أبحاث ودراساتافتتاحية العددجميل رشيدمانشيتملف العدد 60

معاهدة لوزان.. بين الطُّموحات الكُرديّة والنَّوايا التُّركيّة

جميل رشيد

جميل رشيد

جميل رشيد
جميل رشيد

تمهيد:

تُعَدُّ معاهدة لوزان مفصلاً رئيساً في تاريخ منطقة الشَّرق الأوسط، بل العالم أجمع، حيث بموجبها رُسِمت حدود الدّول القائمة حاليّاً، وكانت أشدّ وطأة على الكُرد ووطنهم كُردستان؛ حيث قَسَّمت وطنهم إلى أربعة أجزاء، وكرَّست لحالة انقسام في المنطقة على أساس من الفروق القوميّة والإثنيّة، شَكَّلت معها بؤرة قابلة للانفجار في أيِّ لحظة، ونشهد تداعيات تلك المعاهدة من خلال الصراعات الدّائرة رحاها في المنطقة.

جاءت المعاهدة لتتقاسم تَرِكَةِ الدّولة العثمانيّة البائدة بين دول الحلفاء المنتصرين في الحرب العالميّة الأولى، وأعادت تقسيم المنطقة إلى دول ورسمت لها خرائطها ووضعت حدوداً ملغومة يمكن لها أن تنفجر في أيِّ وقتٍ، وتكون سبباً كافياً لاندلاع الحروب والصراعات بين شعوب المنطقة، التي طالما جمعها تاريخ مشترك من التَّعايش. كما أنَّها قسَّمت الشَّعب الكُرديّ بين أسوار تلك الجدران والحدود، فبات الأب في جزء والأولاد في جزء آخر، فيما تشتَّت قسم كبير في المنافي والمدن الحديثة التي جرى تشييدها فيما بعد وخاصَّةً في المتروبولات التُّركيّة.

لا يمكن اختصار تأثيرات معاهدة لوزان على الشَّعب الكُرديّ بأنَّها ألغت البنود التي أقرَّتها معاهدة “سيفر” عام 1921 فقط؛ بل إنَّها ألغت وجود الشَّعب الكُرديّ عبر ترك مصيره بيد الدّول التي تقاسمت وطنه، وجعلت من تبقّى منهم جزءاً من شعوبها “التُّركيّة، العربيّة، والفارسيّة”، وتنكَّرت لثقافته وإرثه الحضاريّ.

مع حلول الذِّكرى الـ/100/ لتوقيع معاهدة لوزان، يتجدَّد الجدل حول مصيرها، عبر طرح العديد من الأسئلة التي تتمحور حول إمكانيّة تجديدها أو نسفها، فيما تدور التكهُّنات من قبل جميع الأطراف حول رسم معالم معاهدة جديدة مكمِّلة للوزان، خاصَّةً في خِضَمِّ الصراعات السِّياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة التي تدور في العالم.

إلا أنَّ للوزان معانِيَ ومغازِيَ مختلفة لدى كُلٍّ من الكُرد والأتراك، ففيما خرج الشَّعب الكُرديّ صفر اليدين من المعاهدة ونسف الحلفاء، وبموافقة تركيّة، كُلَّ حلم لهم بإقامة دولة مستقلّة لهم، ولحق بهم الغبن، تَلمَس لدى الجانب التُّركيّ أيضاً عدم رضا من المعاهدة، معتبرين أنَّها ألغت “السَّلطنة العثمانيّة”، وخسر الأتراك العديد من الأراضي التّابعة لهم مثل الموصل وحلب وما إلى ذلك. هذه الأصوات المعادية للوزان من الأوساط التُّركيّة تعالت بعد صعود حزب العدالة والتنمية سُدَّة الحكم في تركيّا وادَّعت بأنَّ نتائجها جاءت مُجحفة بحَقِّ تركيّا، وتطالب بإعادة الأراضي التي خسرتها، وكذلك فرض سيادتها الكاملة على الممرّات البحريّة.

ورغم أنَّ المعاهدة وُقِّعت بشكل خاص بين تركيّا ودول الحلفاء؛ إلا أنَّ الأولى تجاوزت بنود المعاهدة، بعد أن اشتدَّ عودُها وأسس كمال أتاتورك الجمهوريّة التُّركيّة على أنقاض السَّلطنة العثمانيّة، وأنشأ في تركيّا نظاماً شرقيّاً بلبوس غربيٍّ، وتنكَّرَ للحقوق الكُرديّة، بل أغرق جميع المطالب الكُرديّة في بحار من الدِّماء، خاصَّةً في الفترة الممتدَّة من عام 1925 وحتّى عام 1938، وأخمد العديد من الثّورات الكُرديّة، بدعم من الدّول التي وقَّعت على معاهدة لوزان، وخصوصاً بريطانيا وفرنسا، ويمكن اعتبار قرارات وتصرّفات أتاتورك وتركيّا امتداداً لما حصل في لوزان، بل تعتبر تلك الدّول شريكة فيه.

فهل ستُكفِّرُ الدّول الغربيّة عن ذنبها بنقض وإلغاء معاهدة لوزان المشؤومة، كما يُسمّيها الكُرد، وتُعيد تفعيل بنود معاهدة “سيفر” وتنصف الكُرد، بعد مرحلة طويلة من الإنكار والتَّهميش لحقوقهم المشروعة، أم ستنساق مع الطموحات والرَّغبات التُّركيّة الاحتلاليّة، وتمنحها المزيد من الصلاحيات للتوسُّع في المنطقة، خاصَّةً أنَّ الرَّئيس التُّركيّ الحالي أردوغان قد جهَّزَ عُدَّته لاستقبال المئويّة الأولى للمعاهدة عبر احتلال أجزاء كبيرة من الأراضي السُّوريّة والعراقيّة، بل تمدَّدَ نحو القارة الإفريقيّة في ليبيا، وكذلك في البحر الأبيض المتوسّط، وفتح ملفّ الأراضي والجزر المتنازَع عليها مع اليونان، وهل سنشهد حَلّاً لمسألة تقسيم قبرص، أم أنَّ تلك الدّول ستُعيد تركيّا إلى المربَّع الأوَّل، وتتعامل معها كما تعاملت مع السَّلطنة العثمانيّة في أواخر عهدها، عندما أطلقت عليها اسم “الرَّجل المريض”، وتُلجم الطموحات التوسُّعيّة التُّركيّة؟

سنحاول في هذه الدِّراسة، تسليط الضوء على الظروف التّاريخيّة التي وُقِّعت فيها المعاهدة، وكذلك سنعرض الدَّور البريطانيّ في التَّمهيد لتوقيعها وحَثِّها للأطراف الأخرى للموافقة عليها، إلى جانب تبيان وضع تركيّا والشَّعب الكُرديّ في تلك المرحلة، ومحاولات مصطفى كمال أتاتورك استمالة الكُرد إلى جانبه وإشراكهم فيما أطلق عليه حينها “حرب التحرير الوطنية أو حرب الاستقلال” بعد أن غزت دول غربيّة عديدة الأراضي التُّركيّة وقسَّمَتها فيما بينها، وكذلك انقلاب أتاتورك على الكُرد وخداعه للقيادات الكُرديّة، أثناء التَّوقيع على معاهدة لوزان، وكذلك بعدها، عندما لجأ إلى أسلوب العنف المعمَّم في التَّعامل مع أيِّ مطالب كُرديّة. كما سنستعرض المساعي التُّركيّة الحاليّة في تعديل معاهدة لوزان بما يلائم مصالحها القوميّة وتعيد لها مجد السَّلطنة العثمانيّة، عبر إخضاع جميع شعوب المنطقة لسلطتها، تحت شعار الإسلام.

وسيكون من المفيد أيضاً إظهار النّوايا الغربيّة من وراء توقيع هذه المعاهدة، وهل ستستمرُّ على نهجها السّابق في التَّعامل مع قضيّة الشَّعب الكُرديّ، عبر سياسة الإنكار لحقوقه المشروعة، أم سنشهد تغيّراً في مواقفها، في ظِلِّ التغيُّرات التي تَطال العالم أجمع.

الظروف التّاريخيّة التي وُقِّعت فيها معاهدة لوزان:

افتتح مؤتمر لوزان في مدينة لوزان السويسريّة في نوفمبر/ تشرين الثّاني من عام 1922، وحضرته وفود من كُلٍّ من الدّول التّالية “تركيّا، بريطانيا، فرنسا (الجمهوريّة الثّالثة وكان “ريمون بوانكاريه” رئيس وزرائها آنذاك)، إيطاليا (كان يرأسها موسوليني)، اليونان، يوغسلافيا، رومانيا، واليابان”.

لم تكن السَّلطنة العثمانيّة الخارجة مهزومة من الحرب العالميّة الأولى في وضع يؤهّلها لوضع أيِّ شروط على دول الحلفاء المنتصرة في الحرب، بل كانت تركيّا الحاليّة مقسَّمَة ومُحتلَّةً من قبل تلك الدّول، فوقعت أستانا (إسطنبول الحاليّة) تحت الاحتلالِ البريطانيِّ، عندما اضطرَّ السُّلطان مُحمَّد السّادس (تولّى السُّلطة في 4 يوليو/ تمّوز 1918م إلى 1 نوفمبر/ تشرينَ الثّاني 1922م) العثمانيّ لتوقيع معاهدة “سيفر” مرغماً تحت ضغط الإنجليز. وأعلن الضابط العثمانيُّ المغمور مصطفى كمال أتاتورك رفضه لمعاهدة “سيفر”. جمع أتاتورك ممثّلين عن الولايات العثمانيّة وما تبقّى من قوّاته في أنقرة وأسَّس ما أطلق عليه اسم “الجمعيّة الوطنيّة العليا”، والتي هي بمثابة برلمان لتركيّا، وصَوَّت أعضاؤها على رفض المعاهدة التي نصَّت على إنشاء وطن قوميّ للشَّعب الكُرديّ.

وفي هذا الصدد يذكر المفكّر الكُرديّ عبد الله أوجلان في مرافعته الخامسة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبيّة أنَّ الاجتماعات التي عقدها أتاتورك مع رؤساء العشائر وقادة جمعيّة تعالي كُردستان وشيوخ الدّين في كُردستان؛ كان لها الأثر الأقوى في تشكيل تركيّا الرّاهنة، ويؤكِّدُ أنَّه لولا مساندة الكُرد لأتاتورك فيما أطلق عليه “حرب الاستقلال”، التي بدأت في 19 مايو/ أيّار 1919 واستمرَّت حتّى 24 يوليو/ تمّوز 1923”. ويؤكّد أوجلان أنَّه لولا الكُرد لكانت قُسِّمت تركيّا بين الدّول الأوروبيّة المنتصرة في الحرب العالميّة الأولى. ويشير إلى أنَّ اجتماعات أتاتورك في “أرزروم” و”سيواس” وحتّى في آمد/ ديار بكر، شكَّلت نقطة الانطلاق الأولى نحو إعادة لَمِّ شمل تركيّا الحاليّة، حيث شارك الكُرد بفعّاليّة في حرب الاستقلال، بعد أن وعدهم أتاتورك بأنَّ تركيّا الجديدة ستكون وطناً مشتركاً للكُرد والأتراك. ويسبر أوجلان أغوار الماضي عبر تسليط الضوء على الخلافات الدّائرة بين أتاتورك والنُّخبة الحاكمة التي ضَمَّت كبار قادة جمعيّة الاتّحاد والترقّي، ويؤكِّد أنَّها – أي الجمعيّة – سلبت أتاتورك إمكانيّة إجراء تغيير ديمقراطيّ في تركيّا، وسيطرت الذِّهنيّة والتيّار الشّوفينيّ القومويّ التُّركيّ على قرار تركيّا، ما دفعها لإنكار حقوق الشَّعب الكُرديّ، وارتكاب مجازر ضُدَّهم.

في ذلك الحين، انقسمت السَّلطنة العثمانيّة على نفسها، حيث تشكّلت سُلطتان تتنازعان على السِّيادة؛ إحداها تابعة للسُّلطان ومقرُّها في إسطنبول، والذي بات لا يملك القوّة الكافية لتمرير قراراته، والسُّلطة الثّانية لـ”الجمعيّة الوطنيّة” ومقرُّها في أنقرة، واندلعت بينهما حرب، حيث أرسل الخليفة جيشاً للقضاء على سُلطة أنقرة، إلا أنَّ أتاتورك تمكَّنَ من هزيمته.

انتهت السَّلطنة العثمانيّة بشكل سياسيّ، عندما أعلن مصطفى كمال أتاتورك إلغاءَها (بموجب تصويتِ الجمعيّة الوطنيّة في الأوَّل من نوفمبر/ تشرين الثّاني عام 1922)، وولّى وليَّ العهد باسم الخليفة “عبد المجيد الثّاني في 19 نوفمبر/ تشرين الثّاني من ذات العام، ومنصب الخليفة هو دينيٌّ فقط دون صلاحيات سياسيّة وحكوميّة أو تنفيذيّة.

كانت الظروف السّائدة قبل انعقاد مؤتمر لوزان في غير صالح الكُرد وحتّى الأتراك أيضاً، ولعب الإنكليز دوراً كبيراً في رسم خرائط المنطقة وتحديد مصيرها. فبعد انعقاد مؤتمري القاهرة (1) و(2) حول القضيّة الكُرديّة، تحت إشراف وزير المستعمرات البريطانيّ آنذاك “ونستون تشرشل”، وبمشاركة المندوب السّامي البريطانيّ في العراق “مستر كوكس” وعضو استخباراتها “مسز هيل”، ورفضهما إنشاء وطنٍ قوميّ للكُرد في العراق، اعتقاداً منهما أنَّ الكُردَ يميلون للتَّحالف مع الأتراك الذين بدورهم تحالفوا مع لينين والثَّورة البلشفيّة، ما زاد من مخاوف البريطانيين فقدان إقليم الموصل المكتشف فيه النَّفط حديثاً، رغم محاولة “تشرشل” نيل موافقة المؤتمر على إنشاء وطن للكُرد.

سعت بريطانيا إلى كسب تركيّا بقيادة أتاتورك إلى جانبها، بعد أن تخوَّفت في البداية من توجُّهاته نحو روسيّا السّوفييتيّة، فجاء مؤتمر لوزان ليضع تركيّا أمام استحقاقات مرحلة جديدة، وكذلك الكُرد.

 

أهميّة معاهدة لوزان لتركيّا:

 

عُقِدَ مؤتمر لوزان في 22 نوفمبر/ تشرين الثّاني عام 1922، أي بعد ثلاثة أيّام من تولّي الخليفة الذي عيَّنه أتاتورك على السُّلطة في إسطنبول.

ترأس الوفد التُّركيّ إلى المؤتمر وزير الخارجيّة آنذاك ونائب أدرنه “عصمت إينونو”، وضَمَّ أيضاً كلّاً من “الدكتور رضا نور بك وزير الصحّة نائب سينوب، وحسن بك الوزير السّابق نائب طرابزون، ومفوَّضَين عن حكومة الجمعيّة الوطنيّة الكبرى لتركيّا”.

وترأس الوفد البريطانيّ اللورد “كرزون”، فيما لم تتمّ دعوة الكُرد أو أيَّ وفدٍ يمثّلهم إلى المؤتمر، حيث وضع الأتراك شرطاً لحضور المؤتمر بألا يحضر الكُرد أو من يمثّلهم، وهو شرطٌ قبلت به جميع الدّول المشاركة، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، ما أوحى إلى أنَّ المؤتمر عُقِدَ ليلبّي مصالح وطموحات أتاتورك والدّول الغربيّة المنتصرة في الحرب العالميّة الأولى.

خلال جلسات المؤتمر أنكر “إينونو” حقوق الكُرد، ودافعَ عن حقوق تركيّا في الجزر اليونانيّة، وكذلك عن “الميثاق الملّي” الذي أقرَّه “مجلس المبعوثان” في عام 1920، في آخر عهود السَّلطنة العثمانيّة، ويعتبر “مجلس المبعوثان” بمثابة المجلس التَّشريعي للسلطنة، بعد البدء بـ”المشروطيّة الثّانية”، إثر مطالبة السُّلطان عبد الحميد بتفعيل دستور عام 1876. و”الميثاق الملّي” يتضمَّن ستّة بنود، وينصُّ على ضَمِّ أجزاء كبيرة من الأراضي السُّوريّة والعراقيّة وبعض الجزر اليونانيّة إلى تركيّا.

رفضت الوفود الغربيّة في المؤتمر شروط “إينونو”، ما أدّى إلى تعثُّر وتوقف وتعليق أعمال المؤتمر عدَّة مرّات، ولكن الإصرار البريطانيّ على كسب تركيّا إلى جانبها، دفعها إلى استمالة الوفد التُّركيّ ودعوته لحضور المؤتمر، واستؤنف المؤتمر في الرّابع من فبراير/ شباط عام 1923، إلا أنَّ رئيس الوفد التُّركيّ “إينونو” عاد ورفض شروط الحلفاء في تقزيم خارطة تركيّا الجغرافيّة، بل أصَرَّ على رفض معاهدة “سيفر” التي وُقِّعت في 10 أغسطس/ آب عام 1920، وأقرّت بإنشاءِ وطنٍ قوميٍّ للشّعبِ الكُرديّ على أرضه التّاريخيّة، وفق مواد وبنود المعاهدة. أمام تعنُّت الوفد التُّركيّ، انهارت المفاوضات مَرَّةً أخرى.

أبدى أتاتورك براغماتيّة مفرطة في مقارباته من مؤتمر لوزان، ووضعَ كُلَّ آماله في تحقيق طموحاته، وأدرك أنَّه – أي المؤتمر – فرصة لتثبيت أركان حكمه وإنشاء دولة جديدة على أنقاض السَّلطنة العثمانيّة، فسعى بكُلّ قوّة إلى ممارسة الضغط على الحلفاء في القضايا المتعلّقة بترتيبات المضائق البحريّة والجزر المتنازَع عليها مع اليونان، إضافة إلى إنكار حقوق الكُرد، وعدم التطرُّق إليها في المؤتمر بأيِّ شكلٍ كان. ورأى أنَّ مؤتمر لوزان هي فرصة له للتقرُّب من الغرب، والقطع مع ثقافة المنطقة، والانقلاب على القيم العثمانيّة – الإسلاميّة، فكانت لوزان الأساس الذي استند إليه لاحقاً في إعلان الجمهوريّة التُّركيّة.

يتباكى الإسلامويّون والعثمانيّون الجُدُد اليوم على السَّلطنة العثمانيّة، حيث “أعلن عن شهادة الوفاة الرَّسمية لها على المستوى القانونيّ الدّوليّ، وميلاد الجمهوريّة التُّركيّة المعاصرة في عام 1923، قبل حدث إعلان إلغاء الخلافة الإسلاميّة العثمانيّة الشَّهير في عام 1924″، وفق بعض المؤرّخين.

يعتبر بعض الباحثين في تاريخ منطقة الشَّرق الأوسط بأنَّ “معاهدة لوزان لعبت الدَّور التّاريخيّ ذاته الذي لعبته معاهدة “وستفاليا” في عام 1648، التي كان من أبرز نتائجها القانونيّة والسِّياسيّة نشوء مفهوم الدّولة القوميّة على قاعدة مفهوم (الأمّة – الدّولة) في أوروبا، حيث رسمت لوزان حدود ومعالم الجغرافيا السِّياسيّة للشَّرق الأوسط بكامله خلال العقود التّالية لتوقيع تلك المعاهدة”. وقُسِّمَت منطقة الشَّرق الأوسط إلى كيانات ودول، فقط كانت تركيّا المستفيدة منها، فيما أنكرت وجود شعوب أخرى، وخاصَّةً الكُرد.

أقرَّت المعاهدة تسوية نهائيّة لوضع منطقة الأناضول وتراقيا (والأخيرة مقسَّمة بين ثلاث دول اليونان، تركيّا، وبلغاريا)، حيث شهدت المنطقة نزاعات مستمرّة حول تابعيتها، فأُلحق قسم منها بتركيّا، والتي تمتدُّ إلى منطقة إسطنبول الحاليّة.

يرى بعض الغُلاة القوميّين الأتراك وكذلك الإسلامويّون الموالون للتيّار العثمانيّ بأنَّ معاهدة “سيفر” جاءت “مجحفة بحَقِّ الأتراك والأمَّة الإسلاميّة”، معتقدةً أنَّ الغرب اقتطع أجزاء من السَّلطنة العثمانيّة بعد هزيمتها في الحرب العالميّة الأولى، وأنشأ منها “كيانات” تُعادي الأتراك والمسلمين، منها أرمينيا الحاليّة، بعد أن ضُمَّت إليها كُلّ من “قارس، أرزروم، وطرابزون”، وكذلك اقتطعت فرنسا جزءاً من كيليكيا وألحقتها بسوريّا، فيما سيطرت بريطانيا وجيوش أربع دول أخرى على إسطنبول والمضائق، وسيطرت اليونان على إزمير (واسمها باليونانيّة سميرنا).

إلا أنَّ ما يَحُزُّ في نفوس هؤلاء هو البند المتعلّق بإنشاء دولة كُرديّة اسمها كُردستان، وكأنَّهم يقتطعون جزءاً من أراضيهم، ويعتقدون أنَّه ليس من حَقِّ الكُرد إنشاء كيان مستقلٍّ خاصٍّ بهم. هذه العقدة ظلَّت حيَّةً في أذهان جميع الحركات الإسلامويّة وكذلك القومويّة إلى يومنا هذا، فما نراه الآن من دفاع مستميتٍ من قبل حركة الإخوان المسلمين في الدِّفاع عن السَّلطنة العثمانيّة، وكذلك تسليمها لواء إسكندرون عام 1939، ما هو إلا تجسيدٌ حقيقيٌّ لتلك الأوهام التي تدور في خلدهم. ولهذا يتنكَّرون للحَقِّ الكُرديّ، وأينما كان. فتجدهم أكثر حماسة واندفاعة في الذِّكرى المئويّة الأولى لتوقيع معاهدة لوزان، في حَثِّ تركيّا على إنجاز مشاريعها التوسُّعيّة في المنطقة تحت يافطة الإسلام السِّياسيّ، ويعتبرون أنَّ من حَقِّها استعادة الأراضي التي خسرتها في الحرب وبموجب المعاهدة، فلا ضيرَ لديهم في أن تسيطر تركيّا على أجزاء من الأراضي السُّوريّة والعراقيّة وتحتلُّها، لطالما تسعى إلى إعادة إنشاء ما تُسمّى بـ”الخلافة الإسلاميّة”. وقد أشار “منير أديب” الباحث المتخصّص في شؤون الحركات المتطرّفة والإرهاب الدّوليّ في كتابه “الدّولة الإسلاميّة.. فكرة زائفة أم حقيقة غائبة” إلى أنَّ حركة الإخوان المسلمين تتطلَّع إلى إنشاء الخلافة الإسلاميّة مَرَّةً أخرى ويكون مركزها تركيّا، ووضعت كُلَّ ثقلها السِّياسيّ والدَّعوي في سبيل جعل أردوغان خليفة للمسلمين، خاصَّةً بعد اندلاع ثورات الرَّبيع العربيّ.

فحركة الإخوان المسلمين تنظر بعين الرَّيبة والشَكِّ إلى معاهدة لوزان وتُعدُّها مضادَّةً للإسلام، ويجب نقضها وعدم القبول بها، وترى بأنَّ تركيّا خرجت مغبونة من تلك المعاهدة، عبر اقتطاع أجزاء كبيرة من أراضيها وإلحاقها بأراضي الغير.

ففيما اعتبر أتاتورك المعاهدة نصراً دبلوماسيّاً له، وأفضت إلى إنشاء جمهوريّة تركيّا الحديثة؛ فإنَّ التيّارات والقوى القومويّة الأخرى وكذلك الإسلامويّة تعتبر أنَّ المعاهدة أدَّت إلى فقدان أجزاء كبيرة من الأراضي التُّركيّة، وعلى هذا الأساس تطرح مشاريعها المتعدّدة، “النيو عثمانية، الميثاق الملّي، والوطن الأزرق”، وما إلى ذلك من المشاريع التوسُّعيّة الاستعماريّة، التي لن تلقى النُّور في المناخات الدّوليّة والإقليمية السّائدة الآن.

 

ما أقرَّتهُ المعاهدة بشأن المضائق التُّركيّة:

 

المعاهدة المكوّنة من 143 بنداً ومقدّمة و4 فصول، دخلت حيّز التنفيذ يوم 23 أغسطس/آب 1923، عبر المصادقة عليها من قبل البرلمان التُّركيّ الثاني.

وأفردت المعاهدة بنداً خاصاً بالمضائق التُّركيّة، حيث ورد فيها: “يوافق كل طرف من الأطراف السامية المتعاقدة بموجب هذا، بقدر ما يعنيه، على الإلغاء الكامل للامتيازات في تركيّا من جميع النواحي”.

وتعتبر قضيّة المضائق هامّة بالنسبة لكُلّ من تركيّا والدّول الغربيّة، لطالما كانت سفنها وأساطيلها الحربية تمخر عبابها وتصل عبرها إلى مناطق نائية في العالم. حاولت بريطانيا الاستحواذ على حَقِّ التصرُّف بالممرّات البحريّة في العالم أجمع وليس في تركيّا فقط، فهي التي تسيطر على مضيق جبل طارق وكذلك تحتفظ لقواعد عسكريّة في جزيرة قبرص أيضاً، فأبدت حرصاً كبيراً في ضمان سلاسة عبور أساطيلها مضيقي “البوسفور والدردنيل” دون أي اعتراضات من الجانب التُّركيّ.

إلا أنه بعد تعزيز تركيّا لقوتها وإعلانها عن جمهوريَّتها، تَمَّ تعديل ذاك البند من خلال معاهدة “مونترو عام 1936″، و”ألغيت التعهُّدات بشكل تبادليٍّ، وكذلك تبادل السكّان بين اليونان وتركيّا، فضلاً عن الاتّفاقيّات المشتركة الموقَّعة بين الطرفين، وغيرها”. ونصَّت بنود معاهدة “مونترو” على استقلال تركيّا وتحديد حدودها، كما نصَّت كذلك على حماية الأقليّات المسيحيّة اليونانيّة الأرثوذكسيّة في تركيّا، وكذلك حماية الأقليّات المسلمة في اليونان. وبموجب معاهدة لوزان لا يحَقُّ لتركيّا تحصيل رسوم عبور السُّفن عبر مضائقها “الدَّردنيل والبوسفور”.

منحت اتفاقية “مونترو” الحَقَّ لتركيّا بالسَّيطرة على مضيقي “البوسفور والدَّردنيل”، وأنَّه يَحُقُّ لها تنظيم عبور السُّفن الحربيّة التّابعة للبحرية، “وتضمن حُرّيّة مرور السُّفن المدنية في وقت السِّلم، وتُقيّد مرور السُّفن البحريّة التي لا تنتمي إلى دول البحر الأسود”. واستخدم أردوغان في الآونة الأخيرة المعابرَ البحريّة سلاحاً ضُدَّ دول الجوار، حيث منعت عبور سفن الأسطول الرّوسيّ في بداية الحرب الرّوسيّة على أوكرانيا، متذرّعاً بتمسّكه ببنود اتّفاقيّة “مونترو”، إلا أنَّها سرعان ما تراجعت عنها في ظِلِّ تهديد روسيّا بتحريك الوضع ضُدَّها في سوريّا. فحوَّلت تركيّا المعابر إلى ورقة تبتزُّ فيها دول العالم.

 

آمال تركيّا في الذِّكرى المئويّة للمعاهدة:

 

تتطلَّعُ تركيّا إلى إلغاء معاهدة لوزان بكُلّ بنودها، وكذلك ما تلاها من معاهدات، معتبرةً أنَّها قوَّضت سيادة الدّولة التُّركيّة على أراضيها. وفيما يتجدَّدُ الجدل مع حلول الذِّكرى المئة للمعاهدة؛ تتزايد آمال النُّخب السِّياسيّة الحاكمة في تركيّا في تعديل بنود المعاهدة، وأنَّ هذا التاريخ، أي العام الحالي 2023 يُشكِّلُ نهاية صلاحيّة المعاهدة، رغم تأكيد العديد من الباحثين والقانونيين أنَّ لا صلاحيّة لانتهاء المعاهدة، وهي غير محدَّدة بإطار زمنيٍّ معيَّن، بل سارية المفعول. والحقيقة من خلال قراءة نَصِّ المعاهدة كاملة، فإنَّه لا توجد أيُّ مواد فيها تُحدِّدُ فترة سريان المعاهدة أو تتحدَّث عن تاريخ انتهائها.

بكُلِّ الأحوال أيُّ اتّفاقيّة أو معاهدة، وإن كان لها جانبها القانونيّ والحقوقيّ، فإنَّها بالنِّهاية خاضعة لموازين القوى السِّياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، أي سَرَيانها وفاعليتها يعتمد على منطق القوّة وليس قوّة المنطق والشَّرعيّة، على الأقلّ هذا ما درجت عليه الدّول الغربيّة خلال تاريخها الحديث. فلن تتمكَّنَ تركيّا من إلغاء المعاهدة أو تغيير بند من بنودها إن لم تحظَ بموافقة الدّول الغربيّة التي وقعت على المعاهدة، وهذا غير ممكن في ظِلِّ التقلُّبات السِّياسيّة والعسكريّة والأمنيّة في العالم والإقليم.

ويُروِّجُ بعض المنادين بنظريّة المؤامرة من الأتراك بانتهاء معاهدة لوزان بعد مرور مئة عام على توقيعها، مدَّعين بأنَّ مصطفى كمال أتاتورك “تنازل عن أراضي الدّولة العثمانيّة في البلقان والشَّرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأنَّه خضع لضغوط الأوروبيّين فألغى نظام الخلافة الإسلاميّة، ونفى الخليفة الأخير السُّلطان مُحمَّد السّادس، الذي عزله البرلمان الجمهوريّ الجديد عام 1922، ومن ثُمَّ تَمَّ إعلان علمانيّة الدّولة الجديدة في دستور عام 1924. أمّا في الجانب الاقتصاديّ فيدّعي مروّجو نظريّة المؤامرة تلك، أنَّ معاهدة لوزان “منعت الدّولة التُّركيّة من التَّنقيب عن الثَّروات الطبيعيّة كالنَّفط والغاز في أراضيها”.

وحسب باحثين متخصِّصين في تاريخ منطقة الشَّرق الأوسط، يوجد فريقان يروِّجان لنظريّة مؤامرة “نهاية معاهدة لوزان” ومساعي تركيّا وأردوغان للسيطرة على المناطق التي كانت سابقاً خاضعة للدولة العثمانيّة، وأوَّلهما “فريق بعض تيّارات الإسلام السِّياسيّ العربيّة، التي أصبحت ذات هوى وميول عثمانيّة أكثر من السُّلطان العثمانيّ نفسه، فهم يحلمون بعودة الخلافة، ويدعون لذلك من دون مواربة، ويهاجمون علمانيّة جمهوريّة أتاتورك، ويُروِّجون الاتّهامات لمؤسّسي الدَّولة التُّركيّة الحديثة، على أنَّهم سبب النكسة الإسلاميّة، لذلك ينشرون نظريّة «نهاية معاهدة لوزان» ويبشّرون بعهد عثماني جديد مقبل”. وفريق آخر يعتبر من خصوم الإسلام السِّياسيّ المدعوم تركيّاً، ويحاول أصحاب هذا الفريق “تسويق فكرة البُعبع التُّركيّ المقبل عام 2023 الذي سيعيد احتلال مناطق الشَّرق الأوسط التي كانت تابعة للعثمانيّين إلى تركيّا المعاصرة، وسيتمُّ ذلك بغزوٍ تركيٍّ، بانت بوادره في التدخُّل التُّركيّ في سوريّا والعراق وليبيا، وهذا الأمر يتعكَّز على وقائع موجودة على الأرض، لكنَّه في حقيقته يُمثِّلُ نوعاً من حرب التحشيد الإعلاميّة وتضخيم الأخطار، حتّى إن كان ذلك عبر ترويج نظريّات المؤامرة”.

يَأمل الأتراك استعادة أمجاد السَّلطنة العثمانيّة عبر إلغاء معاهدة لوزان، رغم أنَّه بموجبها تَمَّ الاعتراف باستقلال الجمهوريّة التُّركيّة. كما نصَّت المعاهدة على “حماية الأقليّة المسيحيّة الأرثوذكسيّة اليونانيّة في تركيّا والأقليّة المُسلمة في اليونان؛ إلا أنَّه تم فقط تَمَّ ترحيل معظم السُكّان المسيحيّين في تركيّا والسُكّان المسلمين في اليونان بموجب اتّفاقيّة سابقة مُتعلّقة بتبادل السُكّان اليونانيّين والأتراك التي وقَّعتها اليونان وتركيّا”.

 

ماذا تأمل تركيّا من وراء إلغاء معاهدة لوزان؟

 

نظراً لتَغيُّر الظروف السِّياسيّة التي أفضت إلى توقيع معاهدة لوزان؛ تحدو الدّولة التُّركيّة ونخبها السِّياسيّة، وخاصَّةً الحاكمة منها والإسلامويّة والقومويّة، رغبة جامحة في إعادة صياغة بنود المعاهدة، أو حتّى إلغائها؛ لتحقيق أهداف، أقلُّ ما يُقالُ عنها أنَّها “توسُّعيّة واستعماريّة”، في تَمدُّد جغرافيّة الدَّولة التُّركيّة عبر احتلال مزيد من أراضي دول الجوار، وتغيير خرائط المنطقة، انسجاماً مع مشاريعها القديمة – الجديدة في وضع ترتيبات إقليميّة ضمن إطار مشروع الشَّرق الأوسط الجديد الذي تقوده الولايات المُتَّحدة الأمريكيّة في المنطقة.

تَهدُفُ تركيّا إلى خَلطِ الأوراق مُجدَّداً والاستفادة من الثَّغرات التي وَقَعَت فيها معاهدة لوزان، والسَّعي للانضمام إلى الاتّحاد الأوروبيّ ونيل عضويَّتها الكاملة، وبالتّالي التَحوّل إلى دولة مؤثِّرة في الإقليم والعالم، ومشاركتها في وضع أسس نظام إقليميّ يتناسب وطموحاتها، إلى جانب رغبتها التَحوُّل إلى قوّة اقتصاديّة ذاتَ شأنٍ لتلعب دوراً كبيراً في المنطقة والعالم، لتنافس الدُّول العظمى على موارد المنطقة من نفط وغاز وثروات أخرى.

فامتدادها نحو ليبيا وسيطرتها على مناطق شاسعة من الجغرافيا السُّوريّة والعراقيّة وعلى المياه الإقليميّة لكُلِّ من اليونان وقبرص وليبيا ولبنان وسوريّا؛ تنبع من مطامع استعماريّة بهدف تعزيز قُدُراتها الاقتصاديّة، وفرض معادلات القوّة في المنطقة. وهذا المشروع يتناسق مع طموحاتها في إلغاء معاهدة لوزان، إضافة لوأد أيِّ طموحٍ لدى الشَّعب الكُرديّ في نيل حقوقه، في ظِلِّ التَغيُّرات العاصفة بالإقليم والعالم بعد بدء ثورات الرَّبيع العربيّ والحرب الرّوسيّة في أوكرانيا.

إنَّ تغيير أو إلغاء معاهدة لوزان مرهونٌ بالدَّرجة الأولى برغبة الدّول الغربيّة بها، وهو إن حصل؛ فهو يهدف لإعادة وضع ترتيبات جيوسياسيّة جديدة في المنطقة والعالم. فكما أنَّ لوزان رسمت حدود الدّول الحاليّة؛ فإنَّ أيَّ تعديل عليها أو حتّى إلغاءها هو خاضع للشروط السِّياسيّة ولمصالح وإرادات الدّول الغربيّة، وخاصَّةً الولايات المُتَّحدة الأمريكيّة وبريطانيا.

إلا أنَّ توجُّهات الحكومة التُّركيّة الحاليّة بزعامة أردوغان، وانقسامها على نفسها، من حيث ولاءاتها ما بين الغرب الأطلسيّ وروسيّا من خلال انحيازها لمشروعها الأوراسيّ، يُقيّدُ قُدُرات تركيّا في إحداث أيّ اختراق مُهمّ أو إجراء تعديل على المعاهدة. ويبدو من خلال الوقائع على الأرض؛ أنَّ تركيّا فقدت الكثير من قوَّتها الدِّبلوماسيّة والسِّياسيّة في التأثير على الدّول التي وقَّعت على المعاهدة، وغدت تركيّا خطراً حقيقيّاً على خاصرة أوروبا الجنوبيّة، بعد احتضانها لجماعات الإسلام الإرهابيّ، وزعزعتها أمن واستقرار منطقة الشَّرق الأوسط، وباتت تميل أكثر إلى المشروع الأوراسيّ الذي تقوده في تركيّا مجموعات ونخب سياسيّة متمثّلة بالدّولة العميقة، من أمثال حزب العمل التُّركيّ بقيادة دوغو برينجك، ما يعزّز من فكرة عدم تمكّن تركيّا من تغيير المعاهدة أو إلغاءها في أفضل الأحوال.

انقسام تركيّا في راهنها ما بين المعسكر الغربيّ بقيادة الولايات المُتّحدة الأمريكيّة وروسيّا، يضعها في موقف ضعيف ويَحُدُّ من إمكانيّاتها في لعب دور إقليميّ، أو التوقيع على معاهدات واتّفاقيّات جديدة تُحدِّدُ مصير منطقة الشَّرق الأوسط، بل تواجه تركيّا مصيراً مجهولاً محفوفاً بمخاطر الانفجار السِّياسيّ والاقتصاديّ والإثنيّ في ظِلِّ توجُّهات حكومتها الحاليّة، وكذلك نسق ونمطيّة التَّفكير السّائد بين نخبها السِّياسيّة والفكريّة من خلال التَّصعيد في الأفكار والشِّعارات القومويّة، وهو ما يجعلها معرَّضة أكثر من غيرها لاندلاع صراعات داخليّة، تكون سبباً كافياً لتفكّكها مستقبلاً.

وأورد الكاتب التُّركيّ «قدير مصر أوغلو» في كتابه بعنوان “معاهدةُ لوزانَ.. انتصارٌ أمْ خدمةٌ؟!” انتقد فيه المعاهدة ومن شارك ضمن الوفد التُّركيّ وأشرف على كتابة بنوده ومواده، فهو يرى أنَّ “الأتراك بتعهّدهم بالتزامات معاهدة لوزان، قد تخلَّوا عنْ قيادة المسلمين والعالم الإسلاميّ ورضوا مقابلها بقطعة صغيرة من الأرض”.

ويرى بعض المراقبين أنَّ المنتقد الأكبر للمعاهدة، هو رجب طيّب أردوغان، الذي يعتبر أنَّ مصطفى كمال أتاتورك “تخلّى فيها، كما في اتّفاقيّة أنقرة مع العراق وإنكلترا، عن حدود «الميثاق الملّي» الذي رسمه البرلمان العثمانيّ – بدعمٍ من أتاتورك – ويضمّ كُلَّ شمال سوريّا وشمال العراق”. فيما يرى التيّار العلمانيّ في تركيّا أنَّ اعتبار أردوغان معاهدة لوزان “هزيمة” للأتراك، ما هو سوى محاولة “لاقتلاع العلمانيّة”. وقدَّمَ زعيم “حزب الشَّعب الجمهوريّ” المعارض، كمال قليجدار أوغلو، مشروع قانون لإعادة اعتبار يوم توقيع المعاهدة عيداً وطنيّاً، بعدما كان رئيس الوزراء الأسبق، عدنان مندريس، قد ألغاه في الخمسينيّات من القرن الماضي.

وأثناء اجتماعه بمخاتير القرى والأحياء في عام 2016، انتقد أردوغان اتّفاقيّة لوزان، قائلاً إنَّ “البعض يحاول إظهار اتّفاقيّة لوزان على أنَّها انتصار، وهناك من يريد إقناعنا بأنَّ معاهدة لوزان كانت انتصاراً لتركيّا وللأتراك، انظروا إلى إيجه، نصف جزره منحناها لليونان في اتّفاقيّة لوزان، أهذا انتصار؟ هذه الجزر مُلكٌ لنا، لدينا مساجد ومعابد هناك، فضلاً عن وجود حقوق لدينا متعلّقة بالحدود الجوّيّة والبحريّة والمنطقة الاقتصاديّة المحصورة، والتي ما زلنا لا نعيها بشكلها الصحيح؟ ما هذه الاتّفاقيّة التي خسرنا فيها حقوقنا؟”. وعَدَّ أردوغان أنَّ المعاهدة تُمثِّل “جرحاً عميقاً في الذّاكرة التّاريخيّة التُّركيّة”، وأنَّها “قلّصت جغرافيّاً من خريطة الدَّولة التُّركيّة وألزمتها بالتّنازل عن 80% من مساحتها”، وأضاف: “هدّدونا بمعاهدة سيفر في عام 1920، ليجعلونا نقبل معاهدة لوزان في عام 1923… لقد لوّحوا لنا بالموت لنقبل بالعاهة الدّائمة”.

وأثناء زيارة أردوغان لليونان في عام 2017، قال في مؤتمر صحفي مع نظيره اليونانيّ “إنَّ معاهدة لوزان، الموقَّعة بعد الحرب العالميّة الأولى تنصُّ على تفاصيل دقيقة ما تزال غير مفهومة حتّى الوقت الرّاهن”، وأشار إلى ضرورة تحديثها بالقول: “لست أستاذاً في علم القانون، لكنّني أعرف قانون السِّياسة جيّداً، ففيه شرط يقضي بوجوب تحديث الاتّفاقيّات، ونحن قادرون على تحديث ما أُبرم بيننا من اتّفاقيّات، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك”. وتساءل: “كيف نقول بأنَّ معاهدة لوزان (بين تركيّا وعدَّة دول بينها اليونان) يَتُمُّ تطبيقها وإلى الآن لم يَتُمْ انتخاب مفتي عام لمسلمي غربيّ تراقيا (اليونانيّة ذات الأقليّة التُّركيّة)”، واتَّهم أثينا بالتمييز ضُدَّهم قائلاً: “الدَّخل القوميّ للفرد في اليونان حوالي 18 ألف دولار، لكن معدَّل الدَّخل القوميّ للفرد بالنِّسبة لشعب تراقيا الغربيّة لا يتجاوز الـ2200 دولار”.

ويرى مراقبون أنَّ أردوغان لم ينتظر عام 2023 لمحاولة “استعادة” حدود “الميثاق الملّي”، فهو يعمل لهذا الهدف منذ عام 2016 في سوريّا وفي العراق.

فيما قالت الأكاديميّة “نورتان جتين”، مديرة مركز “مبادئ أتاتورك وتاريخ الانقلاب للأبحاث” التّابع لجامعة تراقيا، إنَّ معاهدة لوزان “كانت بمثابة وثيقة اعتراف بسيادة واستقلال تركيّا التي كانت قد خرجت للتوِّ من الكفاح الوطنيّ”.

كما يصف المؤرّخ التُّركيّ “مصطفى أرمغان” معاهدة لوزان، بأنَّها “هزيمة واضحة”، مشيراً إلى أنَّ “الميثاق القوميّ” حدَّدَ للهيئة المفاوضة الأهداف الأساسيّة لعمليّة التفاوض، وأنَّ “جزر إيجه وإقليم غرب تراقيا وقبرص” و”باطوم” التّابعة لجورجيا، كانت ضمن أهداف الميثاق، ولكن تَمَّ تسليمها كُلَّها للجانب الآخر على طبق من ذهب، بحسب قوله.

وعن احتماليّة إحداث تغييرات في بنود ومواد المعاهدة أو إلغائها، أكَّدَ الباحث الفرنسيّ “ماتيو راي”، المتخصّص في تاريخ الشَّرق الأوسط في المركز الفرنسيّ، في مقال له، “أنَّه من الصعب إحداث تغييرات في المعاهدات القديمة، على الرَّغم من تَغيُّر الظروف التّاريخيّة والسِّياسيّة التي كانت قائمة حين توقيع المعاهدة”. وأشار إلى أنَّه “فيما يتعلَّق بمسألة الحدود التي ثبَّتتها المعاهدة؛ فإنَّه لن يمكن مستقبلاً لتركيّا أن تكتسب أراضي جديدة، أو أن تخسر جزءاً من أراضيها الحاليّة، علاوة على أنَّها، أي تركيّا، لن تسعى إلى ذلك”.

 

قضيّة الموصل في لوزان:

 

شغلت قضيّة الموصل جزءاً كبيراً من مداولات الوفود المشاركة في مؤتمر لوزان، واستحوذت على نقاشات مستفيضة، أدَّت إلى تعليق جلسات المؤتمر مرّات عديدة، وخاصَّةً من جانب وَفدَيْ كُلٍّ من تركيّا وبريطانيا، حيث كان العراق تحت الانتداب البريطانيّ، فيما كان اكتشاف النفط في الموصل، السَّبب الرَّئيسيّ للخلاف حولها.

طالب الوفد التُّركيّ بضَمِّ منطقة الموصل إلى أراضيها، معتبراً أنَّ الوحدة العرقيّة تَجمع بين الأتراك والكُرد، وأنَّ الموصل مرتبطة تجاريّاً واقتصاديّاً مع منطقة الأناضول، و”أنَّ احتلال الحلفاء لها غير شرعيٍّ” وأنَّ سُكّان المنطقة “يرغبون بالانضمام إلى تركيّا”. فيما فَنَّدَ رئيس الوفد البريطانيّ اللّورد “كرزون” الادّعاءات التُّركيّة وقال بأنَّ “غالبيّة السُكّان كانوا من العرب (وهم من أصلٍ ساميٍّ) والأكراد (وهم من أصل آريٍّ) ومختلفين من حيثُ الأصولِ جوهريّاً عن الأتراك، وأنَّ معظم تجارة الموصل مع العراق وليس مع الأناضول، وقد تَمَّ تكليف الحكومة البريطانيّة رسميّاً بالانتداب على العراق من قبل عُصبَةِ الأمم، وأظهرت الثّورات الكُرديّة في القرن التّاسع عشر وقبل الحرب أنَّ الأكراد لا يؤيّدون أن يكونوا جزءاً من تركيّا”.

رَفَعت بريطانيا قضيّة الموصل إلى “عُصبَة الأمم” والتي قضت بأنَّه “لا يَحُقُّ لأيِّ طرفٍ احتلال المنطقة والسَّيطرة عليها”، وهذا ما أسقط المطالب التُّركيّة في السَّيطرة عليها، وعادت الموصل لتقع تحت الانتداب البريطانيّ.

 

الكُرد ومعاهدة لوزان:

 

لا يساوِرُ أيَّ كُرديّ أدنى شَكٍّ أنَّ معاهدة لوزان كانت بمثابة خنجر طعن به في ظهر طموحاتهم في إنشاء وطن قوميٍّ لهم على جغرافيّتهم التّاريخيّة؛ بل يعتبر معظم الكُرد أنَّ المعاهدة كانت وراء تقسيم وطنهم إلى أربعة أقسام، ليوزَّع بين أربعة دول تحكمها ذهنيّات الاحتلال والإنكار، لا تعترف حتّى بوجوده كشعب، وتغلق أمامه جميع مساحات الحُرّيّة لنيل حقوقه المشروعة التي نصَّت عليها القوانين الدّوليّة وشُرعة الأمم المتَّحدة، وحتّى دساتير تلك البلدان التي تستعمر وطنهم.

عمَّقت لوزان من مأساة الكُرد؛ عبر تفويضها الدّول التي أنشأتها التصرُّف بمصير الشَّعب الكُرديّ، حتّى وصل بها الأمر باتت معها تُطلق على الكُرد الملحقين بكُلّ دولهم أسماء لا تنسجم مع الحقيقة التّاريخيّة والجغرافيّة لوجودهم ووطنهم، ففي تركيّا أطلق عليهم اسم “أكراد تركيّا”، ثُمَّ وصلت التَّسمية من قبل الحكومات التُّركيّة المتعاقبة. وبعد إخماد الثّورات والانتفاضات الكُرديّة أطلقت عليهم اسم “أتراك الجبال”، وفي العراق أطلق عليهم “أكراد العراق” وكذلك في سوريّا وإيران أيضاً. حتّى سَرَتْ تلك التَّسميات الغريبة بين الكُرد أنفسهم، بما فيها حركاته وقواه السِّياسيّة.

لعبت بريطانيا دوراً محوريّاً في ترتيب بنود المعاهدة وتلبية رغبات وشروط تركيّا في محو كُلّ ما يَمُتُّ بالشَّعب الكُرديّ منها، حسبما يؤكّد مندوب بريطانيا في المؤتمر اللّورد “كرزون”، ويوضّح أنَّه بغرض استمالة تركيّا إلى الغرب وإبعادها عن روسيّا السّوفييتيّة؛ ارتضت بريطانيا أن تقبل بالشّروط التُّركيّة في عدم التطرّق إلى حقوق الشَّعب الكُرديّ، بل إلغاء ما نصَّت عليه معاهدة “سيفر”، وتجاهل مطالبهم. ويضيف بأنَّ بريطانيا تمكَّنت من إقناع الدّول الأخرى المشاركة في المؤتمر بعدم ذكر الكُرد وحقوقهم، نزولاً عند رغبة الوفد التُّركيّ برئاسة عصمت إينونو.

ويَسرُد “كرزون” بأنَّ بريطانيا فرضت شروطها على تركيّا عبر التأكيد على إبقاء المضائق (مضيقَي البوسفور والدَّردنيل) حتّى الحماية الدّوليّة، وألا تضع تركيّا أيَّ شروط أمام الملاحة الدّوليّة وعبور السُّفن. وكذلك فرضت عليها قطع العلاقات مع السّوفييت ولينين. وبهذا الشَّكل ضمنت بريطانيا سلامة مرور أساطيلها عبر تلك المضائق، ولجذب تركيّا وأتاتورك إلى المعسكر الغربيّ.

تسبَّبت معاهدة لوزان في وضع الشَّعب الكُرديّ تحت سيطرة أعتى الدّول القومويّة في المنطقة، وفضَّلت الدّول الموقِّعة على المعاهدة مصالحها على حقوق الكُرد، خاصَّةً بعد اكتشاف النَّفط في الموصل. فرُغم إصرار الوفد التُّركيّ على أحقيَّته في الموصل، إلا أنَّه أمام الإصرار البريطانيّ في الاستحواذ عليها؛ وعدم فتح أيّ نقاش حول القضيّة الكُرديّة؛ تنازل الأتراك عن هذا الحَقِّ “التّاريخيّ” الذي طالما يطالبون به.

ويرى الكاتب “مُحمَّد رمضان” في بحث له عن لوزان بعنوان “الكُرد وفوبيا لوزان” بأنَّه بموجب معاهدة لوزان “تتعهَّد أنقرة بمنح مواطنيها الحقوق الكاملة في المساواة والعدالة أمام قانون الدَّولة التُّركيّة، ومنح الحُرّيّات دون تمييز، من غير أن تَرِد أيَّة إشارة للكُرد فيها، كما دون ذكر معاهدة سيفر”.

ويذكر الباحث الألمانيّ “روبرت جيروورث” بأنَّ معاهدة لوزان “أرست فعليّاً سابقةً في القانون الدّوليّ؛ تمثَّلت بحَقِّ الحكومات في طرد أعداد كبيرة من مواطنيها على أساس أنَّهم ينتمون لـ”الآخر”. وقد قوَّضَ ذلك بشكل مريع التعدّديّة الثَّقافيّة والعرقيّة والدّينيّة كمَثَلٍ يمكن التطلُّع إليه للعيش المشترك، والواقع أنَّ معظم النّاس – على الَّرَّغم منْ كلّ نزاعاتهم – من رعايا الإمبراطوريّات الأوروبيّة السّابقة عاشوا وتعاملوا وعوملوا بعدالة حسنة إلى حَدٍّ كبيرٍ لعدّةِ قرونٍ”. ويشير “جيروورث” في كتابه إلى التغييرات الدّيمغرافيّة التي تمَّت بموجب المعاهدة “نقل أعداد كبيرة من الرّوم إلى اليونان، وكذلك الأتراك من اليونان، عبر اقتلاعهم من أماكن ولادتهم، تلبية لمصالح الدّول العظمى، وفي مقدّمتها بريطانيا وفرنسا وتركيّا واليونان”.

إضافة إلى ذلك؛ شكَّلت معاهدة لوزان تراجعاً فضّاً وغير قانونيٍّ عن مقرَّرات معاهدة “سيفر” بشأن إنشاء دولتين مستقلّتين؛ كُرديّة وأرمنيّة، وهو الأمر الذي أطلق يد الأتراك في ارتكاب مجازر جماعيّة بحَقِّ كُلٍّ من الكُرد والأرمن.

تَمَّ بموجب المعاهدة تقسيم كُردستان إلى أربعة أجزاء، وحُرِم الشَّعب الكُرديّ بالتّالي من وطن له كسائر الشُّعوب الأخرى، وبات أكبر شعب من حيث التِعداد السُكّاني على مستوى العالم بلا وطن وبلا هُويّة، وتَمَّ فرض هُويّة تلك الأنظمة الأربعة عليه، وكذلك حُرِمَ من جميع حقوقه الثَّقافيّة والسِّياسيّة والاقتصاديّة، حتّى بات وجوده على أرضه مهدَّداً، وعانى بسبب هذا التَّقسيم النّاجم عن تلك المعاهدة مختلف الويلات، من القتل والتَّهجير والتَّنكيل والاضطّهاد.

ويقول الكاتب مُحمَّد نور الدّين في مقالة له تحت عنوان “مئويّة لوزان: لا أحد راضياً” نشرته صحيفة “الأخبار” اللّبنانية بتاريخ 26 يوليو/ تمّوز 2022، “لَعلَّ الأكثر إحساساً بالمرارة مع معاهدة لوزان هم أكراد تركيّا والمنطقة الذين نظّموا، في هذه المناسبة، وقفة احتجاجيّة في مدينة لوزان نفسها، للمطالبة برفع الظلم اللّاحق بهم، والعودة إلى تطبيق “اتّفاقيّة سيفر” التي وُقِّعت في الـ10 من أغسطس/ آب 1920، من جانب موفد السُّلطان العثمانيّ مُحمَّد السّادس”.

ويضيف نور الدّين “لكنّ القوميّين الأتراك رفضوا معاهدة “سيفر” واعتبروها مجحفة في حَقِّ تركيّا، إذ إنَّها «تُنهيها كوطن». وأعطت الاتّفاقيّة المذكورة الأقليّات حقوقاً مهمّة، من مثل إقامة دولة أرمنيّة مستقلّة في شرق الأناضول يرسم حدودها الرَّئيس الأمريكيّ “وودرو ويلسون”، وإقامة حكم ذاتيّ للأكراد في بعض مناطق جنوب شرق الأناضول المتاخمة لسوريّا”. ويستطرد “نور الدّين” القول “وفي ظلّ اللّبس الذي أثارته الاتّفاقيّة، قاد مصطفى كمال أتاتورك حملة إلغائها في سياق حرب التَّحرير الوطنيّة التي أعلنها عام 1919، وانتهت بتوافقات مع الاتّحاد السوفياتي وكُلٍّ من فرنسا وإنكلترا، وبمعارك مع اليونان أفضت جميعها إلى “معاهدة لوزان” ورسم خريطة تركيّا الحاليّة، فيما حُلَّت مشكلة الموصل بضمّها إلى العراق، في عام 1926″.

ويلفت “نور الدين” بالقول: ” بالنِّسبة إلى الأكراد، تُشكّل هذه المناسبة ذكرى مرور مئة عام على “المقاومة الكُرديّة” التي “ستتوَّج بنار الحُرّيّة”، كما تَذكر صحيفة “أوزغور بوليتيكا” وتتّهم الصحيفة، أردوغان، بـ”التَّعاون مع الشَّيطان من أمريكا إلى روسيّا”، من أجل هدف واحد، هو “حرمان الأكراد من الحَقِّ في الحياة وفي الوجود”. لكنّ الأكراد، بحسبها، سيطيحون باللُّعبة التي تُحاك ضُدَّهم في الشَّرق الأوسط”.

ويورد “نور الدين”، نقلاً عن الصحيفة التي كتب فيها القيادي الكُرديّ “حسين جاويش” قبل رحيله، بأنَّ مصطفى كمال “انقلب على كُلّ وعوده أثناء محادثات لوزان، ومنها موافقة البرلمان التُّركيّ في 10 فبراير/ شباط 1922 على مشروع قانون للحكم الذّاتيّ للأكراد بغالبيّة 363 صوتاً مقابل 64 صوتاً”. وأكَّدَ “جاويش” أنَّ أتاتورك حَلَّ البرلمان بعد تلك الجلسة، وجرى انتخاب برلمان جديد، وأنكر حتّى حدوث الجلسة المذكورة. ويضيف “جاويش” أنَّه “عندما وُقّعت المعاهدة؛ بدأ أتاتورك حملة تصفية شاملة للوجود الكُرديّ لغةً وثقافة وديناً وتجارة وصحافة”. ويذكّر الكاتب بما جاء على لسان وزير العدل التُّركيّ، “مُحمَّد أسد بوزكورت”، عام 1930، بعد قمع انتفاضة آغري، من أنَّ “التُّركيّ هو السيّد والصاحب الوحيد لهذا البلد. إنَّ الذي يعيش في هذا البلد، وليس من العِرقِ التُّركيّ، له حَقٌّ وحيدٌ وهو أن يكون عبداً وخادماً”.

ويشرح الكاتب “جاويش” موقف الكُرد بالنِّسبة للمعاهدة في الوقت الراهن، بالقول: “فليعلم الصديق والعدو ولتعلم الجبال، أنَّ الأبناء الشُّجعان لأكراد الجبال لن يحنوا رأسهم، وليعلم كُلّ الظالمين هذه الحقيقة، وهي أنَّ معاهدة لوزان سيكون مصيرها التمزيق”.

كما يصف الكاتب في “أوزغور بوليتيكا”، “ديمير تشيليك”، الوضع من “سيفر” إلى “لوزان”؛ إذ يعتبر أنَّ الأكراد “كانوا الضحيّة الأكبر”، عبر توزيع جغرافيّة وطنهم بين أربع دول “اغتصبت حقوقهم، وعملت على طمس هُويّتهم”. ويؤكّد “تشيليك” أنَّ «مثل هذه النَّتيجة الظالمة، تستوجب أن تُرمى معاهدة لوزان في مزبلة التّاريخ”، وأن تستمرَّ «المقاومة إلى حين هزيمة خيار المحو والإنكار، وانتصار خيار حُرّيّة الشُّعوب والمعتقد”.

ويرى مراقبون أنَّ تركيّا تُمهّد للانسحاب من معاهدة لوزان، عبر التوسُّع واحتلال الأراضي التي سَبَقَ وأن تحرَّرت من الاحتلال التُّركيّ في المعاهدة، معتمدة في ذلك على إثارة نزاعات عرقيّة ودينيّة بين السُكّان، محورها تغذية الولاء لتركيّا تحت مِظلَّة دينيّة متجسِّدة في تنظيم الإخوان الإرهابيّ، وإحياء نعرات عرقيّة بين بعض السُكّان المنحدرين من أجداد عثمانيّين استوطنوا هذه البلاد خلال الاحتلال العثمانيّ البعيد، كما تفعل في سوريّا وليبيا والعراق.

تُشكّل الذِّكرى المئويّة لمعاهدة لوزان حساسيّةً لدى التيّار الإسلامويّ – القومويّ المُتمثّل بتحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القوميّة بقيادة كُلٍّ من أردوغان ودولت باهجلي، فهما يسعيان إلى إعادة الرّوح لمشروع “الميثاق الملّي” الذي أقرَّته الإمبراطوريّة العثمانيّة في آخر عهدها، بالسَّيطرة على مناطق من شمال سوريّا والعراق، وكذلك تراقيا الغربيّة، وتنفيذ هذا المشروع الذي سار فيه أردوغان خطوات عبر احتلال أجزاء من الأراضي السُّوريّة، وتثبيت قواعده العسكريّة في شمال العراق، والقضاء على أحلام الشَّعب الكُرديّ في نيل حقوقه في ظِلِّ ثورات الشُّعوب التي تَعصف بالمنطقة والتغيّرات التّاريخيّة في العالم، ويعتبر هؤلاء أنَّ تنفيذ المُخطَّطات التُّركيّة مرهونٌ بفوز أردوغان وحزبه في الانتخابات الرِّئاسيّة والبرلمانيّة القادمة.

ويقول “مُحمَّد نور الدّين” أنَّه بمناسبة حلول الذِكرى المئويّة الأولى لمعاهدة لوزان يمكن “أن يحدث زلزال يقلب تركيّا رأساً على عقب، في الدّاخل كما في الخارج، مع احتمال أن تدخل البلاد مرحلة من الاضطراب والفتنة وعدم الاستقرار، وفق ما يرى مراقبون. وعليه، فإنَّ العام الأخير من “لوزان”، والذي يتزامن مع نهاية ولاية أردوغان، بالغ الحساسيّة داخليّاً، إذ ستكون للأكراد كلمتهم الحاسمة عبر “حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّ” الذي تحوّل إلى بيضة قبّانِ التّوازنات الدّاخليّة. كما أنَّ الصراع مع العلمانيّين وصل إلى ذروته، في ظِلِّ التَّهديد الذي يمثّله “العدالة والتنمية” للمكتسبات الأتاتوركيّة، بل حتّى اتّهامه أتاتورك بالتَّفريط بالحقوق القوميّة. وسيحمل العام المذكور أيضاً حسابات معقّدة تخُصُّ علاقات تركيّا الخارجيّة، ولا سيّما مع الولايات المُتَّحدة ودول الخليج والجوار الجغرافيّ من أرمينيا إلى سوريّا والعراق، حيث تنتظر غالبيّة هذه الدّول ما إذا كان أردوغان سيبقى في موقعه أم لا، لتبنيَ على الشيء مقتضاه”.

وعن إعادة الكُرد النَّظر في نتائج معاهدة لوزان وانعكاسها على مصيرهم، يقول الكاتب “مُحمَّد رمضان” في مقالته بعنوان “الكُرد وفوبيا لوزان”، مُحمَّلاً الحلفاء مسؤوليّة تركَ الكُرد بلا وطن “عَدَّ الكُرد هذه المعاهدة ضربة قاسية ضُدَّ مستقبلهم ومُحطِّمة لآمالهم.. وبذلك يتحمَّل الحلفاء المسؤوليّة الأخلاقيّة الكاملة تجاه الشَّعب الكُرديّ، ولا سيَّما كُلّ من بريطانيا وفرنسا، ولذلك بقيت معاهدة “سيفر” حبراً على ورق، إلّا أنَّ هذا الورق أصبح وقوداً للنِّضال التحرّريّ الكُرديّ فيما بعد، وبالتّالي فإنَّ التّاريخ يعيد نفسه من خلال عقد اجتماعات في كواليس لوزان بين كيري ولافروف حول وضع خريطة جديدة للمنطقة، بعد انتهاء صلاحيّة سايكس بيكو”.

 

الخاتمة:

 

تورِدُ دراسة لمركز “ميدان” حول معاهدة لوزان تحت عنوان “الانقضاض على لوزان.. هل اقترب انهيار المعاهدة التي أسَّست دول الشَّرق الأوسط؟”، تقول الدِّراسة “خلال اقترابنا من الذِّكرى المئة لمعاهدة لوزان الثّانية التي نظّمت عمليّة تفكيك الإمبراطوريّة العثمانيّة، تتحلّل اليوم تركيبة منطقة الشَّرق الأوسط وتعود مَرَّةً أخرى إلى أوضاع تشبه ما كانت عليه المنطقة قبل لوزان، إذ شهدت المنطقة عودة تركيّا مُجدَّداً إلى أهمّ البلدان والمناطق التي انسحبت منها بعد توقيع تلك المعاهدة، من خلال دفعها بقوّات عسكريّة في الميدان عبر عمليّات عسكريّة أو اتّفاقيّات نشر قوّات، كما جرى في ليبيا بموجب الاتّفاق مع حكومة الوفاق في طرابلس برئاسة فايز السرّاج، وقبل ذلك في سوريّا من خلال عمليّات “درع الفرات” في 2017 و”غصن الزَّيتون” في 2018 و”نبع السَّلام” في 2019، ثُمَّ العمليّة العسكريّة الجارية حاليّاً في إدلب، وقبل ذلك بسنوات في العراق في منطقة بعشيقة شمال الموصل في عام 2015″.

وتضيف الدِّراسة “نبحث هنا في خلفيّات تلك المعاهدة التي تقع في جذر معظم مشكلات الشَّرق الأوسط المعاصر، لعلَّنا نفهم خلفيّات التدخُّل العسكريّ التُّركيّ في المنطقة من جديد في أكثر من بلد عربيّ، بعد انهيار الدّولة العثمانيّة منذ نحو 95 عاماً”.

كما يتحدَّث الكاتب الأمريكيّ “ديفيد فرومكين” في كتابه المُهمّ عن تشكُّل الخارطة السِّياسيّة للشَّرق الأوسط الحديث “سلام ما بعده سلام”، ويقول بأنَّ “الاحتلال البريطانيّ أدّى في كُلّ مكان من العالم إلى تدمير البنى السِّياسيّة للمواطنين الأصليّين، واستبدل بها بنى جديدة على النَّمط الأوروبيّ بموجب قوانين أوروبيّة ووفقاً لمفاهيم أوروبيّة، سواء كُنّا نتحدَّث هنا عن الأميركيّتين أو أستراليا أو نيوزلندا أو أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى التي لم تَعُد مقسَّمة على أُسُس قبليّة، بل قُسِّمت إلى دول كما هو الحال في أوروبا. إلا أنَّ الرَّجل يتوقَّف عند بقعة واحدة من العالم ليتساءل إذا كان الاحتلال الأوروبيّ أحدث فيها ما أحدثه في أماكن أخرى من أثر عميق ودائم؟”.

ويشرح “فرومكين” خارطة الشَّرق الأوسط بأنَّه “أصبح ما هو عليه الآن؛ لأنَّ الدّول الأوروبيّة أخذت على عاتقها أن تُعيد تشكيله بعد تحطيم الحكم العثمانيّ للشَّرق الأوسط النّاطق بالعربيّة تحطيماً لا خلاص منه، ولكي تأخذ أوروبا، أو بالأحرى بريطانيا وفرنسا، مكان النِّظام القديم، أوجدت بلداناً، وعيّنت حكّاماً، ورسمت حدوداً، وأدخلت أنظمة سياسيّة من النّوع الموجود في شتّى بقاع العالم الاستعماريّ”. وبحسب “فرومكين” فإنَّه “خلال الفترة بين عامي 1914-1922 وضعت المفاوضات والاتّفاقيّات وتسويات ما بعد الحرب نهاية للصراع حول مسألة الشَّرق الأوسط بين القوى الأوروبيّة، إلا أنَّها أسفرت عن ولادة مسألة شرق أوسطيّة في قلب الشَّرق الأوسط نفسه”.

إلا أنَّ تغيير معاهدة لوزان وإلغاءها يتوقَّف على مصالح القوى المهيمنة في العالم، فهي التي رسمت معالم هذا الشَّرق الأوسط وخلقت قضاياه وصراعاته الإثنيّة والدّينيّة والعرقيّة، وبات التخلّص من هذا الإرث الاستعماريّ ضرورةً إنسانيّة مُلحّة تفرض نفسها على جميع شعوب المنطقة وقواها الثَّوريّة والدّيمقراطيّة، بأن تبادر إلى خلق معادلات القوَّة واتّباع سياسات تفضي إلى إعادة رسم خرائط المنطقة ودولها وفقاً لمطالب شعوبها، وليس وفق مصالح الغرب أو الأنظمة الاستبداديّة التي ابتليت بها شعوبنا.

فيما يتطلَّع الشَّعب الكُرديّ إلى إعادة تفعيل معاهدة “سيفر”، وإلغاء معاهدة لوزان المشؤومة والمجحفة بحقِّهم، وبما يضمن حقوقه في عالم اليوم. فقد استمرَّ نضال الشَّعب الكُرديّ طيلة المئة سنة التي مَرَّت على توقيع لوزان، وعانى الكثير من الويلات وتعرَّضَ للعديد من المجازر ومحاولات الدّول المُحتلّة محوه من الوجود، ورغم ذلك أثبت أنَّه شعبٌ مقاوِمٌ وجديرٌ بأن يحيى حُرّاً على أرضه، وهذا الأمر منوطٌ بالدَّرجة الأولى بإلغاء كُلّ المعاهدات والاتّفاقيّات التي حرمته من تلك الحقوق. فإن كانت الدّول التي تتقاسم جغرافيّة كُردستان فيما بينها وراء كُلّ المآسي التي حَلَّت بالشَّعب الكُرديّ، فإنَّه بالقدر نفسه تتحمَّل الدّول الغربيّة، وفي مقدِّمتها بريطانيا، وزر حُرمان الكُرد من حقوقه المشروعة.

 

المراجع:

المراجع:

1 – “منير أديب” الباحث المتخصّص في شؤون الحركات المتطرّفة والإرهاب الدّوليّ وكتابه “الدّولة الإسلاميّة.. فكرة زائفة أم حقيقة غائبة”.

2 – الكاتب التُّركيّ «قدير مصر أوغلو» في كتابه بعنوان “معاهدةُ لوزانَ.. انتصارٌ أمْ خدمةٌ؟!”.

3 – حديث للرئيس التركي رجب طيب أردوغان عام 2016 خلال اجتماعه بمخاتير القرى والأحياء في تركيا.

4 – حديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مؤتمر صحفي مع نظيره اليوناني خلال زيارة له لليونان عام 2017.

5 – حديث للأكاديميّة “نورتان جتين”، مديرة مركز “مبادئ أتاتورك وتاريخ الانقلاب للأبحاث” التّابع لجامعة تراقيا.

6 – دراسة للمؤرخ التُّركيّ “مصطفى أرمغان” حول معاهدة لوزان، بعنوان “لوزان.. هزيمة واضحة”.

7 – مقالة للباحث الفرنسيّ “ماتيو راي”، المتخصّص في تاريخ الشَّرق الأوسط في المركز الفرنسي حول معاهدة لوزان.

8 – بحث للكاتب “مُحمَّد رمضان” عن لوزان بعنوان “الكُرد وفوبيا لوزان”.

9 – تحليل للباحث الألمانيّ “روبرت جيروورث” حول معاهدة لوزان.

10 – مقالة للكاتب مُحمَّد نور الدّين تحت عنوان “مئويّة لوزان: لا أحد راضياً” نشرته صحيفة “الأخبار” اللّبنانية بتاريخ 26 يوليو/ تمّوز 2022.

11 – تحليل سياسي لصحيفة “أوزغور بوليتيكا” حول معاهدة لوزان.

12 – مقالة للكاتب والقيادي الكُرديّ الراحل “حسين جاويش” نشر في صحيفة “أوزغور بوليتيكا”.

13 – مقالة للكاتب في صحيفة “أوزغور بوليتيكا”، “ديمير تشيليك”، بعنوان “الوضع من سيفر إلى لوزان”.

14 – دراسة لمركز “ميدان” حول معاهدة لوزان تحت عنوان “الانقضاض على لوزان.. هل اقترب انهيار المعاهدة التي أسَّست دول الشَّرق الأوسط؟”.

15 –الكاتب الأمريكيّ “ديفيد فرومكين” في كتابه عن تشكُّل الخارطة السِّياسيّة للشَّرق الأوسط الحديث بعنوان “سلام ما بعده سلام”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى