جيهان مصطفىأبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتملف العدد 55

كيف تحدد الجغرافيا سلوك الدول، وما تأثير الجيوبولتيك على الدولة والسياسة؟

جيهان مصطفى

جيهان مصطفى

مخطط البحث

تقديم

أولاً: الجيوبولتيك – الأصل والمنشأ والعلاقات الدولية المتداخلة

ثانياً: من الجيوبولتيك إلى جغرافية إمبريالية… روسيا القيصرية حتى الاتحاد السوفيتي:

ثالثاً: عوامل ساهمت في ظهور دور الجيوبولتيك كقوة للدولة

رابعاً: جيوبولتيكا النــظام العالميّ الجديد… منظـّـروها:

خاتمة

مقدمة

لا شك أن كل ما يتعلق بالوعي الجغرافي ومدلولاته السياسية، يدخل ضمن مفهوم الجيوبولتيك التي هي الجغرافيا السياسية، ويمتد هذا الوعي من خلال الواقع الذاتي، وليس الموضوعي، وفهم صُنّاع القرار في دولة معينة للجغرافيا السياسية وعلاقاتها بالقوة المرتبطة بالجغرافيا، يبين الأهمية التي حظي بها علم الجيوبولتيك في تفسير علاقات ومصالح الدول، مع محيطها الجغرافي ومع المجال والحيّز المكاني البعيد.                    وفي بحثنا الحالي يمكن تسليط الضوء على ذلك الدور المهم للجيوبولتيك وأخذ الاتحاد الروسي نموذجاً، كونه دولة تملك مساحة جغرافية كبيرة في قارّتين وتطلّ على مسطحات مائية هائلة، ورغم ذلك نراه يتدخّل في أماكن بعيدة عنه.

 

أولاً: الجيوبولتيك – الأصل والمنشأ والعلاقات الدولية المتداخلة:

إن تراجع الجيوبولتيك لصالح العلاقات الدولية كان بسبب تداخل الحقلين رغم اختلافهما من جهة، ومن جهة ثانية إنّ التكنولوجيا الحديثة تجاوزت الحدود الجغرافية، سواء كانت في الأسلحة المتطورة مثل حاملات الطائرات والصواريخ العابرة للقارات، وحالياً عسكرة الفضاء، جعلت من الجغرافيا شيئاً عفا عليه الدهر.

كما أنّ وسائل النقل الحديثة والثورة المعلوماتية أسهمت في إضعاف الجغرافيا كعامل في العلاقات الدولية، ولم تعد السيطرة على الأراضي بأهمية السيطرة على المعرفة والتكنولوجيا والرساميل.

لا شك أن هناك مبالغة في أية مقولة تقلل من الأهمية الجغرافية للبلدان، فالجغرافيا تعني مصادر اقتصادية زراعية وطبيعية، وكذلك مصادر بشرية، وقد تدارك بعض المحللين الأهمية الكبيرة للجيوبولتيك بسبب التطورات الراهنة في العالم.

يرى كابلن أن سلوك الدول تحددها الجغرافيا، وبالنسبة لكابلن فإن الجغرافيا لا تعني السهول والجبال فحسب، ولكن أيضاً الجغرافيا البشرية التي تتفاعل مع الجغرافيا الطبيعة، بحيث تحدّ من تمدد أو انغلاق الشعوب على نفسها، وقد أحيا كابلن منظّري الجيوبولتيك في القرنين التاسع عشر والعشرين والذين برروا في كثير من الأحيان سيطرة البلدان الاستعمارية على الدول، تحت مبرّرات عوامل جيوبولتيكية.

لكنّ التمدد الغربي وما تشعر به موسكو من تطويق ليس لحدودها السياسية فحسب، بل لمناطقها الحيوية، وكذلك الأحداث المتعلقة بالتمدد الروسي جنوباً وغرباً، وتعزيز موطئ قدم في الشرق الأوسط، أعاد الجيوبولتيك لواجهة الاهتمامات الأكاديمية والسياسية، ومازال النقاش حول التطورات الدولية تدور حول هذه القضايا والتطورات الراهنة.

وقد عبّر ولتر رسل ميد، الأكاديمي المتخّصص في الشؤون الدولية، بما أسماه “عودة الجيوبولتيك”

يرى ميد أن الغرب استمرأ انتصاره في الحرب الباردة والتي أفضت إلى انتهاء الصراع الأيديولوجي بين الرأسمالية الليبرالية والشيوعية.

في لحظة نشوة الانتصار أعلن فرانسيس فوكوياما أطروحته عن انتهاء التاريخ، بمعنى أن صيرورة التاريخ تتعلق بصراع الأفكار، وأن انعدامها، حسب المنطق الهيجلي، يقوّض حركة التاريخ.

يشير ميد إلى الاستكانة التي شعر بها الغرب لنهاية الحرب الباردة والتي انتهت لصالح الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ولكن هناك دولاً عديدة امتعضت إن لم نقل شعرت بالسخط، لكيفية انتهاء الحرب الباردة.

ليس خافياً أن روسيا هي أول دولة شعرت بالمهانة من طريقة انتهاء الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية، وقد أمعن الغرب في إذلال موسكو في التوسع شرقاً على حسابها باحتواء دول أوروبا الشرقية في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

من أهم المخاطر الجيوبولتيكية التي تواجه العالم اليوم بالنسبة لميد، هي تلك التي تفرضها ثلاث دول مارقة ورافضة لنهاية الحرب الباردة، وهذه الدول الثلاث روسيا والصين وإيران، وهي في الواقع متحالفة موضوعياً وواقعياً، وتحاول هذه الدول الثلاث التوسع في نطاقها الإقليمي، فالصين تتبع سياسة حازمة وتوسعية في بحر الصين الجنوبي، كما أن روسيا فعلت نفس الشيء بالنسبة لجورجيا وأوكرانيا، أما إيران فحدّث ولا حرج، ولعل التوسع الإيراني هو الأنجح في الثلاثي، حيث تتمتع إيران بهيمنة أو نفوذ على العراق ولبنان وسوريا واليمن.

هناك تشكيك كبير بالحدود الموروثة من الاستعمار في المنطقة العربية، فظهور حركة داعش على الساحة الإقليمية ألغت عملياً الفواصل بين العراق وسوريا، وانهيار بعض من الدول العربية ينذر باحتمالات تغير حدود سايكس- بيكو والتي وزعت مناطق النفوذ بين بريطانيا وفرنسا في منطقة الهلال الخصيب، قبل قرن من الزمن، ومن ثم أصبحت هذه التقسيمات الحدود المعترف بها دولياً.

وظلت أفكار ربط الممارسات السياسية بالخصائص الجغرافية تتطور بإسهامات فلسفية متعاقبة، واكتسبت هذه الأفكار دفعة قوية بما كتبه عبد الرحمن بن خلدون (1342-1405م) التي ظهرت في مقدمته الشهيرة.

وفضل ابن خلدون يتمثل في تشبيهه الدولة بالإنسان الذي يمرّ بخمس مراحل حياتية: هي الميلاد والصبا والنضج والشيخوخة والموت.

وهذه الدورة الحياتية للدول وارتباطها بمقدرات الدولة أرضاً وسكاناً وموارد.. كانت أبرز ما نقله المفكرون الغربيون فيما بعد، حينما تمت بلورة الصياغة العلمية لقيام وسقوط الحضارات.

وظل تقييم دور العوامل المكانية (الجغرافية) في تاريخ ومستقبل الدولة السياسي بدون صياغة متكاملة، حتى ظهرت في المجتمع الألماني أفكار فردريك راتزل (1844-1904) والذي يرجع إليه الفضل في كتابة أول مؤلف يحمل عنوان “الجغرافيا السياسية” في عام 1897م.

صعدت الجيوبولتيك إلى مصاف العلوم الكبرى خلال الحرب العالمية الثانية، حتى كتبت هزيمة ألمانيا نهاية لهذه المكانة.

وصار مفهوم الجيوبوليتيك بعد الحرب العالمية الثانية قرين التوظيف السيء للجغرافيا السياسية، وهو ما أضرّ بتطوير الجيوبوليتيك والجغرافيا السياسية معاً.

ووصل الأمر في بعض الدول إلى منع تدريس الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك في جامعاتها؛ باعتبارهما علمان مشبوهان يسعيان إلى بذر العداء ويكرّسان الأطماع القومية.

كما تم توظيف نتائج بحث الجغرافيا التاريخية والآثار لتقديم معلومات عن أحقية ألمانيا في أراضٍ وبلدان تبعد عنها مئات الأميال شرق أوربا.

وبالرغم مما قد نظنه من مهام علمية بريئة للجمعيات الجغرافية، فإن دورها في خدمة التوسع الألماني كان جلياً واضحاً.

وتحت رعاية الجمعية الجغرافية الألمانية أنشئت في ميونخ عام 1924 المدرسة الجيوبوليتيكية التي رأسها الجغرافي السياسي كارل هوسهوفر.

 

ثانياً: من الجيوبوليتيك إلى جغرافية إمبريالية من روسيا القيصرية حتى الاتحاد السوفيتي

دون الحاجة إلى تنظير أكاديمي ومصطلحات ضخمة، كانت إمبراطورية روسيا القيصرية ومنذ منتصف القرن السادس عشر تطبّق فكرة الدولة العضوية  Organic Stateحتى قبل أن تصاغ في قوالب نظرية.

وأرست روسيا المنهج الذي قامت عليه الأطماع الاستعمارية فيما بعد، باعتمادها على الدور المحوري لجمع المعلومات الجغرافية عن الشعوب المجاورة، وتدعيم رحلات علمية “بريئة” تقدم أبحاثاً في ميادين شتى لخدمة التوسع فيما بعد، وكان ذلك يجري على قدم وساق حتى أفول شمس الإمبراطورية القيصرية في 1917.

وبعد الحرب العالمية الثانية كان الاتحاد السوفيتي واحداً من تلك الدول التي منعت تدريس الجيوبوليتيك في جامعاتها؛ استناداً إلى أن الجيوبوليتيك والجغرافيا السياسية في ألمانيا جلبَتا الكوارث على القارة الأوربية والعالم بأسره.

و لم تظهر كتب في هذين العلمين ذي القيمة إلا في منتصف التسعينيات، هذا بالرغم من أن الاتحاد السوفيتي نفسه كان أكثر النماذج وضوحاً في التطبيق الحرفي لمبادئ الطمع الجغرافي “السمعة السيئة للجيوبوليتيك” لدرجة أن من أكثر النكات شيوعاً في أوروبا في الستينيات، كانت تلك التي يسأل فيها مدرّس تلميذه سؤالاً جغرافياً مباشراً: “من هم جيران الاتحاد السوفيتي؟” وبدلاً من أن يعدد الطالب أسماء الدول المجاورة تأتي إجابته: “جيران الاتحاد السوفيتي هم من يرغب هذا الاتحاد في أن يصبحوا جيراناً له”؛ في دلالة تهكّمية على أن هذه الحدود متغيرة، وتعتمد على مستوى التوسع والضم الذي تمليه الأطماع الجغرافية السوفيتية.

وبتفكك الاتحاد السوفيتي مع نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، وبتغير القدرات العسكرية النسبية له انكمشت الحدود، وصارت تطال الحدود الأصلية لروسيا ما قبل السوفيتية.

وقد دعا هذا الأمر أحد المفكرين السياسيين صبيحة تفكّك الاتحاد السوفيتي، إلى أن يعبّر درامياً عن هذا بقوله: “يبدو أنه لا مفرّ من أن نتجرّع الكأس حتى الثمالة؛ بالأمس انهدم البيت السوفيتي، واليوم تتهدم روسيا. وما الشيشان إلا مشهد في فصول تهدم البيت. أما بقية المشاهد فستتوالى بخروج مناطق الحكم الذاتي، تعقبها الأقاليم، ثم تتعاقب المشاهد والفصول عبر انفصال وحدات أصغر فأصغر”.

وعلى الجانب الآخر كان قد ظهر على المسرح الجغرافي – مع خروج الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية كأكبر قوة عالمية- مفهوم جديد للجيوبوليتيك وهو “الحدود الشفافة”، التي يقصد بها الهيمنة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية دون حدود خرائطية للدولة، أو ما يسميه تايلور – أشهر باحثي الجغرافيا السياسية في العقدين الأخيرين- بـ ”جغرافية السيطرة من دون إمبراطورية”.

 

والسيطرة من دون إمبراطورية هي أفضل تجسيد لتطوير الأفكار الجيوبوليتيكية، بعيداً عن الأطر التقليدية للنمو العضوي للدولة.

وهذا التطوير يسمح بأن يصبح العالم كله “المجال الحيوي” للولايات المتحدة، بعدما عاشت الأخيرة حتى الحرب العالمية الثانية في عزلة جغرافية ممتعة اختارتها لنفسها.

وأهم سمة في هذا المجال الحيوي هو “اللا مواجهة”؛ استناداً إلى مزايا الحرب الإلكترونية، وتوظيف الخصوم المتناحرين في إدارة الحرب بالإنابة، أو التدخل في لحظة محددة باعتباره تدخلاً إنسانياً لصالح العدل والحرية.

 

ثالثاً: عوامل ساهمت في ظهور دور الجيوبولتيك كقوة للدولة

وهذه العوامل تتضمن دراسة خصائص بيئات الدولة الطبيعية من حيث الموقع، ومظاهر السطح، والمساحة، والشكل، والمناخ من وجهة نظر الجغرافيا السياسية

أ- الموقع

يعتبر الموقع الجغرافي أحد العوامل المهمة التي تؤثر في الجغرافيا السياسية للدولة، لتأثيره على اتجاهات سكانها والسلوك السياسي لحكومتها، وتحلل الجغرافيا السياسية الموقع وأثره في الدولة من ثلاث اتجاهات هي:

  • موقع يعكس مدى ملاءمة الدولة للحياة البشرية والتقدم الحضاري، إذ تتركز الدول المتقدمة في العروض المعتدلة. ولا يعنى هذا أن الحضارات نشأت أول ما نشأت في تلك العروض، ولكنها نشأت في الأقاليم المدارية وشبه المدارية حيث تتوافر السهول الفيضية والمياه، وكانت الصحراء حول هذه السهول الفيضية تعتبر بمثابة الدرع الواقي للحضارة في المناطق السهلية، ثم انتقلت بعد ذلك إلى المناطق المعتدلة في الشمال عن طريق الاستعمار الوافد من الشمال وهيمنته على تلك الأقاليم الحضارية. وترتب على ذلك أن رأى هنتنجتون Huntingtonأنّ البيئة الاستوائية محكوم عليها بالتأخر نتيجة لارتفاع درجة الحرارة والرطوبة طول العام، مما لا يشجع الإنسان على بذل مجهود للتقدم، أمّا المناطق المعتدلة فيشجع مناخها على بذل المجهود للتقدم، وبالتالي فالعناصر السوداء، التي تتفق في توزيعها مع النطاق الاستوائي تعيش في الماضي، والأجناس الصفراء تعيش الحاضر، والأجناس البيضاء صاحبة المدنية تعيش في المستقبل.
  • موقع الدولة بالنسبة للقارات، والبحار، والمحيطات، وهو يحدد شخصية الدولة، ويسهم في رسم سياستها وإستراتيجيتها، وتطل معظم دول العالم على بحار أو محيطات، ومنها مالا يطل على أي بحار أو محيطات، وتعرف بالدول الداخلية أو الحبيسة.

ويؤدي الموقع الساحلي للدولة إلى غناها الاقتصادي، واحتكاكها الحضاري، وبالتالي قوتها، وتقدمها، وينعكس هذا على سكانها، الذين يتميزون بما يُعرف بالنظرة العالمية، ويظهر هذا في سعة أفقهم وتفتّح أذهانهم، وانطلاقهم الحضاري. ويرجع ذلك إلى أن البيئات الساحلية ترتبط دائماً بالعالم الخارجي، وتيارات الحضارة، ومحاور التقدم، إضافة إلى أنها تتطلع دائماً إلى كل جديد ولا تعرف العزلة، في حين أن سكان الدول الداخلية كثيراً ما ينعزلون عن مثل هذه المؤثرات والتيارات. وكل هذه الظروف تؤثر بدورها في الجغرافيا السياسية للدولة، فمثلاً، أدى الموقع البحري دوراً كبيراً في بناء إمبراطورية سياسية واقتصادية كبيرة في بريطانيا. حقاً، قامت الثورة الصناعية في إنجلترا على المواد الخام المحلية ورأس المال الإنجليزي، لكن لا شك أن موقعها البحري ساعدها على السيطرة على مستعمرات تستورد منها المواد الغذائية والمواد الخام، كما أصبحت هذه المستعمرات سوقاً لتصريف المنتجات البريطانية، وأنشأت بريطانيا أسطولاً تجارياً يساعد في ذلك، وأسطولاً حربياً يؤمن الطريق للأسطول التجاري.

ويؤثر الموقع البحري والبري كذلك في نوع الدفاع الذي تعتمد عليه الدولة. وبغضّ النظر عن سلاح الطيران، الذي يوجد بكل من الدول البحرية والقارية، فيُلاحظ أن الدول البحرية تركز اهتمامها بصورة أكبر على بناء الأسطول التجاري والحربي والغواصات، في حين أنّ الدول القارية تركز على إعداد الجيش البري، ومثال ذلك: دفاع بريطانيا والدفاع الروسي.

 

ب- الموقع بالنسبة للدول المجاورة

كلما كانت حدود الدول بعيدة عن بعضها البعض وخاصة في الدول الجزرية، أدى هذا إلى تقليل المنازعات والحروب بينها، حيث تعرقل البحار عمليات الغزو وتعوقها، وأفضل مثال على ذلك بريطانيا التي لم تغزها أي قوة منذ عهد وليم الفاتح. أمّا طول الحدود البرية فيعتبر عامل خطر يُهدد الدولة. ونتيجة لهذا أُنشئت الدول الحاجزة بين القوات المتنازعة، مثال ذلك أفغانستان، التي كانت تفصل بين المصالح الروسية في الشمال والمصالح البريطانية في المحيط الهندي. وإذا كانت الحدود البرية الطويلة تفصل بين دول صديقة، فيعتبر هذا ميزة، كما هو الحال بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية. إذ تنساب المواد الخام الآتية من كندا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بينما تسافر السلع المصنوعة، ورأس المال، والخبرة من الثانية إلى الأولى عبر هذه الحدود، ويؤدي هذا التعاون بدوره إلى القوة والتقدم الاقتصادي، ولكن قد يحدث العكس، فالدول الكبيرة التي تجاور دولاً صغيرة تحاول أن تستولي عليها، مثال ذلك: ما حدث بين روسيا (الشاسعة المساحة، والكثيرة السكان، والقوية عسكرياً) ودول شرق أوروبا، إذ استولت عليها وأدخلتها في فلكها لأنها صغيرة المساحة، ومتوسطة السكان، وضعيفة عسكرياً إذا ما قورنت بالاتحاد السوفيتي .

 

ج – مساحة الدولة

تتباين دول العالم من حيث المساحة، فمنها ما يشغل مساحة شاسعة مثل الولايات المتحدة، وكندا، والبرازيل، والصين، والهند. ومنها ما يشغل مساحة صغيرة مثل سويسرا، والدنمارك، لبنان. ومنها ما يمثل وحدات سياسية قزمية تشغل مساحة ضئيلة مثل دولة الفاتيكان.

وتتمثل أهمية المساحة في إعطاء الفرصة لتنوع الموارد الاقتصادية وتباينها، كما تتمثل أهميتها من الناحية الحربية في إمكان الدفاع في العمق Defense in Depth، فالدولة ذات المساحة الصغيرة لا تلبث أن تستسلم أمام جحافل الجيوش الغازية، كما حدث في بعض دول أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، فقد استسلمت كل من بلجيكا، وهولندا، والنمسا، وتشيكوسلوفاكيا خلال فترة قصيرة عندما اجتاحتها الجيوش الألمانية، بينما استطاع الاتحاد السوفيتي (سابقاً) أن يصمد أمام الغزو الألماني ومن قبله غزو نابليون بفضل اتساع مساحته، إذ طبق مبدأ الدفاع في العمق، الذي يقوم على تسليم الأرض لكسب الوقت Selling Space to GainTime، فقد اتبع الاتحاد السوفيتي هذا الموقف الإخلائي عندما غزاه نابليون حتى أطال بينه وبين خطوط تموينه، وأدخله في بيئة طبيعية قاسية يجهلها، مما أضطره إلى التقهقر ثانية. وقد سار الاتحاد السوفيتي على نفس السياسة مع الألمان سنة 1941، وقد فطن الألمان لهذه السياسة، ولذلك حاولوا تدمير الجيش الأحمر برجاله ومعداته عن طريق الالتفاف حوله، لكنهم لم ينجحوا في ذلك. إلاّ أن التقدم التقني في معدات الحرب أفقد المساحة الكبيرة أهميتها العسكرية، إذ يمكن نشر الميكروبات والغازات السامة فيها قبل انسحاب الجيوش إليها.

وتكفل المساحة الكبيرة امتيازاً عسكرياً آخر، ذلك أنه إذا هُزمت دولة كبيرة فإنه من الصعب احتلال إقليمها الواسع والسيطرة عليه، لا سيما إذا كانت كثيفة السكان. مثال ذلك، أن الولايات المتحدة الأمريكية يستحيل عليها أن تحتل الصين الشعبية حتى لو أنها انتصرت عليها، لأن ذلك سوف يتطلب إيجاد قوات أكثر مما تمتلك أمريكا. وتُحقق وسائل الإنذار المبكر الآن الغرض منها بفاعلية عالية، في حالة كبر مساحة الدولة، لأنها تُتيح الوقت الكافي لاتخاذ الإجراءات الوقائية المناسبة.

ولمساحة الدولة أيضاً تأثير كبير ومباشر على قدرتها في أن تستخدم القوة في الدفاع عن نفسها، فالمساحة الكبيرة تساعد على أن تكفل للدولة وسائل الإقناع التي تأتي من القدرة على الدفاع عن النفس، أمّا الدول ذات المساحة الصغيرة فهي لا تستطيع أن تدافع عن نفسها أمام الأعداء. مثال ذلك، هولندا التي استسلمت للألمان في مدة أربعة أيام، علماً بأن الجيش الهولندي لم يكن أقل بسالة من الجيش الألماني. وتعمد الدولة الصغيرة إلى الأخذ بزمام المبادرة في الهجوم، وذلك كي تبعد المعركة عن أراضيها، ومن أفضل الأمثلة على ذلك الصراع العربي الإسرائيلي الذي تبادر فيه إسرائيل باستمرار بشن الهجوم على الدول العربية المجاورة، لتنقل المعركة إلى أراضي الدول المجاورة حتى لا تتأثر طاقاتها الإنتاجية والخدمية، وسكانها المدنيون، ولتكسب مجالاً أرضياً أوسع يُمكّنها من المناورة العسكرية. وقد حدث هذا في عدوان 1956، وعدوان 1967.

 

د – شكل الدولة

كلما كانت الدولة مندمجة من حيث الشكل  Shapeكان ذلك أفضل من الناحية السياسية لها. ويعتبر الشكل الدائري أو القريب منه الشكل المثالي للدولة، فتكون كل أطراف الدولة على أبعاد متساوية تقريباً، لذا يترتب على الشكل الدائري للدولة أن يكون طول حدودها قصيراً بالنسبة لمساحتها، ومن ثم يقل عدد المواضع التي يحتمل أن تُغزى منها الدولة، كما يصبح في إمكان الدولة الدفاع عن هذه الحدود وحمايتها. ويساعد الشكل الدائري على سرعة نقل الجيوش والمعدات إلى أي مكان في الدولة يتعرض لغزو خارجي، كما أنّه يوفر لجيوش الدولة المساحة الكافية، التي يمكن أن تتقهقر فيها إذا استدعت الظروف ذلك، ذلك لأنه يعمل على تيسير إنشاء شبكة نقل ومواصلات جيدة في الدولة. ويساعد الشكل المثالي على انصهار سكان الدولة في بوتقة واحدة مما يؤدي إلى زيادة نمو الشعور القومي لديهم، وهو عامل حاسم في رسم سياسة الدولة، ومن أفضل الأمثلة على الشكل المثالي أو القريب منه دول أوروجواي، وبولندا، والمجر، وبلجيكا.

ويرتبط بشكل الدولة موقع العاصمة بالنسبة للدولة. ويعدّ الموقع المتوسط في جسم الدولة أفضل موقع للعاصمة، ويُعرف بالموقع المركزي  Centralحيث تحتل العاصمة الوسط الهندسي للدولة، وذلك حتى يسهل الدفاع عنها من جهة، ويسهل اتصالها بمختلف أنحاء الدولة من ناحية أخرى. ومن أمثلة المواقع المثالية للعواصم الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، والقاهرة عاصمة جمهورية مصر العربية، والخرطوم عاصمة السودان، وبغداد عاصمة العراق، وبرن عاصمة سويسرا، ومدريد عاصمة أسبانيا، ووارسو عاصمة بولندا.

وقد نقلت بعض الدول عواصمها من مواقع ساحلية غير متوسطة داخل الدولة، وذلك لكسب مزايا تتعلق بالشكل الجغرافي الصحيح للدولة، وهذا ما حدث في البرازيل عندما نقلت عاصمتها من ريو دي جانيرو إلى برازيليا، وفي تركيا عندما نُقلت عاصمتها من استنبول إلى أنقرة.

ذ- الحدود السياسية الدولة

الحدود السياسية  PoliticalBoundariesوهي بمثابة الهيكل الخارجي لرقعة الدولة، ولكل دولة في الوقت الحاضر حدودها السياسية، وهي عبارة عن خطوط محددة على الخرائط السياسية، وواضحة المعالم في الطبيعة، وهذه الحدود تكفلها المعاهدات والمواثيق الدولية.

وتمثّل البحار والمحيطات أكثر الحدود الطبيعية حماية، وهي حدود فاصلة يمكن أن تحمي الدولة من الغزو، خاصة إذا كانت لديها السيادة البحرية على حدودها. وتأتي الصحارى بعد البحار والمحيطات في الأهمية، ذلك لأنها تؤدي وظيفة الحماية كالبحار إلى حد ما. أمّا الجبال فتمثل حدوداً طبيعية منيعة، وهي تؤدي دورها بوصفها حدود سياسية في بعض المناطق، فجبال اسكنديناوه تُشكل الحدود بين السويد والنرويج، وجبال الألب تفصل بين النمسا وإيطاليا، وجبال البرانس تمثل الحدود بين فرنسا وأسبانيا. وكذلك تقوم الأنهار في بعض الحالات بوظيفة الحدود السياسية، كما هو الحال في شط العرب الذي يفصل بين العراق وإيران، ونهر سانت لورنس الذي يمثل الحدود بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية في بعض المواضع، ونهر الدانوب الذي يفصل بين رومانيا وبلغاريا، ونهر الراين الذي يفصل بين فرنسا وألمانيا.

أما الحدود الاصطناعية فمنها الحدود الفلكية، التي تتفق مع دوائر العرض وخطوط الطول، مثل الحدود بين مصر وكل من ليبيا والسودان. ومنها الحدود الهندسية التي تُرسم على شكل خطوط مستقيمة ولا يراعى في تخطيطها أي ظاهرة طبيعية، مثل الحدود بين المملكة العربية السعودية وجيرانها

 

2ـ العامل الاقتصادي للجيوبولتيكا على الدولة

رفض التجاريون التمييز بين التفوق التجاري والتفوق السياسي، حيث يكون ميزان القوى مرهوناً بالميزان التجاري، فللأوضاع الاقتصادية المقام الأول في اتجاهات السياسة الخارجية للدول، ويؤكد الباحثون على أن هناك ارتباطاً بين الحرب كظاهرة بين الدول وبين الظاهرة الاقتصادية، فالحرب هي أثر حتمي للظاهرة الاقتصادية من حيث:

أ ـ حروب القحط: ففي الجماعات البدائية تؤثر حالة القحط الناجم عن تخلف الموارد الطبيعية على تمكين الجماعة من الاستمرار في الحياة، وهكذا تبدو هذه الحالة وكأنها الوضع المحتّم للحرب من أجل الاستيلاء على موارد الآخرين.

ب ـ حروب الوفرة: أما في الجماعات الصناعية فالدافع للصراع كان السعي في الحصول على المزيد من الموارد الأولية من أجل المزيد من الإنتاج.

ج ـ حروب الأسواق والتسويق: هي تلك الحروب التي تلجأ إليها الدول من أجل الحصول على الحق في أن تتاجر بحرية في منطقة معينة.

 

3ـ العوامل العسكرية، التكنولوجية والتنظيمية:

3ـ 1 ـ العامل العسكري:

ينظر الكثيرون إلى درجة الاستعداد العسكري على أنه المظهر الرئيسي لقوة الدولة، ويرتبط مستوى الاستعداد العسكري بعدة عوامل:

1ـ التقدم التكنولوجي في إنتاج الأسلحة وفي وسائل جمع المعلومات.

2ـ القدرة على التخطيط الإستراتيجي والذي يتفق وطبيعة مشكلة الأمن القومي التي تواجهها الدولة.

3ـ مدى كفاءة القيادات المسؤولة عن عمليات التخطيط الإستراتيجي.

4ـ مدى كفاءة التدريب وكذا مستوى القدرة القتالية للقوات المسلحة في الدولة.

5ـ مدى القدرة على حشد طاقات الدولة وإمكانياتها بالسرعة الواجبة وفي الظروف التي تضطرها لإجراء تعبئة شاملة لقواتها.

 

رابعاً: جيوبوليتيكا النـّظام العالميّ الجديد… منظـّـروها:

ـ ميخاييل غورباتشوف، فكرته: تفكير سياسيّ جديد

ـ فرنسيس فوكوياما، فكرته: نهاية التـّـاريخ

ـ إدوارد لوتواك Edward Luttwak فكرته: نجوميّة الجيو-اقتصاد.

ـ المحافظون الجدد، فكرتهم: الولايات المتـّـحدة زعيمة النـّـظام العالميّ الجديد، الحرب الدّائمة، تسخير المنظـّـمات العالميّة لخدمة أمريكا.

ـ قادة صندوق النـّـقد الدّوليّ ومنظـّـمة التـّـجارة العالميّة وزعماء مجموعة السـّـبعة G7 أفكارهم: اللـّـيبراليّة العالميّة واللـّـيبراليّة الجديدة ما بين الأمميّةـ

.مخطـّـطو الاستراتيجيات في البنتاغون والنـّـاتو، أفكارهم: دول مارقة، دول تسعى إلى التـّـسلـّـح النـّـوويّ بطريقة غير قانونيّة ـ إرهاب.

ـ صامويل هانتنغتون، فكرته: تصادم الحضارات

 

رابعا: جيوبوليتيكا البيئة… منظـّـروها:

ـ آل غور Al Gore ، فكرته: مبادرة إستراتيجيّة لحماية البيئة

ـ روبرت كابلان Robert Kaplan ، فكرته: الفوضويّة القادمة

ـ توماس هومر ديكسن Tomas Homer-Dixon ، فكرته: فقر المحيط أو النـّدرة في المحيط

وينطلق منظـّـرو الجغرافيا السـّـياسيّة الإمبرياليّة من إيمانهم بتفوّق البيض على كلّ الأعراق، وبتفوّق الرّجال على النـّـساء، وبتفوّق الحضارة الغربيّة على غيرها من الحضارات، فأفكارهم بالتـّـالي تعبّر عن الجنسانيّة والعدوانيّة والعنصريّة والشـّـوفينيّة، وهذه كلّها ميزات الإيديولوجيا النـّـازية التي تغنـّـت بتفوّق العرق الآري على غيره. وبهذه الطـّـريقة يصبح الخطاب الجيوساسيّ منظـّـراً للقتل والتـّـدمير واستعباد الشـّـعوب. ثمّ جاءت الحرب الباردة فوفـّـرت سياقاً لإنتاج الخطابات التي تندرج ضمن ثنائيّة السـّـلطة والمعرفة، وفي ذلك السـّـياق ذاته بلغت الجغرافيا السّياسيّة مرحلة النـّـضج، وفي حين شدّدت الجيوسياسة على أهمّية التـّـأثير الذي تمارسه الجغرافيا الطـّـبيعيّة في السّياسة الخارجيّة التـّـوسّعيّة، فإنّ جيوسياسة الحرب الباردة تمحورت حول العداء الأمريكيّ السـّـوفييتي ودور التـّـوسـّـع الجغرافيّ وكذلك الإيديولوجيا فيه.

هالفورد ماكـّـيندر مثلا وصف أجزاء من كتلة الأراضي السـّـوفياتيّة بأنـّـها “قلب الأرض” وأمـّـا جورج كينـّـن، مهندس السـّـياسة الاحتوائيّة الأمريكيّة، فقد رأى أنّ الأراضي السـّـوفياتيّة لم تكن أرضاً، بل كائناً توسّعياً يمثـّـل تهديداً لا نهائياً. وترتبط المصطلحات المستعملة في ربط الصـّـراع بمسائل إيديولوجيّة متعلـّـقة بالهويّة والاختلاف. لقد ظلـّـت الجغرافيا السـّـياسيّة تصف الغرب بأنـّـه ليس مجرّد منطقة جغرافيّة، بل هو مجموعة متميّزة لها هويّة خاصّة يعمل على نشر الدّيمقراطيّة، ويثمّن مقاييس التـّـحضـّـر والمدنيّة، وبما أنّ بلداناً حليفة للغرب لا توجد داخل المنطقة الجغرافيّة الغربيّة، مثل اليابان وكوريا الجنوبيّة، فقد تمّ توسيع الهويّة الرّمزيّة لكي تشملهما. في خضمّ الحرب الباردة صارت الجيوبوليتيكا لعبة تمارسها القوى العظمى فوق الخارطة العالميّة، فأصبحت القوى الغربيّة هويّة رمزيّة تسمّي الاتـّـحاد السـّـوفييتي “الكتلة الشـّـرقيّة” ثمّ سمّاه رونالد ريغن “إمبراطوريّة الشـّـرّ”. وفي الكتابات الجيوسياسيّة سمّيت بلدان الكتلة الشـّـرقيّة “العالم الثـّـاني” للتـّـأكيد على مناقضته للعالم الأوّل وهو العالم الغربيّ.

أمّا العالم الثـّـالث فهو العالم الفقير المتخلـّـف الذي يمثـّـل مناطق يدور حولها صراع العالمين الأوّل والثـّـاني. وقد رافق ذلك الصـّـراع من أجل مناطق العالم الثـّـالث تصنيف ووصف وتحليلات ستراتيجيّة تقيّم المناطق الغنيّة بالموارد، كمنطقة الشـّـرق الأوسط مثلا.

أنتجت الحرب الباردة نظريّة حجارة الدّومينو التي ذكرتها آنفاً، وهي شكل من التـّـحليل الجيوسياسيّ يعتبر دول البلدان غير الاتــحاد السـّـوفييتي والولايات المتـّـحدة الأمريكيّة مجرّد كائنات لا حول لها ولا قوّة، يمكن إسقاطها بسهولة والإبقاء عليها بسهولة، أي التـّـلاعب بها كما تشاء القوى العظمى، ويمكن وصف الجغرافيا السّياسيّة كنماذج من ثنائيّة القوّة _ المعرفة التي تجاهلت كلـّـية الخصائص الجغرافيّة للأمكنة والشـّـعوب والمناطق، وقد عدّ البعض من علماء الجغرافيا السـّـياسيّة، انتصار التـّـحليل الخطابيّ الأمريكيّ انتصاراً للثـّـقافة الأمريكيّة، تحقـّـق بفضل الماكارثية التي أدّت بالولايات المتـّـحدة الأمريكيّة إلى احتلال فيتنام، وخوض المزيد من الحروب، لكنّ تلك الجيوسياسة أثبتت فشلها لأنـّـها لم تأخذ بعين الاعتبار خصائص الشعب الفيتناميّ، وقد طُردت منه أمريكا شرّ طرد ثمّ ارتكب الاتـّـحاد السـّـوفييتي نفس الأخطاء عندما أقدم على احتلال أفغانستان.

ومع سقوط الاتـّـحاد السـّـوفييتي وقعت الجغرافيا السـّـياسيّة وكذلك العلوم السـّـياسية في أزمة سمّيت “أزمة المعاني” فبما أنّ الجيوسياسة تدرس الصـّـراعات، كان لابدّ من إيجاد صراعات جديدة؛ هذه المرّة تمّ التـّـركيز على الصـّـراعات الثـّـقافيّة وتمّ تصوير العالم الإسلاميّ على أنـّـه العدوّ الجديد للغرب وللثـّـقافة الغربيّة، ومنذ سقوط الاتـّـحاد السـّـوفييتي تحوّل التـّـنظير نحو مفاهيم “النـّـظام العالميّ الجديد” وفي هذا الإطار أعيد تعريف الجغرافيا السـّـياسيّة وتحديد مقارباتها وممارساتها. لقد برز منظـّـرون جدد يتغنـّـون بتفوّق العالم الغربيّ ومنهم فوكوياما الذي قال بنهاية التـّـاريخ، وإيدوارد لوتووك الذي تغنـّـى بتفوّق الجيواقتصاد الغربيّ، فقد رأى إدوارد لوتووك أنّ الدّول ككائنات أرضيّة أو جغرافيّة سوف تواصل صراعها، لكنّه لن يكون صراعاً سياسيّاً، بل جيواقتصاديّا، صراعاً يديره الاقتصاد في نطاق الجغرافيا، وسيتـّـخذ هذا الصّراع في رأيه شكل خلافات تجاريّة واقتصاديّة.

كانت نظريّة إيدوارد لوتووك مرتبطة بالدّولة، لكن منظـّـرين آخرين في ميدان الجغرافيا الاقتصاديّة شدّدوا على التـّـقهقر النـّـسبيّ للدّول لصالح التـّـدفـّـق الصـّـاعد للمؤسّسات ما بين القوميّة، هذه الرّؤية يُعبـّـر عنها بمصطلح “اللـّـيبراليّة” ما بين القوميّة أو اللـّـيبراليّة الجديدة، وهي مذهب تؤكـّـد أنّ العولمة التي تقودها التـّـجارة والإنتاج والأسواق، سوف تحدّ من سلطة الدّول وتسرّع في اندماج العالم. هذه النـّـظريّة تتبنـّـاها مجموعة السـّـبعة وصندوق النـّـقد الدّوليّ ومنظـّـمة التـّـجارة العالميّة، التي ترى أنّ العولمة تسرّع في نماء البلدان النـّـامية. إلاّ أنّ هذه المؤسـّـسات لها نوايا مختلفة تماماً عن نواياها المعلنة. أمّا عالم السـّـياسة ومنظـّـر المحافظين الجدد صامويل هانتتن فيشدّد على قوّة الكتل الجيوثقافيّة في النـّـطام العالميّ الجديد، فيؤكـّـد هانتنتن أنّ الكتل الثـّـقافيّة تحدّد الشـّـؤون العالميّة، لكنّ هذه الخاصّية قد حجبتها الحرب الباردة، فلم يعتنِ بها علماء الجغرافيا السـّـياسيّة؛ أمّا الآن فهي موجودة إلى جانب الخطابات المختلفة، وهي التي ستحدّد طبيعة النـّـظام العالميّ الجديد.

الخاتمة

الجغرافيا السّياسيّة تُعنى بالعلاقات السّياسيّة بين الدّول، وتضع الاستراتيجيّات للدّول، وتبحث في موازين القوى العالميّة، وقد حاولتُ أن أبيّن كيف أنّ خطابها المهيمن حالياً قد نشأ من التّجربة الأوروبيّة الأمريكيّة، لكنّ النـّـظريّات التي تمّ تطويرها قد تمّ إسقاطها على بقيّة العالم.

في الوقت الحاضر، لم تعد القوّة والاستراتيجيّات العسكريّة مهيمنة على الجغرافيا السـّـياسيّة، بل هي أقلّ أهمية ممّا كانت عليه، فالقوّة الاقتصاديّة أصبحت غاية في حدّ ذاتها وصارت توصف بأنـّـها الوسيلة لتعزيز القدرة العسكرية، وأنـّـها التي تحدّد النـّـجاح النـّـسبيّ للدّولة، نظراً لصعود قوى إقليميّة جديدة مثل الهند والصّين.            لقد أولت الجغرافيا السـّـياسيّة المزيد من الاهتمام بالعولمة وكيفيّة عبور الحدود، وكيفيّة انتقال الظـّواهر والمشاكل البيئيّة والثـّقافيّة، مثلاً من منطقة جغرافيّة إلى أخرى. وقد أشرت إلى عدم الموضوعيّة فيها ولذلك أقول إنّ مفاهيمها تحتاج إلى إعادة النـّـظر فيها؛ ولماذا لا نطمح إلى إنشاء جغرافيا سياسيّة عربيّة.

……………………

المصادر المستخدمة في البحث

1- روبرت كابلن، انتقام الجغرافيا، ترجمة إيهاب عبد الرحيم، عالم المعرفة، 2013

2- استراتيجيات روسيا السياسية، خرائط سياسية، جورد فريدمان، 2016

3- روسيا الأوراسية قوة عظمى الصراع والدبلوماسيا بريكس كندل. ترجمة وسيم خليل قلعة جي 2020

4_ دراسة في أثر جيوبولوتيك في علاقة روسيا بالدول الجوار فيرونيكا حليم فرنسيس 2019،

5_ الجيوبولوتيك والسياسة الدولية د. بدر الشاطري 2017

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى