف مدرسة فرانكفورت التي انتقدت -خصوصاً مع الفيلسوف تيودور أدورنو- الذي تعامل مع العقل كأداة، لقد دعا إلى تبنّي “الأخلاقية التواصلية” عوض الأخلاقية الأداتية.

إن قضية التوازن بين الانتماء إلى الطبيعة والاستثناء فيها تم التطرق إليها قبل أدورنو عندما قارن بين مفهوم العقلانية العميق مع أصل العقلانية الأداتية أو العقل الأداتي، وانشغل أكثر بـ”معرفة أين يُفرض الفصل المثالي بين الذاتية والطبيعة وأين وكيف يتم تجاوزه؟

يعتبر العالم شبكة من علاقات الاعتماد المتبادل على مستويات متنوعة، مثل التجهيزات والسياسة والحسّ الأخلاقي… هكذا يُفهم “عالم” العلاقات بمصطلحات بشرية تحُدّ من قدرتنا على إدراك عالميَّة الطبيعة. أو بكلمات هايدغر نفسه، “كل ذلك الذي سوف نكون قادرين على قوله أو التفكير فيه أو تجربته من الظواهر الطبيعية المفترضة يتموضع بشكل ضروري ضمن العالم”. وبطريقة ما، وعلى الرغم من فكرته عن البشر الكائنين في العالم التي تنهي الانفصال بين الذات والموضوع الذي يعتقد أن ديكارت قد جلبه، فإنّ أدورنو يستبقي نوعًا من الفصل المثالي بين الطبيعة والبشرية. “العالم” فضاء مفاهيمي مختلف عن الأرض.

يعلن الكثير من المفكِّرين البيئيين الجذريين أنّنا على مفترق حاسم في فهمنا التاريخي للطبيعة. فلكي نجتاز عصر أزمتنا البيئية الحالية، ينبغي أن نهجر التصورات المفتقِرة عن الطبيعة التي أورثنا إياها التراث الغربي، وننتقل إلى صياغة أغنى، وأكثر إرواءً من الوجهة الروحية، للعالَم الطبيعي ولمكانتنا فيه.

لا ريب أن هايدِغر كان سيوافق على هذا المشروع العام. فهو يقول، من جهة، بأن الاجتياح الحديث للطبيعة هو نتيجة لسيطرة الفهم “التكنولوجي” الحديث للعالَم الذي، بدوره، يرى فيه ذروة “التراث الميتافيزيقي” الغربي. وهو، من جهة أخرى، يقدِّم في كتاباته اللاحقة عن “الإقامة” وصفًا لفهم حكيم “غير تكنولوجي” للعالَم.

ومن جانبه وجه المفكر أوجلان انتقادات بتطبيق الديالكتيك الطبيعي على العلاقة بين الطبيعة والمجتمع وكنقد لمذهب الإحيائية، حيث يؤكد “بطريقة ما، المجتمع، كطبيعة ثانية، هو مستوى متطوّر أعلى، لكنه منعكس في الطبيعة الأولى”. عموماً، سهّل مصطلح “الديالكتيك الطبيعي” مقدرة تحليلية وفلسفية لدى أوجلان بهدف تجاوز الثنائية التي تضع ذات المجتمع في مواجهة موضوع الطبيعة، حيث وصف المفكر أوجلان أنّ الطبيعة تظهر إمكانياتها من خلال عملية تطورية تراكمية، بحيث تتطور من أبسط أشكال الحياة إلى أكثرها تعقيداً واختلافاً وتنوعاً وذاتيةً وحراً واختياراً.

إنّ السبيل الأكثر واقعية هي البحث عن جذور الأزمة الأيكولوجية المتجذرة طرداً مع أزمة النظام الاجتماعي، وبشكل متداخل، فالمجتمع في مضمونه ظاهرة أيكولوجية.

فالإدارات المستعمرة للإنسان طوّرت بالتوازي مع استغلال الطبيعة والتحمت الهيمنة على الإنسان مع الهيمنة على الطبيعة والتحكّم بها.

وكانت المحصلة أن التحمت أزمة البيئة بالأزمة الاجتماعية وحالما نقل مضمون النظام القائم الأزمة الاجتماعية إلى مساحة الفوضى البيئية وبدأت البيئة بإطلاق صيحات الاستغاثة من أجل الحياة لما لحق بها من كوارث وفواجع.

مصدر كوارث عصرنا كما یراها ثيودور أدورنو، هو السیطرة وبأي ثمن على الثلاث أشیاء التالیة: السیطرة على الطبیعة من قبل البشر، سیطرة البشر على طبائعهم البشریة في أنفسهم، وفي كلّ من شكلی السیطرة تلك یوجد الشكل الثالث، وهو سیطرة البشر على بشر آخرین.

ما یحفز وجود هذا الحب للسیطرة هو الخوف اللا عقلاني من المجهول فیقول: “یعتقد الإنسان أنّه حر من كل مخاوفه، حالما یَعرف كلَّ مجهول ممّا یجعل من تفكیك الخرافة والأساطیر أمراً ضروريّاً.

إنّ التنویر اجتثاث تلك الأساطیر من جذورها فالمجتمع المهتم بالسعي خلف ركب التقدم لكنه غیر حر سیعرّف كل ما هو مختلف عنه، سواء بشراً أو غیر بشريٍّ بأنه “الآخر”، ومن ثم یدفع به جانباً إما بالاستغلال أو التدمیر.

یتكوّن تشخیص ثيودور أدورنو لمجتمع التبادل على ثلاثة مستویات: – مستوى سیاسي-اقتصادي، اجتماعي-نفسي ومستوى ثالث ثقافي.

جاء المستوى الأول كاستجابة لنظریة رأسمالیة الدولة خلال سنوات الحرب. في فترة الحكم النازي لألمانیا والاتحاد السوفیتي والصفقة الجدیدة الأمریكیة في الثلاثینیات، حيث كانت الدولة هي المسیطر على القوى الاقتصادیة السیاسیة، فقام بتسمیة هذه الحالة بالـ”دولة الرأسمالیة.

وأكّد ثيودور أدورنو بأن المجال الاقتصادي كان متداخلاً في هذه الحالة مع السیاسي، إلا أنه لا یعتقد بأن ذلك یغیّر واقع الاستغلال الرأسمالي للإنسان. بل یرى أنّ هذا الشكل یقوم على وضع الاستغلال في حالة من التجرید الذي یساعد على استمراره بفعالیة ومرونة أكثر في الهروب.

 

الأيكولوجيا السياسية” حل عملي “للمعضلة البيئية” عند تيودور أدورنو

طرح تيودور أدورنو مصطلح “الأيكولوجيا السياسية” باعتبارها حلاً عملياً “للمعضلة البيئية” وأبقاها مشروعاً “مبهماً” لا سيّما وأنّ الأرضيّة الفلسفية التي يمكن أن تسندها لا زالت بصدد التبلور، وكسب المواقع، وعليه وجب الاقتراب أكثر من مختلف الفلسفات البيئية لإبراز مقاصدها والقيم البيئية الثانوية فيها…

“نستطيع القول: إنّ الجدل السلبيّ لأدورنو هو إجابة مختلفة على مسألة واحدة”.

هذه المسألة هي مشكلة الكشف عن الصفة السلطويّة للعقل المتمركز على الذات.

إنّ مفهوم العقل الأداتي الذي يستلِبُ الوعي النقدي ويُسيطر عليه كليّاً، يطغى بشكلٍ واضح على مفردات أدورنو في كلٍ من جدل التنوير والجدل السلبي.

في هذين الحالتين هناك سوداوية خانقة تُذكِّرُنا بفكرة “الوعي الشقيّ” عند هيغل. أمام سوداوية الواقع المُستلب والمُشوِّه يجد الفكر النظري نفسه، وفق تحليلات أدورنو، مشلولاً تماماً وعاجزاً عن المقاومة فينعي نفسه تاركاً “بومة منيرفا” تنعق فوق خرائب الفلسفة والوعي النظريّ النقديّ. لكنه وبعد أن أدرك استحالة الجدل السلبيّ، سيجد أدورنو في يوتوبيا الفن مخرجاً آخر، وأُفقاً مفتوحاً لمقاومة سوداوية الواقع وتجاوزاً لأزمة انسداد الآفاق التي انتهى إليها العقل الأداتي.

هكذا سينهي أدورنو حياته الفكرية في الحديث عن التجربة الجماليّة بوصفها شكلاً من أشكال المقاومة.

 

ما بين الحُلم والواقع، الوعي واللاوعي

أدورنو الحالِم، أدورنو الكاتب والموسيقيّ الذي يشرح في كتابه (الاخلاقيات الدنيا) كيف أنّ الوعي المُتيقِّظ يُفسِد ويؤذي ويُخرِّب الأحلام الأجمل التي تبدو من وجهة نظر الواقع الفعليّ مجرِّد أوهام أو “أضغاث أحلام”.

إذا أردنا الوصول إلى فهم حقيقي، فإنّ ذلك ينبغي أن يتحقّق من خلال إدراك العلاقة المتبادلة بين البناء الاقتصادي للمجتمع، والنموّ النفسي للفرد والظواهر الثقافية السّائدة.

سيطرت العديد من أعمال أدورنو على الفكر الاجتماعي في السنوات الأخيرة: الهيمنة على الطبيعة تظهر كقضية مركزية للحضارة الغربية، الأيكولوجيا أصبح مصطلحاً شائعاً اليوم.

وفي سياق هذه الأعمال يقدم أدورنو رؤيته للجدل بمحاذاة الحقيقة: عندما يظهر بأن الحقيقة بنفسها أَصبحتْ أيديولوجيا، المساهمة الأعظم أن النظرية النقدية يمكن أَنْ تُصنع لتستكشف التناقضات الجدليةَ للتجربة الشخصية الفردية من ناحية، وإبقاء حقيقة النظرية من ناحية أخرى. حتى الجدل يمكن أَنْ يصبح وسيلة للهيمنة: “حقيقته أَو غير حقيقته، لذا، لَيس متأصلَاً في الطريقة نفسها، لكن في قصده في العملية التاريخية- الكلام لأدورنو.”

وهذا القصد يجب أَنْ يكون نحو الحرية والسعادة التكاملية: “الفلسفة الوحيدة التي يمكن أَنْ تزاول بمسؤولية في وجه اليأس، محاولة تأمل كلّ الأشياء كما هي تقدّم نفسها من وجهة نظر التحرير”. يختم أدورنو: “لكن بجانب هذا المطلب، سؤال الحقيقة أَو الوهم تحرير نفسه أمر بالغ الصعوبة..”

أدورنو موسيقار، كتب فلسفة الموسيقا الحديثة، التي فيها هو، جوهرياً، يجادل ضدّ الجمال نفسه — لأنه أَصبح جزءاً من أيديولوجيا المجتمع الرأسمالي المتقدّم ويساهم في الهيمنة. يبقى الفنُّ والموسيقى طليعة الحقيقةَ عن طريق أسْر حقيقة المعاناة الإنسانية. وجهة نظر هذه للفنّ الحديث، بأنّها حقيقة منتجة من خلال إنكار الشكلِ الجمالي التقليدي والمعايير التقليدية للجمالِ لأنه أصبح أيديولوجيا، هي خاصية أدورنو ومدرسة فرانكفورت عموماً.

 

عمق تأثير الأبعاد الفلسفية والسياسية للأيكولوجيا الاجتماعية على كتابات المفكر الأممي عبد الله أوجلان

بدأ حضور مصطلح” الأيكولوجية” (علم الوعي البيئي- الاجتماعي) يظهر في كتابات المفكر عبد الله أوجلان منذ عام 2003، وبجوار مصطلحات أخرى مثل: المجتمع الديمقراطي- والبيئي، والكومونات، والمجالس، والهيئات.

حيث قام المفكر أوجلان بتكييف جسم “الأيكولوجيا الاجتماعية” بشكل أو بآخر في عمله الخاص، حيث كان مدركاً تماماً قضية البيئة التي أحدثتها الرأسمالية في المجتمع. ومع ذلك تم تعميق هذا الوعي من حيث بلورة المفاهيم وتعزيزه فلسفياً وسياسياً، فقد نظر إلى أزمة البيئة بوصفها قضية مركزية، ورأى أنّها نتاج الانهيار الاجتماعي الناجم عن الهرمية والسيطرة والاستغلال والعبودية، مبيّناً: “عندما بدأ الإنسان في استعباد أخيه، بدأ أيضاً في استعباد الطبيعة”، بحكم أنّ “هذه القضايا البيئية غير المسبوقة نابعة أساساً من مجتمع محطّم”. يمكن للمرء أن يرى بوضوح أنه عندما صاغ المفكر عبد الله أوجلان هذه الجملة، كان المبدأ المركزي لفلسفة الوعي البيئي في ذهنه، مفاده يكمن في ” فكرة هيمنة الإنسان على الطبيعة تنبع من هيمنة الإنسان على الإنسان أولاً”.

ولحلّ المعضلة البيئية، هي معضلة عالمياً ومحلياً، وخلق مجتمع قائم على الوعي البيئي، اقترح المفكر عبد الله أوجلان برنامجاً سياسياً بحيث “لا يستنسخ النظام الهرمي القديم أو النظام التقليدي القائم على الدولة، ولا نظام يتخذ من العبودية أساساً له، حيث يتمّ قمع المجتمع واستغلاله”، بل قام بتطوير نظام غير هرمي وأخلاقي قائم على علاقة جدلية مع الطبيعة والديمقراطية المباشرة، والفكرة التي نادى بها من خلال ما تحدث به عندما قال:

“سنبني نظاماً قائماً على الأخلاق يتضمّن علاقات جدلية مستدامة مع الطبيعة، ونظاماً لا يعتمد على هياكل السلطة الداخلية، إنّما نظاماً يتمّ فيه تحقيق الرفاهية المشتركة من خلال الديمقراطية المباشرة”.

وبوصفه يعتبر مفكراً ثورياً تعاطى مع قضية الوعي البيئي الاجتماعي، رفض التعامل مع الأزمة البيئية بإجراءات مجزّأة، بل دعا إلى تغييرات شاملة تعزز إعادة الانسجام مع الطبيعة بطريقة جذرية، ممّا يعني إنشاء مجتمع ديمقراطي تشاركي، بقوله: “إنّ الوعي بالبيئة والطبيعة والاهتمام بهما لا يستلزم فقط الاهتمام بالهواء النقي والمياه النقية. إنما يعني أن نعيش بالكامل مع الطبيعة، وأن نعود من اختزاليتنا الحالية (تقسيم الطبيعة إلى أجزاء صغيرة)، إلى نظرة شاملة للطبيعة. هذه المقاربة تعني بناء مجتمع ديمقراطي وتشاركي أيضاً”.

– لقد كان المفكّر عبد الله أوجلان مُحبَطاً من اختزالية وحدة التحليل الماركسي المستندة إلى “الطبقة”. مما دعا إلى العودة إلى تناول “التاريخ الطويل” بهدف الكشف عن جذور الهرمية والهيمنة في سراديب فجر الحضارة. كان يسعى إلى فهم أصول الهرمية ومن ثم تفكيك أسطورتها، كما أشار هو بنفسه: “عند البحث عن جذور الأزمة البيئية، التي تتفاقم بالتوازي مع أزمة النظام، يبدو من المنطقي أن نبدأ البحث في بداية الحضارة “.

عزز مؤلِّف “أيكولوجيا الحرية” من الأدوات الأنثروبولوجية لدى المفكر عبد الله أوجلان، فكتب بصيغة مختلفة:” إن تطوّر السلطة والهرمية حتى قبل ظهور المجتمع الطبقي يمثّل نقطة تحوِّلٍ مهمّة في التاريخ”، فضلاً على أنّ الدولة تعتبر بمثابة “ممثل للهياكل الهرمية المؤسساتية بشكل دائم”.

 

المجتمع الطبيعي في فلسفة المفكر عبد الله أوجلان

وصف المفكر عبد الله أوجلان الحقبة التي سبقت صعود الهرمية.  بــ” المجتمع الطبيعي”، واعتبر أنّ هذا المجتمع يحمل بصمات حضور المرأة، ومنظم وفق علاقات اجتماعية غير هرمية وسلمية وتعاونية وقائمة على التضامن. ومع ذلك، ومن داخل هذا “المجتمع العضوي” تحديداً، شقّت الهرمية طريقها إلى مسرح التاريخ.

منذ ذلك الحين، تداخل جدلياً صراع الحرية والهيمنة تاريخياً، حيث كان الشكل الأولي للهرمية تمثل في التحالف الذكوري (الشامان، والشيخ، والرجل القوي) ضد المرأة، موضحاً: “كان النظام الأمومي الأقدم، الذي اعتمد على السلطة الطبيعية، الضحية الأولى للمجتمع الهرمي. والمرأة هي الطبقة الأولى تعرضت إلى الاستعباد”. وبهذه المقاربة، اتخذ أوجلان نفس موقف المؤرخة والناشطة النسوية جيردا ليرنر في كتابها “نشأة النظام الأبوي”، حيث جادل أوجلان بأن “جميع أشكال العبودية نشأت نتيجة استعباد المرأة”.

نعت المفكر أوجلان حكم الهرمية بأنه حكم ” كبار السن”، ووصفها بــ” المجتمع الأبوي”.

ولتأسيس علم البيئي- الاجتماعي (الأيكولوجيا) داخل جسم فلسفي صلب ومتماسك، هذه العملية الجدلية تحتوي إمكانياتها في بذرتها كما قلنا، وهي دائماً تتحدّى التجريد القائم في “النظام الاجتماعي التاريخي والرأسمالي المعاصر” وتسعى نحو ما ينبغي أن يكون (مجتمعاً حرّاً وبيئيّاً) وفق المنطق الوجودي والأخلاقي الذي يصاحب التطور الطبيعي والاجتماعي من خلال: الانعكاسية الذاتية، والعقل، والحرية.

انتقد أوجلان النهج “التقدمي الخطّي” للماركسية المادية والجدلية التاريخية، ومع التعرف على مصطلح “الجدل الطبيعي” فتحت له آفاق، ساعدته لنبذ التفسيرات الجدلية لدى المثالية الهيغلية والماركسية بحكم “عواقبها المدمرة”.

وكلمة السر في هذه الإساءة التفسيرية وفق المفكر أوجلان، تكمن في المفهوم الأساسي لدى هيغل النفي والاحتواء والسمو” فهذا المفهوم لا يعني الاقصاء والتصفية كما جرى تفسيره، بل يعزز التطور دون أن يقضي على المرحلة السابقة، بحيث يحتفظ بها في شكل جديد، ويُحتمل أن يكون أكثر ثراءً وغنىً.

