جميل رشيدمحور العدد 44 - الرأسمالية العالمية وحروب الشرق الأوسط

الدّورُ التركيُّ في سوريّا.. ومراحلُ تطوّره من النّصحِ إلى التدخّلِ العسكريّ المباشر

جميل رشيد

جميل رشيد

جميل رشيد
جميل رشيد

تميّزَ الدّورُ التركيّ في سوريّا، ومنذ بداية الثورة السّوريّة وتحوّلها إلى أزمة، بتعدّد مساراته وانقسامه على نفسه، ما خلق لها العديد من الإرباكات، في ظلّ غياب الشفافيّة والرؤية الواضحة، إلى جانب فقدانه لمصداقيّته. وبطبيعة الحال لا يمكن فصل هذه السياسة عن السياق العام للنهج التركيّ المتّبع إزاء الدّول التي شهدت ثورات شعبيّة مثل ليبيا ومصر وتونس. غير أنّه يمكن تقسيم الأهداف التركيّة في سوريّا إلى محورين أساسيّين، طالما اتّسمت بها السياسة التركيّة، الأوّل: أسلمة الثورة والإيغال في شرذمتها وبالتالي ضياعها في ضوء الاستقطابات التي أفرزها الحراك الثّوريّ، والثاني: معاداة أيّ توجّه كرديّ نحو نيل الكرد حقوقهم المشروعة في سوريّا، وصولاً إلى التورّط في احتلال أراضٍ سوريّة، تحت حجج ومسوّغات عديدة سوّقت لها.

سنحاول في القسم الأوّل من هذه الدّراسة، كشف الجوانب الرّئيسة في الاستراتيجيّة التركيّة في سوريّا، والمراحل التي مرّت بها، إضافة إلى تبِعاتها على واقع الأزمة السّوريّة، سياسيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً. مع كشف أبعاد هذا الدّور في إطالة أمد الأزمة السّوريّة وتعقيد حلّها، والرّوابط بين الدّور السلبيّ لتركيّا وأطماعها في سوريّا، كذلك إسهامها في إضفاء سمة الإرهاب على الثّورة السّوريّة وحرفها عن مسارها الحقيقيّ.

المنهج الذي سنحاول أن نتّبعه في الدّراسة، سيعتمد بالدّرجة الأولى على المنهج التحليليّ الوصفيّ، والتاريخيّ، إلى جانب الأخذ بمعطيات المنهج السياسيّ في الاستقصاء وغور مكامن هذا الدّور، بما يتعلّق بطبيعته وتكوينه، حيث أنّه شهد طفرة نوعيّة، بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. وهذا يسري على معظم أقسام الدّراسة، من حيث تغيّر طبيعة الصراع على سوريّا وأدواته، إلى حدّ ما.

مقدمة

تعريف:

الدّور وإسقاطاته: يجمع المفكّرون الثلاثة (هيرمان، هيدسون وسنكر) في كتابهم الصادر عام 1985 على تعريفٍ واحد لمفهوم الدّور، على ” أنّ له بعد اجتماعيّ – سيكولوجيّ بالدّرجة الأولى، وهو أمر يتعلّق بالفرد وحده “. وإذا ما أسقطنا هذا التعريف على السياسة والدّول، فإنّنا نستنتج أن الدّور يعبر عن “سلوك سياسيّ خارجيّ” بالدّرجة الأولى.

لكن التعريف الدّارج للدّور؛ بأنّه “نمط من الدّوافع والأهداف والمعتقدات والقيم والاتّجاهات والسلوك، التي يتوقّع أعضاء الجماعة رؤيتها كردود أفعال تجاه ما يجري من أحداث سياسيّة أو اقتصاديّة او اجتماعيّة”. وهو يقوم على العلاقات، كما أنّه هادفٌ وتراكميٌّ ومرتبط بالحيّزَين الزّمانيّ والمكانيّ. مثلاً دور شخص ما يختلف في مكان وزمان ما عن آخر في زمان ومكان آخرين.

على العموم، يمكن فهم الدّور لغويّاً بدلالة الحركة في محيط أو بيئة معيّنة.

فيما يؤكّد ثيودروسون (Theodroson) بأن الدّور هو: “نموذج للسلوك مبنيّ على حقوق وواجبات الدّور بمجموعة من التوقّعات من جانب الآخرين، ومن جانب الشخص نفسه عن سلوكه”.

هدفنا من تقديم هذا التعريف، التوصّل إلى أبعاد الدّور التركيّ في سوريّا، وانعكاساته السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة في سوريّا والمنطقة ككلّ، وإمكانيّة تبسيط فهم هذا الدّور على ضوء تلك التعاريف والمنهج الذي اتّبعناه في البحث.

مدخل إلى البحث:

تعود الخلافاتُ بين الدّولة التركيّة وسوريّا إلى عقود طويلة، وهي تضربُ بجذورها إلى بدايات القرن المنصرم إثر انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة، وتشكُّلِ الجمهوريّة التركيّة على يد مصطفى كمال أتاتورك، وانسياقه مع الغرب مقابل انسلاخه عن العالم الشرقيّ.

لا شكّ أنّ الحدودَ المشتركة الطويلة بين سوريّا وتركيّا والتي تبلغ (900) كم تقريباً، لها أهميّتها في الحسابات الجيوستراتيجيّة، وللبلدين معاً. كما أنّ سوريّا تشكّل بوّابة تركيّا نحو العالم العربيّ.

تأجّجت الخلافاتُ في فترة إلحاق لواء إسكندرون بالأراضي التركيّة رسميّاً عام 1939 عبر تفاهمات توصّل إليها أتاتورك مع كلّ من فرنسا وبريطانيّا، بعد أن قسّمتا منطقةَ الشرق الأوسط وفقَ مسطرة وزير خارجيّتيهما في اتّفاقيّة سايكس – بيكو. كما أنّ الخلافات شهدت تصاعداً على تقاسم الحصص على مياه نهر الفرات، بعد أن أطلقت تركيّا مشروع غاب (Gap) لإقامة 22 سدّاً على مياه نهري دجلة والفرات، ممّا قلّل من حصص كلّ من سوريّا والعراق، باعتبارهما دولاً متشاطئة، ولها حقوق مشروعة في تقاسم مياه النهرين وفق القانون الدّوليّ، واستخدمتها تركيّا ورقة ضغط على سوريّا للحصول على تنازلات. علاوة على الاتّهامات التي ساقتها تركيّا ضدّ سوريّا بإيواء حزب العمّال الكردستانيّ ودعمه. 

بداية لا يمكن الإحاطة بالدّور التركيّ في سوريّا بشكل واسع ومعرفة ماهيّته، دون المرور بالمحطّات التي مرّ بها، ومستويات التفاعل والانخراط التركيّ مع الحدث السّوريّ، بكلّ تفاصيله الدقيقة، والتحرّك الذي شهده هذا الدّور، طرداً مع احتدام التدخّل الإقليميّ والدّوليّ في الثّورة السّوريّة، حيث لا يمكن الفصل بين هذا التدخّل، وعلى كافّة الصعد، وبين ما آلت إليه الأوضاع في سوريّا.

لهذا يمكن تقسيم الدّور التركيّ في سوريّا إلى عدّة مراحل:

1– مرحلة إسداء النُصُح للنظام: استناداً إلى العلاقات المتينة والشخصيّة التي كانت تربط القيادتين السّوريّة والتركيّة، بادر رئيسُ الوزراء التركيّ آنذاك رجب طيّب أردوغان، إلى التدخّل في الشأن السّوريّ، والتحدّث إلى الرّئيس السّوريّ بشّار الأسد، ناصحاً إيّاه بتلبية مطالب الجماهير التي خرجت في تظاهرات ضدّ نظامه، بدءاً من أحداث درعا. وتكرّرت المحاولة أكثر من مرّة، إلى أن أرسل في 06/04/2011 وزير خارجيّته أحمد داود أوغلو على رأس وفد، حمل معه رسالة تضمّنت أربعة نصائح:

أ – عدم التأخير في تبنّي الإصلاحات المنشودة وتطبيقها، مع ضرورة الانفتاح على المعارضة، وأنّ ذلك من شأنه أن يؤمّن الاستقرار السياسيّ المطلوب.

ب – ضرورة الانفتاح على العامّة، وشرح البعد الإيجابيّ للعلاقة مع السنّة.

ج – استعداد تركيّا لتأمين الدّعم اللازم للعمليّة الإصلاحيّة كلّها.

د – ضرورة الانتباه إلى ما يجري في المنطقة، وألا يقتصر فقط على النموذجين المصريّ والتّونسيّ، وأنّ الأوضاع في سوريّا قد تؤثّر على المنطقة.

ونقلت عدّة مصادر سياسيّة وإعلاميّة، سوريّة وتركيّة وعالميّة، آنذاك تأكيدات بمحاولة تركيّا فرض جماعة “الإخوان المسلمين” السّوريّة على النظام السّوريّ وتمثيل تركيّا “للسنّة”، عبر إشراك الإخوان في الحكم، وحينها ستنتهي الأزمة فوراً.

جاء تأكيد النظام على الطلب التركيّ هذا بعد أكثر من سبع سنوات على الأزمة، حيث تحدّث مفتي سوريّا، أحمد بدر الدّين حسّون، عن لقاء قديم جمع بينه وبين الرّئيس التركيّ، رجب طيّب أردوغان، قبيل انطلاق الثّورة السّوريّة.

وقال في لقاء مع قناة “النجباء” العراقيّة، الجمعة 9 تشرين الثاني 2018، إنّه التقى بأردوغان في العاصمة أنقرة مطلع عام 2011، وأبدى الرّئيس التركيّ استعداد بلاده لمساعدة سوريّا في حال شهدت “فتنة”، وذكر حسّون أنّ أردوغان قال له حينها “الرّبيع العربيّ قادمٌ إليكم”.

وأضاف أنّه حين نقل كلام أردوغان إلى بشّار الأسد، قال الأسد “ قل له إنّنا لا نريد منه مساعدة، وإنّما نريد أن يرفعَ بلاءه عنّا ”.

ووفق بعض المتخصّصين بشؤون الحركات الإسلاميّة، فإنّ الأسد كانت لديه معلومات بأنّ تركيّا تجهّز جماعة “الإخوان المسلمين” التي يدعمها أردوغان ويترّأس تنظيمها العالميّ، للقيام بعمل عسكريّ في سوريّا. ويضيف “حسّون” أنّه استغرب من ردّ الأسد؛ خاصّة أنّه وقتها كانت العلاقات السّوريّة – التركيّة في أوج تحسّنها.

ووفق رواية حسّون، برّر الأسدُ ذلك بقوله “ما جاء مرّة أو ذهب (أردوغان) إلا وطلب منّا أن نسمحَ للأحزاب الدينيّة أن تعود للتشكيل في سوريّا”، في إشارة إلى “الإخوان المسلمين”، وتابع “كان الأسد يردّ عليه بقوله لا يجوز أن نخلط الدّين في الأحزاب السياسيّة وأن نشوّه الدّين”.

سعت تركيّا منذ بداية الاحتجاجات إلى الحفاظ على قنوات الاتّصال السرّيّة مع النظام السّوريّ، نظراً لأهمية سوريّا في الخارطة الاقتصاديّة التركيّة، وتشعّب العلاقات السياسيّة والأمنيّة بينهما.

لكنّ الرفض القاطع من جانب النظام السّوريّ للدّعوات التركيّة في إشراك الإخوان المسلمين في الحكم، جعل الموقف التركيّ يأخذ منحى تصاعديّاً أكثر فأكثر، بموازاة إيغال النظام في نقل الثورة إلى العسكرة، وهو ما كانت تركيّا تحضّر له، بالتشارك مع عدّة قوى إقليميّة ودوليّة. وبدأت تركيّا بإقامة مخيّمات للّاجئين السّوريّين على حدودها مع سوريّا حتّى قبل أن ينزح الأهالي عن بيوتهم.

2– مرحلة ممارسة التهديدات والضغوط واحتضان المعارضة:

حاولت تركيّا استغلال علاقاتها الجيّدة مع النظام السّوريّ قبل الأزمة، وسوّقت لمفهوم أُريد له أن ينال موافقة وقبولاً لدى الدّول المهتمّة بالشأن السّوريّ، وصولاً إلى ما يشبه نيلها تفويضاً باسم المجتمع الدّوليّ، في التأثير على النظام السّوريّ، للعدول عن ممارساته تجاه الاحتجاجات والمتظاهرين. إلا أنّ النظام السّوريّ، أدرك مبكّراً الأهداف والمرامي التركيّة من وراء اهتمامها المتزايد بالشأن السّوريّ.

طرأ انقلاب تدريجيّ، وإلى حدّ ما مفاجئ، في لهجة الخطاب التركيّ الموجّه للنظام السّوريّ، تزامناً مع توثيق علاقاتها مع دولة قطر، والتنسيق معها في إدخال مجموعات إسلامويّة متطرّفة إلى سوريّا، أوّلها كان ترحيل 60 مقاتلاً من ليبيا إلى تركيّا عام 2011، بقيادة عبد الحكيم بلحاج القياديّ في تنظيم القاعدة والمرتبط بعلاقات قويّة مع تنظيم الإخوان المسلمين، ووصولهم إلى منطقة أنطاكيا (هاتاي بالتركيّة) وتسهيل قوّات الأمن التركيّة دخولهم إلى سوريّا.

لم تدم طويلاً فترة إسداء تركيّا النُصح للنظام السّوريّ، وكان اللّافت في تغيّر الموقف التركيّ، توجّه كافة القيادات العسكريّة والسياسيّة التي انشقّت عن النظام إلى تركيّا، واحتضانها لمعظم القوى المعارضة للنظام السّوريّ. وتوّج بعقد مؤتمر للمعارضة السّوريّة في مدينة أنطاليا التركيّة بتاريخ 31 مايو / أيّار 2011 حضره قرابة 300 من الشخصيات التي تنتمي إلى مختلف أطياف المعارضة، وأبرزها جماعة الإخوان المسلمين.

لقد كتب حينها الكاتب الصحفيّ في صحيفة “الإندبندنت” روبرت فيسك “عن خطّة تركيّة للتوغّل في شمال سوريّا لمنع تدفّق الأكراد إليها”.

تتالت الرّسائل التركيّة، وعلى لسان كبار مسؤوليها وخاصّة رئيس الوزراء رجب طيّب أردوغان، في عدم السماح بتكرار حماة ثانية، في إشارة إلى المذبحة التي ارتكبها النظام السّوريّ إبّان أحداث الثمانينات من القرن الماضي عندما أعلنت جماعة الإخوان المسلمين التمرّد والعصيان عليه. وتوعّد أردوغان الرّئيس السّوريّ بأنّ الإيغال في سفك الدم السّوريّ خطّ أحمر، وأنّهم لن يسمحوا له باستباحة دماء المسلمين. أعقبها تسليم تركيّا للضابط المنشقّ عن النظام حسين هرموش والذي أسّس النّواة الأولى لقوّة عسكريّة معارضة في 15 سبتمبر/أيلول عام 2011. واتّهم المعارض السّوريّ مصطفى قسّوم والذي كان قد اختطف مع هرموش، جماعة الإخوان المسلمين بالتنسيق مع المخابرات التركيّة باختطافهما، وتسليمهما إلى المخابرات السّوريّة.

واتّهم قسّوم أشخاصاً ومسؤولين أتراك من بينهم غزوان المصري، مستشار الرّئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان لشؤون المخيّمات حالياً، وهو من أصل سوريّ مرتبط بجماعة الإخوان وحاصل على الجنسيّة التركيّة.

كما اتّهم العقيد رياض الأسعد الضابط السّوريّ المعارض المعروف، والذي استلم في وقت سابق قيادة ما سمّي حينها بـ «الجيش السّوريّ الحرّ» بالضلوع في عمليّة تسليمه مع حسين هرموش إلى النظام السّوريّ عبر المياه الإقليميّة بين تركيّا وسوريّا.

وقال مصطفي قسّوم إنّ المقدّم هرموش أخبره أثناء عمليّة الاختطاف أنّ رياض الأسعد وراء الاختطاف.

لم يكترث النظام السّوريّ للدّعوات التركيّة في احتواء الأزمة، رغم محاولة الأخيرة احتواء النظام والدّفع باتّجاه تهدئة ومصالحة مع حركة الإخوان المسلمين، وتلك الإشارات الصادرة من رأس السلطة في تركيّا، دفعت النظام السّوريّ إلى تعويم مسألة القتل وتحشيد القوّات في مختلف المناطق التي كانت تشهد احتجاجات، قابله تسهيلات تركيّة متزايدة لمختلف القوى المعارضة في التحضير لمرحلة قادمة سمتها الأساسيّة؛ الردّ العسكريّ وتدحرج الثورة نحو العسكرة والحرب الأهليّة والطائفيّة والمذهبيّة.

التطوّر في المشهد العسكريّ في سوريّا، وانتقال الاقتتال العسكريّ من الجامع العُمَري في درعا إلى مختلف المدن والقرى السّوريّة، باستثناء مدينة حلب، التي ظلّت هادئة نسبيّاً وبعيدة عن مسرح الأحداث حتّى شهر تمّوز من عام 2012، أوصلت معها العلاقات التركيّة – السّوريّة إلى نقطة افتراق أساسيّة واللا عودة، تمثّلت في اتّخاذ تركيّا مواقف أكثر حدّيّة تجاه النظام وإغلاق سفارتها في دمشق بتاريخ 26 آذار عام 2012، حتّى وصل بالرّئيس التركيّ إلى أن ينتقد الرّئيس السّوريّ ويصفه “بأنّه سيغرق في الدّماء التي يسفكها”، مطالباً برحيل النظام، والتحضير لمرحلة ما بعد رحيله.

