الدولة العميقة…… الدولة الحاكمة
تصاعدت في السنوات العشر الأخيرة الأصوات بالحديث عن الدولة العميقة التي تتحكم في مفاصل الدولة العلنية، فالمفهوم العام التقليدي أنّ أيّ دولة في العالم لها ضوابط شرحها المشرعون والعاملين في القانون، وحدّدوا ملامحها ووظائف المؤسسات التي تقوم عليها، غير أنّه وبالتوازي ظهرت فكرة الدولة العميقة، أو الدول الحاكمة التي تتحكّم بمفاصل الدولة الظاهرة أو العلنية، وفي هذا السياق فسّر المؤرخ الأميركي؛ كريك كراندن، مفهوم الدولة العميقة ، بأنّها حكومة خفيّة تآمرية عميقة في أحشاء الدولة، تمثّلها مراكز قوى، أو سلطة دينية، أو اجتماعية مخفيّة عن الأعين، وإنّها تعمل ضدّ المصالح الوطنية، لتكبح تطور الدولة، وتجعلها أداة طيعة لتحقيق مصالحها، وتتحكّم بمصادر وثروات الدولة ، كما أنّها تتحكّم في تطوّر المجتمع، وغالباً ما تكون الدولة الظاهرة او العنية عاجزة أمام الدولة العميقة.
وفي سياق إعطاء مثال على الدولة العميقة نتحدث عن الدولة العميقة في تركيا، وتشير الدراسات والمعلومات أنّ الدولة العميقة في تركيا نشأت في أوائل عشرينيّات القرن العشرين مع بروز نجم مصطفى كمال أتاتورك حيث قام بتأسيس مجموعة سرية عرفت باسم “Derin Devlet” ومعناها الدولة العميقة” ووفق الوثائق تتألف هذه المجموعة من عدة مجموعات من الشرطة وضباط القوات المسلحة وبعضاً من رجال القضاء والبيروقراطيين ومجموعات أخرى، وتقوم هذه المجموعة بالقيام بأعمال سرية، والهدف منها المحافظة على علمانية الدولة التركية التي أنشأها كمال أتاتورك، وقمع أيّ أفكار أو حركات أو أحزاب أو أعضاء الحكومة التي من شأنها تهديد العلمانية.
كما برزت الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية مع إنشاء الوكالة المركزية للاستخبارات الأميركية، وبدا أنّ الدولة العميقة تتمثل في شبكات السلطة السياسية في واشنطن والسلطة الاقتصادية والمالية في وول ستريت، والتي تعمل على حماية مجموعة من شبكات المصالح المختلفة.
والجدير ذكره نشأت الدولة القومية الحديثة بعد معاهدة ويستفاليا للصلح عام 1648، وكان هدف قيام هذا النموذج هو الحفاظ على القوميات والحدود ووضع أطر واضحة للعلاقات بين الدول وشعوبها، وإنهاء حالة الصراع التي كان أحد أسبابها وفق نظرة من أبرموا هذه المعاهدة هو وجود الامبراطوريات، وعدم وجود ترسيم واضح للحدود ممّا يؤدي إلى زيادة الصراعات بين الشعوب وأنظمة الحكم المختلفة في ذلك الوقت. إنّ الدولة القومية الحديثة ترتكز على مبادئ ومن أهمها مبدأ “السيادة”، وهذا المبدأ يعدّ من المبادئ المشكلة والرئيسية لفهم دور الدولة القومية، ففي إطار السيادة تمنح الدولة السلطة والحقّ المشروع في استخدام كلّ الوسائل للحفاظ على النظام العام في الدولة، وعليه هي لا تتحكم بالمؤسسات فقط ولكنها أيضا تتحكم في افراد الشعب والمقيمين في الدولة.
هذا ويرى بعض المراقبين أنّ “الدولة العميقة” هي “دولة داخل الدولة”، وتتحكّم بكل مفاصل الدولة من أعلى المؤسسات الى أدناها. ويقولون: إنّ الدولة العميقة تتألف من الموظفين الحكوميين السابقين الكبار من المدنيين والعسكريين ورجال الأعمال، إضافةً الى مثقفين واختصاصيين.
أرجنكون الدولة العميقة … الدولة داخل الدولة أو الدولة الحاكمة
ولعلّ من أبرز الأمثلة على فكرة الدولة داخل الدولة؛ هي منظمة أرجنكون، فمن هي؟
تقول الأسطورة بأنّ “أرجنكون” هو واد عميق احتمى به من تبقّى من قبائل الأتراك في موطنهم الأصلي في وسط آسيا، بعد أن هاجمهم الصينيون فقتّلوهم وصلّبوهم، وبعد سنوات من الاختفاء والتكاثر، خرج الأتراك إلى العلن ليقيموا دولتهم الكبرى، وأصبح “أرجنكون” يمثّل للأتراك رمز الحفاظ على الهويّة واستمرار الجنس التركي.
وذهب البعض من كتاب التاريخ الى القول: إنّ تاريخ نشأة منظمة “أرجنكون” يعود إلى بدايات القرن العشرين، وأنها امتداد لجمعية الاتحاد والترقي التي أطاحت بالسلطان عبد الحميد، وقضت بعد ذلك على الخلافة سنة 1924. ويذهب البعض الآخر الى القول: إنّ الاستخبارات الأميركية قد أسست هذه المنظمة في تركيا سنة 1952، وعرفت فيما بعد باسم “الدولة العميقة”، وكان الهدف الأساسي لهذه المنظمة هو التحكم في قرارات قيادات الجيش، وصنّاع القرار، والمسؤولين السياسيين الكبار في مختلف مواقع السلطة والإدارة العامة في الدولة التركية.
“أرجنكون”، أو حكومة الظل أو الدولة العميقة كما يحلو للكاتب البريطاني الراحل روبرت فيسك أن يسمّيها، إنّها فكرة، إنّها قوّة، إنّها أدوات حكم، إنّها قوّة مضادّة، إنّها دولة داخل الدولة، وتشير التقديرات إلى أنّ أعضاء هذه المنظمة في تركيا قد بلغ أكثر من 40 ألف شخص، و قد انتشروا في كلّ مفاصل الدولة، وأهمّها المؤسسة العسكرية، والقضاء، والإعلام، والتعليم؛ دون أن يعلم أحد عن حقيقة انتمائهم شيئاً، ويعتبر هؤلاء الذراع الضارب في “الدولة العميقة” داخل تركيا، وترمز كلمة “أرجنكون” -في الأساطير السياسية القديمة- إلى النزعة القومية التركية المتفانية في الدفاع عن هوية ونقاء العرق التركي.
في سنة 2003، أي بعد أشهر قليلة من وصول حكومة أردوغان إلى السلطة في كانون الأوّل (ديسمبر) 2002، تمّ اكتشاف خيوط مؤامرة كبرى لإسقاط الحكم عن طريق انقلاب عسكري، وقد تمكنت السلطات من اعتقال الكثير من قيادات “الحكومة العميقة”، بالدلائل والوثائق التي لا يرتقي إليها الشكّ، وتمكنت السلطات أيضا من فكّ رموز العديد من الأحداث الغريبة والاغتيالات التي حدثت على مدى سنوات.
ولعل البعض قد سمع بمصطلح “الدولة العميقة” و لم يعط الأمر أهمية مع أن هذا المصطلح يعبر عن حالة لها أبعادها الخطيرة في المجتمع التركي و تناولها الكثيرون بالبحث والتدقيق دون أن ينتهي إلى نتيجة حاسمة خاصة في ظل ما تتميز بـــه هذه “الدولة العميقة” من أسرار و بحث دائم عن السرية و الصمت، وفي اختصار شديد رغم أنّ كلّ ما كتب في هذا الشأن لم يحدّد مفهوم “الدولة العميقة” فإنّ تركيا هي من بين دول قليلة في العالم لها هذه “الخاصية” الفريدة من نوعها، بحيث أنّ ما نراه في العلن من مؤسسات تشريعية وتنفيذية لا يمثل إلّا الواجهة، في حين أنّ الدولة تدار في الخفاء بواسطة “حكومة ظل” مكوّنة من المافيا، و مــن العسكر، و من بعض قدماء السياسيين.
فعلى مرّ التاريخ كانت تركيا “مسرحاً” للعسكر و “للدولة العميقة” وكانت الطبقة السياسية الحاكمة هي التي تنفذ رغبات العسكر ومصالح “الدولة العميقة”. تمثّل منظمة “أرجنكون” جزءاً هاماً، وكبيراً من “الدولة العميقة” وهي من يتهمها الجميع في تركيا بارتكاب الجرائم السياسية من اغتيالات وتصفيات حركات الرأي العام.
“المطرقة الثقيلة” هي الاسم الذي اشتهرت به محاكمة العصر في تركيا، والتي انتهت بالأحكام القاسية، إلّا أنّ محاكمة “أرجنكون” و “الدولة العميقة” تعود بدايتها إلى سنة 2008 حين اكتشف الرأي العام التركيّ جانباً خفيّاً من هوية أعضاء “الدولة العميقة” ومنظمة “أرجنكون” وعلى رأسهم جنرالات متقاعدون، ورتب كثيرة مختلفة من الجيش وبعض رجال الشرطة ورئيس جامعة إسطنبول، وبعض كبار الصحفيين، وغلاة المتطرّفين المتشبّثين بأفكار كمال أتاتورك.
شكّلت المحاكمة في حدّ ذاتها صدمة عنيفة للرأي العام التركي و للمؤسسة العسكرية التي كانت الحكم الفعلي من وراء الستار و الموجهة الحقيقية للسياسة الخارجية و الدفاعية والمنخرطة بالتمام و الكمال في الاستراتيجية الهجومية الأميركية في المنطقة التي تمثل حماية إسرائيل، و تحجيم الدور الروسي في المنطقة أولوية أولوياتها… فالصدمة كانت لأن الجيش التركي كان البعض يحيطه بهالة مبهرة من التقديس، ويعتبره الكثيرون الوريث الشرعي لفكر كمال أتاتورك، و حامي العلمانية، و الوصي على الخيار الجمهوري. غير أنّ البعض يدرك أنّ “المطرقة الثقيلة” ما كانت لتضرب ضربتها لولا صعود التيار الديني ذو الخلفية الإسلامية بقيادة حزب العدالة والتنمية الذي يقوده رجب طيب أردوغان في بدايات سنة 2003.
إلّا أنّ قضية “أرجنكون” تتميّز بالعديد من الخصائص المميّزة، وإحداها ظهور اسم ألكسندر دوجن زعيم ما يسمّى بالحركة اليورو-آسيويّة الدّوليّة الرّوسيّة، بوجود علاقة له بالمؤامرة التي خططت لها الدولة العميقة في تركيا والمتمثلة بالانقلاب على حكم أردوغان.
من هو هذا الرجل؟
ألكسندر دوجن هو دكتور في العلوم السّياسيّة، وهو معلّق متمكّن، ويقول البعض، بأنّه مختص، وذو تأثير في روسيا الرئيس فلاديمير بوتين الحديثة. منظّر معروف للفاشيّة في سنوات التّسعينيّات من القرن الماضي، ويطرح دوجن نفسه اليوم بأنّه “متطرّف وسطي” ومؤيّد متحمّس لسياسات روسيّة استبداديّة محلّيّة وخارجيّة مناهضة للغرب.
أرجنكون والقاعدة
هذا وكشفت الاستخبارات التركية عن حصولها على وثائق رسمية موثقة تفيد أن مجموعة من ضباط الجيش من عصابة “أرجنكون” كانت تخطّط للقيام بعملية انقلاب على الحكومة التركية في عام 2003، فيما يسمى بعملية “باليوز”، وتشير المعلومات إلى ظهور علاقة ظلّت خفية لسنوات بين الهجوم الذي أعلنت القاعدة مسؤوليتها عنه، و المتمثل باستهدف بنكHSBC في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2003 وبين قضية “أرجنكون” التي قامت بعمليات عسكرية، ومحاولات انقلاب في تركيا على مدى سنوات عديدة.
وتكشف الوثائق والمعلومات أنّ هذه العلاقة الخفية تم إثباتها بدلائل واضحة تبيّن بشكل واضح استخدام “أرجنكون” عناصر القاعدة لتنفيذ مخططاتها في تركيا، فالدولة العميقة هي الدولة الحاكمة في تركيا.