من هذا المصطلح الهيغلي المحوري، استخدم المفكر أوجلان “جدلية بنائية وتطورية” من أجل تموقع مكان الإنسان في الطبيعة والكون. يشدد المفكر أوجلان أن أتباع هيغل وماركس أساؤوا تفسير الديالكتيك، موضحاً” سيكون من الأصح البحث عن الأخطاء التي ارتكبها أولئك الذين أساءوا تفسير هذا الجدل في النقاط الرئيسية، وليس في ماركس أو هيغل”.

ففي المجلدين الأخيرين من سلسلة “مانفيستو الحضارة الديمقراطية”، يمكن للمرء أن يشعر بأنّ المفكر أوجلان لديه ميل قوي مع أعمال هيغل. حيث يقر بالمساهمات المهمة لليونان وأوروبا القديمة وعصر التنوير، لكنه يسعى في الوقت عينه، إلى إنهاء الارث الاستعماري وإزالة المركزية الأوروبية عن الجدل، حينما يشير بقوله: “التفسيرات الديالكتيكية وفيرة في حكمة الشرق أيضاً “.

 

المواضيع الاشكالية في قضية البيئة، موضوع “التمدن”

يرى المفكر عبد الله أوجلان، إن نموذج التمدن الرأسمالي بشقيه الدولتي والخاص، جنباً إلى جنب مع الحضارات الهرمية القديمة، يقوم على الهياكل السرطانية المشوهة داخل ثالوث “التمدّن والطبقة والدولة”، بحيث يدفعنا نحو حافة “قتل المجتمع” ويرسخ أزمة البيئة إلى أقصى الحدود من خلال التهام مناظر الطبيعة الزراعية.

حيث يعتبر أوجلان أن “العقل قد تطور في علاقة وثيقة مع المدينة. فالمدينة هي المكان الذي بدأ فيه البشر في التعرف على اتساع طاقاتهم [إمكاناتهم]”.

وعليه يسعى أوجلان إلى استعادة الإمكانات الحرة والحقيقية للمدينة من أجل التغلب على قضية التمدّن، حيث يعبّر عن هذه المسألة بقوله: “يجب أن نفكر في كيفية إنقاذ ما تبقى من الجمال والأخلاق والعقل داخل المدينة”.

 

سياسة الوعي البيئي- الاجتماعي

“يبقى السؤال الأساسي: كيف نقوم بإعادة بناء مجتمع بيئي وديمقراطي في الواقع؟ هل بالاعتماد على “الكومينالية” (التشاركية المجتمعية من القاع)؟

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كان المفكر أوجلان يخوض معركة فكرية لفهم طبيعة الدولة الخطرة، وكان يهدف من وراء ذلك إلى تقوية إرادة الناس وتمكينهم من أجل تفادي سطوة جهاز الدولة المركزي، ووجد بديلاً قابلاً للتطبيق بخصوص القضية الكردية وإمكانية توسيع هذا النموذج ليكون بمثابة خارطة الطريق للشرق الأوسط، حيث يسوده الحرية والديمقراطية. واستناداً على الكومينالية والبلديات التحررية.

لقد طور المفكر عبد الله أوجلان مشروعاً مناهضاً للرأسمالية ومركزية الدولة المفرطة، أطلق عليه “الكونفدرالية الديمقراطية”، والذي يرتكز على ثلاث ركائز: (الوعي البيئي- الاجتماعي، والديمقراطية الجذرية، وتحرير المرأة.) وكنموذج اجتماعي غير دولتي وبيروقراطي، تهدف الكونفدرالية الديمقراطية إلى تمكين الناس من إدارة شؤونهم من خلال المجالس الاجتماعية، جنباً إلى جنب مع اتحاد البلديات والمجالس الديمقراطية المنتخبة من قبل الشعب من خلال السياسة الديمقراطية المباشرة وجهاً لوجه، وبذلك أعاد أوجلان صياغة رؤيته للسياسة باعتبارها إدارة ذاتية.

أعتبر المفكر أوجلان أن وجود الدولة فوق المجتمع يعد إنكاراً أساسياً “للسياسة” بالمعنى الأرسطي وأرندت الأوسع للكلمة، حيث أشار بأنه: “بأي حال من الأحوال، تعمل هياكل السلطة والدولة، حينما يتمّ إنكار حق الناس في إدارة السياسة الاجتماعية”.

وفقاً لذلك، أطلق المفكر أوجلان على السياسات المناهضة للدولة اسم “السياسة الديمقراطية”. بحيث تكون صيغتها النهائية توسيع نطاق الكونفدرالية الديمقراطية على حساب هيمنة الدولة- الأمة الأحادي.

يعتبر الوعي البيئي الاجتماعي (الأيكولوجيا) بمثابة الجسد التأسيسي لتفكير المفكر عبد الله أوجلان ومع ذلك لا يمكن اختزال هذه القضية فكرياً، وفي الوقت نفسه لا يمكن إنكار الأهمية الكبرى للأيكولوجيا الاجتماعية في الزخم الذي أعطاه إياه أوجلان لتبنّي مواقف أكثر جذرية وديمقراطية.

من الناحية الجدلية، احتفظ أوجلان بــ” الأيكولوجية الاجتماعية” كأحد الركائز الأساسية للحداثة الديمقراطية، وتالياً قام برعايتها وتطويرها وإثرائها في بيئة اجتماعية وسياسية مختلفة عن بقية الفلسفات.

 

الخاتمة

من خلال ما تقدّم يمكننا القول: إنّ المفكر عبد الله اوجلان وافق أدورنو في مخاطر المجتمع الصناعي على الثقافة، لقد أصبح لزاماً اليوم تدبير الثروات الطبيعية مع احترام “السلامة البيئية” باعتبارها “مطلباً” يندرج ضمن مفهوم العدل مثلما الشأن بالنسبة للتوزيع العادل للثروات. إنّ تداعيات حماية الطبيعة أو تدميرها وما يترتب على ذلك من إيجابيات أو سلبيات ينبغي أن “تقتسم بشكل عادل” بين مجموع المواطنين؛ إذا كان “الهدف المثال” في الفلسفة السياسية هو “إقامة العدل”، فإن “الهدف المثال” بالنسبة للفلسفة البيئية هو تحديد “الحقوق والواجبات” في علاقة المواطن بالوسط البيئي من حيث التمثل والحماية والاستشراف.

لكن “الأيكولوجيا السياسية” باعتبارها حلّاً عمليّاً “للمعضلة البيئية” تبقى مشروعاً “مبهماً” لاسيما وأنّ الأرضية الفلسفية التي يمكن أن تسندها ما زالت بصدد التبلور وكسب المواقع، وعليه وجب الاقتراب أكثر من مختلف الفلسفات البيئية لإبراز مقاصدها والقيم البيئية الثاوية فيه

المراجع المستخدمة في البحث:

  • ثيودور دبليو أدورنو، النظرية الجمالية، العابرة. مارك جيمينيز ، كلينكسيك ، 1974.
  • جمال بامي. الفلسفة البيئية وأخلاق الأرض، مجلة الإحياء، الرباط: دار أبي رقراق، 2010 م.
  • موراي بوكتشين، أيكولوجيا الحرية، ترجمة متيم الضايم، دار نقش، القامشلي 2002 م.
  • مايكل بيترز ووروث ايروين، الأرض: الشعريات الأيكولوجية وهايدغر ومفهوم الإقامة. مجلة Trumpeter مجلد 18، عدد 1، 2002.
  • مانيفستو الحضارة الديمقراطية، عبد الله أوجلان، المجلد الثاني، المدنية الرأسمالية.
  • الأيكولوجيا، منشورات لجنة بحوث العلوم الاجتماعية.
  • or more extensive Adorno bibliographies, see Huhn 2004, Müller-Doohm 2005, and Zuidervaart 2014, an annotated bibliography.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى