سليمان محمودمحور العدد 44 - الرأسمالية العالمية وحروب الشرق الأوسط

أسئلةٌ حولَ الرأسماليّة

 سليمان محمود

 سليمان محمود

سليمان محمود
سليمان محمود

ماهي الرأسماليّة؟ هل هي متناغمةٌ مع ضرورة ومقتضيات العدالة الاجتماعيّة؟ هل نحنُ ذاهبون باتّجاه رأسماليّةٍ عالميّة؟ هذه بعضٌ من أسئلة تبلورتْ من خلالها الجدالاتُ التي دارت حولَ الرأسماليّة خلالَ القرنين الماضيين. الأجوبةُ التي تلقّتها هذه الأسئلة كانت متناقضةً لكنّها في الوقت نفسه قد تطوّرتْ عبر الزمن.

 

ما هي الرأسماليّة؟

لا يزالُ مفهومُ الرأسماليّة إلى يومنا هذا موضوعَ جدلٍ ومصدراً لكثيرٍ من سوء الفهم والخلاف. يصطدمُ تحديدهُ بأربعة صعوباتٍ:

الرأسماليّةُ هي مفهومٌ وعقيدة. فمن جهةٍ هي مفهومٌ يفيدُ في وصف طُرق الإنتاج، ومن جهةٍ أخرى هي عقيدةٌ بمستوى الاشتراكيّة نفسها، نظراً لتركيب الكلمة المتشابه: رأسماليّة- اشتراكيّة وحيث كانتا تاريخيّاً متعارضتين. بهذا المعنى يمكنُ استخدامها ك” تعبير صراعيّ” وفقَ رأي فرانسوا بيرّو.

واقعٌ معقّد.  بالنسبة إلى بعضهم الرأسماليّةُ هي في الأساس ظاهرةٌ اقتصاديّة ويمكنُ تحليلها بشكلٍ مستقلّ عن الحقل الاجتماعيّ، كما يفكّر على سبيل المثال ف. بيرّو.(2)

بهذا الشكل قد تعرَّفُ الرأسماليةُ بشكلٍ متناقض للاشتراكيّة التي تتميّزُ بأولويّة السياسة على الاقتصاد.

أمّا بالنسبة إلى باحثين آخرين، الرأسماليّةُ هي أبعدُ من أن تنحصرَ في الاقتصاد فقط، لدرجةٍ يذهبُ بها “جوزيف شومبيتر” باقتراحه إلى دراستها وكأنها حضارة.

برأي “فيرنان بروديل”، الرأسماليةُ لا تغطّي فقط كلَّ الاقتصاد، بل تشكّلُ الطابقَ الأعلى فوق الحضارة الماديّة واقتصاد السوق. وهناكَ آخرون ينكرون وجودَ الرأسمالية كواقعٍ اجتماعيّ موجودٍ بنفسه ويتمتّع بنوعٍ من الاستقلاليّة وبمقدرةٍ على التقرير الذاتيّ، خاضع لقوانينَ وتطوّرية خاصّة به.(3)

 

حالٌ في تغيّر مستمرّ

هناكَ مصدرٌ آخرُ للصعوبات ناجمٌ عن التغيرات المستمرة التي تلمّ بالرأسماليّة. وكما يشرحُ ذلك الاختصاصيّ بالاقتصاد “ميشيل بو”، ” الرأسماليةُ هي أبعدُ من أن تكون واقعاً مجمّداً أو إطاراً صلباً أو مجموعة علاقات ثابتة، بل هي ديناميكيّة وذاتية- التحوّل في عملها من دون توقّف”.(4)

وكان ماركسُ أو شومبيتر هما أوّلُ من أشارَ إلى تلك الخاصيّة. ومن هنا يصعبُ تعريف الرأسمالية وتحديدها بسماتٍ نهائيّة، كما سقطتِ النعوتُ التي أُلصقت بها( بائع- صناعي- ما بعد صناعي..)

هناك كمياتٌ كبيرة من الوقائع. في النهاية، تعطي الرأسماليةُ وقائعَ متنوّعةً: تراكم رأس المال والملكيّة الخاصة، والتنظيم بوساطة السوق، والعلاقات التجاريّة، والرواتب.. لا يتفّقُ جميعُ المفكّرين حولَ أهميّة كلٍّ من هذه الخصائص، حتى لو أنّ فكرةَ التطوّر التدريجيّ للتراكم غير المحدود موجودة في غالبيّة التعاريف.

 

هل الرأسمالية والعدالة الاجتماعية قابلتان للتوفيق فيما بينهما؟

لقد قابلتْ هذه المسألةُ ولا تزال تقابل وتقارن بين ثلاثة أنماط من الفكر، يميلُ النمطُ الأولُ إلى اعتبار أنّ الرأسمالية في جوهرها مصدرٌ لعدم المساواة، ولذلك ينبغي تجاوزها والانتقال إلى الاشتراكية الثوريّة. والنمط الآخرُ من الفكر هو على العكس من الأوّل، إذ يعتقد أنّ الرأسماليةَ تتيحُ الفرصَ لأكبر عددٍ ممكن من الناس عن طريق الليبراليّة؛ أمّا النمطُ الثالث والأخير، فبالنسبة إليه يمكن للرأسمالية أن تنظَّمَ وتؤطّر: مثل الفكر الاشتراكي- الديمقراطي الذي ظهرَ بين الحربين، والليبرالية الاجتماعية. ومنذ القرن التاسع عشر، اعتبرَ الإصلاحيونَ الليبراليون أمثال ج.س.ميل أنه من الممكن إصلاح تجاوزات الرأسمالية.

في الواقع، وفي الوقت نفسه الذي حصلَ فيه تطوّرُ الرأسمالية، ثمّ تدريجياً تثبيت تشريع اجتماعي انطلاقاً من القرن التاسع عشر. ومنذ عام 1870م، خلال العصر البيسماركي، تبنّت ألمانيا أولى القوانين الاجتماعية. تلتها فرنسا في تبنّي قوانين تحدّ من مدّة عمل الأطفال والنساء ثمّ العمّال.

وانطلاقاً من فترة ما بعد الحرب، حصلَ تنظيمُ الدولة- العنايةَ في الولايات المتحدة ( عبر العقد الجديد)، وفي إنكلترا ( تقرير بيفريدج) ثم في البلدان الغربية، استجابةً لضرورة التوفيق بين ديناميكيّة الرأسمالية والعدالة الاجتماعية. ترافقت سنواتُ النموّ ما بعد الحرب بتقدّم معمّم على مستوى الحياة.

الجدالاتُ حول أزمة الدولة- العناية التي ظهرت مع الصدمات النفطيّة ومع إعادة طرح مسألة السياسات الكينسيّة(5) في السنين بين 1970- 1980م دفعتْ ببعض المؤلفين للتفكير بأنّ الدولة- العناية لم تكن سوى معترضة في تاريخ الرأسمالية الطويل. وهم يشرحون السياق الحالي وكأنه إعادةُ طرح التحوّل الكبير الذي وصفه كارل بولاني، بتعبيرٍ آخر، في إطار العولمة، قد تجدُ الرأسماليةُ طبيعتَها الحقيقيةَ، التي هي اقتصادية بشكلٍ أساسيّ ومنفصلة عن الشأن الاجتماعيّ.(6)

غير أنّ في سياق سنة 1990م التي تميّزت بتبنّي سياسة التقشّف والحدّ من النفقات العامة في البلدان الغربية، حاولَ بعضُ المؤلفين إعادةَ طرح الجدال بتعابيرَ جديدةٍ. وكان ذلك حالُ جائزة نوبل في الاقتصاد ل” آمارتيا سين” التي فكّرت في إمكانيّة التوافق بين إنقاص النفقات وبين العدالة الاجتماعيّة.

وفي منظور مدرسة التنظيم، يشيرُ آخرون إلى ضرورة تصوّر مواضيع اجتماعيّة جديدة. من بينهم ” ميشيل آغلييتا” فهو لا يستثني إمكانيّةَ ربط هذه المواثيق بمساهمة العمّال في الأرباح.

ويعتبرُ آخرون أنّ الدولَ واقتصادياتها القومية لم تعدِ الإطاراتِ الملائمة للتفكير بالعلاقة بين الرأسمالية والعدالة الاجتماعيّة، وأنّ الإعداداتِ والوسائلَ ينبغي من الآن فصاعداً أن يتمّ تصوّرها وتخطيطها على مستوى عالميّ أبعد من القوميّ. في هذا المجال نذكرُ: الاتفاقات ضدّ إغراق الأسواق بالبضائع أو فرض ضريبة على هجرة الأموال ( ضريبة توبان الشهيرة التي تخيّلها وهو الحائز على جائزة نوبل، وأوصت بها جمعيّة آتاك).

 

هل الرأسماليّةُ أخلاقيّة؟

إذا كان الجوابُ على هذا السؤال يستندُ إلى مشاهدات موضوعيّة مثل ( شدّة الفروقات الطبقية وعدم المساواة واستغلال الأطفال..) فهو يرتبطُ أيضاً بالمفترضات الثقافية والدينيّة.

في البلاد التي تسودُ فيها الكاثوليكية، تنبع الريبةُ تجاهَ الرأسمالية من فكرة الإدانة القديمة: وهي الفائدة الفاحشة والاغتناء، والموجودة سابقاً عند أرسطو أو في العهد القديم.

بالنسبة إلى جونوفييف إيفن- غرانبولان، الفيلسوفة والاختصاصية بعلم الأخلاق المالي،(7) وقد ألّفت حديثاً كتاباً حول هذا الموضوع: ” لقد كانت الكاثوليكية معادية للرأسمالية لمدة طويلة، وعلى الرغم من بعض التخفيف من هذه الإدانة لم يتم رفع التحفّظ بالكامل”. نجدُ ذلك على الأخصّ عند إدانة الممارسات في المضاربات الماليّة. الشروحات نفسها ذكرت فيما يخصّ البلدان ذات الأغلبية المسلمة التي لاتزال ممارسةُ الربا مُدانةً فيها.(8)

منذُ بزوغ ” الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ” لماكس فيبير، أصبحت البلدانُ البروتستانتية أكثرَ استعداداً وتقبّلاً للرأسمالية. لا يعتبَرُ فيها تراكمُ الأموال كفايةً بحدّ ذاتها بل هو وسيلةٌ لعيشٍ جديد. بهذا المعنى أصبحتِ الرأسماليةُ نظاماً لكلّ العصور.

لكن ما يصحّ بالنسبة إلى رأسمالية البدايات هل يصحّ بالنسبة إلى الرأسمالية المعاصرة؟ العديدُ من المؤلفين يشكّون في ذلك معتبرين أنّ” القيم التي يتحدث عنها فيبير قد زالت منذ مدة طويلة باجتياح الفكر الاقتصادي لموطن خيالنا”.(9)

بينما بالنسبة إلى ج. إيفن- غرانبولان: ” يتمّ غالباً الطعنُ بالرأسمالية بسبب لا أخلاقيتها: لكن في الواقع، هذه اللا أخلاقية تخصّ أشكالاً ناقصة في الرأسمالية والتي لم تصل إلى مرحلة النضج بعد. قد نجدُ وجوبَ طرح أمثلة معاصرة للنموّ الفوضوي للرأسمالية المافيوية. إنّ حمّى التملّك من دون كابح أخلاقي قد وُجدت على مرّ العصور ولا علاقةَ لها بالرأسمالية وأخلاقياتها الأساسية. ونجدُ الفكرَ الرأسمالي مضطراً للنضال ضدّ هذه الممارسات التي تشكّلُ هذا الكمّ الكبير من الانحرافات المؤسفة والمدانة”.

بالنسبة إلى بعضهم الآخر، ليست الرأسماليةُ سوى تطوّر تدريجيّ لتراكم ماليّ مجرّد من غاية سوى هذا التراكم. ففي مثل هذه الحالة هي ليست جيدة ولا سيّئة، هي فاقدةُ الحسّ الخُلقي. المسألةُ إذاً هي في معرفة كيف نعطيها معنى واتجاهاً.

شهدت الأعوامُ الأخيرةُ محاولات إصلاح أخلاقي عبرَ سنّ قوانين للعمل ( علم الواجبات الأدبية ) في قطاعات النشاط المهنيّ. وتتجسّدُ واقعيّاً بتوقيع مواثيق في الواجبات الأدبية ضمن مؤسسات العمل. وقد أعلنَ بعضها عن رفضها المتاجَرة بمنتجات محسوبة على أنها غير أخلاقية، والانتقال من البلدان التي تستغلّ الأطفال والنساء إلخ. والجديرُ بالذكر أنه انتشرَ حديثاً فكرة” الأرصدة الأخلاقية” المعدّة في الأصل لإدارة أموال المتحدات الدينية ثمّ انتشرت عند العامة، وظيفتها انتقاء الأعمال وفقَ معايير أخلاقية. وقد بدا مردود هذه الأرصدة مرتفعاً بمقدار نسبة الأرصدة الكلاسيكية. ويرى اختصاصيّو المال في ذلك مجالاً ينبغي عدم إغفاله لتحسين أخلاق الرأسمالية المعاصرة.(10)

 

هل نحن ذاهبون باتّجاه رأسماليّة عالميّة؟

فإذا كان المفكرون جميعهم متفقين حول فكرة الانتشار الحتميّ للرأسمالية غير أنهم جميعاً لا يستنتجون من ذلك فرض رأسمالية عالميّة واحدة.

 

وجهة نظر ناقدة

كان سابقاً رأي الماركسيين اللينينيين أنّ الرأسماليةَ معدّةٌ للانتشار لا محال عن طريق اللعبة الإمبريالية وعلى مستوى كلّ الكرة الأرضيّة.

ومنذ ذلك الحين، كثرت وشاعتِ الجدالاتُ التي طرأت بين أعوام 80-90 حولَ العولمة عامّةً وحول العولمة المالية وحول ازدهار التجارة العالمية وظهور بلدان صناعية جديدة، إلخ، فكرة بزوغ ” رأسمالية عالمية “.

ومنذ عام 1970م، وفي كتاب ” الرأسمالية العالمية “(11)  يوصي شارل- آلبير ميشاله بأن يجري تبديل أنموذج الاقتصاد العالمي بالاقتصاد الدولي. ويبرّر دورَ الشركات  متعددة الجنسيات وازدهارها منذ عام 1950م. يتحدثُ آلان كاييه عن رأسمالية عملاقة مقاومة تماماً تجاه الهجمات التي تحصل على أساس قومي فقط.(12)

ويرجّح بعضهم الآخر أمثال سيرج لاتوش فكرةَ حصول ” سوق على مستوى الكرة الأرضية ” تخضعُ لسلطة ” آلية عملاقة ” مرتبطة ببنية تقنية (أخطار السوق العالمية، صحافة العلوم السياسية، 1988م)

 

هل الرأسماليةُ أزليّة؟

النظرية الماركسية.

بالنسبة إلى ماركس،  لا يوجدُ أدنى شكّ في أنّ الرأسماليةَ سوف تزولُ. والأسبابُ التي يطرحها بالإمكان البحث عنها في التناقضات الموجودة ضمن الرأسمالية: إنّ نمطَ الإنتاج الرأسمالي يولد ديناميكية تنتج تأثيرات مناقضة لمبادئه ( التنافس الحرّ والملكية الخاصّة ).  التنافسُ يدفعُ إلى التحديث، الذي يتطلّبُ بدوره تكاليف متزايدة تشجّع على التركيز والحصر وعلى تبديل اليد العاملة بآلات. ينتجُ عن ذلك انخفاض في نسبة الربح واحتدام  في الصراع الطبقي.

من هذا المنظور، ينبغي أن يسبقَ زوالَ الرأسمالية أزماتٌ تشتدّ تأزّماً وخطورةً. غير أنّ ماركس والماركسيين لا يستبعدون إمكانيةَ التصدّي الآني لانخفاض نسبة الربح بفضل عوامل خارجيّة مثل (الاكتشافات العلمية، وتنظيم العمل..). وهذا ما جعل النقّادَ والمعلّقين يقولون إنّ النظريةَ متعذّرٌ تزويرها (بالإمكان على الدوام التذرّع بعامل خارجي ) وبالتالي لا تمتلك صفةً علمية.

العديدُ من الكتّاب الماركسيين دعموا فكرةَ نهايةٍ قريبة للرأسمالية حتى يومنا هذا، مثل إيمانويل فالرستاين المؤرخ والاختصاصي في علم الاجتماع.(13)

فكرةُ  نهاية الرأسمالية حاضرةٌ أيضاً عند مفكّرين غير ماركسيين.

أطروحةُ شومبيتر، وقد تمّ شرحها موسّعاً في فصل من كتاب: ” رأسمالية، اشتراكية، وديمقراطية “1942م، بعنوان” هل يمكن للرأسمالية أن تصمد؟” فقد كتبَ شومبيتر فيها ما يلي: ” الإنجازات التي تمّ تحقيقها، والإنجازات القابلة للتحقيق بوساطة النظام الرأسمالي تسمح باستبعاد فرضيّة تفكّك هذا النظام تحت وطأة فشله الاقتصادي، لكن نجاح الرأسمالية بحد ذاته يؤدي إلى تآكل المؤسسات الاجتماعية التي تحميها ويخلق بشكل لا مفرّ منه ظروفاً تجعل من الاستحالة بمكان أن تصمدَ الرأسماليةُ وتستمرّ، كما يظهِرُ بوضوح تام أنّ الاشتراكيةَ هي وريثتها المُنتظرَة “.

فهو ولو التقى باستنتاجه مع الماركسيين، لكنّ شروحاته تختلفُ، فبالنسبة إليه، إنّ سببَ التحطّم الذاتي للرأسمالية ليس اقتصادياً بل اجتماعياً: فهو يعودُ إلى زوال الطبقات الاجتماعية المفيدة لها (المقاولين) إضافة إلى ضعف القيم البرجوازية والعائلية.

 

هل هناك بدائلُ لاقتصاد السوق؟

إنّ انهيارَ الاتحاد السوفياتي في سني 80-90، والعولمة، ومعارضة تدخّل الدولة، إلخ.. هي وقائعُ أثبتت فكرة انتصار اقتصاد السوق. أعلنَ الأمريكي فرانسيس فوكوياما انتصارَ الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق، وذلك في مقالٍ شهير له حول (نهاية التاريخ) نشره عام 1989م. سواء أكانت هذه الفكرة صحيحة أم خاطئة، لكنها لم تمنع نمو وانتشار تيارات من التعليقات والملاحظات الهادفة إلى تجاوز الخيار الكلاسيكي بين الترابط العفوي بوساطة السوق والترابط بوساطة الدولة.

 

المسلك الثالث

حتى يومنا هذا، هناك تعارضٌ في الجدالات حولَ السياسات الاقتصادية بين فريقين: فمن جهةٍ نجدُ الليبراليين دُعاةَ عدم التزام الدولة بهذه السياسات، والمؤمنين بخصخصة الأعمال بأنواعها وصولاً إلى الخدمات العامة. ومن جهةٍ أخرى نجدُ الاجتماعيين- الديمقراطيين دُعاة تدخّل الدولة في السياسة الاقتصادية. أمّا  المسلكُ الثالث فيهدفُ إلى إقامة توافق بين فعّالية السوق والعدالة الاجتماعية، وهي فكرةٌ أُدخلَت إلى الولايات المتحدة منذ الثمانينات من القرن الماضي بوساطة” الديمقراطيين الجدد” ثم إلى أوروبا بوساطة أنطوني جيدنز.

 

الاقتصاد التضامني( المتكافل)

منذ أعوام 70-80، أخذ بعضُ اختصاصيي علم الاجتماع وعلم الاقتصاد بالترويج لفكرة الاقتصاد التضامني أي وضع الاقتصاد في خدمة الرابط الاجتماعي، على قاعدة التطوّع  والتبرّع والتكافل. يجري تعيين حقيقي ملموس لمجموع الشركات والجمعيات التي تساعد في إعادة توظيف العاطلين عن العمل، أو تشجيع المبادلات غير التجارية، والخدمات القريبة.. صحيحٌ أنّ هذا النوع من الاقتصاد هو من ضمن الاقتصاد الاجتماعي، لكنه يتجاوزه جاهداً لإيجاد الحلول للمجتمعات المهددة بالبطالة العامة وبانهيار الرابط الاجتماعي. أمّا بالنسبة إلى اختصاصي علم الاجتماع جان- لوي لافيل، وهو من الباعثين الرئيسيين لهذا الأنموذج من الاقتصاد، فهو يجدُ أنه يسدّ ما ينقص عن تدخّل الدولة وفي الوقت نفسه يساعد على تجنّب المنطق التجاري لحلّ مسألة البطالة العامة. فهذا الاقتصاد لا يبحثُ إذاً عن أن يكون بديلاً عن الدولة ولا ليحلَّ مكان السوق بل ليحقّقَ معهما تهجيناً منسجماً انطلاقاً من ديناميكيات المشروع. وبذلك يهدفُ أيضاً إلى تجاوز فكرة الاقتصاد المنفصل عن الشأن الاجتماعي والسياسي.

لقد تمّ تكريسه حديثاً في فرنسا بإنشاء سكرتارية دولة لشؤون الاقتصاد التضامني (تحت وصاية وزارة العمل)

 

اقتصاد من دون مال

يتابعُ بعضُ الأنتروبولوجيين والياحثين في الاقتصاد الاجتماعي تحليلاً ناقداً للاقتصاد التجاري وللعقيدة النفعيّة المتعارضة مع منطق هبة ضدّ هبة في التبادل التجاري.(14) وفي اتجاهٍ مشابه، هناك تياراتٌ أخرى تناضلُ من أجل إيجاد أشكال جديدة للمبادلات غير التجارية التي قد توجد مع الأشكال الكلاسيكية للتبادل التجاري. يساهم في هذا الاتجاه المبادرات التي تعمل لتنشيط أنظمة التبادل المحلّي.

 

الهوامش:

  • أسئلة حول الرأسمالية، مقالةٌ نُشرت في مجلة العلوم الإنسانية في العدد الاستثنائي رقم 29 شهر حزيران 2000م، عنوان العدد: الوجه الجديد للرأسمالية.
  • ف. بيرّو، الرأسمالية، 1948م، بوف، كوسيج
  • فرانسوا فوركه، ” هل الرأسمالية موجودة؟” مجلة موس رقم9، الفصل الأول 1977م
  • م. بو، “الرأسمالية، منطق اجتماعي وديناميكيات تحولية”
  • المتعلقة بمذهب كينس الاقتصادي القائل بالتدخل الرسمي في سبيل إنماء الإنتاج والوظيفة.
  • جاك آدّا، عولمة الاقتصاد، لاديكوفيرت، روبير جزء 1 1996م
  • إيفن- غرانبولان، أخلاق واقتصاد، لارماتان.
  • كزافييه كوبله، دانييل هوشين، أديان ونمو، اقتصاد
  • جوزيف هادجيان، ” واقع الحال المتناقض للتحوّل الكبير” الحداثة لكارل بولاني
  • أندري أورليان، سلطة المال، أوديل جاكوب
  • الرأسمالية العالمية، (بوف، 1976م، إعادة طبع بوف، كادريج 1998م)
  • كيف يمكن أن نكون ضد الرأسمالية؟ مجلة موس رقم9 الفصل الأول 1997م
  • انظر المقابلة الواردة في مجلة العلوم الإنسانية في العدد 71 لشهر نيسان 1997م
  • مجلة موس التي يديرها آلان كاييه.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى