أبحاث ودراساتافتتاحية العددفوزي سليمانمانشيتملف العدد 58

أزمة حضارة أم أزمة قوى الهيمنة؟

فوزي سليمان

أزمة حضارة أم أزمة قوى الهيمنة؟

فوزي سليمان 

فوزي سليمان 
فوزي سليمان

إن تشابك وتشوش بوصلة الصراعات العالمية، أفرزت أزمات على كافة الأصعدة، لتثقل كاهل البشرية بأزمات خانقة، وتتّجه بخطى متسارعة نحو انفجارات كارثية لا تستثنى معها أية بقعة جغرافية على وجه البسيطة، متخذة أبعاداً خطيرة جداً ومهددة الحياة بذاتها.

إذا ما أردنا سبر أغوار هذا الصراع – البشري – وتناوله منذ نشأته الأولى – البدائية – فهو يتمحور فقط

وفقط حول الهيمنة بكل ما للكلمة من معنى مقيت. ومع تسليط الضوء على تاريخ الهيمنة؛ نجدها قد بدأت مع

طي عصر الأمومة وبداية عصر البطريركية (الباباوية). وبحسب الميثولوجيا؛ فهي أخذت شكلها العنيف

والدموي مع أول جريمة قتل ارتكبها الإنسان بحق أخيه، والتي اقترفها قابيل بحق هابيل. هنا لن نقحم أنفسنا

في تاريخ الزيقورات الأولى وكهنتها وأولى المدنيات في سومر، وظهور الديانات وحروبها التوسعية والتي

جميعها بدأت هنا في الشرق الأوسط. وعلى هذا الأساس فإن إطلاق تسمية “مهد الحضارة الإنسانية” على هذه

البقعة الجغرافية لم يأتِ عن عبث، فمنها بدأت الخطوات الأولى للحضارة نحو أصقاع المعمورة، وبنفس

الشكل العثرات الأولى.

بناءً على ما تقدم؛ فإن حل الأزمة الإنسانية يجب أيضاً أن يبدأ من هنا، وبذلك يمكننا إعطاء معنى للصراعات

الدولية في الشرق الأوسط والتي تبدو للمتتبّع لها على أنها صراعات لا نهائية، هذه الصراعات التي تتستَّر في

كل مرحلة بعباءة مختلفة عما سبقتها. وعلى هذا الأساس لن نغالي إن قلنا إن كل القضايا العالقة والتي بحاجة

إلى حلول، ما هي إلا قنابل موقوتة تستخدم عند حاجة القوى المهيمنة إليها. ومن سخرية القدر أن هذه القنابل

أضحت “هُويّات قاتلة” تعتمدها الأنظمة الحاكمة كإيديولوجيات مقدّسة يُحرَّم المساس بها، دينية، مذهبية،

قومية، هُويّات مشوّهة بياناتها، لا تُعبِّر بأيّ شكل من الأشكال عن حقيقة الشعوب في الشرق الأوسط. وبنفس

الشكل؛ فإن الصراعات فيها تقلب الحقائق التاريخية رأساً على عقب.

بادئ ذي بدء؛ وقبل الخوض في معضلة الهيمنة، لا بُدَّ لنا من الإشارة إلى أنها – أي الهيمنة – خرجت عن

كونها تستهدف الاستحواذ فقط على القيم المادية والبشرية – القيمة الجاهزة واليد العاملة – للشعوب كما كانت

قديماً وتحت مسميات “الفتوحات والغزوات والاحتلالات”، بل تعدَّتها لتشمل كل شيء. ورغم ذلك؛ فإن كل

أشكال الهيمنة الغابرة والحالية تستند إلى عامل مشترك وحيد، وهي صبغها بصبغة مؤدلجة ومقدَّسة وتأطيرها

بأطر إلهية منقذة للبشرية…!

وكما أن لا شيء يتوقف عن التغيير والتطور، فإن الهيمنة أيضا يسري عليها نفس القانون – التغيير –

والإبداع في فرض سطوتها على الشعوب وتحت مسميات وعناوين براقة وبمقاييس وتفاصيل محكمة بدهاء

يَتيهُ معها العقل البشري، إذ أضحت تتحكم بكل شيء، بأبسط أسباب الحياة إلى أعقدها، بالمأكل والمشرب

والملبس والفن والثقافة، لتشكل مجتمعات وأنظمة “روبوتية” مستهلكة.

بهذه المقدمة المقتضبة يمكننا القول إن الهيمنة لا تقتصر فقط حول التنافس على منابع النفط أو الغاز أو

المعابر أو المياه أو الأسواق، إنما يشمل كل شيء، باطن وسطح الأرض، ليصل الصراع الحقيقي غير المرئي

إلى الفضاء الخارجي – الهيمنة على عالم الاتصالات وتكنولوجياتها – وتحت مسميات مستحدثة. ومن سخرية

القدر أن الجميع متفق عليها ويرفعون نفس اليافطة، “الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأكذوبة الأكاذيب “الأمن

القومي أو الوطني”.

ورغم توسع وانتشار مساحات التوتر والصراعات حول العالم، إلا أنّه تظل منطقة الشرق الأوسط مركزاً لهذه

الصراعات بلا منازع، ويمكن إطلاق تسمية “مهد أزمة الحضارة الإنسانية” عليها – إن صَحَّ التعبير – إلا أنه

هنا في هذه المنطقة الجغرافية تحديداً بدأت الأزمة الإنسانية ومنذ آلاف السنين، والتي الأزمات تتراكم إلى حد

الانفجار.

بناءً عليه يمكن القول؛ إن أولى خطوات حل المشاكل الإنسانية أيضا تبدأ من هنا، ولكن إلى الآن فإن جميع

المقاربات من هذه الأزمة لا تتعدى سياسة الترقيع وتعميق الأزمات بشكل أكبر، والالتفاف بشكل قذر على

قضايا الشعوب من خلال مشاريع تقسيمية أكثر مما هي مقسمة، مشاريع شكلها شيء ومضمونها شيء آخر.

وفي حقيقة الأمر ماهي إلا مشاريع قديمة – جديدة تمتد لأكثر من أربعة قرون ومؤدلجة بطوباوية الكتب

المقدسة من جهة، ومن جهة أخرى بمشاريع إعادة أحلام “أمجاد” إمبراطوريات وسلطنات بائدة عفا عليها

الزمن، لتصطدم بآمال وتطلعات شعوب الشرق الأوسط التي انتفضت من خلال ثورات ربيع الشعوب، ضد

الأنظمة الأوليغارشية والملكية، ولتعبث مرة أخرى بمصير شعوب المنطقة عبر صفقات ومقايضات قذرة،

وفي أحسن الأحوال وضع حلول معلَّبة لأشكال أنظمة أسوأ مما سبقتها، كما حدث في تونس وليبيا واليمن

وسوريا والعراق، وإقحام المنطقة في صراعات دموية دينية مذهبية – قومية – طائفية، وكأن الجميع سلم

زمام أموره إلى القوى المهيمنة التي تحرك الملفات الملغومة كما تشاء وفي الزمان والمكان الذي تشاء.

وإذا ما أضفنا إلى هذا الصراع، ظهور منافسين جُدُد على الساحة تناطح القوى المهيمنة التقليدية على الشرق

الأوسط، مثل الصين وروسيا وتركيا وإيران التي تبحث عن موطئ قدم لها في هذه السوق الاستهلاكية، وفي

نفس الوقت تسعى لتصدير أزماتها الداخلية إلى خارج حدودها. وتُعَدُّ تركيا أنموذجاً صارخا لهذه الحقيقة ومن

أكثر الدول المناهضة لتطلعات شعوب المنطقة ولعبت – ولا تزال – على تفتيت وتقسيم المنطقة، والتي فعلياً

بدأت منذ عهد السلطان العثماني عبد الحميد، مع استقباله للوفود اليهودية المهاجرة من إسبانيا وأوروبا، مقابل

دعم امبراطوريته التي كانت تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، والسماح لليهود بشراء الأراضي الفلسطينية من

خلال إصدار فرمانات “حق التملك”.

ما أشبه اليوم بالأمس؛ إذ تلعب تركيا اليوم بقيادة أردوغان الدور المتمّم لما قام به السلطان العثماني عبد

الحميد، في تفتيت وتقسيم الشرق الأوسط وتحويل تركيا إلى قاعدة انطلاق للمنظمات الإرهابية حول العالم،

من خلال اتباع أسوأ أشكال السياسات التي تعتمد على استغلال الصراعات بين القوى المتصارعة وابتزازها

في أكثر من ملف، منها على سبيل المثال ملف النازحين السوريين، وكذلك في ملف ما يسمى “المعارضة

السورية” التي جعلت من تركيا وليَّ أمرها، لتخرج الأخيرة عن سوريّتها وتتحول إلى مجرّد مرتزقة جاهزة

وتحت الطلب في خدمة الأجندات التركية حول العالم، في حين أن تركيا نفسها تنفذ ما أوكل لها من مخططات

لتقسيم منطقة الشرق الأوسط.

انغمست تركيا في مستنقعات لا يمكن لها النجاة منها؛ نتيجة الأزمات المتلاحقة التي تعصف بها اقتصادياً

وعسكرياً وسياسياً، ويعد ذلك نتيجة طبيعية للعقلية العسكرتارية الفاشية التي تعتمدها في مقارباتها من قضايا

الشعوب، وعلى رأسها قضية الشعب الكردستاني، وكذلك القضية الفلسطينية وقضايا شعوب المنطقة، على

وجه العموم.

إن بوصلة الأحداث والتطورات التي يشهدها العالم والتي وصلت إلى حافة الهاوية، وتنذر بحرب عالمية ثالثة،

تثبت أن كل السياسات المتبعة فاشلة، بدءاً من خرافة “سياسة القطب الواحد” وحتى سياسة “تقسيم العالم إلى

قطبين” أو متعدد الأقطاب وتشكيل التحالفات والاصطفافات، وبنفس الشكل ثبت للمرة المليون فشل نظرية

حروب تكلفتها صفر، كما تتشدق بها العديد من القوى..! والحرب الأوكرانية أثبتت ذلك، كما وأثبتت في

الوقت عينه فظاظة وتوحّش هذه السياسات وكيف أثرت على العالم أجمع، وعلى رأسها القوى المهيمنة على

السياسة العالمية، التي كانت – ولا تزال – تتبع معيار الكيل بمكيالين تجاه العديد من القضايا؛ مؤكِّدة أن

الأزمة ليست أزمة شعوب العالم وحسب، إنما هي أزمة القوى المهيمنة ذاتها.

وفق هذه النتيجة المنطقية؛ يتبيّن أنَّه لا مفرّ للقوى المهيمنة على العالم من الإقدام على تغيير جوهري في

مجمل سياساتها التي تعتمد على المنفعة وحيدة الجانب، واعتماد سياسات عادلة تجاه قضايا الشعوب العادلة،

وتفعيل المؤسسات الدولية في خدمة إحقاق الحقوق والعدالة والحرية والديمقراطية، وإخراجها من تحت عباءة

قوى بعينها، لتكون مؤسسات إنسانية خالصة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى