لم يعد مفهوم الأمن القومي قاصراً على البُعد العسكري التقليدي، ولكنّه اتسع ليشمل أبعاد أخُرى، لا تقل أهمية، باعتبارها تهديدات غير مباشرة يُمكنها أن تؤدي إلى خلل في بنية المجتمع والدولة معاً، حيث ضم المفهوم مضامين متعددة تتداخل مع شتى أنظمة الحياة، كالإصلاح الاجتماعي، والارتباط بالقضاء والعدل، والتربية والإرشاد، ويعد الاستخدام السيئ أو غير المسئول لوسائل الإعلام، والاختراق الإعلامي، والحرب الإلكترونية من أكبر الأخطار التي تهدد الأمن القومي.
إنّ الأحداث المتسارعة التي شهدها العالم بشكل عام، ومنطقتنا العربية بشكل خاص خلال العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين تُوجِب ضرورة إعادة التفكير في علاقة الإعلام بالأمن القومي، وضرورة وضع توصيفات محدّدة لمهام الإعلام، ووظائفه التقليدية التي أُنشئ من أجلها، وكذلك المستحدثة التي ظهرت في ظلّ تطوّر تقنيّ رهيب في مجال المعلومات والاتصالات خلال السنوات القليلة الماضية.
إنّ علاقة الأمن القومي بالإعلام وانعكاس ذلك على دور الأخير في العلاقات الدولية، معضلة قديمة جديدة، ليست في مصر أو المنطقة العربية فحسب، ولكن في العالم أجمع بما فيها الدول الكبرى التي تُوصف بارتفاع سقف الحريات فيها وإِعلاء قيم الديمقراطية، لاسيما مع ازدياد سطوة الحروب الدعائية من خلال ماكينات الإعلام الدولية التي تعمل بصورة ذكية، وبإمكانيات ضخمة، بحيث يصعب التفريق بين الإعلام الموجه من جهة، وحق المتلقي في الحصول على الأخبار والمعلومات وممارسة حرّيّة الرأي والتعبير من جهة أخرى.
هل من حق الإعلام أن يعرض ما يشاء من معلومات مهما كانت خطورتها وتأثيرها على الأمن القومي تحت شعار الحرية؟ وما هي المعايير والخطوط الحمراء التي يجب ألّا يتجاوزها الإعلام في نشر المعلومات؟ وكيف يمكن تحقيق التوازن بين حرية الإعلام وبين الحفاظ على الأمن القومي؟ وهل يجوز تجريم من ينشر معلومات تضر بالأمن القومي؟
كل هذه الأسئلة عند النظر إليها بعين المنطق والعقل والقانون في أيّ بلد في العالم تكون الإجابة أنه حال شكل الإعلام بمفهومه التقليدي والمستحدث تهديداً على أمن الأفراد والمجتمع، بدوافع سياسية أو بهدف الإثارة، أو السبق الإعلامي، أو المنافسة اللا أخلاقية، أو دواعي الحرية اللا مسؤولة فهذا غير مقبول على المستويات كافة: شرقية وغربية، عربية وعالمية، وبالتالي فمن حقّ الدول التدخل بالقانون والتشريعات والأجهزة المعنية ، لتأمين أيديولوجياتها، وتعزيز استقلالها السياسي، وتحقيق الانسجام والاستقرار الاجتماعي، وضمان وحدتها الوطنية، ودفع أيّ تهديد يستهدف الجهد اليومي الذي تبذله الدولة لتنمية ودعم أنشطتها الرئيسية سياسية، واقتصادية، واجتماعية، ومجابهة أيّ مُحاولات للإضرار بتلك الأنشطة، ومن ثم فللدولة أن تطمئن من ناحية وعي القائمين على الإعلام بمفهوم الأمن القومي، وأن توضّح لهم أين تنتهي حرياتهم في إطار الحرية المسؤولة، التي تراعي مصلحة الوطن والنسق القيمي للمجتمع دون مجاملة أو مواربة أو نفاق، ومن حقّها أيضاً وضع خطوط حمراء تضمن بها حماية أمنها القومي.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من أنّ القوانين الأمريكية لا تحظر النشر الصحفي في أيّ مجال، إلا أنّ المحكمة الدستورية العليا أقرّت أنّ هناك حالتين لا تحميهما النصوص الدستورية؛ أولهما نشر تفاصيل حول تحركات الجيوش في زمن الحرب، وثانيهما نشر الكلام البذيء الذي من شأنه أن يثير أعمال عنف أو ارتكاب جرائم، وإن نظرنا إلى الحالتين فسنجد أنّه بإمكاننا أن نفتح قوسين ونضع عنواناً بالبنط العريض وهو؛ “كلّ ما يهدد أمن الوطن يخالف القانون”.
وفي هذا السياق نذكر على سبيل المثال كيف طالب ديك تشينى نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بإجراء تحقيقات واستجوابات لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، ومسؤولى التحرير والنشر فيها لأنها كشفت فضيحة التجسس والتنصت على مواطنين أمريكيين، وكشفت برامج سرية حكومية تستخدم لمراقبة التحركات المالية المصرفية للمشتبه بقيامهم بأعمال إرهابية، دون سند قانونيّ، ووصف ديك تشينى نيويورك تايمز بعدم الأمانة الصحفية، وعدم الالتزام بالوطنية، والتسبّب في جعل عملية الحرب على الإرهاب أكثر صعوبة، بإصرارها على نشر معلومات مفصلة حول برامج حيوية خاصة بالأمن القومي الأمريكي، وقال: نحن في حالة حرب، لذا وما فعلته نيويورك تايمز يُعد خيانة!.
وفي مايو 2020 وقَّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمراً تنفيذيّاً يستهدف مواقع التواصل الاجتماعي بهدف إلغاء بعض جوانب الحماية القانونية الممنوحة لها، ويتيح ملاحقتها قضائيّاً، ويتّهم موقع تويتر بخنق حرية التعبير.. بسبب سياسة المحتوى التي وصفها بأنّها تهدّد السلم المجتمعي الأمريكي.
على الجانب الآخر هناك من يحاول دائما تسييس المقاربة بين حدود الأمن القومي وحريّة الإعلام، ويطالب بمسح أيّ خطوط حمراء تحت شعار الشفافية وحرّيّة التعبير، وسرعة تداول المعلومات، وإن سلّمْنا أن بعض أنصار هذه الاتجاه لديهم قناعات فعليّة بما يتبنّون، فما من شك أنّ البعض الآخر، غير خالص النية، ولا نبالغ إن قلنا: إنّه يعمل وفق مُخططات اُتقن صُنعها تجاه قضايا وأهداف محددة، لم يكن من الممكن تحقيقها دون مساندة من الإعلام بتفعيل الشق الماكر من وظيفته السياسية.
حيث أدركت الدول المتصارعة سياسيّاً مدى القوة الكامنة في الإعلام، باعتباره نقطة ارتكاز للمخططات الاستراتيجية داخليّاً وخارجيّاً، وعملت على تجنيد وتدريب وتمويل عناصر في الداخل والخارج لخدمة هذه المخططات تحت شعار حرية التعبير والديمقراطية.
في الوطن العربي سيظل النقاش حول الأمن القومي لا يخلو من التسييس بسبب تغيير خريطة المنطقة بعد التقلّبات السياسية التي شهدتها، والتي ساهم فيها الإعلام بشكل رئيسي سواء بشكله التقليدي متمثلاً في الصحافة ومحطّات الإذاعة والتلفزة أو المستحدث متمثلاً في شبكات التواصل الاجتماعي أو الإعلام الجديد.
في الحالة المصرية بعد 2011م كان المدخل دائما من بوابتين؛ الأولى حقوق الإنسان، والثانية غياب مفهوم محدد لمصطلح الأمن القومي، فيما يخصّ حقوق الإنسان، فكانت ولا زالت مسمار جحا الذي تستخدمه قوى خارجية، لخرق سفينة الدولة المصرية التي بدأت تتحرك بعد سنوات من الركود، وتحاول به تقويض استقرار الداخل وهذا تحدّ صريح للأمن القومي، وللعلم ليس هناك أي تعارض مع الأمن القومي، وحقوق الإنسان في مصر مثلما يحاول البعض في الإعلام الموجّه من الخارج إيهام الرأي العام بذلك.
أمّا من يزعم بغياب التحديد، ومطاطية مصطلح الأمن القومي، فهذه أيضاً حجّة مرفوضة على المستويين النظريّ والعمليّ حيث أنّ لفظ “الأمن” من الألفاظ ذات الدلالات الواضحة البيِّنة، إذ تُعرف حقيقته عند النطق به، وشدة وضوحه لا تتعارض مع كثرة استخدامه، وكثرة تعريفاته واشتقاقاته.
في حرب مصر الشرسة على الإرهاب بعد 30 يونيه 2013م كانت هناك محاولات كثيرة قامت بها وسائل إعلام خارجية مُسيسة و مُمولة لضرب الأمن القومي عبر الشائعات والمعلومات المغلوطة حول هذه الحرب ودوافعها، وارتكبت هذه الوسائل في سياق حربها على الدولة المصرية أخطاء إعلامية وُصفت بالفضائح، تحدث عنها خبراء الإعلام حول العالم، نذكر على سبيل المثال تغطية بعض القنوات التليفزيونية التابعة لتنظيم الإخوان الإرهابي في لندن، وقناتي الشرق ومكملين في تركيا الحوادث الإرهابية على أنّ الدولة هي التي تصنع الإرهاب، وهي التي تقتل أبناءها من الجيش والشرطة، وكانت الفضيحة الأشهر لوكالة رويترز البريطانية في20 أكتوبر 2017م عند تغطيتها الحادث الإرهابي في طريق الواحات، وذكرها أنّ المعركة بين الشرطة والمتمردين وقع فيها 52 قتيلاً من الشرطة، ناهيك عن وصفها للإرهابيين بالمتمردين، والفرق كبير بين الكلمتين، فالحقيقة أنّ الحادث استشهد فيه 16 شهيدا من الشرطة، وأُسر ضابط واحد تم تحريره لاحقاً.
الذين ينصبون أنفسهم حماة حرية التعبير في مصر، ومعظمهم من ذوي التوصيفين مثل “إعلامي وناشط سياسي”، “محامي حقوقي وإعلامي”، “مدون وناشط”، “باحث وناشط” جميعهم يلبسون الباطل ثوب الحق عندما يروجون إلى أنّ دعوة وسائل الإعلام بكافة أشكالها التزام المصداقية والمهنية والضوابط، والأكواد الخاصة بالنشر والبث تقوض من حرية التعبير وتعتدي على حقوق الإنسان!!
فمن حقّ أي دولة حماية نفسها من خطر سلاح تدفق المعلومات المغلوطة والافتراءات الباطلة التي لها انعكاسات خطيرة على استقرارها؛ ومن ثم فمن حق مصر أن تحمي نفسها من شبكات الإعلام والاتصال الداخلية والخارجية التي لا تحترم القوانين، أو تمثّل خطراً على أمنها القومي، ومن حقها أيضا أن تطالب وسائل الإعلام، بتوثيق المعلومات من مصادرها الرسمية، وعدم اللجوء إلى التهويل أو المبالغة أو الاعتماد على المصادر مجهولة الهوية، ولها في ذلك أن تشرع القوانين، وترسم ما تراه مناسباً من خطوط حمراء لحماية أمنها القومي.