سليمان محمودملف العدد 45 - الهوية ومفهوم الأقليات

مُقاربةٌ تأويليّة لقراءة مفهوم الهُويّة

سليمان محمود

سليمان محمود

سليمان محمود
سليمان محمود

سؤالُ (الهويّة) و(مَن نحنُ بالضبط) مُحيّرٌ ويثيرُ الكثيرَ من التساؤلات، لكنّ معرفةَ إجابة(من نحن) ليستِ الأهمّ، بل بعد معرفة الهويّة، كيف تكون هذه الهوياتُ سبباً في ثراء المجتمع وبناء الدولة، وليست صراعاً وخلافاً وحروباً بين الناس.

كثيرٌ من الدراسات الثقافية والاجتماعية تطرّقت لموضوع الهويّة، خاصّة الهوية الثقافية. وفي العقود الأخيرة ظهرَ تعريفٌ جديد غيّرَ من الفهم السائد للفرد على أنه كتلة ثقافية واحدة متماسكة إلى اعتباره مجموعة من الهويات المختلفة. هذه الهويات الثقافية المختلفة يمكن أن تكون نتيجة لعدّة ظروف منها( المكان- الجنس- العرق- التاريخ- الجنسية- اللغة- والدين وأسلوب الحياة)

وإنّ الفتنَ والحروب الأهليّة والأعمال الإرهابية عبثيّةَ الطابع تَنتجُ عن أزمةٍ في الهويّة الجماعيّة، وتفكّكُ عناصرها الرئيسية التي تُلهم في العادة عناصرَ المجتمع المختلفة من ناحية أصولها العرقية والقبلية واللغوية والدينية والمذهبية.

إنّ القاسمَ المشترك بين ما يحدث لدينا وما حدثَ في مناطقَ أخرى في العالم هو انهيارُ نظام القيم الجماعيّ الذي يربط الناسَ بعضهم ببعض، ويجعل تصرفاتهم تصرفات سليمة وطبيعيّة لا يشوبها التوتّر وأعمال العنف فيما بينهم.

وهنا يتبادرُ إلى الذهن السؤالُ الأساسي حول سبب تراخي نظام القيم في مجتمعاتنا إلى درجة أنّ تعدّد أعمال العنف العبثية يؤدّي إلى قتل المدنيين الأبرياء على يد حركاتٍ ترفع رايةَ الدين في معظم الأحيان.

وكلُّ هذا يطرحُ سؤالاً: هل يمكن أن يكون تأكيد الهويّة جسراً في الانفتاح نحو الآخر بدلاً من الانغلاق على النفس؟! وكيف نخرجُ من أزمة الهويّة في الدول العربية لكي نستطيعَ بناء مجتمعاتنا على أساس التعايش والسلام والخير والحريّة؟!

 

تحدّياتُ الهويّة الوطنيّة السوريّة، وأسبابُ الفشل

أسئلةٌ تراودني منذُ سنين: ماذا يعني أن أكونَ سوريّاً؟!، ولماذا فشلت سوريا، بنُخبها وحُكّامها- منذ أيام الاستقلال وحتى يومنا الراهن- في بناء هويّةٍ وطنيّة سوريّة؟ وما الندوبُ التي ستتركها الحربُ القائمةُ على هويتنا ومستقبلنا كشعب؟ وهل سنقدرُ أن نتجاوزَ التحدّيات ونبني هويّةً وطنيّةً سوريّة! هويّة جامعة تستوعبُ جميعَ السوريين، بكافة إثنيّاتهم وطوائفهم!

إننا، للأسف، نعاني في سوريا من أزمةِ هويّة. إننا في سوريا هويتنا مركَّبة وغير مستقرّة. ولا زالَ ثمةَ مركزٌ جامع غير متوفّر في بلدنا. ولا أظنّ ذلك بسبب التنوّع القائم، بل لأنّ الهويّةَ عُرضةٌ للتسييس في سوريا، وربّما في كلّ مجتمعات الشرق الأوسط. لذا نرى أنفسنا الآن أمامَ مجتمعٍ سوريّ لا يعتزّ بنفسه، قلق، وغير راضٍ عن ذاته!

وإذا ما بحثنا في الأسباب نجدها متعدّدة، وسأحصرها في سببين: فاستعمارُ الجيش للدولة زمناً لم يُفلح في تشكيل أرضيّة مُشترَكة للمجتمع السوريّ، وأنشأَ- من خلال(الدولة القُطرية)- حساسيّاتٍ متعدّدة ومتراكبة ومُزمنة، جعلت الهويّة السوريّة مريضةً بنزعة القلق وعدم الاستقرار.

فعندما يقيّضُ لفئةٍ ما أن تستولي على السُلطة السياسيّة، ومن ثمّ تحيلُ جهازَ الدولة إلى جهازٍ خاصّ تابع للسلطة، فهذه خيانةٌ للمجتمع، وهذا ما جعلَ المجتمعَ السوري يعيشُ مرارةً دائمة.

نظامُ الحُكم، الذي تلاعبَ- ولا زال- بأزمة(الهويّة السوريّة)، وبخطوط الصدع الطائفيّة. واستطاعَ جذبَ شرائحَ من المجتمع للوقوف بجانبه، يلعبُ على الهويّات الطائفيّة، العرقيّة، وعلى التمييز السياسي/ موالي- معارض/. والمشكلة أنّ المجتمعَ السوريّ غيرُ مُحصَّن ضدّ هذه الألاعيب والأساليب القذرة، وهو قابلٌ للانقسام والأخذ بالمنحى الطائفي السيء للغاية.

والذي حدثَ قديماً، ولا زال، هو أنّ هذه الفكرة تلقى الصدّ من قِبل السُلطة، والتضييق والتعجيز على مَن يعمل عليها أو يفعّلها في الواقع أو مجرّد اختبارها، ودائماً يرفضُ هذا المشروع ويواجهه ب( الامتداد العربي، الإسلامي، والأممي) لسوريا!

والمشكلةُ أنّ مُعارضيي النظام أيضاً، وخاصةً الإسلاميين، لعبوا على نفس الوتر، وهكذا ساهمَ الطرفان في تفتيت الوحدة الوطنيّة للشعب السوريّ. كما لا نغفرُ هذا الانزلاق الخطير الذي وقعت فيه( النُخبة العلمانيّة) باتّجاه طائفة أو لجهةٍ (الإسلاميين )، ظنّاً منها أنه ذكاءٌ سياسيّ. العلمانيون السوريون- رغم تاريخهم- فشلوا، بسبب انحيازهم السيء هذا، لأنهم جعلوا المجتمع السوري فارغاً من مركز استقطاب بعيد عن الطرفين المُتنازعين.

وربما كان السبب الثاني في( النُخبة السوريّة)، والتي أضعُ على عاتقها المسؤوليّة الأساسية. تلك النُخب التي استولت على الدولة في سوريا، لأنها أحالت كلَّ مجهود إصلاحيّ أو تصحيحي إلى الهامش.

المشكلةُ أنّ النُخبَ السوريّة( السياسية والثقافية) في أغلبها، منذ الاستقلال وحتى اليوم، لا تعترف ب(سوريا) بحدودها القائمة، ودائماً تُلحقها بكيانات أوسع: الحزب القومي السوري يعتبرها جزءاً من (سوريا كبرى)، البعثيون اعتبروها جزءاً من (أمّة عربية)، والإخوان المسلمون يعتبرونها جزءاً من (أمة إسلامية)، وكلٌّ يريد أن يفني الدولةَ ويلحقها بكيانات أوسع!

لماذا نجدُ نُخباً ثقافية وسياسية نظّرت للقوميّة العربية وكذلك الكرديّة، ونخباً أخرى نظّرت للقومية السوريّة، ولم نر نخباً ثقافية تنظّرُ ل(هويّة وطنيّة سوريّة)، تحترم التنوّع السوريّ. هويّة وطنية يستطيعُ فيها كافةُ السوريين( كرد- عرب- كلدان- وآشور) أن يجدوا فيها ممثلاً لهم؟! لماذا فشلوا في بلورة هذه الفكرة، ولو على المستوى الثقافيّ!

إنّ دولةَ(المواطنة) هي الحلّ الممكن، وربما الوحيد، الذي قد ينجحُ في بلدٍ كسوريا، ولكنه بعيد المنال كما يبدو لي حتى الآن. أي أن ننتقلَ من دولة الاستبداد إلى دولة المواطَنة، التي تحتوي الهويات الفرعيّة وتُغنيها وتفتخر بها، لا أن تقمعها.

وسؤالٌ أخير يلحّ عليّ اليوم: هل تجاوزُ ندوب الحرب ممكنةٌ، وهل هناك أملٌ في بناء هويّةٍ وطنية سوريّة جامعة لجميع السوريين؟!

 

العولمةُ ومحو الثقافات والهويّات

وأبدأُ هذا العنوانَ بسؤالين: كيف صارت أوضاعُ الثقافات والهويّات في زمن العولمة؟! وكيف يصنعُ مجتمعٌ ما قيمه وثقافته ويعيدُ إنتاجها؟ وما هي المؤسسات التي تنهضُ بهذه المَهمّة؟ّ!

إنّ الحديثَ عن الهويّة حديثٌ ذو شجون، فالمسألةُ تكادُ تختصر التناقضات التي تمسكُ بالحاضر والمستقبل الشرق الأوسطي. وأحسبُ أنّ ما يصيبُ الهويّةَ في مجتمعاتنا من شروخ وتصدّعات هائلة، إنما هو قرينةٌ على لحظةٍ مصيريّة تمتحنُ قدرةَ الأمّة ونُخبها ومؤسساتها وقواها الفاعلة على مجابهة هذا التحدّي.

لقد خسرنا معاركَ كثيرة في الميدان العسكريّ، الاقتصادي، التقني، والعلمي؛ لكنّ أخطرَ ما يمكن أن نخسره هو المعركة من أجل صون الشخصيّة الوطنيّة من المسخ، ولذلك فالتحدّي كبير.

إنه حديثٌ يخصّ الأمنَ الثقافيّ.  وحين نقول أن العولمةَ دشّنت طوراً جديداً في الفتك بالنظام الثقافي ونظام الهويّات، لا نقصدُ بذلك أنّ السيطرةَ الثقافية الغربيةَ حديثةُ عهد، وآيُ ذلك أنّ للاختراق الثقافي لمجتمعاتنا في العالم الثالث تاريخٌ عريق يمتدّ إلى نهايات القرن الثامن عشر، منذ أن انطلقت الغزوة الأوربية للعالم(آسيا- إفريقيا- وأمريكا اللاتينية).

وزحفُ هذه المدنيّة الأوربيّة لم تكن من نتائجه فقط تدمير البُنى الاقتصاديّة والسياسيّة والإحاطة بالسيادات وتغيير مجرى التاريخ في هذه المجتمعات، وإنما هو إلى ذلك أحدثَ شروخاً وتصدّعاتٍ هائلة في النظام الثقافي والقيمي، وهذه التصدّعاتُ والشروخ استمرّت تستفحل وقائع إلى الحدود التي أدخلت المجال الثقافي والهوياتي في صدامٍ داخليّ بين دُعاة التأصيل والأصالة وبين دعاة التجديد.

لكن مع ذلك، علينا أن نعترفَ أنه في الحقبة الكولوناليّة، التي امتدّت إلى الفترة ما بين ثلاثينات ومطالع ستينات القرن العشرين، لم تكن مفاعيل الغزوة الأوربية لمجتمعاتنا متكافئةً في آثارها على صعيدين مختلفين( مادّي- وثقافي). ففيما هي دمّرت بُنى الاقتصاد التقليدي، وفتحتِ الطريقَ أمامَ الرسملة، وفيما هي دمّرت الدولة السلطانيّة التقليدية وزرعت أسسَ الدولة الحديثة، لم تستطع محوَ النظام الثقافي التقليدي الموروث. صحيحٌ أنها أدخلت قيماً حديثة وضخّتِ الحيويّةَ في المجال الثقافي، وأنتجت تيارات متفاعلةً مع الوافد الأوربي، ولكن عموماً استمرّت الثقافةُ الإسلاميّةُ ومنظومة القيم الموروثة، وبقيت قادرةً على إعادة إنتاج نفسها في مجتمعاتنا.

ربما السببُ في ذلك يعود إلى التفاوت ما بين الزمن المادّي( سريع التغيّر) والزمن الثقافي(ذي المسار البطيء). لذلك اختفت من الوجود أشكالٌ من الإنتاج كانت موجودةً إلى عهدٍ قريب، واختفت نُظمٌ سياسية واجتماعية، لكنّ أفكاراً عمرها آلاف السنين لا زالت مستمرةً وتتجدّد، بل وتتصفّحُ حتى بمواردَ حداثيّة تتجددُ بها.

هذا يعني أنّ (زمنَ المعرفة غيرُ زمن الواقع).

وفي أثناء الحقبة الاستعماريّة للمنطقة، نشأت ما يمكن أن أسمّيه(الدولة الوطنيّة)، وبرزَ نسق ثقافي عام في إطارها، ونجدُ أنّ الدولةَ نجحت في إدارة تناقضات لا تُدارُ بين( الدولة السلطانيّة الموروثة، والدولة الحديثة التي وضعَ الاستعمارُ ركيزتها)، فتعايشَ النموذجان معاً داخلَ الدولة الوطنية، وأيضاً نظمت تعايشاً مديداً بين نظام العلاقات الانتاجيّة الحديثة(الرأسمالية) والنظام السابق لها، وأعادت إنتاج هذه المتلازمة بين النُظم المتجافية. والشيء نفسه في الميدان الثقافي، وما يمكن تسميته ب( الثقافة الوطنيّة).

ومن حُسن حظ الثقافة الوطنية أنها استطاعت أن توجدَ قدراً من الاستقلال النسبي عن المرجعيّة، فلم تكن ثقافةً تراثية ولم تكن في الوقت عينه ثقافةً مُتغربنة. لم تكن عربيةً إسلاميّة، لأنّ مبناها على الأمة وليس على الملّة، ولا غربيّةً أو صدىً لها، لأنّ مضمونها تحرري استقلالي. لذا أسميّها(وطنيّة)، وهذه الثقافة هي التي عشنا في كنفها وغيّرت كلّ الموازين. لكن سوف نلحظُ فيما بعد أنّ قانونَ التفاوت بين مفاعيل الآثار الماديّة والثقافية سيتغيّرُ جذريّاً في زمن العولمة.

في العصر الحديث، أحدثتِ العولمةُ- كفعلٍ اقتلاعيّ- في الهويّات والثقافات نظيرَ ما أحدثته في الاقتصادات والدول والسيادات. مع العولمة أصبح الحديثُ عن الاستقلال الثقافي والهويّات الوطنيّة والقوميّة يؤخَذ بحذرٍ شديد.

العولمةُ أطلّت من  مداخلَ ثقافية، وتوسّلت وسائلَ ووسائط ثقافية كالنظام الإعلامي والمعلوماتيّ، ولم يعد الزمنُ الثقافيّ راكداً كما كان عليه الحالُ فيما مضى.

في مجتمعاتنا، ظلّت المؤسستان- والتي هي مصانع أو معامل لإنتاج الإنسان، الثقافة، القيم- هما الأسرة والمدرسة. ومن خلالهما كنا نستطيع أن نتصدّى لحملات ثقافية من الغُزاة، وما أكثرهم، وهذه حفظت لنا هويتنا لمئات السنين. اليوم، شئنا أم أبينا، بدأ العياءُ والوهنُ يدبّان إلى هاتين المؤسستين، بل في وسعنا أن نقول أنهما لم تعودا قادرتين على أداء الوظائف عينها التي كانت تؤديانها، حيث دخل لاعبون كثر وبرزت وسائلُ أخرى جديدة هي التي تصنعُ الشخصيّة، كالإعلام، والعالم الإلكتروني، والراديو والتلفاز والإنترنت.

اليوم، النظامُ الإعلاميّ السمعي والبصري العولمي، لم يعد يستأذنُ أحداً، لا سيادة ولا أسرة، وسقطت كلُّ الأسوار الحمائيّة، وأصبح المواطنُ عارياً أمام هذه الآلة الضخمة الجهنميّة، تصنعه وتصوغه كما تشاء. فنحن إذاً أمام متغيّرٍ خطير جداً، ويزداد خطورة مع تهافتنا- حكّاماً ومحكومين- وإصرارنا على تجاهل مخاطر هذا الاستنقاع التعليمي في بلادنا.

وكما بدأتُ الفقرة بسؤالين، أختمها باثنين أيضاً: كم هم هؤلاء الآباء الذين ينفقون عشرة بالمئة من يومهم في تربية أطفالهم؟ وكم يقضي الطفلُ أمامَ التلفاز أو الإنترنت، وكم يقضي أمام أبيه وأمه؟!

 

الهويّاتُ القاتلة، قراءةُ الهويّات في زمن العولمة

هذا عنوانُ كتابٍ للكاتب اللبناني- الفرنسي أمين معلوف، صدر بالفرنسيّة عام 1995 وتُرجم إلى العربيّة عام 2004 وسأقف عنده قليلاً تشجيعاً لقراءته وتبياناً لأهميّته.

وأبدأ الفقرة بسؤالٍ : إلى أيّ حدٍّ اليوم ينطبقُ ما كتبه معلوف على الواقع السوريّ؟ّ!

هو ليس كتاباً أكاديمياً، بل جاء على طريقة معلوف الخاصّة، الذي يغلب عليه الأدب دائماً. يشتملُ على خواطرَ عميقة، ومستوىً من الروح الإنسانية في التعاطي مع الهويّات المتعدّدة.

إنّ الكتابات العربيّة المُعاصرة عن الهويّة تميل غالباً إلى السير في أحد مسارين: إمّا الذين يتمسّكون بالهويّة تمسّكاً شديداً، ينتهي بشيء من الانغلاق، ولا يقبلون فكرةَ تعدد الهويات، ودائماً يختزلون الكائنَ أو المجتمع البشريّ في بُعدٍ واحد من أبعاده، وهذا الذي ساد للأسف في الإيديولوجيا السياسية المعاصرة في الوطن العربي، لتجدَ الوطنيّ المنكفىء الذي يرفض فكرةَ القوميّة، أو القوميّ الذي يرفضُ فكرةَ الوحدة الإسلاميّة، وكما تجدُ الإسلاميّ أيضاً والذي يقفزُ على هذه الانتماءات ويعتبرها دعوى جاهليّة! دون أن يتسّعَ صدرُ أيّ منها إلى فكرة تعدد الهويات التي أصبحت مجالاً مُعترَفاً به في المجتمعات الراشدة في عصرنا.

إنّ الحضارة الإسلاميّةَ ربما تمتاز عن غيرها من الحضارات الكلاسيكية بأنها من أكثر الحضارات التي امتزجت فيها الشعوبُ والأعراقُ والثقافات وحتى الأديان، لكن وللأسف أرادت الهويّة الإسلاميّةُ أن تمحو بقيّةَ الهويّات. المشكلة أنّ المسلمين جعلوا الهويّةَ الإسلاميّة متناقضةً لبقية الهويّات، وعملت على إنهائها، فتربّى طلابُ( الإخوان المسلمين) على مقولة (أنتَ امرؤٌ فيكَ جاهليّة) لكلّ من يخالفهم بالمنطق والتفكير، محاولين طمسَ كلّ الهويات والإبقاء على هوية(أنا مسلم وفقط).

لمّا نشأت الدولة الإسلامية أصبح لدينا أربعة مستويات من الناس:( العرب القيسية- العرب اليمانية- الموالي- والعبيد) وهذا أنتجَ الشعوبيّةَ فيما بعد. وحتى التسمياتُ كانت بأسماء الأُسر، كالدولة الأموية والعباسية والسلجوقية، فخلقوا أزمةً بأنفسهم دون أن يشعروا. إنّ هذه الطوباويّة المُغرقة سببها عدم النظر للتاريخ نفسه، وعدم الاعتراف بواقعهم، مما أدّى إلى إرباك غير طبيعي في العقل المسلم، وإرباك في تصوّر الدولة.

ومع العصر الحديث، ومع التمايزات القوميّة المعاصرة التي بدأت مع الحرب العالميّة الأولى، وتأثُّر العالم العربي بالصراعات القوميّة في أوروبا، واستيراد هذا النوع في العالم الإسلامي، ظهرت الإيديولوجيات الضيّقة في مسألة الهويّات.

أمّا المسارُ الثاني، فهو لبعض المثقفين العرب  الذين يتنكرّون لأيّة هويّة، بدعوى الإنسانيّة. فيرفضون أيَّ انتماء للهويّة، مثل علي حرب وأدونيس.

إنّ ميزةَ كتاب معلوف أنه يتناولُ الأمر تناولاً تركيبياً بعيداً عن التبسيط. والطريفُ أنّ هذا الإسهام في خطاب الهوية جاء بعنوان(الهويات القاتلة) ما يدلّ على أنّ مسألةَ الهوية لا تزالُ صعبةً بالنسبة لثقافاتنا حتى الآن.

يقول معلوف أنه لا يوجدُ مجتمعٌ يتسّمُ بالنقاء (لا الديني أو العرقيّ)، وأنّ المجتمعَ البشريّ يظلّ في النهاية مجتمعاً بألوان متعدّدة.

اشتملَ الكتابُ على إشارات عميقة حول مسألة الهوية وجوهرها. ومن الأفكار المهمّة أيضاً (مسألة التراتبيّة والسياق في الهويّة)، حيث يرى أنّ الهويّةَ الجمعيّة في النهاية هي ظاهرةٌ سياقيّة، تتحدّدُ بالنظر إلى الآخر. وهو يشيرُ أنّ الهويةَ في حالة نوع من التحوّل الدائم، والسياقُ هو الذي يحدّدُ أهميّةَ هوية معيّنة من هوياتنا. وربما تضمرُ هويةٌ وتظهر أخرى بضغطٍ من السياق.

وقد يكون التراتيبُ بضغطٍ اجتماعي أو سياسيّ، فالعروبةُ مثلاً هي ما تجمعُ اللبنانيين لا الدّين، فإبرازُ الهوية العربية على حساب الدينية مهمٌّ في لبنان. بينما في دولة مثل المغرب، ما يجمعُ العربَ والأمازيغ هو الإسلام، فالحكمةُ السياسيةُ هنا تقتضي إبرازَ الهوية الإسلامية وليس العربية أو الأمازيغية، وهكذا.

والمشكلةُ الأساسية التي يرى معلوف أننا نعاني منها، وهي سبب الكثير من الصراعات المعاصرة، هي بقاء الهوية القَبليّة في هوياتنا المعاصرة.

يرفضُ معلوف ما يميلُ إليه بعضُ المثقفين العرب، سواء الذين يركّزون على هوية واحدة ويسعون إلى كبت الهويات الأخرى، أو الذين يسعون إلى محو كلّ الهويات بدعوى العولمة والإنسانية. يقول: ” لا يمكننا أن نكتفي أن نفرضَ على إرادات الناس الطائعين الاختيار بين التأكيد المفرط على هويتهم وفقدان كلّ هوية أخرى. ”

وفي الكتاب شهادةٌ مثيرةٌ- من كاتبٍ ومؤرّخ مسيحي- وتدلّ على النزاهة التي يتسّم بها معلوف في كثيرٍ من كتاباته ذات الصلة بالإسلام. يقول في الصفحة 52: ” لو كان أجدادي مسلمين في بلدٍ فتحته الجيوشُ المسيحية، بدلاً من كونهم مسيحيين في بلدٍ فتحته الجيوش المسلمة، لا أظنّ أنهم كانوا استطاعوا الاستمرارَ في العيش مدّة 14 قرناً في مدنهم وقراهم مُحتفظين بعقيدتهم ” ثم يقول: ” ماذا حدثَ فعلياً بمسلمي إسبانيا وصقلية! لقد اُختفوا عن آخرهم. ذُبحوا أو هجّروا أو تمّ تعميدهم بالقوّة. ”

ويقول: ” التسامحُ لا يُرضيني، فأنا لا أرغبُ أن يتسامحَ معي الآخرون، بل أطالبُ أن يعتبرونني مواطناً له كامل الحقوق، مهما تكن مُعتقداتي. ” وهنا فكرةُ الفرق بين( التسامح بالمعنى القديم) وبين( المواطَنة المتساوية المعاصرة). فالمواطَنةُ تقتضي ألا يكون هنالك منّة من أغلبيّة على أقليّة، ولا من حاكمٍ على محكوم. إنّ الدولةَ المعاصرة ليست لأتباع دينٍ معيّن، بل هي لكلّ مواطنيها. بمعنى أنّ العقدَ الاجتماعي انتقلَ من رابطة الدّين إلى الجغرافيا، لذلك لم يعد التسامحُ بمعناه القديم كافياً في العصر الحديث.

يقرّ أيضاً في الكتاب أنّه لا توجدُ هويّة أقوى وأعمق من الهويّة الدينيّة. يقول: ” شعورُ الانتماء إلى عقيدةٍ مشترَكة هو اليوم الرباطُ الأوثقُ للقوميّات. ” ويقول أيضاً: ” لن يتراجعَ الدينُ أبداً إلى منسيّات التاريخ، لا بالعلم ولا بأيّ نظام سياسي. كلّما تقدّمَ العلمُ كان على الإنسان أن يتساءلَ أكثر عن غائيّته. إنّ إلاهَ ال(كيف) سيتلاشى يوماً ما، لكنّ إلاهَ ال(ماذا) لن يموتَ أبداً.

ويتناولُ الكتابُ قضيّةَ القوميات والتمايز القومي المعاصر، والتنكُّر للتراث المشترَك بين العرب والكُرد والأتراك وغيرهم من الأقوام. ويشيرُ إشارات لطيفة حول نظرة العرب بعضهم لبعض في لحظة هذا التمايز، فيقول: ” في تفكُّك الإمبراطورية العثمانية اجتهدت مختلفُ الشعوب لتحميل بعضها مسؤوليةَ الآلام التي تعاني منها. إذا كان العربُ لا يتقدّمون فذلك بسبب الحُكم التركي الذي كان يجمّده، وإذا كان الأتراكُ لا يتقدّمون فذلك لأنهم يجرّون منذ قرون عبءَ العالم العربيّ. ” ثم يقولُ ساخراً: ” تمرّدَ العربُ على الأتراك مقتنعين أنّ نهضتهم ستقلعُ أخيراً، بينما كان الأتراكُ منهمكين في إزالة الآثار العربية عن ثقافتهم ولغتهم ولباسهم، ليتمكّنوا من الانضمام إلى أوروبا بسهولة أكثر وخمولة أقلّ. ”

طبعاً ما حدث بعد ذلك أنه لا هؤلاء بتحرّرهم من الحكم التركيّ بنوا حضارةً مستقلّة عن الأتراك وتحرروا مما سمّوه( الجمود التركي)، ولا الأتراكُ بتحررهم مما كانوا يرونه عبئاً عربياً وصلوا لمبتغاهم.

وبعد تجربة حوالي مئة عام على الحرب العالمية الثانية، بدأت هذه الشعوب تدركُ الأرحامَ القديمة والتجربة التاريخيّة المشترَكة.

إنّ الفضاءَ الحضاري، بتقديري، يبقى أهمّ من الانتماء القومي. الفضاءُ الحضاري المشترك هو الأساسُ لبناء وحدة وقوّة مشتركة. وربما تكون تجربة الاتحاد الأوروبي شاهدٌ على ذلك. إنّ ما يجمعُ العربَ والأتراك أكبر وأعمق مما يجمع بين الألمان والفرنسيين مثلاً. والثأرُ التاريخي بينهما لا يُقارَن بالثأر بين الألمان والفرنسيين. وما جرى بين السُنّة والشيعة ر يقارن بالحروب الدينية في أوروبا في القرنين السابع والثامن عشر.

ويشيرُ أيضاً إلى فكرة مهمة تتعلّق ب(الديكتاتوريات العلمانيّة) ودورها في زرع روح التعصُّب. فيقول: ” الدكتاتوريات التي تدّعي العلمانية هي مناجمُ التعصّب الديني ” و ” أنّ العلمانيّةَ دون الديمقراطية هي كارثةٌ على الديمقراطية والعلمانيّة معاً. ”

ربّما اليوم يشكّلُ هذا الكتاب درساً لكلّ السوريين، وأين هم ذاهبون في الانغلاق؟ وهل الصواب أن تكون الهويّات الاثنية والمناطقية طافيةً! هذه الهويات الصغيرة والتي من المفترَض أن تكون غير طاغية( مع احتفاظها بخصوصيتها)، ولكنها صارت تشكّلُ خطراً على مستقبل سوريا القادمة.

وأُنهي هذا العنوان أيضاً بأسئلة: هل الهويّاتُ يمكن أن تُختصَرَ، لتكوّن هويّةً إنسانية شاملة؟ هل يمكنُ أن تنقشعَ سحبُ وغبار الهويّات الوهميّة؟ وكيف نوفّقُ بين الهويّات الخاصّة والهويّة الوطنيّة الجامعة؟!

الصراعُ بين الهويّة والوجود، كُرد دمشق أنموذجاً

عندما يتطرّقُ الحديث عن الكرد السوريين المتواجدين خارج جغرافيّة الشمال السوريّ، فأولُ من يخطرُ في البال هم(كردُ دمشقَ) وحيّهم(الأكراد أو ركن الدين) كما أطلقت عليه حكومة الوحدة السورية المصرية، والذي يشكّلُ أكبرَ معاقل الكرد في دمشق.

يعودُ الأصلُ التاريخيّ للكرد في دمشقَ إلى الحقبة الأيوبية، أي منذ ما يزيد عن 800 عام. أكرادُ دمشقَ بدؤوا بالقدوم مع(شيركوه) وأخوه(نجم الدين أيوب) والد صلاح الدين الأيوبي، حيث كانوا يعملون مع(نور الدين الزنكي) في محاربة الصليبيين حوالي سنة 1149م. لكن في سنة 1170 تقريباً بدأ القدومُ الكبير لمجموعات كردية، واستقرّوا في (حارة الأكراد) كما كانت تسمّى، وهي امتدادٌ لجبل قاسيون.

وازدادَ ذلك الوجود الكرديّ في فترة الحُكم العثماني لبلاد الشام، بالترافق مع وفود الحجّ القادمة من تركيا حينها، عندما استغلّ عددٌ من العوائل الكردية العريقة القادمة من (جزيرة وان) ديار بكر رحلةَ الحجّ ليستقرّوا في دمشقَ، وفق بعض المؤرخين الكرد. خصوصاً وأنّ دمشقَ كانت معروفةً ب( قبلة الهاربين من الظلم). ومنها بدؤوا بتأسيس أعمالهم الخاصّة والمشاركة في مجمل المجالات في سوريا، بحكم أنهم أصبحوا ( سوريي الهويّة ).

عاشَ وسكنَ في هذا الحيّ مشاهير سوريون وعرب، منهم الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي سكن الحيّ مؤقتاً بعد النكبة الفلسطينية. وفيه الكثير من المدارس الدينية والتاريخية والمقامات، وأبرزها المدرسة الركنيّة وضريح الأمير ركن الدين الذي كان حاكم مصرَ والشام تحت إمرة الملك العادل. ويعود الضريح للقرن الثالث عشر، إضافة إلى مجمع أبو النور الإسلامي الذي أسسه الشيخ كفتارو.

وأوّل وأبرز العوائل الكرديّة التي سكنت دمشق كانت عائلة الناصر صلاح الدين، وإليها ينتمي رؤساء الوزراء أمثال عطا الأيوبي في الثلاثينات ومحمود الأيوبي في السبعينات. وكذلك عوائل بدرخان وعشائر الظاظا والوانلي وأل رشيّ والدقورية والشيخان والكيكان، وغيرهم من العوائل العريقة ( كرد علي- زركلي- بكداش..)، التي كانت مشاركةً بقوة في مجالات على الساحة السورية، لا سيما الاقتصادية والسياسية والثقافية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر القائد العسكري فوزي سلو، الذي تقلّد منصب رئاسة سوريا من 1951 وحتى 1953. وكذلك عطا الأيوبي رئيس الوزراء، الذي شكّل الحكومةَ مرتين، الأولى 1936 خلال رئاسة محمد علي العابد( وهو كردي أيضاً) والثانية 1943 بعد وفاة رئيس الجمهورية تاج الدين الحسني، والسياسي عصمت وانلي ونور الدين ظاظا (الذي كان من المساهمين الأوائل في تأسيس الحركة الكردية في سوريا، مع الكاتب أوسمان صبري). وكذلك على الصعيد الثقافي العلاّمة محمد كرد علي، مؤسس أول مجمع للغة العربية. إضافة إلى شخصياتٍ كانوا أعمدة الدراما السوريّة، ك( عبد الرحمن آل رشّي- خالد تاجا- منى واصف- وطلحت حمدي)

الكردُ سرعان ما تأقلموا مع محيطهم العربي، وأصبحوا يشكّلون مجتمعاً دمشقيّاً واحداً، وصار حيّ الأكراد جزءاً من تاريخ المدينة وعمرانها، رغم تميّز البيت الكردي في ذلك الحيّ.

ولن تكن الإيديولوجيات القوميّة ذا تأثير أو وجود في الحياة اليوميّة، وبالتالي كانت الرابطةُ اجتماعية أو دينية عبر الزمن. وانخرط كردُ دمشق في مجالات كثيرة، وساهموا بشكلٍ قوي في تطوير الاقتصاد الدمشقي، لا سيما في ناحية الصناعة الرقيقة كالحرير والنسيج وصناعات النحاس والحدادة والتجارة العامة.

الاندماجُ والانصهار السلس والسريع للكرد بمحيطهم العربي- الدمشقي أثّر على حفاظهم على لغتهم الأم، فأصبح أغلبهم ناسياً لغته الكردية، وأصبحت العربية هي لغتهم في التواصل. لكنهم بالرغم من ذلك لم يتنكّروا لهويتهم الكردية. هم يعتبرون أنفسهم دمشقيين أكراد، رغم الكثير من الاتّهامات لهم بضعف شعورهم القوميّ.

لقد آمنَ الكرد في دمشق بالهويّة الوطنية، دون إلغاء هويتهم الخاصة.  وعملوا على مبدأ أن التعاقدَ الأساسيّ هو حماية هذا الوطن(سوريا)، وأنه في (دولة المواطنة) المشتركُ هو راية الوطن، والخاصّ يُحتفى به.

هل الإيمان بالهويّة الوطنيّة يلغي الهويّات الخاصّة؟

السؤالُ الصعبُ الذي ما زال يطرحهُ العربُ على أنفسهم هو سؤال الهُويّةّ! وربما أنّ الهويةَ الواقعيّة لم تُنتج بعدُ قناعةً لدى أهلها، فيتحدّثون عن الهوية على أنها مشروعٌ ممكن.

فما هو حالُ الهويّة في العالم العربي الآنَ؟ مع الأخذ بعين الاعتبار التنوّع بين أقطاره. وكيف تلعبُ الأنظمةُ القمعيّةُ على أوتار الانتماءات والهويات، كي تجعلَ المجتمعَ في حالة صراعٍ دائمٍ؟ وكيف تجعلُ من الهويات الضيّقة هوياتٍ يعودُ إليها أفرادها؟ وإلى أيّ مدىً استطاعت هذه الأنظمةُ انتزاعَ الهويّة الكليّة الجامعة من مواطنيها، وأعادتهم إلى هوياتهم الثقافية التي ينتمون إليها؟ وما هي الوسائلُ التي تقوم بها للإبقاء على حالةٍ من الصراع على الهويّة داخلَ المجتمع؟!

الهويّةُ هي شعورٌ بالانتماء لمجموعةٍ من الناس بحُكم الارتباط معهم بمُشتَركات ثقافية أو لغويّة أو قومية أو دينية. وفي أيّ مجتمعٍ تتعدّدُ الهوياتُ الجزئيّةُ فيها، وهذا يعودُ لطبيعة الاختلاف الموجود في كلّ المجتمعات. ولكن هذه الاختلافاتُ لا تعني الانفصالَ عن الهويّة الكُليّة المُتجسّدة في الهوية الوطنيّة الجامعة، التي تنصهرُ في داخلها كلُّ الهويات ويكون ولاءُ مواطنيها لها.

الهويّةُ هي مبدأٌ من مبادىء العقل.(أنا/ أنت). هي شعورٌ بالانتماء يحدّدُ لي (مَن أنا )، وبالتالي أنا عندما أشعرُ أنني عربي فهذا يعني أنّ هويتي عربية، وإذا قلتُ أنا مسلم إذاً هويتي مسلمة، وإذا قلتُ أنا سوري فأنا هويتي سورية. وإذا قلتُ أنا سُنّي أو علويّ أو درزي فأنا أمتلك هويةً طائفية. أو أنا من قريةٍ ما أو مدينة ما فأُعرّفُ هويتي انطلاقاً من المنطقة التي أنتمي إليها. هذا يعني أنني أمتلكُ من الهويّات ما لا حصرَ له!

نعم، وقد أمشي وأنا أحملُ معي سبع أو ثماني هويات، كأن أكون(ذكراً- كردياً- سورياً- آسيوياً- مسلماً- علوياً… وهكذا)، وقد تنسجمُ هوياتي أحياناً وقد تتعارضُ فيما بينها!

في الحالة الطبيعيّة، الموضوعية، التي تكون فيها الهويّة معبّرة عن المجتمع، فإنّ هذا المجتمعَ لا يعيشُ مشكلةَ هوية، بل إنّ جميعَ الهويات الجزئية تنصهرُ بالهوية الكُلّية. فإذا قلتُ (أنا سوري) بمعزلٍ عن هويّاتي الأخرى، فلا تظهرُ في المجتمع مشكلةُ الهوية، ولكن عندما تصبحُ كلُّ هويّة من الهويات الواقعية التي ورثتُها هي الهوية التي تعبّر عن ذاتي، فهذا يعني أنّ الهوياتِ تكون تعبيراً لا عن الاختلاف فقط، بل تعبيراً عن عدم الانتماء إلى الهويّة الكُلّية.

إنّ الانتقالَ من الهويّة الجزئية التي أعيها إلى وعي هذه الهوية على أنها الهوية الحقيقية لي، فهذا يعني أنني أجعلُ منها في حالة نفيٍ للهويات الأخرى.

بكلمةٍ أدقّ: القوميّةُ هويّة. والانتقالُ من القوميّة إلى القومويّة( التعصّب الديني) يجعلُ هويتي نافيةً لهوية القوميات الأخرى، مثل النازيّة مثلاً.

الدينُ هويّة. غير أنّني عندما أنتقلُ من التديّن إلى الإسلامويّة( الأصولية أو التعصّب الديني)، أنتقلُ من هوية طبيعية دينية موجودة لدى كل البشر إلى هوية متعصّبة ضدّ أديان أخرى، وقسْ على ذلك.

إذاً، الهويةُ في طبيعاتها لا تكون نافيةً للهويات الأخرى في مجتمعٍ يقومُ على الاعتراف المتبادَل والمواطنة والدولة.

الانتماءُ إلى الوطن/ الدولة يحققُ لي انسجامَ الهوية مع المجتمع، وتصبحُ الهوياتُ الجزئيةُ حالةً من الانتماءات الفلكلورية/ الثقافية التي لا تتناقضُ مع الهويّة الكُليّة.

في الواقع الحالي، عندما نجدُ أشكال الصراع القائمة قائمة على صراع هويات، فهذا يعني أنّ هويّةَ الدولة لم تنتصر، وهذه الهوية أبقت على الهويات الأخرى قائمةً على أنها هي الانتماءات القوية. وفي ظلّ هذا يتحوّلُ المرءُ إلى هويته الجزئية المُتعصّبة، بوصفها مكان أمان لهويته الضيّقة أمام هويات أخرى. فينشأُ التناقضُ بين الهويات، وعندما تكون القضيةُ صراعاً على السُلطة يعبّرُ عن نفسه بصراع هويات، وليس هذا فحسب، تنتقلُ الهويةُ من حقلها الطبيعي إلى الإيديولوجي، فيصبح الصراعُ هنا صراعَ هويات، مع أن الصراعَ الحقيقي هو( استخدام الهوية في الصراع على المصالح الأرضيّة).

ولنأخذ نموذج الحرب اللبنانيّة مثلاً: تلك التي استمرّت سنوات، وما زالت آثارها موجودةً حتى الآن.

لبنانُ مجتمعٌ تكوّنَ طائفياً، وعندما بدأت تتناقضُ الحقوقُ وبدأ الصراعُ على الهيمنة انفجرت الحربُ الأهليّة، وعبّرت عن ذاتها بصراع طوائف.

لقد بدا الصراعُ وكأنه( صراع هويات طائفية)، ولكنه في حقيقته( صراع مصالح) عبّر عن نفسه بالصراع الطائفي. ولم تنتصر الهويّةُ  اللبنانيّة حتى اليوم.

إنّ الانتقالَ من الصراع الثقافي إلى صراع مسلّح يعني الانتقال إلى الحرب الأهليّة.

بعد الربيع العربي، ولمواجهة فكرة(الحريّة)، كان لا بدّ من تزييف الصراع وتحويله إلى صراع( حرب أهلية بين الطوائف)، فإذا بالمجتمعات التي انفجرت فيها براكين الحرية فجأةً يظهر في داخلها هوياتٌ متصارعة وقاتلة!

العراقُ، وبعد زوال الدولة المركزية التي كانت استبدادية حتماً، خُلقت فيها الشروط للانتقام الهوياتي(شيعة ضدّ سنّة)، وبرز معه ردّ فعل سنّي ضدّ الشيعي، وتأسس النظامُ الجديد طائفياً ووزّعت المناصبُ طائفياً. أي تحوّلت الهوياتُ التي كانت متعايشة عبر زمن طويل إلى متصارعة، انطلاقاً من أنّ هناك هويةٌ أرادت أن تسيطرَ على حساب الأخرى.

كلُّ هويّةٍ تريدُ أن تنفي الهويات الأخرى بالقوة تتحوّلُ إلى هويّةٍ قاتلة. وكلُّ ردّ فعلٍ على هويّة قاتلة تعني حرباً أهليّة.

لكن يجب ألاّ نستسلمَ لهذا(الزيف الواقعي)، لأنه جاء حينٌ من الدهر لم تكن هذه الهوياتُ في صراع، بل كانت عبارة عن ثقافات متعددة لها طقوسها.

إنّ هويتي القومية(الكردية) لا يجب أن تتناقضَ مع (الهوية العربية) في سوريا مثلاً.

والانتقالُ من صراع الهويات يجب أن يتمّ عبر الانتقال إلى (الهوية الجامعة).

والدولةُ القادرةُ على إنشاء وطنٍ تتمازجُ فيه الهويات(مع استمرار الهويات) هي (الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة)، التي تجعل من الهوية الوطنية أساساً للمواطَنة، فيكون الحقّ انطلاقاً من الهوية الوطنية وليس من الهوية الضيّقة.

إننا نطمحُ إلى مجتمع تنتصر فيه الهويّة الكليّة، مع بقاء الهويات الأخرى بوصفها هويات ثقافية لها طقوسها وعاداتها. ويجب ألاّ نحرمَ المجتمع من التعبير عن هوياته الثقافية إطلاقاً، لأنها متكوّنة تاريخياً، وباستطاعتها أن تتعايشَ دون عنف.

الخلاصُ في الاعتراف بالحقّ( حقّ الهويات أن تعبّر عن نفسها في دولة المواطنة)، أما تحميلُ الهوية إلى عنصرٍ  من عناصر الغلبة فهذا لن ينتجَ إلاّ مجتمعاً قابلاً للانفجار في أيّ وقتٍ من الأوقات.

الخلاصُ في(الدولة الوطنية)، الهوية الوطنية، دون أيّ اعتداء بهوية تشعرُ بالغلَبة على الهويات الأخرى، وإلاّ سنعيشُ مأساةً طويلة الأمد.

وهنا يبرزُ دور النُخب في القول الفصل في هذا الأمر. أمّا النخبُ التي استمرأت الحديثَ عن الهويات القاتلة ولها مصلحة في ذلك، فإنها جزءٌ لا يتجزّأ من الكارثة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى