الشرق الأوسط الديمقراطيّ ومجتمع ما بعد النُدرة
صلاح الدين مسلم
صلاح الدين مسلم
بينما كنت أتصفح كتاب (أيكولوجيا الحرية) للكاتب (موراي بوكتشين)، لفتني مصطلح (مجتمع ما بعد النُدرة) كنت أعلم أنّ الندرة تعني أنّه فريد من نوعه، أي نادر، كالحجر الكريم النادر، لكن ما علاقة الندرة بالمجتمع؟ فصرتُ أقلّب صفحات النت – لسهولتها – بحثاً عن النُدرة وما بعدها، فما هي النُدرة اصطلاحاً؟ وما هو مجتمع النُدرة؟ وما هو مجتمع ما بعد النُدرة؟
أدركت حينها أنّ مصطلحَ النُدرة مصطلحُ اقتصاديّ، ومصطلح اجتماعيّ، وبالمقابل مرّت بضعة أيام على اطلاعي على حدث غريب من ضمن المفاجآت الخياليّة الغريبة التي نشاهدها ونسمع عنها في هذا العصر الغريب، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، بيعت لوحة فنية “غريبة” مؤلفة من “حبة موز مُعلقة بشريط لاصق على الحائط” بسعر 120 ألف دولار أمريكي، وتعود هذه اللوحة، والتي بيعت في معرض “آرت بازل” للفنون في ميامي، للفنان الإيطالي “ماريزو كتالين” الذي أشار الى أن “الموزة” ترمز إلى التجارة العالمية، وقال الفنان الى أنّ الفكرة خطرت على باله منذ عام، وحينها نحتَ النسخة الأولى بلون برونزي مستخدمًا “مادة تفرزها النباتات ويتم الاستعانة بها في الأعمال الفنية”، إلا أنه عدل عن الفكرة في النسخة الثانية وقرر “أن يعود إلى الطبيعة الأم” بعدما اشترى موزًا قبل بداية المعرض واستخدم حبة منه في صنع اللوحة. ورفض مسؤولو المعرض الفكرة في بداية الأمر، واعتبروها مزحة من فنان اشتغلوا معه طيلة 25 عامًا، إلا أن المفاجأة كانت غير متوقعة عندما اجتذب العمل زوار المعرض.
انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يوثق لحظة دخول ممثل وفنان من نيويورك يدعى “دافيد داتونا”، ثم أكل الموزة المعلّقة على الجدار بعدما أزال الشريط الذي كان يثبتها على الجدار. وأطلق “داتونا” على فعله الذي اعتبره أداء فنيًا اسم “فنان جائع”، مضيفًا على الفيديو الذي نشره عبر صفحته على تطبيق “إنستغرام”: “أحب عمل موريزيو كاتليلان الفني، لقد كان لذيذًا”. وقالت إحدى المنظمات للمعرض لـ”داتونا” عندما رأته يمسك الموزة ” لا يفترض بك أن تلمس العمل الفني.” وقد أبلغ المنظّمون قوات الأمن بفعل “داتونا”، الذي سرعان ما اختفى عن الأنظار.
فما هذه القيمة الغريبة للوحة لا تحمل سوى صورة حقيقيّة لحبّة موز، وشريط لاصق، وهذا الفنّان كان يفكّر في هذه اللوحة مدّة عام، فما هو الشيء النادر في هذه اللوحة؟ وما الذي جعلها شيئاً نادراً، أهذا هو مفهوم الندرة؟ أي أنّ كلّ ما غلا سعره فإنّه دليل على روعته، وبما أنّ الإنسان الذي يمشي في درب السلطة فإنّه يبحث عن التمييز بطبيعته.
الرأسماليّة والندرة:
تعتمد الرأسماليّة على النُدرة اعتماداً جوهريّاً في تحقيق الربح، فكلّما كان الشيء نادراً كان له قيمة أكثر، وكلّ شيء متوفّر قيمته قليلة، أو لا قيمة له، وعندما نقول: (كلّ شيء)، نقصد؛ كلّ شيء مادّي أو معنويّ، فالسلع المادّيّة من المعادن كالذهب – على سبيل المثال – معدن نادر، لذلك قيمته مرتفعة، بالمقابل معدن الحديد متوفّر أكثر منه فهو أرخص من الذهب، أمّا من السلع المعنوية، كمشاهدة مباريات كرة القدم، أو الإعلام، أو تعليم صنعة أو مهنة ما، بالمقابل قد تكون هناك سلع متوفّرة وقيمتها قليلة جدّاً في فترة إنتاجها، فيعتمد التجار على مبدأ تكديسها وتخزينها إلى أن تصبح سلعة نادرة، فتطرح حينها في الأسواق بسعر أغلى، حتّى أغلى من قيمتها الحقيقيّة، لذلك تعتمد الرأسماليّة على الاحتكار، فاحتكار الشيء المتوفّر يعني أن تجعله نادراً في السوق، فالماء متوفّر على سبيل المثال لدى المجتمعات التي تعيش على ضفاف الأنهار، لكن عندما تنشئ سدّاً على المنبع، فإنّك قادر على أن تقطع الماء عليه، وقطع الماء يعني القضاء على هذه المجتمعات، وهنا تصطدم رغبات هذه المجتمعات وحاجاتها بمواردها التي أصبحت محدودة بعد أن كانت متوفّرة، فيصبح الماء شيئاً نادراً بعد أن كان مجّاناً، وبالمقابل لا تمتلك القوّة كي تردع من بنى السدّ؛ لامتلاكه الأسلحة المتطوّرة، فحاجات هذه المجتمعات إلى الماء غير محدودة، بعيداً عن الشرب، فاقتصادها مبنيّ على هذه المياه، فزراعة أراضيها متعمدة عليها، وتربية المواشي، وغيرها، حتّى ذاكرتهم مستمدّة من هذه المياه، لذلك ستعطي تلك المجتمعات كلّ ما لديها كي تعود المياه إلى مجاريها، أو ستهرب إلى مكان آخر، أو ستبحث عن وسائل أخرى توفّر فيها المياه، وتدافع عن نفسها أمام جشع المحتكرين، وهذا ما تفعله الدولة التركيّة عندما تحجز مياه الأنهار عن سوريا والعراق.
كلّ شيء موجود ولا قيمة له يمكن أن يجعله هذا النظام الرأسماليّ نادراً له قيمة، من خلال الترويج له، أي من خلال التزييف الإعلاميّ، فيمكن أن تقول: إنّ العشبة الفلانية التي تنبت في مكان معين أنه دواء للمرض الفلاني، وتشتري ذمم بعض الأطباء، وتشتري الإعلانات، والمشاهير، والذين لهم تأثير على الناس، فتصبح تلك العشبة مرغوبة، فتزداد قيمتها، وقد تكون سلعة مجانية وتتحوّل إلى سلعة لها قيمة مادّية، لكن تلك العشبة قد حصل عليها ذاك التاجر من قبل الذي روّج لها، وهي ليست موجودة عند أحد سواه، حتى تنبت من جديد بعد سنة، لذلك هو يضرب صفقته، ويبيع الناس شيئاً لا قيمة له، والأمثلة كثيرة في هذا المجال.
هناك حاجات لم تكن موجودة في المجتمعات، على سبيل المثال نبتة المتّة التي تزرع في الأرجنتين، فقد كان الشعب الأرجنتيني على سبيل المثال يشرب هذه النبتة، فهي حاجة بالنسبة له، لكنّ من خلال الترويج لهذه النبتة صارت حاجة عند مجتمعات أخرى، مثل الشعب السوريّ، فقبل عقود لم يكن أحد يشرب المتة، أو لا يعرفها، فترويج هذه النبتة أدّى إلى زيادة مساحات زراعتها على حساب نباتات أخرى، وكلّما زاد الترويج وزاد عدد شاربي المتّة زاد الطلب، وزادت القيمة، وزادت المساحات المزروعة، فأدّى ذلك إلى تغيير في البيئة، فكلّما زادت زراعة نبتة ما فهي على حساب نبتة أخرى، وعلى حساب حشرات وحيوانات أخرى، فهناك نباتات ستنقرض، وهناك حيوانات ستنقرض، أي ستصاب المنطقة بخلل بيئي، وإذا أصيبت منطقة في الأرض بخلل بيئي فهذا يعني أنّ الأرض كلها ستصاب بجزء ولو بسيط بخلل بيئي.
وتسمى السلع (والخدمات) النادرة بالسلع الاقتصادية، (أو ببساطة: تسمّى سلعاً إذا كانت ذات نُدرة مفترضة). بينما تسمى السلع الأخرى بالسلع الحرة، وهي السلع المرغوبة لكن المتوفرة بكثرة مثل الهواء وماء البحر، ويضفي الناس قيمة أعلى على الشيء النادر، وقيمة أقل على الشيء المتوفر. وفكرة رغبتنا – كبشر – في شيء ما لا يمكننا الحصول عليه تزيد من رغبتنا فيه، فمثلاً ممكن أن تقول: إنّ مادّة السكر سوف تفقد من السوق، حتّى يتزاحم معظم الناس لشراء كمّيات كبيرة منها، فتصبح هذه المادّة نادرة، فيزداد سعرها في فترة زمنيّة محدودة، لذلك يسعى المتسوقون وراء المنافسة نفسها للحصول على منتج نادر، من ناحية أخرى، تسببت سهولة الحصول على بعض السلع أو نسخها (مثل الملكية الفكرية) إلى ابتكار نُدرة صناعية على شكل قيود قانونية تحد من توافر هذه السلع، لذلك تعتبر القوانين أدوات لحماية الرأسماليّ على حساب المجتمعات.
إنّ التقدّم والعولمة والشابكة والوصول إلى كلّ الأماكن بكلّ يسر وسهولة الذي حصل في هذا العصر الذي نعيشه أدّى إلى تغييرات اجتماعيّة واقتصاديّة ومعيشيّة وغيرها من جميع النواحي، لذلك صار الترويج الإعلاميّ لتسويق أي شيء ليس له حاجة سهلاً، كترويج حمّى شراء الملابس، فصار من المعيب أن تلبس قميصاً واحداً، فعليك أن تمتلك عدّة قمصان وعدّة بناطيل…
كلّ شيء يمكن أن يُحتكر، مادّياً كان أو معنويّاً، فمثال عن الأمور المعنوية، لم يكن المجتمع الشرقي على سبيل المثال بحاجة إلى تعلّم اللغة الإنكليزية، فكان العربيّ يتعلّم الفارسية والكرديّة وغيرها من اللغات المحلّيّة، التي تعتبر حاجة بالنسبة له نظراً للاحتكاك المجتمعيّ، ولم يكن مضطراً إلى تعلّم الإفريقيّة على سبيل المثال، أو الإنكليزية لبعد تلك البلاد – بالطبع إنّ تعلّم أيّة لغة تفيد المجتمعات – في انتشار الثقافات وتلاقحها، لكن أن يضطر كل الناس أن يتعلّموا هذه اللغة لأنّها أصبحت لغة العصر ولغة التكنولوجيا، وصارت مقياساً لتقدّم الفرد، وعدم إتقانها مقياس الجهالة، هنا أصبح ترويج هذه اللغة كسلعة لم يكن ضروريّاً، إلى سلعة حياتيّة ضروريّة ذات قيمة، ليستطيع الفرد أن يواكب التطوّرات، وقد تسود الحضارة الصينيّة في فترة ما فسيضطر الناس إلى تعلّم اللغة الصينيّة.
إنّ الحاجات تولّد حاجات أخرى، فتعلّم لغة حضارة ما تكسبنا عادتها وحاجاتها ورغباتها، فتصبح حاجاتنا نفس حاجاتها، وتغدو ثقافاتها نفس ثقافاتنا، وبالتالي يخلق نوع من الصراع على هذه الحاجات بين أفراد المجتمعات، فكلّ من تأثر بحضارة ما تكون حاجاته مختلفة، حتّى في البيت الواحد.
إنّ مواضيع القيمة والحاجة والنُدرة معقّدة، ومتشابكة، ما يهمّنا أنّ الرأسماليّة تعتمد على النُدرة، فعندما تكون كلّ الحاجات متوفّرة بالنسبة للمجتمعات تقتنع بهذه الحاجات المتوفّرة، فلا تكون هناك نُدرة، وعندما يختفي المال، أي عندما يكون هناك فائض من الحاجات فقد تستبدل بحاجات أخرى بين المجتمعات، كما كانوا يستبدلون الشعير بالحليب، أو العدس بالقمح… فعندما تختفي النُدرة هذا يعني نهاية النظام الرأسماليّ، لذلك تنبّأ بعض المفكّرين بمجتمع ما بعد النُدرة.
اقتصاد ما بعد النُدرة:
اقتصاد ما بعد النُدرة أو اقتصاد الوفرة: هو اقتصاد يمكن أن تنتج فيه معظم السلع بوفرة وبحد أدنى من العمل البشري اللازم، بحيث تصبح متاحة للجميع بتكلفة زهيدة أو حتى مجاناً، وأحد الآثار الرئيسة لفترات النُدرة هو ارتفاع الأسعار وتقلّبها، ومن أجل التعامل مع هذه الحالة، يستخدم التقدّم التكنولوجي من أجل استغلال أنجع للموارد؛ مما يقلّل التكاليف إلى حد كبير (أي سيكون كل شيء تقريباً مجانيا)، وبناء على ذلك، يتوقع المؤلفون أن الفترة ما بين عامي 2050 و 2075 ستكون عصر ما بعد النُدرة التي لن تكون فيها نُدرة.
هناك العديد من العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى اقتصاد ما بعد النُدرة. ومن بين هذه العوامل التقدم في تقنيات التصنيع الآلي، وغالبا ما تشمل فكرة آلات تكرار الذات، واعتماد تقسيم العمل، إنّ المزيد من أشكال تقنية النانو التكهنية (مثل المجمعات الجزيئية أو مصانع النانو غير الموجودة حالياً) تطرح إمكانية وجود أجهزة يمكنها تصنيع أي سلعة محددة تلقائياً إن توفرت التعليمات الصحيحة والمواد الخام الضرورية والطاقة، ففي المستقبل القريب، غالبا ما تطرح زيادة أتمتة العمل البدني باستخدام الروبوتات كوسيلة لخلق اقتصاد ما بعد النُدرة، وقد تم التنبؤ أيضاً بأنّ أشكالاً آخذة بالتنوع من آلات النماذج الأولية السريعة، ونسخة مفترضة من جهاز ذاتي الاستنساخ المعروف باسم رب راب، يعتقد أن سيساعد على خلق وفرة السلع اللازمة لاقتصاد ما بعد النُدرة، أيّ أنّ الحداثة الرأسماليّة هي التي ستقضي على نفسها كما تنبّأ بعض المفكرين في حتمية انتهاء هذه المنظومة الاحتكاريّة.
إنّ تعاظم الرأسماليّة وسيطرتها على الكون، أدّى بالعقلاء والحريصين على هذا الكوكب إلى البحث عن مصطلحات جديدة، ونظم بديلة، تحاول أن تروّض هذا النظام الذي يريد أن يدمّر كلّ شيء، وأخطر ما تقوم به هو تدمير الطبيعة، والبيئة، وبالتالي تدمير نفسها.
لا يمكن لأيّ شخص عاقل أن يستطيع تصوير هذا النظام العالميّ، فمن الصعب تقييم هذا النظام أخلاقيّاً، إذْ لا يمكن أن تفي كل الأساطير حقّ هذا الغول والوحش الغريب الرأسماليّ.
اللاسلطة:
اللاسلطوية أو الأناركيزم مصطلح جاء من أناركيسموس (بدون حكّام) فيما بعد استخدم مصطلح “التحررية” مرادفا لللاسلطوية، فحركة الأناركية هي حركة سياسية تقوم على مبادئ اللاسلطوية، وتدل على مجمل الجمعيات والأحزاب السياسية التي تهدف لإزالة سلطة الدولة المركزية، لتعتمد في تنظيم أمورها على خدمات المتطوعين من كافة أعضاء المجتمعات، وتحاول الحركة إلغاء أي مؤسسة سلطوية وبخاصة الدولة أي الحكومة.
أول من وصف نفسه بأنّه (لا سلطوي) كان بيير جوزيف برودون؛ ويعدّ مؤسس النظرية اللاسلطوية الحديثة، وكان اللاسلطوي جوزيف ديجاك أول شخص يصف نفسه بأنّه (تحرري).
فاللاسلطوية أو الأناركيّة فلسفة سياسية، فكرتها أنّ أيّ دولة هي ضدّ المجتمع وليست في صالحه لا محالة, أي تروّج لمجتمع بلا دولة، لذلك دعم الأناركيّون أشكال التخطيط الاقتصادي اللامركزي، وروّجوا للاقتصادات التعاونية والمستقلة، لذلك حاربت الرأسماليّة هذه الفكرة، وصنّفتهم ضمن (اليسار المتطرف).
الإيكولوجيا الاجتماعية
يعتبر بوكتشين مؤسس الإيكولوجيا الاجتماعية، وهو مفهوم يربط بين القضايا البيئية والاجتماعية، وكان بوكتشين من روّاد مصطلح ما بعد النُدرة في كتابه (أناركية ما بعد النُدرة) الذي طبعه في عام 1971، وقد رسّخ فكره عامّة في كتاب (أيكولوجيا الحرية) إذ يقدم نظرية جديدة عن مجتمع ما بعد النُدرة، والذي يطلق عليه اسم (اللامركزية الإيكولوجية)، والذي يعتمد على التشارك الطوعي للأفراد الأحرار في التجمعات التلقائية والإدارة الذاتية لأمور المجتمع.
واعتمد على نظرية (الإيكولوجيا الاجتماعية) أي دراسة التفاعل بين البشر وبيئتهم، فالإيكولوجيا الاجتماعية ترسّخ العلاقات بين الناس وبيئتهم، أي الاعتمادية المتبادلة بين الناس والتجمّعات والمؤسسات، من خلال منهج علمي يدرس كيفية تأثر الهيكل الاجتماعي وتنظيمه ببيئة الكائن الحي.
استطاع بوكتشين أن يوضّح التسلسل الهرمي لأنظمة الخضوع والقيادة الثقافية والتقليدية والنفسية، فالأنظمة الاقتصادية والسياسية عنده تُشير إليها مصطلحا الطبقة والدولة، وبناءً عليه يمكن لمصطلحي الهرمية والهيمنة أن يبقيا موجودين بسهولة في مجتمع لا طبقي، أو مجتمع ليس لديه جنسية دولة، وأشار هنا إلى هيمنة الكبير على الصغير، والرجل على المرأة، وهيمنة مجموعة عرقية على أخرى، وخضوع الجماهير لهيمنة البيروقراطيين الذين يصرّحون بصيغة (مصالحهم الاجتماعية العليا)، وهيمنة المدينة على الريف، وبالمعنى النفسي الأكثر دقة هيمنة العقل على الجسد؛ والوسائل العقلانية الضحلة على الروح، والمجتمع والتكنولوجيا على الطبيعة.
يحدّد بوكتشين أشكال الهيمنة على أنها (خضوع الشباب لهيمنة كبار السن، واستعباد النساء من قبل الرجال، وسيطرة مجموعة عرقية على مجموعة أخرى، والتحكم بالجماهير من قبل البيروقراطيين الذين يزعمون أنهم يتحدثون عن مصالحهم الاجتماعية العليا، والقضاء على الريف عبر التمدن، من الناحية النفسية، يخضع الجسد إلى سلطة العقل، ويهرس الروح تحت وطأة العقلانية المتطرفة، وتقوض الطبيعة من خلال المجتمع والتكنولوجيا”. ورغم ذلك، لم يتخلّ بوكتشين عن الطبقة كوحدة تحليل على نحو كامل. في الواقع، قام بدمج “الطبقة والاستغلال” عبر وحدة تحليلية شاملة تحت يافطة “الهرمية والهيمنة“. الأمر الذي ساعد أوجلان بتجاوز التحليل الطبقي الضيق، الذي كان ينتقده منذ تسعينيات القرن الماضي.
ما بعد الرأسماليّة:
ينطوي مفهوم ماركس لمجتمع (ما بعد الرأسماليّة) على التوزيع المجاني للسلع التي يمكن تحقيقها من خلال الوفرة، رأى ماركس أن الاشتراكية – وهي نظام يقوم على الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج – من شأنها أن تمكن من التقدم نحو تطوير الشيوعية المتقدمة بالكامل من خلال مواصلة تطوير التكنولوجيا الإنتاجية. في ظل الاشتراكية، إذ سيتم توزيع نسبة متزايدة من السلع مجاناً.
اعتقد ماركس أنّ انهيار الرأسمالية بسبب تقدم الأتمتة لا مفر منه، لكنه غيّر رأيه؛ وتوصل إلى قناعة؛ أنّ الرأسمالية يمكن أن تجدّد نفسَها باستمرار ما لم يطح بها، وهذا ما أدّى بباكونين أن يصف أفكار ماركس بأنّها سلطوية، وتنبّأ بأنّ حزب ماركس إذا وصل للسلطة، فإنّ قياديها سيحلون مكان الطبقة الحاكمة التي حاربوها أساساً. وهذا ما حصل بالفعل عندما تبوّأ الحزب الشيوعي الماركسي الروسي مقاليد السلطة في عام 1917، بل ظهرت البوادر السلطوية في عهد كارل ماركس عندما أقصى باكونين وجيمس گيوم.
فالأناركية الاقتصادية هي فرع من فروع الأناركية التي ترتكز إلى الجوانب الاقتصادية للمجتمع. فالأناركية كما أسلفنا فلسفة سياسية تروّج لمجتمع بلا دولة، وتسعى إلى تحجيم أو إلغاء تدخل السلطة في سلوك العلاقات الإنسانية، وتعتبر الدولة غير مرغوب بها وغير مهمة بل مضرة للمجتمع. بالمقابل نرى أنّ الرأسمالية الغربيّة لا ترغب بالدولة، ولا تحبّ تدخلها في السوق، ودور الدولة رقابيّ، إذاً ما هو الفرق بين الاقتصاد الرأسمالي أو الاقتصاد المجتمعيّ، أو اقتصاد ما بعد الرأسماليّة، أو اقتصاد ما بعد النُدرة؟
الأوجلانيّة ومجتمع ما بعد النُدرة:
يقول الكاتب جهاد حمي: “يشكل مفهوم سلب الهوية عند جون هولواي على غرار أطروحة عالم الاجتماع الألماني اليهودي تيودور أدورنو، مفتاحاً نقدياً لإزاحة سلطة التصنيفات والمفاهيم الإيديولوجية التي تحكم تصرفاتنا. فالمال والسلعة ونظرية القيمة والدولة والعمل المستلب والتقنية وغيرها، كلها شبكة من مفاهيم وتصنيفات تنسج حياتنا وسلوكياتنا في قوالب ثابتة. ومع ذلك، فإن هذه المفاهيم ليست محصنة من التناقض والتنافر والتعارض من الداخل. وعليه، ثمة إمكانية للتفكير خارج الصندوق حسب هولواي.”
من الصعب أن تحلّ الرأسمالية مشاكل المناخ، فالرأسمالية تسعى نحو الربح دائماً، وقضية معالجة مشاكل المناخ فيها خسارات مالية، فتدمير البيئة فيها ربح أكثر من تنميته، والحفاظ عليه، فمثلاً، الأرض التي ترشّ بالسماد الكيماوي إنتاجه أكثر من السماد الطبيعي، ولا بدّأن نستخدم المبيدات لقتل الحشرات الضارة والنافعة، فالسؤال المطروح: كيف يمكننا التخلّص من فكرة رأس المال، والربح المالي فقط، دون أن نعي أن الربح البيئي هو الربح الحقيقي، والتوازن بين الإنسان والبيئة هو التوازن الحقيقي.
إنّ الدولة هي الحامي العظيم للنظام الرأسماليّ، وكي يتداعى هذا النظام فلا بدّ من تقزيم الدولة أو السلطة، بل بالقضاء عليها، وقد وضع جون هولواي نظريات وحلولاً لتغيير العالم دون الاستيلاء على السلطة من خلال كتابه: “اثنتا عشرة أطروحة حول تغيير العالم (بدون الاستيلاء على السلطة)” يقول هولواي في هذا الكتاب: إنّ الطريق الوحيد الذي يمكن تصوّره للتغير الجذري اليوم ليس في الاستيلاء على السلطة بل في تحللها، وإنّ النضال من أجل تحلّل السلطة هو النضال من أجل تحرير طاقة الفعل من طاقة التسلط، وتمثّلت أطروحاته فيما يلي:
1- النفي هو نقطة البداية.
2- لا يمكن لعالم تستحقه الإنسانية أن يُخلَق من خلال الدولة.
3- الطريق الوحيد الذي يمكن تصوره للتغير الجذري اليوم ليس في الاستيلاء على السلطة بل في تحللها.
4- النضال من أجل تحلل السلطة هو النضال من أجل تحرير طاقة الفعل من طاقة التسلط.
5- القدرة على الفعل تتحول إلى سيطرة عندما ينكسر الفعل.
6- انكسار الفعل هو انكسار كل جانب من جوانب المجتمع وكل جانب منَّا.
7- نحن مشاركون في كسر فعلنا وبناء خضوعنا.
8- ليس هناك تناسق بين القدرة على الفعل والسيطرة.
9- يبدو أن السيطرة تخترقنا بعمق بحيث يبدو أن الحل الوحيد الممكن هو تدخل قوة من الخارج. وهذا ليس حلًا على الإطلاق.
10- الطريقة الوحيدة لكسر دائرة السلطة التي تبدو مغلقة تكون برؤية أن تَحَوُّل القدرة على الفعل إلى سيطرة عملية تتضمن بالضرورة وجود نقيضها: الفيتشيَّة تتضمن الفتيشيّة المضادة.
11- تعتمد احتمالية تغيير المجتمع جذريًا على القوة المادية لما يوجد في صورة نفيه.
12- الثورة ضرورة ملحة ولكنها غير مؤكدة، سؤال لا جواب.
أكّد توماس جيفري ميلي أنّ المفكّر عبد الله أوجلان سلك منهجاً أقرب إلى ما يكون لمنهجِ الفيلسوف الأمريكي، موراي بوكتشين. وظهر جلياً في مجلداته الخمسة التي جاءت تحت عنوان “مانيفستو الحضارة الديمقراطية”، وتحديداً في مجلده الثالث الذي حمل عنوان «سوسيولوجية الحريّة». حيث كانت ” الهرمية والهيمنة” كوحدة التحليل، تاريخياً وحاضراً، بمثابة نقطة التلاقي بين كلا المفكرين.
وقد قال: ” أكّد أوجلان على أهميّة التنظيم للدفاع عن النفس، وسعى إلى بناء منظومة الدفاع الذاتي تحت مظلة “الاتحاد الكونفدرالي” كما دعا إلى بناء وحدات شعبية دفاعية إلى جانب المجالس المحلية الإدارية المستقلة في نشاطاتها، وكلاهما يعملان معاً وفق آلية التنسيق بغرض الدفاع عن النفس، وهو نموذج يشبه نموذج سبارتا تاريخياً، بحيث يصبح تسليح المدنيين واجباً، عندما تقتضي المصلحة العامة لدرء المخاطر الابادة وقضية الوجود. على هذا المنوال، سيكون واضحاً منذ البداية أن التحدي الذي سيفرضه هذا النموذج على الدولة القومية التي تتميز هيكليتها بالتراتبية الهرمية والبيروقراطية، وحكرها استخدام العنف. لذا، ينبغي أن يكون هذا التحدي جلياً لدى التنظيم الاجتماعي الديمقراطي المناهض أيضاً. وينبغي التمييز بين كُلّ من الهدف الاشتراكي للدولة المُتمثّل في التأميم، والاقتصاد المجتمعي أو شبه الاستقلال الاقتصادي، والنموذج الاقتصادي الذي يدعو إلى دمقرطة العلاقات الاجتماعية التي ترتكز في المقام الأول على نقاط الإنتاج. لا يعترض أيٌّ من بوكشين أو أوجلان من حيث المبدأ على مجالس العمال أو المشاريع التعاونيّة، بل على العكس تماماً، فقد قدم كلاهما دعماً صريحاً لهذه الجهود الرامية لدمقرطة نقاط الإنتاج. فعلى سبيل المثال، دعا أوجلان صراحة إلى إنشاء « تعاونياتٍ مُجتمعية في قطاعات الزراعة والاقتصاد والمياه والطاقة”.
وقد أشار جهاد حمي في مقالته بعنوان: بوكتشين وأوجلان.. جدلية الوعي البيئي وسياسته، ما يلي: “في الواقع، تتقاطع رؤية أوجلان هذه مع أطروحة هربرت ماركوزه، والتي مستوحاة بدورها من مخطوطة كارل ماركس الشهيرة” الغروندرسية”، حيث أكد ماركوزه بأن :” التكنولوجيا لديها القدرة على إنتاج الوفرة للجميع، وقد تلعب دوراً محورياً في التغلب على عالم الحاجة والدخول إلى عالم الحرية”. موضحاً في الوقت نفسه:” يمكن للتقنيات في حد ذاتها أن تعزز الاستبداد جنباً إلى جنب بفتح آفاق الحرية، وقد تكرس النُدرة وبنفس الوقت قد تؤمن الوفرة، وقد تكثف استغلال الكدح أو تدفع نحو إلغاءه…. إنّ أوجلان بالفعل مدركاً تماماً لقضية البيئة التي أحدثتها الرأسمالية في المجتمع. ومع ذلك، تم تعميق هذا الوعي من حيث بلورة المفاهيم وتعزيزه فلسفياً وسياسياً، عندما بدأ أوجلان التعاطي مع أعمال بوكتشين. فقد نظر إلى أزمة البيئة بوصفها قضية مركزية، ورأى أنها نتاج الانهيار الاجتماعي الناجم عن الهرمية والسيطرة والاستغلال والعبودية، مبيناً: “عندما بدأ الإنسان في استعباد أخيه، بدأ أيضاً في استعباد الطبيعة“، بحكم أن “هذه القضايا البيئية غير المسبوقة نابعة أساساً من مجتمع محطم“. يمكن للمرء أن يرى بوضوح أنه عندما صاغ أوجلان هذه الجملة، كان المبدأ المركزي لفلسفة الوعي البيئي في ذهنه، مفاده يكمن في “ فكرة هيمنة الإنسان على الطبيعة تنبع من الهيمنة الإنسان على الإنسان أولاً”.
استطاع المفكر أوجلان أن يوضّح فكرة المجتمع الطبيعي من خلال التخلّص من الوضعيّة التي تعتبر دين النظام العالميّ الجديد وأيديولوجيته، وقد استطاعت الوضعية السيطرة على الطبيعة والمجتمع، واعتبر الرأسماليّة نظام أزمة بذاته، واعتبر عصر الحداثة الرأسماليّة عصر الأمل.
لقد عدّ أوجلان المجتمع الطبيعي هو المجتمع الأخلاقي السياسيّ، أو لنقل مرادفاً للأيكولوجيّة الاجتماعيّة، واعتبر الحداثة الرأسماليّة مجتمع ما بعد النُدرة، والعلم بالنسبة له خزينة الإنسانية المدخرة، فهو سلعة مشتركة وعموميّة، فمن المحال جعلُه حِكراً على فرد أو جماعة أو مؤسسة أو قومية أو أمَّة. وإذا كان لا بد من الحديث عن قدسيةٍ إلهية، فسيَكُونُ من الأصحِّ عطفُها بمعانيها هذه على العلمِ دون غيرِه، وليس الأسلوب العلميّ. فهناك فارق بين العلم كنتاج مقدّس للبشرية، وبين الأسلوب العلمي في تناول قضايا المجتمع، فأوجلان يعتبر الأسلوب العلمي نوع من أنواعِ الديكتاتورياتِ التوتاليتارية والتسلطية).
لذلك عدّ الطبيعة طبيعتين، والمجتمع أو المجتمعيّة هي الطبيعة الثانية، وهو حالة من حالات انعكاس الطبيعة الأولى، لكن بمراحلَ أعلى، فما دام الإنسان ثمرة من ثمار الطبيعة الثانية، ينبغي إيلاء الأولوية لإدراك واستيعاب تلك الطبيعة كي نستطيع فهم الإنسان. فما دامَت جميع القوانين الخاصةِ بالطبيعة الأولى تتواجد وتتجسد في الإنسان عبر الطبيعة الثانية، فليس هناك معنى للفصلِ بين الذات والموضوع، واعتبر احترام الحياة وتقديرها على عُرى وثيقة بمستوى تطورِ الذكاء العاطفي، لذلك سمّاه بالذكاء الذي يمكّن من الحياة.
عرّف أوجلان السلطةَ في النقاط التالية:
- السلطة هي الحاكميةَ الكامنة في طبيعتها.
- لا تبرزُ السلطة ذاتَها بوضوح، فكأنها ظاهرة حياديّة، لا يمكن الاستغناء عنها.
- تعمّم السلطة ذاتها، وتجعلها مطلقة، وكأنها قدرة إلهية.
- السلطة حالة عبودية عامة، مع اختلاف أشكال السلطة والعبودية.
- السلطة مضادةٌ للحرية، فبقدرِ تواجُد كمونِ السلطةِ في المجتمع، فإنّ غياب الحرية يَسود بالمِثل. وبقدرِ التقليلِ من السلطة، فإنّ وضعَ الحريةِ يُحقِق التطور بالمِثل.
- السلطة استغلال، وقوة، وكأنها اكتسبت طابعاً جينياً في كلّ بؤر المجتمع.
- السلطة هي الطاقة الاحتياطية الكامنةً للطبقة والدولة.
- السلطة طاقةٌ كامنةٌ لقوةٍ جسديةٍ وفكريةٍ على حدٍّ سواء.
- السلطة الاجتماعية استغلال اقتصاديّ مُرَكَّز، وطاقة كامنة.
- تصبح السلطة لا غنى عنها؛ لمطابقتها ذاتها مع ظاهرة الإدارة.
- تتسلّل السلطة إلى البنية الاجتماعية كورم سرطانيّ، إذ ما تم تمييزها عن قيادة المجتمعِ الطبيعيّ.
- رغم انتشار السلطة في المجتمع، وتغلغلها، إلا أنّ الدولةَ شكلٌ من أشكالِ السلطةِ الممتثلةِ للقواعد، والمتحولةِ إلى قانون، والتي تُبدي عنايةً فائقةً لشرعنةِ ذاتِها.
- تعدُّ الدولة ونُخَبَها القوى الاجتماعية المهيمنة على آلية السلطة.
- تتجسدُ الطاقة الكامنة للسلطة عينياً، فتشكّلُ دولةً ما بطبقتِها الاستغلاليةِ الاجتماعيةِ التي ترتكزُ إليها نُخَبُها الحاكمة (العبودية، الإقطاعية، أو البورجوازية أو غيرها).
- الدافع المهم لفرض السلطة نفسها على المجتمع، وكأنها ضرورةٌ حتمية، ولازمة باستمرار، يتمثلُ في مطابقتها لنفسها مع الحاجة إلى الإدارة المجتمعية الطبيعية.
- بقدرِ استفحال السلطة في المجتمع يتكاثرُ المستبدّون الاجتماعيون الصغار بالمقابل؛ لذلك يبرز الحنينِ إلى السلطةِ بين صفوفِ المجتمع، وهذا ما يؤول إلى استهلاك واستنزاف الديمقراطية تماماً.
- لا مناص من تحوُّلِ الاستبداديةِ التي هي مَرَضٌ سلطويٌّ إلى عملاقٍ مارد، في حالِ تَمَلُّصِها من الرقابةِ وتحرُّرِها من قيودِها.
- إنّ الاستبداديةَ البارزةَ تاريخياً إلى الوسطِ في هيئةِ حُكمٍ مِزاجيّ، والتي تَحيا كأورامٍ اجتماعيةٍ فاشية؛ تتضخمُ بسرعةٍ في سياقاتِ السلطةِ الرأسماليةِ مستشريةً في جميعِ المساماتِ الاجتماعية، متجسدةً بذلك في هيئةِ حُكمِ قوةٍ توتاليتاريةٍ ضمن المجتمع.
- شكلُ السلطةِ من طرازِ الدولةِ القومية، له أواصره مع النظامِ الرأسماليّ – الفاشيّ، مُعَبِّراً بذلك عن وضعِه الأولويّ.
لذلك وجد أوجلان الحلّ في الإدارة، وقد رأى عجز علم الاجتماع في تحليلِ التشويشِ والخلطِ الكامنين بين السلطةِ والإدارة، في مقدمة الأزمات أو الإشكالياتِ المهمة جداً التي عانى منها. وهذا ما أبقى بدورِ على جميعِ التحليلاتِ البنيوية والعقلية والمواقفِ التاريخيةِ تتخبطُ في معمعة الفوضى، مُطيلاً بذلك من عُمرِ الأزمة. والنتيجةُ هي ابتلاعُ السلطةِ لكلّ من المجتمعِ والبيئة، وإفراغُ الديمقراطيةَ من جوهرِها، مختزلةً إياها في قشرة جوفاء، واختزال ذاتها إلى شكلٍ صوريّ متكرر بلا جدوى. لذا، لن يَكُونَ تخطّي الأزمةِ القائمةِ في الحقلِ العلميّ، وبالتالي الأزمةِ الاجتماعيةِ أمراً ممكناً بوصفِها كينونةً بنيويةً وكينونةَ معنى؛ ما لَم يَقُمْ العلمُ السوسيولوجيُّ بتحليلِ مصطلحَي السلطةِ والإدارةِ الديمقراطيةِ بعدَ وضعِهما في مِحورِ اهتماماتِه، وما لَم يَقُمْ ارتباطاً بذلك بتعميمِ الحلِّ على التاريخِ والعلومِ الأخرى، وقد رأى أوجلان أنّ التطور الاقتصاديّ والسياسيّ لن يحصل بغيابِ التطورِ الثقافيِّ، وما سيُعاشُ في هذه الحالة، هو الفناءُ تحت ظلِّ الاستعمارِ والصهرِ والإبادة، فبقدرِ ما يَكُونُ حُكمُ السلطةِ مناهِضاً للديمقراطيةِ في المجتمع، فإنّ الإدارةَ الذاتيةَ مرتبطةٌ بالإدارةِ الديمقراطيةِ بالدرجةِ نفسِها، وبقدرِ ما تُعَبِّرُ أشكالُ حُكمِ السلطةِ المَحضِ عن التضادِّ مع الديمقراطيةِ وإبعادِ المجتمعِ عن إدارتِه، فإنّ الإداراتِ الذاتيةَ تُفيدُ بالدمقرطةِ تناسُباً مع إشراكِ المجتمعِ في الإدارة، فالديمقراطية بالنسبة له هي الإدارةَ الذاتيةَ التي يُشارِكُ فيها المجتمع، فنظراً لاهتمامِ الإداراتِ الذاتيةِ بالمجتمعِ دوماً، فإنّ الديمقراطيةَ موجودةٌ في طبيعتِها، بِحُكمِ استحالةِ التفكيرِ في عدمِ مشاركةِ المجتمعِ فيها، بينما يتمُّ تصوُّرُ الديمقراطيةِ بالأغلبِ على أنها مصطلحٌ معنيٌّ بالمجتمعاتِ الكبرى كالشعوبِ والأمم، فإنّ الإداراتِ الذاتيةَ تشيرُ إلى قُدُراتٍ وكفاءاتٍ متواصلةٍ تنتشرُ من أصغرِ المجتمعاتِ الكلانيةِ إلى أوسعِ المجتمعاتِ القومية. لقد وضع أوجلان تعاريف واصطلاحات لمصطلح الإدارة تتجلّى فيما يلي:
- الإدارة مثل الثقافة ظاهرةٌ مستمرةٌ في المجتمع.
- تُعادِلُ الإدارة الرقيّ العقليّ.
- تعبّر الإدارة عن الانتظام الطبيعيّ والهروب من الفوضى.
- تعبّر الإدارة عن رقيّ المعنى ذي الذكاءِ المرنِ في المجتمع.
- يمكن تسمية العقلِ المجتمعيِّ بالإدارة.
- تَقوم الإدارة الذاتية بتنظيم القدرات الكامنة في طبيعتِها الاجتماعيةِ ومراقبتِها، وبالتالي تُؤَمِّنُ سيرورةَ المجتمع، وتَضمَنُ مَأكلَه ومَأمَنَه.
- تُشَرعِنُ الإدارةَ الغريبةَ نفسَها كسلطة، وتعملُ على إغواءِ المجتمعِ المُسَلَّطةِ عليه (تحاولُ غسل دماغه)، لِتَقدِرَ بالتالي على حُكمِه بعدَ تحويلِه إلى مستعمَرةٍ لديها.
- تتمتع الإدارة الذاتية بأهميةٍ مصيريةٍ بالنسبةِ لمجتمعٍ ما، فكيفما يستحيلُ على مجتمعٍ يفتقرُ إلى الإدارةِ الذاتيةِ أنْ يتجنبَ التحولَ إلى مستعمَرة، فلا مفرَّ من فنائِه وزوالِه ضمن سياقِ الصهرِ والإبادةِ كمَآلٍ طبيعيٍّ لذلك.
- تُمَثِّلُ الإداراتُ الغريبةُ عن جوهرِ المجتمعِ أكثرَ أشكالِ السلطةِ طغياناً واستعماراً.
- المَهَمَةُّ الأخلاقيةُ والعلميةُ والجماليةُ المصيريةُ والأهمّ على الإطلاقِ بالنسبةِ لمجتمعٍ ما، هي بلوغُه قوةَ الإدارةِ الذاتية.
- مثلما لا يُمكنُ لمجتمعٍ قاصرٍ عن النجاحِ في هذه المَهَمَّةِ أنْ يتطورَ أخلاقياً وعلمياً وجمالياً، فإنّ تطورَه وتمأسُسَه السياسيَّ والاقتصاديَّ أيضاً يفنى ويَزول.
- تكمن كفاءةِ الإدارةِ في عدم تحوّلها إلى السلطة، وتَصَدّيها دائماً تجاه اللاإدارةِ.
- من المهم عدم سلب السلطة امتيازات الإدارة.
- إذا كانت السلطة مناهِضةً للمجتمعية، فالإدارةَ كفاءةٌ مجتمعيةٌ بالمقابل.
- لا يحصلُ أيّ تطورٌ أخلاقيٌّ أو جماليٌّ أو علميٌّ من دونِ الكفاءة الاجتماعية التي تتحقّق بالإدارة.
كلمة أخيرة:
بالطبع هناك بدائل إنسانيّة وطبيعيّة وأخلاقيّة أفضل بكثير من الرأسماليّة، وقد حاربت الرأسمالية هذه الفكرة، وأعدّت كلّ فكرة مضادة لها اشتراكيّة، وبعد هزيمة الاتحاد السوفيتي فكرياً وعسكرياً وسياسياً، تغوّلت الرأسماليّة، وقد أشارنا سابقاً إلى أنّ كارل ماركس قد أكّد على حتميّة ظهور الرأسماليّة، وحتميّة زوالها، ولعلّه من الأوائل الذين مهّدوا للرأسماليّة، عن طريق محاربتها بنفس أدواتها، وهذا ما جعل الرأسماليّة تنجح، وتظلّ تقول: إنّ النظام البديل هو الاشتراكيّة، وهي تؤدّي إلى الديكتاتوريّة، وإلى احتكار الدولة لوسائل الإنتاج، فلا فرق بين الرأسماليّة والاشتراكيّة، بل الرأسماليّة أفضل لأنّ هناك حرّيّة فرديّة، وحقوق إنسان، لكنّ الاشتراكيّة لا تمتلك الحرّيّة، فصار مصطلح (ما بعد الرأسماليّة) مشوّهاً، إذا ارتبط بالنقيض الشيوعي أو الدولة الاشتراكيّة، أو الاشتراكيّة المشيّدة، التي فشلت اقتصاديّاً، لكن يجب أن يكون هناك نظام اقتصاديّ اجتماعيّ يحلّ محلّ الرأسماليّة أكثر عدالة وإنسانيّة، وهناك العديد من النظريات والأفكار المختلفة حول ما يمكن أن يكون عليه هذا النظام، وكيف ستكون ماهيته؟ فالديمقراطية الاقتصادية أو النظام الاقتصادي التعاوني هو البديل الأنسب. ويمكننا أن نختم مادتنا بمقالتين لأوجلان وبكوتشين.
يقول بوكتشين: “كنّا وما زلنا أسوأ الأعداء لأنفسنا، ليس موضوعيّاً فقط بل ذاتيّاً أيضاً، إنّ انفصالنا العقليّ، ولاحقاً الفعليّ، كمجتمع عن الطبيعة ترتكز على التشييء الهمجي للبشر، وتحويلهم إلى وسائل إنتاج، وأهداف الهيمنة هو تشييء أسقطناه على عالم الحياة كلّه، كما سيكون لعملية إدخال التطوّر الطبيعي بهدف جلودنا من كارثة إيكولوجيّة أثر بسيط في تغيير حساسياتنا ومؤسساتنا أو لن يترك أي أثر.”
يقول أوجلان: “نظامُ المجتمعِ الطبيعيِّ الذي تَشَرذَمَ بالحُكمِ الهرميّ، كان سيُواجِهُ القضايا الاجتماعيةَ الداخليةَ أيضاً، فضلاً عن القضايا التي تتسببُ بها الطبيعة. وستزدادُ وطأةُ القضايا طردياً في ثنايا الثقافةِ الماديةِ والمعنويةِ للمجتمع. فالنزاعاتُ المحتدمةُ بين الكلاناتِ والعشائر، تُشيرُ إلى البُنيةِ الإشكالية. وما الأفكارُ الميثولوجيةُ المتنافرةُ والمصطلحاتُ الإلهيةُ المختلفةُ البارزةُ في العالَمِ الذهنيِّ في مضمونِها سوى تعبيرٌ عن القضايا الاجتماعيةِ المتزايدة. بمقدورِنا رصدُ كلِّ هذه الظواهرِ في المجتمعِ السومريِّ بنحوٍ صاعقٍ ولافتٍ للأنظار. فالحربُ الناشبةُ بين الآلهة، ليست في حقيقةِ الأمرِ سوى إشارةٌ إلى تنافُرِ وصِدامِ المصالحِ فيما بين السلالاتِ الهرميةِ المتصاعدةِ وحُكّامِ دولةِ المدينة. كانت نماذجٌ بِدئيةٌ ومصغَّرةٌ من صراعاتِ السلطة، والاحتكاراتِ الاستغلالية، والقضايا الاجتماعيةِ للصراعاتِ الجذريةِ الكائنةِ في أرضيةِ التناقضاتِ والمشادّاتِ الطبقيةِ بين المدينةِ والريف (البرابرة)؛ كانت ستَتَشَكَّلُ خلالَ عامَي 5000 – 3000 ق.م في ميزوبوتاميا السفلى، لتَشهَدَها لاحقاً جميعُ مجتمعاتِ المدنية. وكانت ستُجَرَّبُ هناك أولى الأمثلةِ التي ستَظهرُ فيما بعد إلى الميدانِ من قبيلِ: جميع أشكالِ النزاعِ والوفاقِ الاجتماعيَّين، الدولة، الطبقة، المشاحنات الداخلية والخارجية في المدينة، والسلام.”
____________
المراجع:
- أوجلان، عبد الله (2010). مانفيستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الخامس: القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية: دفاعاً عن الكرد المحصورين بين فكي الإبادة الثقافية، ترجمة: شيار،زاخو(2013)، مطبعة آزادي، قامشلي.
- بوكتشين، موراي (1991). أيكولوجيا الحريّة. ترجمة: الضايع، متيم (2020). منشورات نقش، الطبعة الأولى، قامشلي.
مراجع النت:
- حمي،جهاد (2021). بوكتشين وأوجلان.. من الماركسية الاختزالية إلى الوعي البيئي – الاجتماعي(1) – المركز الكردي للدراسات (nlka.net).
- اثنتا عشرة أطروحة حول تغيير العالم (بدون الاستيلاء على السلطة) – جون هولواي – Boring Books.
- جون هولواي: أزمة المناخ عصية على الحل في ظل نزعة الربح… واستعادة الكرامة عبر الاعتراف المتبادل جوهر القضية الكردية – المركز الكردي للدراسات (nlka.net).
- كيف تواجه الإدارة الذاتية تحدياتها الداخلية؟ – المركز الكردي للدراسات (nlka.net).
- اقتصاد ما بعد النُدرة/ https://www.marefa.org/
- اقتصاد ما بعد النُدرة/ https://ar.wikipedia.org/wiki