3– مرحلة المواجهة السياسيّة والدّعوة إلى رحيل النظام:

دخلت تركيّا على خطّ الأزمة السّوريّة بكلّ قوة، بعد تزايد وتيرة العنف الدّمويّ وسلوك النظام طريق الحسم العسكريّ طريقاً للانتصار على المعارضة، التي بدورها انقسمت إلى كتائب وفصائل متعدّدة، تكاثرت وانتشرت في الجغرافيا السّوريّة كالباراميسيوم، وشرعت تبحث عن فضاءات وجهات تؤمّن لها الدّعم العسكريّ واللوجستيّ. فوجدت في تركيّا أفضل حليف لها، بعد تكشّف الموقف التركيّ وإسراعه في تنفيذ شروط ومطالب الدّول الغربيّة في فرض عقوبات على النظام، والدّعوة إلى تنحّي رئيسه. وفي تصريح لوزير الخارجيّة التركيّ آنذاك أحمد داود أوغلو، قال فيه بأنّ ” الحديث مع النظام السّوريّ انتهى”.

تحرّكت تركيّا بأكثر من اتّجاه، في محاولة لإقناع المجتمع الدّوليّ، وخاصّة حلفاء النظام روسيّا وإيران، بضرورة الضغط على النظام السّوريّ، وتحويل القضيّة إلى مجلس الأمن الدّوليّ، لاستصدار قرار ملزم تحت البند السابع، يقضي برحيل النظام.

دأبت تركيّا على الاستثمار في الثّورة السّوريّة، التي تحوّلت إلى أزمة وحرب أهليّة وطائفيّة ومذهبيّة مقيتة، وفرض أجنداتها السياسيّة وتوجّهاتها الإسلامويّة على هياكل المعارضة السّوريّة، التي هي بدورها وجدت تركيّا الملاذ الآمن لممارسة نشاطاتها وعملها العسكريّ انطلاقاً من أراضيها.

تركيّا العضو في حلف الناتو، والتي لها علاقات سياسيّة واقتصاديّة مع العديد من الدّول الغربيّة، سعت بكلّ قوّة إلى الاستفادة من هذه العلاقات وتوظيفها بما يخدم أجنداتها وأهدافها في سوريّا، فأقنعت أمريكا ومعها أوروبا في إنشاء غرفة عمليّات “موم” على أراضيها في مدينة “عنتاب” لدعم المعارضة السّوريّة، بالتزامن مع إنشاء غرفة عمليّات “موك” في عمّان بالأردنّ، ضمن البرنامج الأمريكيّ لتدريب (4) آلاف عنصر من المعارضة السّوريّة، مع استبعاد وحدات حماية الشعب منه.

غير أنّ البرنامج الأمريكيّ مُنِيَ بالفشل الذّريع، نظراً لاعتماده على تركيّا في انتقاء الفصائل والعناصر التي تعتبرها أمريكا “معتدلة”، بعد استفحال موجة التطرّف الإسلامويّ في سوريّا، وتحوّلها إلى ساحة تعجُّ بكافّة صنوف العناصر المتشدّدة القادمة من العالم.

ما حصل عام 2015 مع مجموعة ما كانت تسمّى حينها بـ” الفرقة 51 مشاة” من الجيش السّوريّ الحرّ، والمشمولة ببرنامج التدريب والدّعم الأمريكيّ، خيرُ دليلٍ على اتّجاهات الدّور التركيّ في سوريّا، حيث وبعد أن أنهت تلك المجموعة التي كان يرأسها العقيد “نديم الحسن”، أدخلتها القوّات التركيّة بالتنسيق مع أمريكا، الأراضي السّوريّة عبر معبر باب السلامة. وفور دخولهم، أُعلِنَ أنّ “جبهة النصرة” قد اختطفت “الحسن” ومعه (11) عنصراً، وبحوزتهم كميّات هائلة من الأسلحة والعتاد الأمريكيّ والعربات العسكريّة، تلاها اختطاف تسعة عناصر آخرين. ولكن سرعان ما اكتشف أنّهم لم يختطفوا، بل عادوا إلى صفوف تنظيم جبهة النصرة، واستقرّوا في منطقة “الشوارغة” التابعة لعفرين، فعمدت الطائرات الحربيّة الأمريكيّة إلى قصف مواقعهم وقتل أكثر من 60 عنصر منهم.

هذا غيضٌ من فيضٍ الدّور التركيّ في احتضان المجموعات المتطرّفة في سوريّا، ومدّها بكافّة أنواع الدّعم والمساندة.

4– تركيّا والاستثمار بورقة اللّاجئين السّوريّين:

فتحت تركيّا حدودها على مصراعيها أمام اللّاجئين السّوريّين الفارّين من هَول العمليّات العسكريّة التي شملت معظم الأراضي السّوريّة، وأنشأت عدّة منظمات إغاثيّة لغوث اللّاجئين السّوريّين على أراضيها، أبرزها منظّمة (AFAD) التي يرأس إدارتها “فواد أتكاي”، ومنظّمة (IHH) التابعة مباشرة للاستخبارات التركيّة، ومنظّمة (TIKA) التابعة لرئاسة الجمهوريّة بشكل مباشر.

يتوزّع اللّاجئون السّوريّون في تركيّا ضمن 13 مخيّماً، وهي مخيّمات: “أورفا، كلّس، غازي عنتاب، قهرمان ماراش، الإصلاحيّة، بخشين 1، بخشين 2، ييلاداغي 1، ييلاداغي 2، التتوز، العثمانيّة، كوفتشي، آدي يامان). وفي سوريّا أنشأت عدّة مخيّمات، منها: “مخيّم أطمه، مخيّم قاح، مخيّم باب الهوى، وعدّة مخيّمات أخرى في إعزاز منتشرة على طول الشريط الحدوديّ”. ووصل عدد اللّاجئين السّوريّين على الأراضي التركيّة عام 2016 إلى نحو (3.5) مليون، حسب الادّعاءات التركيّة، ولكن لا توجد إحصائيّات رسميّة من جهات محايدة كالأمم المتّحدة مثلاً.

استخدمت تركيّا أزمة اللّاجئين السّوريّين كورقة ابتزاز ضدّ الدّول الأوروبيّة، حيث فتحت حدودها لهم عام 2015، ما أدّى إلى وصول مئات الآلاف منهم إلى دول الاتّحاد الأوروبيّ، حيث وصل إلى ألمانيا وحدها ما يقارب من مليون لاجئ، ما اضطرّت معه دول الاتّحاد الأوروبيّ إلى دفع حوالي 3 مليارات دولار إلى الحكومة التركيّة، مقابل إغلاق الأخيرة حدودها أمام تدفّق اللّاجئين إلى أوروبا.

التسهيلات التي قدّمتها تركيّا للّاجئين للوصول إلى أوروبا، كانت وراء عدم تفكيرهم العودة إلى وطنهم سوريّا لاحقاً، وهو ما يهدّد بنزيف بشريّ هائل لا يقلّ خطورة عن أعداد القتلى ممّن سقطوا في الصراع، خاصّة إذا ما أدركنا أنّ غالبيّة اللّاجئين هم من الأكاديميّين وذوي الخبرات. وأقدمت تركيّا مؤخّراً على منح الجنسيّة التركيّة لعدد من اللّاجئين السّوريّين على أراضيها، وأعلن وزير الدّاخليّة التركيّ “سليمان صويلو” في 19 يناير / كانون الثاني 2019 في تصريح لوكالة أنباء الأناضول خلال اجتماع حول أمن الانتخابات المحلّيّة “أنّ السّوريّين الذين حصلوا على الجنسيّة فقط يستطيعون التصويت في الانتخابات المحلّيّة المقرّرة بالبلاد نهاية مارس/ آذار المقبل”. وقال صويلو: “أعداد السوريّين ممّن حصلوا على الجنسيّة التركيّة 79820 سوريّ”.

وأهداف تركيّا من منح الجنسيّة للاجئين السّوريّين على أراضيها، متعدّدة أقلّها كسب أصواتهم خلال الانتخابات المحلّيّة والتشريعيّة والرّئاسيّة، وصولاً إلى استخدامهم ورقة في إلحاق أراضٍ سوريّة بتركيّا.

5– العلاقة بين تركيّا وجماعة الإخوان المسلمين:

انتعشت آمال تركيّا أكثر حينما استلمت جماعة الإخوان المسلمين مقاليد الحكم في مصر، وقبلها حركة النهضة الإسلاميّة في تونس، الأمر الذي سوّقت له أمريكا والدّول الأوروبيّة، في اقتداء الدّول التي انتصرت فيها الثّورات الشعبيّة بالنموذج التركيّ كـ”إسلام معتدل”، ما شجّع تركيّا على ركوب موجة ثورات ربيع الشعوب.

ومن الضروريّ تبيان مقوّمات فكر الإخوان المسلمين الذي يستند على الأهداف والمحدّدات التالية:

أ – الإسلام نظامٌ شاملٌ متكاملٌ بذاته، وهو السبيل النهائيّ للحياة بكلّ جوانبها، وقابلٌ للتطبيق في كلّ مكان وزمان، من خلال الدّعوة والتربية.

ب – يتضمّن المنهج الإخوانيّ برنامجاً جامعاً شاملاً، يُرسي قواعد الفكر والعقيدة، ويُعدُّ للعلاقة بالآخر، ويسعى لتحقيق التكامل بين الدّين والدّولة، وفي إطار أحكام الشريعة الإسلاميّة والعودة إلى القرآن الكريم والحديث الشريف.

ج – تلتزم جماعة الإخوان المسلمين بفريضة الجهاد.

د – يتحقق الدّور الحضاريّ من خلال السيادة والأستاذيّة في العالم.

هـ – حقيقة الدّين هي ما يفسره قول الرّسول: “من بدّل دينه فاقتلوه”.

وتعتبر العديد من الدّول جماعة الإخوان حركة إرهابيّة، منها “مصر، سوريّا، السعوديّة، روسيّا، الإمارات، كندا، دول منظّمة معاهدة الأمن الجماعيّ وتضمّ كلاً من “أرمينيا، قرغيزيا، أوزبكستان، كازاخستان”.

فيما يعتبر الرّئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان نفسه زعيم التنظيم العالميّ للإخوان المسلمين، التي ترتبط بها “هيئة علماء المسلمين العالميّة” والتي يرأسها المصريّ “يوسف القرضاوي” وأسّستها قطر.

ومنذ مؤسّس جماعة الإخوان المسلمين “حسن البنّا”، وهم ينظرون إلى تركيّا على أنّها دولة الخلافة، وأنّها مصدر حماية الأمّة الإسلاميّة من التشتّت والتشرذم، ولذلك يعملون معها على عودة الخلافة إليها مرّة أخرى.

هذا الاستعراض التاريخيّ للعلاقة التكوينيّة للإخوان مع تركيّا، تفيد في فهم الكثير من التعقيدات على السّاحة السّوريّة في دراستنا، وهي تستند إلى عدد من الوقائع والأحداث.

مع اشتداد وقع الصراع في سوريّا، طالبت تركيّا مراراً وتكراراً بإنشاء منطقة عازلة على الشريط الحدوديّ، بزعم إيواء النازحين السّوريّين فيها، إلى مطالبتها فرض منطقة حظر جوّيّ، وهو ما أملته على المعارضة السّوريّة لاحقاً، لترفعها شعارات في أيّام الجمعة عند خروجها للتظاهر، حيث كانت معظم التسميات التي تطلق على التظاهرات تصدر من تركيّا ومن قبل جماعة الإخوان المسلمين تحديداً، وفق معارضين سوريّين تركوا العمل في الهياكل السياسيّة التي أنشأتها تركيّا مثل المجلس الوطنيّ السّوريّ.

انخرطت تركيّا على كافّة المستويات في مفاصل الأزمة السّوريّة، وعزّزت حضورها السياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ، خاصّة بعد اندلاع ثورة التاسع عشر من تموز عام 2012 في روج آفا، التي قادها كرد سوريّا، ومحاولاتها الحثيثة عرقلتها وإجهاضها بكلّ الوسائل والسُبُل الممكنة.

وقامت تركيّا مع السّعوديّة وقطر بتوفير الأسلحة للمعارضة، وأنشأت تحالفات قويّة مع حركة أحرار الشّام ونور الدّين الزنكيّ والسلطان مراد ولواء التوحيد، وضمّتهم لاحقاً ضمن قوّات “درع الفرات”، واستخدمتهم في محاربة الكرد. ولم تستطع قيادات تلك الفصائل رفض الإملاءات التركيّة، لأنّ تمويلهم بمعظمه كان من تركيّا. وفتحت تركيّا للجيش السّوريّ الحرّ معسكرات تدريب على أراضيها، أهمّها معسكر في آدي يامان وآخر في “آبايدين” في منطقة إسكندرون، ومعظم تلك الفصائل المسلّحة تعود بمرجعيّتها وتنظيمها إلى جماعة الإخوان المسلمين، وخاصّة تلك التي تنتهي أو تبدأ بكلمة “الشّام”.

6– تركيّا و”داعش”:

كان ظهورُ تنظيم “داعش” على مسرح الأحداث في سوريّا والعراق، التطوّرَ الأبرز، بعد أن تمكّن من السيطرة على 60% من الجغرافيا السّوريّة وقسم كبير من العراق، وسقوط مدن كبرى تحت سيطرته مثل الموصل والرّقّة التي اعتبرها عاصمة لدولة خلافته. وكشفت العديد من المصادر السياسيّة والعسكريّة والإعلاميّة انغماس تركيّا في دعم “داعش”، عبر فتح حدودها على مصراعيها أمام دخول عناصره القادمين من مختلف أنحاء العالم، فضلاً عن معالجة جرحاه في المشافي التركيّة. والفضيحة التي مُنِيَت بها تركيّا، كانت في اعتقال موظّفي قنصليّتها العاملين في مدينة الموصل العراقيّة في 11 يونيو / حزيران 2014، ومن ثمّ الإفراج عنهم في ظروف غامضة ودخولهم الأراضي التركيّة عبر معبر تل أبيض الحدوديّ، حينما كان تحت سيطرة التنظيم. وهذه تعتبر سابقة غير معهودة لدى تنظيم داعش، حيث لم يُفرج عن أيّ من معتقليه، بل أعدم أسراه بطرق وحشيّة ومثّل بجثثهم.

فتحت تركيّا علاقاتٍ تجاريّة واسعةً مع تنظيم “داعش” من خلال صفقات تهريب النفط الذي سيطر التنظيم على حقولها في سوريّا والعراق، حيث نشرت وزارة الدّفاع الرّوسيّة بتاريخ 02 ديسمبر / كانون الأوّل 2015 صوراً تثبت تهريب أرتالٍ من الشاحنات والصهاريج تنقل النفطين السّوريّ والعراقي عبر الحدود إلى الأراضي التركيّة، مقابل توريدات الأسلحة والذّخيرة، حسبما نشر تلفزيون روسيّا اليوم (RT)، وأكّدت فيما بعد أن نجل الرّئيس أردوغان وصهره بلال وبيرات ألبيراق يشرفان بشكل مباشر على تهريب النفط، مقابل أسعار زهيدة جدّاً.

وقبلها كشفت صحيفة “جمهوريت” التركيّة عام 2016 والتي كان يرأسها حينذاك الصحفي جان دوندار تسجيلاً مصوّراً يظهر فيه وكالة الاستخبارات التركيّة المعروفة باسم الـ(الميت) تنقل أسلحة إلى جبهة النصرة عبر معبر باب الهوى الحدوديّ مع سوريّا، ما حدا بأردوغان إلى الضغط على القضاء والمطالبة بالحكم عليه بالسّجن، بتهمة إفشاء أسرار الدولة. 

7– الاستدارة في الموقف التركيّ بعد إعلان الإدارات الذّاتيّة في روج آفا ومعركة كوباني:

تدرّج الموقف التركيّ في سوريّا بالتدحرج، وعبر عدّة مراحل، وتباين وقف متطلّبات الأجندة التركيّة في سوريّا، ليظهر الوجه الحقيقيّ لإستراتيجيتها، مع تطوّر الصراع العسكريّ، وانفراد الكرد في سوريّا / روج آفا، بتجربة خاصّة بهم، واتّخاذها خطّاً مغايراً عن المعارضة والنظام على حدّ سواء، عبر طرح برامجهم الخاصّة المتمثّلة بالإدارات الذّاتيّة الدّيمقراطيّة في روج آفا.

مع الإعلان عن الإدارات الذّاتيّة في مناطق روج على التوالي، بدءاً من 22/01/ 2014 انجلى الموقف التركيّ على حقيقته، ورويداً رويداً انحصر في معاداة التجربة الفتيّة، عبر استخدام كتائب من الجيش الحرّ، في شنّ هجمات متتاليّة على مناطق روج آفا، بدءاً من سري كانيه وليس انتهاءً بعفرين، وقبلها عند الإعلان عن تشكيل وحدات حماية الشعب والمرأة الـ(YPG) والـ(YPJ) عام 2012 و2013 على التوالي.

لكن المرحلة المفصليّة للدّور التركيّ السلبيّ في الأزمة السّوريّة، تمثّل في الانعطافة نحو دفع تنظيم داعش بشنّ هجوم شامل على مدينة كوباني. ومن مسافة قريبة من كوباني، حيث كانت تدور أشرس المعارك بين وحدات حماية الشعب والمرأة ضدّ تنظيم داعش، قال الرّئيس التركيّ أردوغان: “لقد سقطت كوباني، أو على وشك السقوط”.

كما لعبت تركيّا دوراً هامّاً في الحيلولة دون فتح القنوات الدّبلوماسيّة والعسكريّة أمام الكرد في سوريّا، مقابل استخدام قوّتها – كدولة إقليميّة – نفوذها في استبعاد الكرد وقواهم السياسيّة عن كافّة المحافل الدّوليّة لحلّ الأزمة السّوريّة.

وصل الدّور التركيّ في سوريّا إلى مرحلة التورّط مع إسقاط الطائرة التركيّة “سوخوي” في الأجواء التركيّة في 24 نوفمبر / تشرين الثاني 2015، ووصول الأزمة بين البلدين إلى مستويات خطيرة، تمثّل في تبادل الاتّهامات بين الدّولتين حول أدوارهما في سوريّا. وكشفت روسيّا وثائق هامّة حول تورّط تركيّا بدعم تنظيم “داعش” المصنّف على لوائح الإرهاب العالميّ.

لكن تركيّا أدارت بوصلتها نحو الكرد، وعرقلت أيّة مساعي نحو نيلهم حقوقهم المشروعة، عبر الضغط على أطراف المعارضة السّوريّة، في لجم الحراك الكرديّ في سوريّا، باستخدام كافّة الوسائل. فكانت تركيّا الدّاعم والمخطّط للكتائب والفصائل التي شنّت هجماتها على مناطق روج آفا.

غير أنّ انتصارَ مقاومة كوباني، أعادت حسابات تركيّا إلى المربّع الأول، من خلال كسب الأولى تعاطف المجتمع الدّوليّ، وعلى رأسها التّحالف الدّوليّ لمكافحة تنظيم داعش، الذي بدأ يفتح قنوات اتّصال مباشرة مع وحدات حماية الشعب، ودعمها عبر تقديم كافّة صنوف الأسلحة والعتاد، بعد أن أثبتت جدارتها في محاربة التنظيم الإرهابيّ، ما ولّد ردود فعل معادية لدى تركيّا، التي اتّهمت حليفتها بالناتو، الولايات المتّحدة الأمريكيّة، بدعم “قوى إرهابيّة” تزعزع الأمن القوميّ التركيّ، حسب زعمها. وهو ما لم تُعِرهُ الولايات المتّحدة اهتماماً، كون تلك الاتّهامات سياسيّة وكيديّة، الهدف منها تقويض الدّور الكرديّ في سوريّا، ومعاداة أيّ تطلّع كرديّ نحو الحرّيّة ونيل حقوقهم في سوريّا المستقبل.

أدرك الرّئيسُ التركيّ رجب طيّب أردوغان، أنّ الدّور التركيّ في سوريّا بدأ يضعف تدريجيّاً، إثر التناقضات التي أثارها مع روسيّا عقب إسقاط تركيّا للطائرة الرّوسيّة، ودعمها للمجموعات المتطرّفة مثل جبهة النصرة والحزب الإسلاميّ التركستانيّ وتنظيم داعش وكافّة الفصائل التي حملت راية المشروع الإسلامويّ في سوريّا، وحاربت قوّات النظام.

ارتداداتُ الدّور السلبيّ على تركيّا في سوريّا، انعكست في الدّاخل التركيّ، حيث حاول أردوغان بعد الانقلاب الفاشل في 15 تمّوز عام 2016، استغلاله في تصفية كافّة معارضيه، وإمساك البلاد بقبضة حديديّة، عبر قمع الحرّيّات وخاصّة الصحافة، وتسريح الآلاف من وظائفهم، بتهمة تأييد الانقلاب والمشاركة فيه. فيما عمد إلى شنّ حملة عسكريّة واسعة في مناطق كردستان، استخدم فيها الدبّابات والطائرات والمدافع في قصف المدن والقرى، وتعرّضت خمسة مدن رئيسة، سور في ديار بكر (آمد)، نصيبين، جزرة، شرناخ، وماردين، إلى تدمير شبه كامل، حيث قتل آلاف المدنيّين وهُجّرَ أكثر من 500 ألف من منازلهم، بعد أن أصبحت أطلالاً، إثر الدّمار الهائل الذي طالها. كما عمد أردوغان إلى اعتقال معظم النوّاب الكرد من حزب الشعوب الدّيمقراطيّ (HDP) بما فيهم رئيس الحزب صلاح الدّين دميرتاش، إضافة إلى رؤساء البلديّات من حزب الشعوب الدّيمقراطيّ.

8– تركيّا وعمليّة أستانه ومفهوم خفض التصعيد:

أدرك الرّئيسُ التركيّ جيّداً أن دور بلاده في سوريّا بدأ ينكمش، إثر دخول أمريكا في تحالفٍ مع الكرد، وفشل مراهنات الأولى على فصائل المعارضة السّوريّة من إحداث تغييرات في المشهد السياسيّ والعسكريّ لصالحها. فغيّر استراتيجيّته كلّيّاً، ليتحوّل إلى الضفّة الأخرى، عبر إجراء مصالحة مع روسيّا بوتين. فعقد الرّئيسان الرّوسيّ والتركيّ قمّة “المصالحة” بينهما في 10 آب 2016 في سانت بطرسبورغ، تعهّد فيها أردوغان لعب بلاده دوراً في استقرار سوريّا، فيما ارتأى بوتين إلى استثمار الدّور التركيّ وتأثيره على فصائل المعارضة السّوريّة، لإخراجها من المدن وبؤر التوتّر والصراع، بعدما عجزت طائراته وقوّات النظام وإيران وحزب الله مجتمعة، في ترجيح كفّة موازين القوّة لصالحهم.

فكانت الصفقة الأولى للتعاون الرّوسيّ – التركيّ في حلب، حيث تمكّن بوتين من إقناع الرّئيس التركيّ بالضغط على فصائل المعارضة، وخاصّة جبهة النصرة، لإخراجها من كافّة المناطق والأحياء التي تسيطر عليها في حلب، حيث كانت تسيطر على ما يقارب من ثلثي مناطق حلب. وشهد الشهر الأخير من عام 2016 خروج كافّة المسلحين تحت إشراف روسيّ – تركيّ مباشر إلى مناطق إدلب، وسُلّمت حلب بأكملها لقوّات النظام.

ويعتبر العديدُ من المراقبين أنّ أكبر ضربة تلقّتها المعارضة المسلّحة، كان في تسليم حلب إلى قوّات النظام. وفي هذا الصدد يقول الإعلاميّ والكاتب السياسيّ السّوريّ المعارض غسّان إبراهيم في حديث مع قناة الحدث العربيّة: “إنّ تركيّا باعت حلب على طبق من ذهب لروسيّا وقوّات النظام وإيران، لتتالى صفقات البيع والشراء بين روسيّا وإيران في أكثر من منطقة“.

استطاعت روسيّا تثبيط الدّور التركيّ في سوريّا عبر مسار أستانه، وعقدت أولى اجتماعاته بتاريخ 23 كانون الثاني 2017، برعاية ثلاث دول أساسيّة (روسيّا، تركيّا وإيران) وحضور مندوب أمريكيّ كمراقب، إضافة إلى المبعوث الدّوليّ للأزمة السّوريّة ستيفان ديميستورا، ووفدين من النظام والمعارضة.

عقد حتّى تاريخ 27 نوفمبر / تشرين الثاني 2018 إحدى عشر اجتماعاً في أستانه، تمكّنت روسيّا خلاله تحييد العديد من الفصائل عن ساحة المعارك، وفرض الاستسلام عليها لقوّات النظام، وتسليمها العديد من المناطق إلى قوّات النظام، مقابل إطلاق يد تركيّا في مناطق الشّمال السّوريّ ضدّ الكرد، بعد أن تمكّنت وحدات حماية الشعب في 26 كانون الثاني 2015 من طرد تنظيم داعش من مدينة كوباني وتحرير كامل ريفها، لتتبعها بتحرير مدينة تل أبيض الإستراتيجيّة بالنسبة لكلّ من الوحدات وتركيّا، حيث عبرها كان يدخل عناصر تنظيم “داعش” الأراضي السّوريّة، إضافة إلى إدخال النفط المهرّب من مناطق سيطرة التنظيم الأراضي السّوريّة، حيث يوجد فيها معبر رسميّ.

شكّل تمدّد وحدات حماية الشعب في المناطق الشّماليّة من سوريّا وتحريرها كامل مناطق روج آفا ومناطق أخرى من شمال سوريّا، هاجساً أقلق تركيّا ورئيسها أردوغان، خاصة مع محاولات الكرد وصل مناطقهم في الجزيرة السّوريّة مع كوباني وعفرين، إثر إعلانهم إداراتهم الذّاتيّة فيها، وهو ما اعتبرته تركيّا تهديداً لأمنها القوميّ، فبدأت تُعدُّ المخطّطات التي تحول دون تحقيق الحلم الكرديّ.

تعتبر اجتماعات أستانه نافذة لتركيّا لتحقيق مشاريعها على الأراضي السّوريّة، فكانت ثاني صفقاتها التوغّل في مناطق جرابلس والباب وإعزاز في 24 آب 2016 واحتلالها.

لعبت تركيّا دوراً هامّاً في استبعاد الكرد من كافّة المحافل الإقليمية والدّوليّة لحل الأزمة السّوريّة، في جنيف وأستانه، كما مارست ضغوطاً كبيرة على هياكل المعارضة السّوريّة التي تُقيم على أراضيها في تهميش الكرد، وعدم إشراكهم في أيّ من منصّاتها، مثل الإئتلاف الوطنيّ السّوريّ لقوى المعارضة السّوريّة، وكافّة المؤتمرات التي عقدت في الخارج.

إنّ الخلاف التركيّ الأمريكيّ على تقاسم الأدوار في سوريّا، دفع الأولى إلى التنسيق مع روسيّا وإيران في سوريّا على كافّة المستويات العسكريّة والسياسيّة والاقتصادية، فطوّرت معها صيغة تفاهمات أستانه، وفرض الرّوس مضامين التفاهمات على النظام، فيما روّضت تركيّا الفصائل المسلّحة للقبول بالشروط التي يضعها ما يسمّون بـ”رُعاة أستانه” بها. فأفرزت أستانه صيغة “مناطق خفض التصعيد” التي لاقت قبولاً أمريكيّاً إلى حدّ ما، وبموجبها توغّلت القوّات التركيّة في الأراضي السّوريّة، وانتشرت لتُقيم نقاط مراقبة في خطوط التّماس بين قوّات النظام والمعارضة، لتتطوّر هذه الصيغة وتصل إلى اتّفاق سوتشي الذي عقد في 17 سبتمبر / أيلول 2018، والذي تضمّن البنود التالية:

1– الإبقاء على منطقة خفض التصعيد في إدلب، وتحصين نقاط المراقبة التركيّة واستمرار عملها.

2– سيتخذ الاتّحاد الرّوسيّ جميع الإجراءات اللازمة لضمان تجنّب تنفيذ عمليّات عسكريّة وهجمات على إدلب، والإبقاء على الوضع القائم.

3– إقامة منطقة منزوعة السّلاح بعمق 15 – 20 كيلومتراً داخل منطقة خفض التصعيد.

4– إقرار حدود المنطقة منزوعة السّلاح سيتمّ بعد إجراء مزيد من المشاورات.

5– إبعاد جميع الجماعات الإرهابيّة الرّاديكاليّة عن المنطقة منزوعة السّلاح، بحلول 15 أكتوبر (تشرين الأوّل).

6– سحب جميع الدبّابات وقاذفات الصّواريخ المتعدّدة الفوهات والمدفعيّة ومدافع الهاون الخاصّة بالأطراف المتقاتلة، من داخل المنطقة منزوعة السّلاح بحلول 10 أكتوبر 2018.

7– ستقوم القوّات المسلّحة التركيّة والشرطة العسكريّة الخاصّة بالقوّات المسلّحة التابعة للاتّحاد الرّوسيّ، بدوريّات منسّقة وجهود مراقبة باستخدام طائرات من دون طيّار، على امتداد حدود المنطقة منزوعة السّلاح. والعمل على ضمان حرّيّة حركة السكّان المحلّيّين والبضائع، واستعادة الصلات التّجاريّة والاقتصاديّة.

8– استعادة حركة الترانزيت عبر الطريقين إم 4 (حلب – اللّاذقيّة) وإم 5 (حلب – حماة) بحلول نهاية عام 2018.

9– اتّخاذ إجراءات فاعلة لضمان نظام مستدام لوقف النار داخل منطقة خفض التصعيد في إدلب. في هذا الصدد، سيجري تعزيز مهام مركز التنسيق الإيرانيّ – الرّوسيّ – التركيّ المشترك.

10– يؤكّد الجانبان مجدّداً على عزمهما على محاربة الإرهاب داخل سوريّا بجميع أشكاله وصوره.

ظهر من خلال بنود الاتّفاق التزام تركيّ بترويض الفصائل المعارضة، خاصّة هيئة تحرير الشّام، وإقناعها بتسليم سلاحها والانسحاب من نقاط التّماس مع قوّات النظام مسافة 20 كم، وتأمينها الطريقين الدّوليّين، لكن الهيئة لم تنفّذ بنود الاتّفاق كاملة، أو أنّها وافقت عليها على مضض، الأمر الذي دفع روسيّا إلى منح تركيّا أكثر من مهلة لتنفيذ الاتّفاق، إلا أنّ تركيّا ماطلت، على العكس دعمت الفصائل الرّاديكاليّة مثل هيئة تحرير الشّام وحرّاس الدّين والحزب الإسلاميّ التركستانيّ.

واصلت تركيّا تنسيقها مع روسيّا وإيران ضمن إطار أستانه، ومكّنت الرّوس والنظام من استعادة العديد من المناطق الساخنة التي كانت بيد المعارضة، ولتَجمع كافّة الفصائل في محافظة إدلب التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشّام (جبهة النصرة سابقاً والتابعة لتنظيم القاعدة).

نقطة الخلاف الرّئيسيّة بين تركيّا وحليفتها التقليديّة الولايات المتّحدة الأمريكيّة، تركّزت في الخلاف على محاربة تنظيم “داعش” الإرهابيّ، ودعم قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، حيث شدّدت تركيّا على محاربتها لقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، التي تشكّل وحدات حماية الشعب والمرأة عمودها الفقريّ، حيث تملّصت تركيّا من محاربة تنظيم “داعش”. وفي هذا عارضتها أمريكا، واستمرّت في دعمها ومساندتها لقوّات (قسد) التي حرّرت العديد من المناطق من قبضة التنظيم، بما فيها عاصمته المزعومة الرّقّة.

9– تركيّا والتركمان:

تكثّفت أنشطة السلطات التركيّة فيما يخصّ التركمان. وفي بداية الاحتجاجات في سوريّا عام 2011 فرّ شخص يدعى “علي أوز تركمان”، وكان يشغل وظيفة مدّع عام، من سوريّا إلى تركيّا، وبمساعدة الأجهزة الأمنيّة التركيّة أسّس “حركة تركمان سوريّا” وضمّت 180 شخصيّة تركمانيّة سوريّة، جزء منهم من الشتات وجزء من اللّاجئين الجدد إلى تركيّا. وكان على رأس أهدافها “حماية التركمان في سوريّا”. ويجب ملاحظة الفرق بين “التركمانيّ” و”التركيّ”، حيث أنّ التركمان مواطنون سوريّون، وليس جميعهم يعيشون قرب الحدود السّوريّة – التركيّة، ولا نريد هنا أن ندخل في التفصيل التاريخيّ للفروقات بينهما، بقدر ما يهمّنا كيف استخدمتهم تركيّا مطيّة لتنفيذ مشاريعها في سوريّا.

لتركيّا اليد المباشرة وراء تشكيل التنظيمات العسكريّة التركمانية، مثل السلطان مراد، محمّد الفاتح، سليمان شاه.. وغيرها العديد من التشكيلات، التي توالدت كالفطر السّام في أزقّة وشوارع الأحياء الفقيرة في حلب وضواحيها، وخاصّة الحيدرية والهلك، حيث أغلبيّتهم التركمان يسكنون فيها، كما أنّ جميعها ترفع الشعارات والأعلام التركيّة، وتؤكّد ولاءها وانتماءها لتركيّا وليس لسوريّا.

استخدمت تركيّا الفصائل التركمانيّة في محاربة الكرد بالدّرجة الأولى، ومنحتهم امتيازاتٍ عن باقي أطراف المعارضة، حيث سلّمت قيادات الهياكل العسكريّة التي أنشأتها، مثل الجيش السّوريّ الحرّ، ولاحقاً الجيش الوطنيّ، إلى شخصيّات تركمانيّة مثل العقيد المنشقّ عن الجيش السّوريّ أحمد عثمان (مؤسّس فصيل السلطان مراد) وفهيم عيسى، وقائد فصيل سليمان شاه محمّد الجاسم المدعو بـ”أبو عمشه”، وقائد فصيل محمّد الفاتح “محمود سليمان زنغين”.

زجّت تركيّا الفصائل التركمانيّة بشكل مكثّف في عمليّاتها العسكريّة المباشرة في سوريّا، إن كانت عمليّة “درع الفرات” لاحتلال المناطق الممتدّة من جرابلس حتى إعزاز، أو “غصن الزيتون” في احتلالها لعفرين.

وأطلقت تركيّا العنانَ لتلك الفصائل لترتكب كافّة الموبقات بحقّ أهالي المناطق التي احتلّتها، من عمليّات القتل والخطف والنهب والاستيلاء على أموال وأملاك المدنيين، دون أن تطالبها بالمحاسبة.

ويمكن تقسيم التدخّل العسكريّ التركيّ المباشر في الشأن السّوريّ إلى مرحلتين رئيسيّتين:

1– مرحلة درع الفرات:

بعد أن فشل الرّهان التركيّ على الفصائل العسكريّة السّوريّة المسلّحة، في تنفيذ أجنداتها وكبح جماح وحدات حماية الشعب وقوّات سوريّا الديمقراطية، تدخّلت بشكل مباشر وعبر قوّاتها العسكريّة في الأراضي السّوريّة. فأطلقت عمليّة “درع الفرات”، وتزامن إطلاق العمليّة مع الذكرى الـ(500) لمعركة مرج دابق عام 1516 بقيادة سليم الأوّل، لم يكن مصادفة، بل ينمّ عن أطماع تركيّة في الأراضي السّوريّة ضمن مشروعها “الميثاق الملّليّ – القوميّ” الذي يعتبر مناطق حلب وحتّى الموصل أراضٍ تركيّة ولها الحقّ في استعادتها، انطلاقاً من المفهوم الذي تتحرّك وفقه تركيّا والذي تدّعي فيه بأنّ “حدود تركيّا حيث يصل الجنديّ التركيّ”، وهذا يماثل في مضمونه المشروع الإسرائيليّ القائل “حدودنا من النيل إلى الفرات”.

بدأت تركيّا عمليّاتها بتوغّل قوّاتها بشكل مباشر في الأراضي السّوريّة، وليس عن طريق أدواتها من الفصائل المحسوبة عليها، وبشكل مباشر، بذريعة تحريرها من تنظيم “داعش”، حيث كان الأخير ما يزال يسيطر على تلك المناطق. لكن الهدف الحقيقيّ كان فصل مناطق روج آفا، وقطع الطريق على وحدات حماية الشعب في وصل مقاطعة كوباني وعفرين، وتثبيت أقدامها في الأراضي السّوريّة، تنفيذاً لمشروعها المتمثل بالنيو عثمانية، والاستفراد بحصّة الأسد من الكعكة السّوريّة، خصوصاً أن العمليّة التركيّة جاءت بعد أيّام قليلة من طرد قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة تنظيم “داعش” من مدينة منبج.

لكن الثابت من خلال متابعة تطوّر الدّور التركيّ في سوريّا، أنّه تمحور حول نقطة واحدة؛ عدم تمكين الكرد من الحصول على أيّة مكتسبات، والإجهاز على ما حقّقوه خلال نضالهم طيلة السنوات المنصرمة من عمر الثّورة السّوريّة.

2– مرحلة عمليّة “غصن الزيتون” واحتلال عفرين:

لم تكفّ تركيّا عن توجيه تهديداتها إلى الإدارة الذّاتيّة الدّيمقراطيّة في روج آفا، وارتفعت لهجتها بعد الإعلان عن النظام الفيدراليّ في شمال شرق سوريّا، وتحرير قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة لمساحات شاسعة من الأراضي التي كانت تحت قبضة تنظيم “داعش” الإرهابيّ، ما شكّل استياءً كبيراً لدى تركيّا، تمثّل في تحضيرها لعمليّة عسكريّة على منطقة عفرين لاحتلالها على غرار مناطق جرابلس والباب وإعزاز.

الظروف التي شنّت فيها تركيّا عمليّتها على عفرين، حملت معها العديد من التوافقات الدّوليّة لصالح تركيّا. حيث ظلّ الدّور التركيّ في سوريّا وفي جوهره، منوطاً بالدّول الكبرى الفاعلة في الأزمة السّوريّة وعلى رأسها أمريكا وروسيّا ودول الاتّحاد الأوروبيّ. أي أنّها لعبت رأس حربة متقدّمة في سوريّا لتنفّذ ما لم تستطع تلك الدّول القيام به، من ترويض المعارضة وتدجينها، إلى ضرب البنية التحتيّة في سوريّا عبر تهريب ونقل آلاف المصانع السّوريّة إلى أراضيها، وتدمير مقوّماتها الاقتصاديّة.

ونظراً لمشاريعها وأجنداتها الخاصّة بها، ظهرت على الدّوام خلافات بينها وبين حلفائها، إن كانت روسيّا أو أمريكا. وتمكّنت من تثبيت دورها من خلال التحكّم بورقة الفصائل العسكريّة واستمالتها ودعمها. من جهة أخرى البراغماتيّة التي اتّصف بها رئيسها أردوغان، جعلته يقفز من شجرة إلى أخرى، ويغيّر من تحالفاته واصطفافاته أكثر من مرّة.

في عمليّة احتلال عفرين، تمكّن أردوغان من إقناع بوتين بجدوى سيطرته على عفرين، من خلال استغلاله التناقضات الرّوسيّة – الأمريكيّة في سوريّا، ونيل الضوء الأخضر الرّوسيّ في شنّ العمليّة. الصمت الأمريكيّ والأوروبيّ بدوره خدم تركيّا، وهو في جوهره يمثّل موافقة أمريكيّة ضمنيّة على تقليم أظافر الكرد قليلاً، وفرض بعض شروطها عليهم في شرق الفرات.

النظام السّوريّ وإيران ظلّا عاجزين عن التحرّك لوقف العمليّة التركيّة أمام الموافقة الرّوسيّة عليها، رغم تعارضها مع مصالحهما. فكان قرار شنّ العدوان على عفرين، أقرب إلى مؤامرة دوليّة، شاركت فيها العديد من الدّول، بشكل مباشر أو غير مباشر.

النتائج التي أفرزها احتلالها لعفرين، والممارسات الوحشيّة لقواته وللفصائل التابعة لها، قطعت الشكّ باليقين، أنّ لتركيّا مطامع استعماريّة في سوريّا، وأنّها ساعية إلى إلحاق عفرين بأراضيها، عبر مشاريع التغيير الدّيمغرافيّ والاستيطان، ومحو الهُويّة الكرديّة، واتّباعها سياسة “التتريك”، هذا عداك عن النهب المنظّم لكافة الموارد الاقتصاديّة الغنيّة التي لطالما تميّزت بها عفرين.

هذا الواقع الجديد الذي خلقته تركيّا باحتلالها لعفرين، مقابل الضغط على فصائل المعارضة الإسلامويّة في الغوطة، كصفقة متمّمة للصفقات التي سبقتها، أعادت تركيّا إلى المسرح السّوريّ، كلاعب إقليميّ قويّ تتحكّم بأكثر من ورقة، في سبيل تنفيذ أجنداتها، وأوّلها ضرب المشروع الدّيمقراطيّ في سوريّا والذي يقوده الكرد وكافّة المكوّنات في شمال شرق سوريّا، وثانيها، تنفيذ مشروعها النيو عثمانيّ المطعّم بالإسلامويّة، وذلك باستخدام ورقة الحركات الإسلامويّة الرّاديكاليّة، وفي مقدّمتها حركة الإخوان المسلمين وجبهة النصرة وداعش، هذا إلى جانب الاحتفاظ بمنطقة جغرافيّة حيويّة تحقّق لها قدراً أكبر من المناورة السياسيّة والعسكريّة لتستخدمها كمنفذ لها في تمدّدها الإقليميّ نحو الدّول العربيّة الأخرى وخاصّة دول الخليج العربيّ.

اعتقدت تركيّا بعد احتلالها لمنطقة عفرين، أنّها حقّقت نصراً إستراتيجيّاً، سمح لها بتقويض دور الكرد في سوريّا، وهو ما اعتبرته العديد من مراكز الأبحاث الإستراتيجيّة أنّه “نصرٌ زائف” سرعان ما ينعكس عليها سلباً، عاجلاً أم آجلاً، وبما يهدّد المنطقة بأكملها، ويفرض منطق القوّة على قوّة المنطق، ويكرّس لحالة شائعة في زعزعة أمن وسيادة الدّول، فضلاً عن اعتبارها مستقرّاً لتصدير أزماتها وتناقضاتها الدّاخليّة، والتي لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تودي إلى النتائج المتوخّاة منها.

تستمرّ تركيّا في لعب دور المهدّد لأمن واستقرار سوريّا، بعد أن أشرفت الحرب على الانتهاء، حيث استطاع النظام إعادة سيطرته على مساحات كبيرة، بالتزامن مع دحر قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة لتنظيم “داعش” الإرهابيّ في آخر جيوبه في دير الزور، خاصّة بعد القرار الأمريكيّ بسحب قوّاته من سوريّا، لتعود تركيّا مجدّداً للتلويح بعمليّة عسكريّة ضدّ مناطق شرق الفرات، تحت مزاعم باطلة لا أساس لها على الأرض.

المشاريع التي تطرحها تركيّا بخصوص مناطق شرق الفرات التي تديرها الإدارة الذّاتيّة في شمال شرق سوريّا، كفيلة بعودة الصراع في سوريّا إلى المربّع العنفيّ الأوّل، تحت عناوين عدّة، أهمّها المنطقة الآمنة، وما يكتنفها من إشكالات معقّدة، فيما إذا كانت تحت الإشراف التركيّ. حيث ثَبُتَ، وبالدليل القاطع، أنّ تركيّا تسعى لإشعال فتنة طائفيّة وعرقيّة في المنطقة، لتتسلّل منها وتضرب المشروع الدّيمقراطيّ في الشّمال السّوريّ. فالمنطقة الآمنة التي طرحها الرّئيس الأمريكيّ دونالد ترامب غداة قراره بسحب قوّاته من سوريّا، لها تداعيات كبيرة على مستقبل سوريّا، فيما إذا كُلّفت تركيّا بها، وهي لاقت رفضاً دوليّاً واسعاً، ليقين المجتمع الدّوليّ بالنوايا الخفيّة لتركيّا. والجولات المكوكية للرّئيس التركيّ أردوغان بين أكثر من عاصمة غربيّة وخاصّة موسكو، لم تفلح بالحصول على الموافقة كي تكون المنطقة الآمنة تحت إشراف تركيّ. على النقيض من ذلك؛ هناك إصرار دوليّ على أن تكون المنطقة المذكورة على غرار جنوب لبنان حيث تنتشر فيها قوّات الأمم المتّحدة (اليونيفيل)، وهو ما قد ينسف المشروع التركيّ في السيطرة على المنطقة، وبالتالي احتلالها.

ويمكن تلخيص الدّور التركيّ في سوريّا، ومآلاته في عدّة نقاط:

1– استغلّت تركيّا علاقاتها مع العالم الغربيّ (أمريكا والاتّحاد الأوروبيّ ولاحقاً روسيّا)، في محاولتها الأخذ بزمام المبادرة في الأزمة السّوريّة، واعتبار نفسها لاعباً قويّاً، يُحسب لها حسابها في كافّة معادلات الحلّ النهائيّ، من خلال استغلالها للجوار الجغرافيّ، وعلاقاتها الجيّدة مع النظام ما قبل الأزمة.

2– طرح نفسها كدولة إقليميّة مؤثّرة وذات أهميّة إستراتيجيّة بالنسبة لمصالح الدّول الغربيّة.

3– استخدام ذريعة “متطلّبات الأمن القوميّ التركيّ” للجم أيّ تحرّك دوليّ أو إقليميّ لمساندة الكرد في سوريّا، وربطها بقضيّة الكرد في تركيّا، والترويج لمفاهيم مغالطة من قبيل سعي الكرد لإنشاء دولة مستقلّة في سوريّا، وفرض هذا المفهوم على مختلف أطياف المعارضة السّوريّة، السياسيّة منها والمسلّحة، دون استنادها إلى مبرّرات منطقيّة.

4– الانحياز إلى طرف واحد من المعارضة السّوريّة دون غيرها، متمثّلاً بتبنّي جماعة الإخوان المسلمين، وربط كافّة أطر المعارضة بها، ما فرض نوعاً واحداً على الحراك الثّوريّ، وأثّر في انزلاقه إلى العسكرة وفقدانه دعم المجتمع الدّوليّ، وإطلاق صفة الإرهاب عليه.

5– التسهيل للعناصر المتطرّفة القادمة من كافّة أصقاع العالم، باستخدام أراضيها ممرّاً لهم للوصول إلى سوريّا، ودعمها بكافّة أسباب القوّة والانتشار، على حساب قوى المعارضة العلمانيّة والمعتدلة.

6– استنزاف الاقتصاد السّوريّ، بفتحها المجال أمام المجموعات المسلّحة بسرقة ونهب المصانع والمنشآت الصناعيّة السّوريّة، ونقلها وبيعها في تركيّا.

7– تسليط قيادات وشخوص على هياكل المعارضة، وخاصّة المسلّحة منها، أميّة وشعبويّة ولا تفقه في السياسة وبعيدة عن الفكر الثّوريّ، ومنسلخة عن المجتمع، بغية إفراغ الثّورة من مضامينها الأخلاقيّة والإنسانيّة.

8– بعد حشر تركيّا أهدافها ودورها في سوريّا بمحاربة الكرد، غدت أداةً طيّعة بيد القوى الفاعلة في الأزمة السّوريّة، تبتزّها في العديد من القضايا، خاصّة روسيّا التي تعاملت معها بمبدأ “الصفقات”.

9– غياب أيّ توجّه إستراتيجيّ تركيّ يذهب باتّجاه استقرار المنطقة وإزالة أسباب التوتّر، على العكس تماماً، تميّز الدّور التركيّ بتصعيد العنف، وخلق صراعات هامشيّة، خاصّة الشيعيّ – السنّيّ، بما تطيل من عمر الأزمة السّوريّة.

10– غياب الثبات في المواقف التركيّة، وتذبذبها بين الانحياز الكامل للجهويّة الإخوانيّة، وبين رعاية مصالح الدّول الكبرى.

11– الانقسام بين الولاء لروسيّا والولايات المتّحدة الأمريكيّة، واستعدادها للتضحية بعلاقاتها الإستراتيجيّة، مقابل الحصول على مكاسب آنيّة.

12– عدم إيفائها بتعهّداتها مع القوى الكبرى، لعدم قدرتها على التزاوج بين طموحاتها الإقليميّة، وبين الشروط التي فرضتها عليها القوى الكبرى، وارتداد ذلك سلباً عليها، في خسارتها كلّ المكاسب التي حصلت عليها في سوريّا، ومن بينها إنهاء احتلالها للأراضي السّوريّة، وخاصّة عفرين.

13– الإصرار غير المجدي في فرض رؤيتها على المجتمع الدّوليّ، وانكشاف حجم النفاق الذي تمارسه في سوريّا، من خلال دعوتها إلى حلول مجتزأة، لا ترقى إلى مستوى إنهاء الأزمة بالطرق السلميّة، مثل اجتماعات أستانه وسوتشي وكافّة المؤتمرات التي عقدتها المعارضة السّوريّة تحت رعايتها.

14– خيبة الأمل الأمريكيّة، في توظيف الدّور التركيّ في كبح محاولات تمدّد إيران في المنطقة، وانقلاب تركيّا على التّحالف الدّوليّ في محاربة تنظيم “داعش”، والالتفاف إلى محاربة الكرد، وهندسة القوى المعارضة وفق هذه الذّهنيّة والتوجّه.

15– إمكانيّة المساومة على كافّة أطياف المعارضة السّوريّة، وفتح خطوط تواصل مع النظام، بمساعدة روسيّا.

16– تبدّل أدوارها، تبعاً لسياساتها المستندة بالأساس إلى تقوية نفوذ الإخوان المسلمين، ومحاولاتها الحثيثة في فرضها على المجتمع الدّوليّ، كطرف وحيد لحلّ الأزمة السّوريّة.

17– نفوذ أجهزتها الاستخباراتيّة في التغلغل داخل هياكل المعارضة، السياسيّة والعسكريّة، والتحكّم بها، وفق مقتضيات المصالح التركيّة، كالمجلس الإسلاميّ السّوريّ، الجهة الشرعيّة التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، مثال الفتوى التي أصدرها المجلس إبّان عملية “غصن الزيتون” لاحتلال عفرين، وكذلك بيان الإخوان المسلمين حيال إنشاء المنطقة الآمنة في شمال سوريّا.

______________________

المراجع:

1– الدّور التركيّ في سوريّا.. مجلة تكريت للعلوم السياسيّة – بغداد.

2– علي حسين باكير، محدّدات الموقف التركيّ من الأزمة السّوريّة – معهد الدوحة، حزيران 2011.

3– رنا مولود شاكر، العلاقات التركيّة – السّوريّة في ظلّ الأزمة السياسيّة الدّاخلية لسوريّا – مركز الدّراسات الدّوليّة – بغداد 2014.

4– النازحون في سوريّا واللّاجئون السّوريّون – اللّجنة العربيّة لحقوق الإنسان – مركز دمشق للدّراسات النظريّة والحقوق المدنيّة.

5– صحيفة روناهي.

6– وكالة هاوار للأنباء.

7– خورشيد دلي، تركيّا والأزمة السّوريّة – جريدة الرأي الكويتيّة 11 آذار 2012.

8– ثائر عباس، بايدن يفشل في ضمّ أنقرة للتّحالف الدّوليّ – جريدة الشرق الأوسط 23 نوفمبر 2014.

9– الإخوان المسلمون في تركيّا.. وهم الخلافة العثمانيّة في ثوب إخواني، بوّابة الحركات الإسلاميّة أغسطس 2014.

10– الدّعم التركيّ للجماعات المسلحة في سوريّا، موقع الاتّجاه.

11– صحيفة “جمهوريت” التركيّة، ترجمة للعربيّة.

12– القرضاوي: تركيّا هي عاصمة الخلافة الإسلاميّة، يوتيوب 18 آب / أغسطس 2014.

13– تركيّا تستخدم ورقة التركمان لتحقيق مطامعها بسوريّا، قناة سكاي نيوز عربيّة 23 تشرين الأول / نوفمبر 2015.

14– الدّور التركيّ في الأزمة السّوريّة، دراسة للباحِثين: نور الشربجي وعُلا منصور، مركز دمشق للأبحاث والدّراسات 2017.

15– مجموعة مقابلات صحفيّة مع كتّاب ومحلّلين سياسيّين.

16– موقع صدى سيّا الالكترونيّ، 11 نوفمبر / تشرين الثاني 2018.

17– صحيفة الإندبندنت، مقال روبرت فيسك، 31 مايو / أيّار 2011.

18– وكالة أنباء الأناضول، تصريح سليمان صويلو، 19 يناير / كانون الثاني 2019.

19– صحيفة التايمز، تركيّا حرّرت رهائنها لدى داعش بصفقة تبادل، 06 أكتوبر / تشرين الأوّل 2014.

20– وزارة الدّفاع الرّوسيّة، تركيّا تقايض نفط داعش بالأسلحة، تلفزيون روسيّا اليوم، 02 ديسمبر / كانون الأوّل 2015.

21– تقرير لجنة التحقيق الدّوليّة التابعة للأمم المتّحدة توثّق جرائم تركيّا في عفرين، وكالة فرات للأنباء ANF، 01 مارس / آذار 2019.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى