جاسم الهويدي
تمهيد
عندما نتناول موضوع منطقة الشرق الأوسط في بحثٍ ما لابدّ لنا أن نتناوله في فترات تاريخية مليئة بالدماء والصراعات، إلّا أنّ أكثر هذه الفترات دمويةً هي الحقبة العثمانية التي مازالت تأثيراتها على المنطقة حتى الآن.
إنّ الدولة العثمانية لها باع طويل في تاريخ الظلم البشري والقتل والتدمير والتهجير لشعوب الشرق الأوسط – ولا يطول عمر الدول بدون العدل والمساواة والحريات وينبري الجبروت والقهر صفة للعثمانيين في إذلال شعوب الشرق والغرب على حدّ سواء.
لقد عرفتهم مناطق بلاد الشام وبلاد المغرب وكردستان والحجاز بتاريخ عهد طويل من المذابح والمسالخ والتسلط والقهر .
إن الصراع الطويل بين أبناء الشرق والأقوام المختلفة مع العثمانيين لجدير بالدراسة والاهتمام والبحث.
فقد بدأ الاهتمام بتاريخ العثمانيين وحياتهم كجسم دولة في أوروبا في القرن السادس عشر في معاهد الاستشراق والجامعات الأوروبية.
ونرى عدائية أوروبا للعثمانيين واضحة في كلّ أحوالها، ممّا انعكس على جسم دين الإسلام جرّاء سلوك العثمانيين، ممّا أدّى إلى تقويض دعائم الدولة العثمانية فارتاح الغرب منها وساد الأمن واستتبّ الأمان.
يقول أحد العلماء وهو (مدير معهد الدراسات الشرقية):
“إنّ أوروبا وإيران وروسيا وبعض الدول الاشتراكية تعادي وتتصدّى للعثمانيين؛ لأنّهم حاولوا السيطرة على هذه الدول، ونشر اللغة التركية ونهب خيرات هذه الدول وذبح شعوبها”.
بداية نشوء العثماني الدموي وصراعه مع الغرب
إنّ إسلامية الدولة العثمانية هي ستار واضح وجلّي في تاريخ سلاطين بني عثمان، لنهب واستعمار شعوب تلك المناطق، وأمثلة التاريخ في استعمار الشعوب شتّى، فقد استولى جنكيز خان على شمال الصين، وبدأ زحفه على تركستان، ولم تكن هناك قوة بشرية تستطيع الوقوف أمامه، لكن في عام 1220 م ظهر قائدان عسكريان اجتازا منطقة تركستان، وأخذا بالاقتراب من إيران وهما؛ (جبانو يان – وسويداي نوبان)، وكان المغول يومها على دين الشامانية، ممّا أدى إلى بث الذعر في نفوس الأتراك في تركستان بشكل مخيف.
في هذه الفترة وفي هذا الجو المشوب بالخوف والترقب والهلع كان في جنوب صحراء قارا قورم بشمال خراسان ما يقرب 70000 ألف خيمة بدوية يسكنها حوالي نصف مليون إنسان من الأتراك، وكان من بين هؤلاء عشيرة صغيرة تسمّى قايي.
اضطر هذا الجمع الكبير إلى هجر وطنهم عندما أحسوا بقرب خطر المغول فعبروا إيران واقتربوا من الأناضول.
أمّا عشيرة قايي الصغيرة فقد وصلت نحو الأناضول على مدى 10 سنوات وكان رئيسهم أي عشيرة قايي رجل يدعى (كوندوز آلب) ثم خلفه ابنه أرطغرل في رئاسة العشيرة والد عثمان (مؤسس دولة آل عثمان) الذي عرفت العثمانية باسمه.
لقد دارت معركة في منطقة أرزنجان، وهي في الشمال الشرقي من تركية اليوم ، معركة سميت باسم (ياسي –جمن) بين سلطان قونية السلجوقي وبين جلال الدين خوارزمشاه –خاقان تركستان – كاد سلطان قونية أن ينهزم أمام جلال الدين لولا مساعدة – كوندوز – آلب – وتدخّله في المعركة لصالح سلطان قونية، فأقاله من عثرته، وتسبّب في انتصاره ممّا جعل سلطان قونية يقطعه وطناً أو ثغراً على الحدود بين سلطنته وبين الإمبراطورية البيزنطية.
وهذا الثغر بمنظار خريطة العالم اليوم هو المكان الذي تلتقي فيه ولايات ( اسكيشهر – وبيراجيك – وكوتاهيه في تركية اليوم).
توفي كوندوز آلب عام 1253م وخلفه ابنه أرطغرل، وفي هذا الوقت مات جنكيز خان وبعد مدة مات أرطغرل فأصدر سلطان قونية مرسوماً بتعيين عثمان محل أبيه. حكم عثمان المنطقة التي أهديت لعشيرته من قبل سلطان قونية وهي حوالي 2000 ألفين من الكيلو مترات المربعة، لكن أرطغرل توسّع على حساب البيزنطيين، إلى مساحة 4800 كم مربع، وهي المساحة التي ورثها ابنه عثمان – كان عثمان يتبع قونية بعض الوقت وكوتاهية أحيانا أخرى، وكانتا تابعتين لدولة الإلخانيين، ومقر حكمهم تبريز، كانت تبريز تابعة لقويبلاي حفيد جنكيز خان، وكانت عاصمته بكين اليوم عاصمة الصين، وكان هذا الخان مسيطراً على الجزء الأعظم من آسيا وعلى شرق أوروبا أيضاً.
تسلّم عثمان الأمر أيّ رئاسة العشيرة وهو في عمر ال 23 عاماً، واستطاع أن يجد لإمارته منفذاً على بحر مرمرة، وكانت عشيرته شبه بدوية، ثم أصابهم نوع من الحضارة وبهذا التوسع جعل إمارة آل عثمان متاخمة لكل من الصرب والغرب وألبانيا.
كانت أوروبا غاضبة لهذا التوسع ومنزعجة أشدّ الانزعاج، لذا قام البابا أوربانوس بتوحيد أوروبا لوقف تجاوزات العثمانيين، وحاول ملك الصرب مهاجمة أدرنة؛ عاصمة العثمانيين، ثم تمّ توحيد جيشَي الصرب والبلغار ليكونا اتّحاداً عسكريّاً في محاربة العثمانيين، لكنّ بني عثمان هزموا الجيشين المتوحدين وفرضت الجزية السنوية عليهما ومنذ ذلك اليوم قام تيمور وزير مراد بتنظيم سلاح للفرسان، واختار اللون الأحمر للعلم العثماني رمزاً للدم والفتوحات والاستعمار والظلم واستعباد شعوب الشرق فدخلوا صوفيا عاصمة بلغاريا اليوم، ودارت معارك سالت فيها الدماء بين ملك الصرب وأمراء البانيا ضد السلطان مراد العثماني، والتي انتهت باستعمار الصرب من قبل العثمانيين.
وعقب انتصار العثمانيين في (قو صووة ) قام قائد العثمانيين بتفقد ساحة المعركة، وكان الليل حالك السواد وضوء الهلال والنجوم في السماء يعكس على ساحة المعركة المضرّجة بالدماء، فقد جاءت فكرة العلم العثماني من هذا المنظر. علم أحمر الأرضية – تزخر بالدماء التي ملأت أرض قوصووة ويزيّن هذا العلم (الهلال والنجوم )، وهو علم تركية الاستعمار اليوم، وأثناء تفقّد القائد العثماني المنتصر مراد ساحة القتال إذ بجندي صربي جريح يقوم من بين القتلى ليطعن القائد مراد بخنجره، ويقتله، وقد بلغ من العمر 65سنة، وقد كان يدعى من قبل الكنيسة التي أعلنته عدوا لعيسى (كافرا). فحياته كلّها دماء واضطهاد، فقد بلغ عدد المعارك التي خاضها 37 معركة، سواء في الأناضول أو في البلقان، ثمّ تسلّم ابنه بايزيد قيادة الدولة العثمانية الذي اتّصف بالدموية والتعدّي على أراضي أوروبا من ألبانيا إلى رومانيا وحاصر القسطنطينية، إلّا أنّ ملك المجر سيمسموند واجهه بحملة أوروبية، وتصدّى لجيشه، وكانت الجيوش مجرية وفرنسية وألمانية وبولندية وإيطالية وإنكليزية وإسبانية، ومن صفاته أيضا الغرور الذي أعمى عينه في حروبه المستمرة، والتحدّي لكافة دول العالم الغربي، ومن المثير للجدل والعجب أن العثمانيين تركوا الزحف إلى أراضي أوروبا واتّجهوا إلى الشرق في البلاد العربية وكردستان، وفرضوا عليهم سلطانهم، وكان الأولى بهم الحرب في أوروبا حيث الأمر فيه كل الاختلاف دينيّاً، ومذهبيّاً، والسرّ في ذلك أنّ السلطان سليم تولّى إمارة طرابزون في عهد والده السلطان بايزيد الثاني، وعهد بايزيد هذا كان يقابل تاريخيّاً عهد قيام الدولة الصفوية في إيران.
الصراع العثماني الصفوي وزحف العثمانيين نحو الشرق
فبادر الشاه اسماعيل الصفوي إلى مدّ نفوذه على أذربيجان، واستولى على كلّ أراضي الآق قوينلو، ورأى هذا الشاه أنّ من مصلحة دولته الشيعية الاستيلاء على الأناضول، وما لبث هؤلاء أن وجدوا بعض المؤيدين، وما لبثت جماعة القيزيل باش (أي العلويين) في منطقة أنطاكية أن قاموا بأوامر من الشاه إسماعيل الصفوي بالتمرّد على سلطة قولو أي: (عبد الشاه)، وكان هذا التمرّد رهيباً، فقد استخدم العثمانيون كلّ قوّتهم وسلطتهم وأعاجيب تصرفهم حتى استطاعوا إخماده، لأنّ التأييد الخارجي كان متلاحقاً لمساعدة العلويين، وكان لابدّ بالطبع من إعدام عبد الشاه.
كادت هذه الحركة من قبل العلويين تفعل فعلها عند العثمانيين، ولما اعتزل بايزيد العرش وتولى ابنه سليم الحكم عام 1512م جاءت الرسل من كل أنحاء العالم لتهنئة السلطان الجديد، ولم يحضر أحد من إيران الصفوية عدوّة سليم، لكنّ سليم كان يعد العدّة نحو هدفه الواضح، وهو (لا جهاد ولا غزو في أوروبا) طالما أنّ الدولة الصفوية تنمو وتكبر، وستنازعه على بلاد الشرق أي بلاد العرب والكرد، ومن هذا الهدف نبعت استراتيجية عصر سليم، وهي القضاء على الدولة الصفويّة والنفوذ الشيعي في الأناضول.
بدأ سليم يحصر أسماء العلويين في الأناضول، فوجدهم 40000 نسمة واستفتى في قتلهم فأفتي له.
من هنا نرى أنّ حتى الافتاء لسفك الدماء كان في خدمة السلطان.
لقد استولى العثمانيون على الأقطار العربية وكردستان زمن سليم الأول بعد معركة مرج دابق عام 1516م، وضمنوا حكمهم على بلاد الشام والحجاز وكردستان والعراق، كما أدّى انتصارهم في معركة الريدانية عام 1517م إلى دخول مصر، وضمّها إلى تحت حكمهم، وأصبحت شمال أفريقيا تحت سيطرتهم، واستولى العثمانيون على العراق عام 1534 م في عهد سليمان القانوني.
لقد نهب العثمانيون خيرات الشعوب التي حكموها عنوة، وأخضعوها تحت سيطرتهم بقوة السلاح.
ومن سلبيات العثمانيين أنّ الدول الأوروبية الكبرى لا تنفكّ من التدخل في شؤون الدولة العثمانية بطرق وأساليب متعددة، وذلك استناداً إلى الامتيازات الأجنبية – هذه الامتيازات التي نشأت من الفرامين التي أصدرها سلاطين آل عثمان، والمعاهدات التي أبرموها في تواريخ مختلفة، وفي ظروف شتّى ومناسبات عدّة، وطبيعي أنّ البلاد العربية، وكردستان التابعة للدولة للعثمانية والمحكومة من سلاطين بني عثمان تأثرت كثيرا من التدخلات والمساومات مثل سائر الولايات العثمانية، بل وأكثر من معظم تلك الولايات.
وقد عانى الشرق في ظل الدولة العثمانية تخلّفاً في المجالين؛ الاقتصادي والاجتماعي. كما فرضت عليه العزلة السياسية والثقافية وبقي في معزل عن التيارات الفكرية العالمية، كل ذلك نتج عنه فقدان القدرة والعجز عن مجابهة أطماع الدول الاستعمارية التي بدأت بغزو الشرق منذ مطلع القرن التاسع عشر، ولم تكن لدى الدولة العثمانية القدرة على دفع الخطر عنه، وفي ظل السيادة العثمانية فقد الشرق كيانه الخاص، وعن طريق العثمانيين مارست أوروبا علاقتها مع بلاد الشرق، بل احتلته، واستعمرته، بسبب ضعف الدولة العثمانية وانحطاطها.
تأثير السياسة العثمانية على مر العصور وتسببُها بتدخل الغرب في الشرق
إلا أنّ تتابع الأحداث على الشرق أدّى إلى تنبيه الروح القومية والشعور بوطأة الحكم العثماني وضعفه بآن واحد، وعندما قامت الحرب العالمية الأولى رغب الحلفاء طمعاً في الاتفاق على تقسيم البلاد التابعة للدولة العثمانية ومنها كردستان والوطن العربي، وعقدت فيما بينها الاتفاقات السرية، وما إن انتهت الحرب حتى كان أكثر بلاد الشرق ينوء تحت استعمار جديد هو الاستعمار الأوروبي، وبذلك سلم الاستعمار العثماني في فترات ضعفه بلاد الشرق لاستعمار جديد هو الاستعمار الأوروبي الذي لم يتخلّص منه إلا بالدماء والشهداء والتضحيات المريرة.
ومن سلبيات العثمانيين أنّ الدولة العثمانية منحت امتيازات خاصة للدول الاستعمارية الأجنبية، وتعتبر معاهدة 1535م المعقودة بين فرنسا وتركية في عهد فرانسوا الأول وسليمان القانوني أساساً لجميع الامتيازات الأجنبية في تركية والأقطار التي تحكمها من بلاد الشرق وكردستان.
إلا أنّ هذه الامتيازات لم تكن لتؤدي في دور القوة والتوسع إلى التدخل الاجنبي في شؤون الدولة، لكن ما إن بدأ الضعف يدب في جسم الدولة العثمانية حتى بدأت بعض الدول الاوروبية بالاعتداء على السيادة العثمانية عن طريق هذه الامتيازات محاولة تحقيق أطماعها والحصول على المكتسبات الاقتصادية والسياسية وخاصة في المقاطعات والولايات التي تحكمها تركية من بلاد الشرق، لقد أثار العثمانيون الفتن الطائفية في الولايات من بلاد الشرق، لتبرهن للدول الأوروبية التي تقف بالمرصاد أنّ السكان عاجزون عن حكم أنفسهم.
ونتيجة السياسة العثمانية المتّبعة هاجمت النفوس بعضها البعض وبدأت الاصطدامات الطائفية دون أن يبذل الحكام الأتراك أيّ جهد لمنعها أو إيقافها بل على العكس، كانوا يزيدون عوامل التفرقة والإثارة.
فمثلا بدأت الحوادث بين الدروز والموارنة في بيت مري، وامتدّت إلى وادي التيم (حاصبيا وراشيا) وزحلة ودير القمر وانتقلت إلى دمشق، وقتل عدد من المسيحيين حتى كان موقف الوالي العثماني أحمد باشا لا يختلف عن موقف خورشيد باشا في لبنان.
يتبع