مراكز الفكر والأبحاث والدراسات الاستراتيجي
أحمد دالي
أحمد دالي
في خضمّ البحث عن عنوان أو مصطلح جامع للدراسات الأكاديمية المتخصصة في مجالات مثل الاقتصاد والسياسة والعلوم الطبيعية والجغرافيا والتاريخ, وحتى ما يتعلق منها بالثقافات والفنون والآداب المتنوعة في منطقة الشرق الأوسط بدولها وشعوبها؛ لا بدّ وأن تصادفنا عبارة “الدراسات الشرق أوسطية”, وهي العبارة التي تكاد تكون جامعة للمواضيع والمعلومات التي يودّ الباحث الخوض فيها بالدراسة, أما التحليل فلا يمكن إغفاله أو تجاهله ـ ونحن نتحدث في مجال الدراسات والأبحاث الاستراتيجية ـ لأن قراءة المستقبل واستشرافه لا يمكن أن ينفصل عن التحليل الموضوعي للتاريخ والحاضر معاً, ثم إن تحليل الأحداث ودراسة الوقائع يُعتبر فصلاً مهمّاً من فصول مراكز الأبحاث والدراسات والفكر التي نحن بصدد تسليط الضوء عليها ما أمكننا, وهو بطبيعته بحث متشعّب وذو خطوط متعرّجة وليس من السهل الإحاطة به بشكل ميسور وسهل.
إن دراسة التاريخ من الناحية النظرية ما هو إلا انتقال لحوادث متنوعة عبر الزمان, تناقلتها الأجيال على ألسنتها نقلاً عن أجيال سالفة, ومن المحتمل أن تكون تلك الحوادث متداخلة أو متشعّبة أو مستقلة, لكن الأمر لا يختلف من حيث طبيعة آلية الانتقال والوصول, إلا أن ما هو واضح ومتفق عليه؛ أن دراسة التاريخ وخاصة القديم منه, لم يعدْ مقبولاً بتلك الطريقة السطحية المبتذلة, فكما هو معلوم أن أهل الاختصاص في كل مجال قد وضعوا ضوابط وموازين موضوعية عند الغوص في أعماق كل علم أو مجال, والتاريخ يعتبره الكثيرون علماً لما يحتوي من معايير وضوابط علمية ـ بحسب القائمين عليه والمشتغلين به ـ في عملية البحث والتمحيص والتحليل والتفنيد, ولكن على النقيض من ذلك يوجد فريق آخر معارض لفكرة اعتبار التاريخ علماً مثل بقية العلوم الرياضية والفيزيائية, وعلوم أخرى مثل الطبّ والفلك والكيمياء, وهم بدورهم يسوقون قائمة من الأسباب التي تجعلهم يستبعدون التاريخ من دائرة العلوم, ولعلّ على رأس تلك الأسباب التي يستندون إليها أن الحادثة التاريخية لا يمكن تكرارها أو تجربتها أو إخضاعها إلى التحليل والدراسة المخبرية, فهي حادثة قد وقعت وانتهت, ولا تقبل التجربة على غرار التجرية الفيزيائية مثلاً, أو التجربة الكيميائية التي يمكن تكرارها كلما دعت الحاجة, فالحادثة التاريخية مرّت إلى غير رجعة, وما بقي منها هو عبورها وتناقلها عبر الزمان, وهذا بطبيعة الحال ـ على حدّ زعم هذا الفريق ـ ليس محرّماً عليه النسيان أو عصيّاً على التحريف والتزييف, وحتى اختلاق الحادثة افتراء من أساسها, أو طمس حادثة حقيقية وجعلها كأنها لم تكن.
كل ما تقدّم يدفع بالدارسين للتاريخ والباحثين فيه إلى ضرورة تقصّي الموضوعية والحيادية.
ومن التاريخ قفزاً إلى مجاهيل المستقبل وقراءته؛ يبرز جلياً مصطلح “الاستشراف” الذي أخذ بالتنامي بصورة كبيرة في مجالات الأدب والسياسة والاقتصاد, مع الاختلاف الواسع بين الرؤية الاستشرافية لكل مجال, فالاستشراف لدى الشاعر والأديب قائم في أساسه على نبذ هذا العالم المثقل بالأوجاع والمآسي, المليء باليأس والإحباط, ولذلك كانت ميول الأدباء والشعراء تجنح إلى البحث عن عالم خالٍ من تلك المظالم والسوداوية التي أرهقت كاهل الإنسانية, وهو من منظور أحلامهم وآمالهم المثالية عالم تتحقق فيه كل ما تصبو إليه النفس البشرية, فكان من نتيجة تمرّدهم هذا على الواقع ظهور الـ “يوتوبيا” في مختلف ميادين وأجناس الأدب.
في حين أننا نرى أن دائرة الاستشراف في مجال مثل السياسة تستند على دراسة أحداث ومتغيرات السياسة العالمية, سواء كانت تلك المتغيرات طبيعية قادت إليها حوادث معينة بشكل أوتوماتيكي, أو كانت أزماتٍ مفتعلة من صنع العقل المدبّر والمسيّر للسياسة البشرية, والأمر نفسه يكاد ينطبق على التحليلات المستقبلية في مجال الاقتصاد, وخاصة إذا علمنا أن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة, وأن الاقتصاد هو المحرّك القائد السياسة, وأن السياسة هي موجِّه الاقتصاد, حينها سيكون من السهولة التلاعب بالمستقبل مثل كرة تتناقلها أقدام رجال السياسة والاقتصاد.
ويبقى الاستشراف الفلكي هو الأكثر موضوعية وحيادية ودقة بالمقارنة مع القراءة الذاتية التأملية المثالية في كل من الآداب والفنون, والقراءة الخالقة والمفتعلة لسير الأحداث كما في كل من الاقتصاد والسياسة.
انطلاقاً من هذه المقدمة ثمة تساؤلات كثيرة مطروحة:
ـ هل بالفعل مراكز الدراسات والأبحاث في العالم على وجه العموم وفي الشرق الأوسط على وجه الخصوص, تعمل من أجل مجتمعاتها حتى تكون ملمّة بما يدور من حولها؟
ـ هل هذه المراكز الاستراتيجية والفكرية بكل ما تمتلك من عقول وأموال وإمكانات, قد وُجدت لتكون في خدمة الإنسانية؟
ـ أليس من الممكن أن تكون الغاية من كل ذلك تنوير فئة وتضليل أخرى؟
ـ أليس من الجائز أن تكون فكرة إطلاق مثل هكذا مراكز فكرة تجارية قبل كل شيء؟
ـ ألا يمكن أن تكون الأهداف الكامنة وراءها توجيه السياسات في مناطق أو دول معيّنة نحو خطوط مرسومة مسبقاً؟
ـ أليس من المعقول والمنطقي أن تكون مراكز الأبحاث والدراسات هذه على امتداد قارات العالم أجمعها, قد وُجدت أصلاً من قبل أناس عقلاء حكماء لتقريب وجهات النظر العالمية حيال المشاكل والأزمات الكثيرة التي يعيشها عالمنا, لإنقاذه مما هو فيه, ولكي لا يُجرّ إلى الهاوية؟.
على ما يبدو أن لكل تساؤل مما سبق نصيب من الصحة والصواب بأقدار ومستويات ليست متساوية أو عادلة.
ـ حيادية الدراسات التاريخية وموضوعية البحث التاريخي
ـ مراكز الفكر والأبحاث والدراسات الاستراتيجية وقدرتها على قراءة الحاضر واستشراف المستقبل
ـ تصنيف مراكز الفكر والدراسات والأبحاث
1ـ حيادية الدراسات التاريخية وموضوعية البحث التاريخي
ثمة تصنيف كلاسيكي ثابت منذ القِدم للعلوم, فهناك العلوم الفيزيائية الراسخة في العقل والمنطق, المتّسمة بالموضوعية والتجرّد والبحث الرياضي, وإلى جانبها العلوم الإنسانية المتأثرة بالنزعة الذاتية والرؤية الشخصية, وكثيراً ما تنجرّ هذه الأخيرة فتقع في فخّ الخلفيات الإيديولوجية أو الأهواء الذاتية, ولهذا يُطلق عليها تسمية “العلوم الإنسانية” لأنها ليست بمعزل عن النظرة الإنسانية والرؤية الشخصية لمواضيعها, وذلك على عكس العلوم الفيزيائية التي تتخذ من التجرّد والنظرة الموضوعية العقلانية أساساً لها في ميادين عملها ودراساتها وتجاربها واختباراتها, ولكن هذا لا يعني عدم تدخّل الإنسان في رسم نتائجها أو التحكم بها أو طريقة استخدامها.
فإذاً؛ ثمة إشكالية واضحة المعالم, وهي أزمة الموضوعية والذاتية في مجالات العلوم الإنسانية على اختلاف تسمياتها وصورها: (التاريخ, الفلسفة, علوم الدين والشريعة, علم الاجتماع, علم النفس), وغيرها من العلوم الإنسانية التي لا يمكن وصفها بأنها علوم متجرّدة وموضوعية, وإننا هنا بصدد ميدان التاريخ كنموذج فاعل في مجال العلوم الإنسانية, ومن جهة ثانية بسبب ما يتمتع به التاريخ من أهمية كبيرة وثابتة عند قراءة الحاضر ومحاولة استشراف المستقبل, فالقرار في هذه النقطة الحساسة هو للباحث التاريخي الذي حمل على عاتقه هذه المهمة الكبيرة والشاقة من ناحية, والإنسانية من ناحية ثانية, فبالقدر الذي يتمكن فيه الباحث من امتلاك زمام المادة التاريخية التي يدرسها, وتقليبها على جميعها أوجهها, وتمحيصها والتدقيق فيها؛ فإنه بالقدر نفسه هو مطالبٌ بالابتعاد عن دوافعه وأهوائه الشخصية ونزواته الذاتية والتحرر من نزعاته القومية والإيديولوجية, وقبل هذا وذاك فإنه لا بدّ وأن يكون مسلّحاً بجميع أدوات وقواعد وقوانين البحث التاريخي, وإلا فإن النتائج التي سيتوصل إليها ستكون ميّالة للتحريف والتلاعب والتزوير والتسييس, وبالتالي ستكون عرضة للنقد والردّ في أحسن الأحوال, ثم إن الكارثة الحقيقية ستكون في إسقاطات الحاضر والتنبّؤات المستقبلية التي ستُبنى على تلك الدراسة التاريخية التي يشوبها العنصر الذاتي والهوى الشخصي أو ربما الميل السياسي والجنوح الإيديولوجي.
إن أكثر المجالات التي تكون عرضة للتلاعب والتحريف؛ هو ما يتعلق بالتاريخ السياسي للشعوب والأمم, وإن هذا الرأي يلقى قبولاً رائجاً وخاصة عند انتشار المقولة الشهيرة “التاريخ يكتبه الأقوياء أو المنتصرون”, والانتصار في الميدان التاريخي ليس بالضرورة أن يعني انتصار العدالة أو القضية العادلة, فما أكثر القضايا العادلة التي لم يظفر أصحابها بالنصر, وما أكثر القضايا الضالّة وغير العادلة التي كان النصر والظفر من نصيب أصحابها, لماذا؟ لأن ميزان القوة هو الحكم والفيصل في بعض الأحيان إن لم نقل في كثيرها, وهذا ما يدفع بالإنسان إلى تغيير مجرى التاريخ وتشويه حقائقه, في حين أن التاريخ نفسه غير قادر على الدفاع عن نفسه, فكيف به أن يكون قادراً على الدفاع عن قضاياه التي تتعرض للتشويه والتحريف والتسييس والتزوير؟ أما لماذا هو ـ أي التاريخ ـ عاجزٌ عن نصرة قضاياه؛ فلأنه ينتمي إلى ميدان العلوم الإنسانية كما أسلفنا من قبل.
بالعودة إلى التاريخ السياسي للشعوب, فإننا سنجد أن الخرق والتشويه الواقع على شعب ما سواء في ثقافته أو حروبه بانتصاراته وهزائمه, أو إبداعاته واكتشافاته أو علاقاته التجارية والاقتصادية, فإن الملاحظ هو أن جميع تلك المجالات تجتمع في خانة واحدة لتحدد التاريخ الذي يوصف به ذلك الشعب أو تلك الأمة, كما أنه بات من الجليّ أيضاً أن الصبغة السياسية كممارسة فوقية هي التي تطغى على التعامل مع الشعوب والأمم في جميع نواحي حياتها عبر تاريخها, فنرى في العلاقات الدبلوماسية القائمة في زماننا الحاضر, أن القوى الفاعلة والمتنفذّة في العالم هي التي تمنح تاريخ غيرها من الدول والشعوب صكوك البراءة وشهادات حسن السلوك, وبهذا النهج تُطمس الحضارات والثقافات والفنون والآداب تحت جناح الحكم أو النظرة السياسية للموضوع, فيطفو على سطح القضية نظرة رجال السياسة ومهندسي العلاقات الدبلوماسية في التعامل مع الإرث التاريخي لبقية الأمم والدول, ومن أجل تغيير سلوكهم هذا على الأقل في الظاهر, فإنهم يعملون على تنشيط النوادي الثقافية والمنتديات الأدبية التي في كثير من الأحيان لا تغني عن جوع أو عطش, بل تكاد تكون مكتوفة الأيدي في وجه صنّاع القرار, لذلك تبقى في حالة كتمان الحقائق أمام ما يحدث.
مراكز الأبحاث والدراسات مطالَبة أكثر من غيرها بالتحقيق التاريخي للشعوب والأمم, ولكي تكون صاحبة القدرة على لعب هذا الدور الحاسم والجريء؛ فإنه مطلوب منها الحيادية في الدراسة التاريخية والموضوعية في الطرح, وألا تكون عرضة للتدخلات السياسية والإملاءات الإعلامية, وأن تكون مالكة قرارها وصاحبة رأيها, وحتى يُتاح لها ذلك؛ لا بدّ لها من أن تكون متحررة من سلطان المال أو التمويل السياسي, وأن تكون صاحبة ضمير حيّ ومسؤول, فمن خلال المناظرات التي نشاهدها عبر وسائل الإعلام المختلفة وخاصة المرئية منها, كثيراً ما يلاحظ المشاهد اختلاف وجهات النظر تجاه مسألة واحدة؛ ما بين مؤيّد حتى النخاع ومعارض حتى العظم وآخر مسالم موادع يقف على الحياد, في هذه الحالة لا يمكن من المنطقي والأخلاقي أن يكون الثلاثة على الصواب في نفس الوقت والظروف تجاه نفس القضية, فالمسألة في هذه الحالة تحتمل أن يكون أحدهم أو اثنان منهم على الصواب أو على الخطأ, لماذا؟ لأن الذي اتخذ الموقف الوسط لا بدّ وأنه قد عرف الحقيقة لكنه تجاهلها وتفادى الوقوف إلى جانبها, أو أنه قد أدرك الموقف الخطأ لكنه حاول أن لا يكون المصرّح به والكاشف له, وفي أحسن الأحوال ربما يكون براغماتياً يعمل على إرضاء الطرفين.
إن مثل هذا المثال سهل الإسقاط على الدارسين والباحثين في مراكز الدراسات والأبحاث على اختلاف تسمياتها واختصاصاتها وتوجّهاتها, ولا يبدو من الصعب قياس مواقف تلك المراكز على مثالنا السابق حيال بحثها في قضية أو مسألة ما, ذلك أن القارئ أو المتابع لآراء ومواقف رجال تلك المراكز سيلاحظ بكل وضوح الاختلاف الكبير في المواقف إزاء مسألة ما أو دولة ما أو أزمة في مكان ما, فيكون هناك المهاجم والمدافع على السواء, وهناك المحايد, والأسباب متنوعة في هذا الاختلاف الكبير في الرؤى, يمكن أن نذكر منها:
ـ انعدام حيادية قراءة المشهد.
ـ ومن الأسباب أيضاً ضبابية الرؤية الموضوعية المتجردة من الدوافع والمصالح الذاتية.
ـ أو ربما الدوافع السياسية نتيجة ممارسة ضغوطات من نوع ما على الباحثين والدارسين, سواء بشكل شخصي أو ربما على مراكز عملهم بصفة اعتبارية.
ـ وقد يكون السبب في شكل التمويل الذي يكون مشروطاً أحياناً مقابل اتخاذ مواقف معينة ومدروسة ومحددة مسبقاً إزاء موضوع ما.
إننا في هذا البحث لسنا بصدد اتهام أحد أو تبرئة آخر, وليس الغرض من الدراسة القدح أو التشهير بأحد, ولكن منطق لسان الحال يقول: إذا كان هناك تضارب في المواقف والرؤى حيال نفس الفكرة وضمن نفس الظروف الزمانية والمكانية والموضوعية, فلا بدّ وأن يكون بعضها على الصواب وبعضها على خطأ, فمن غير المقبول في العقل السليم والمنطق القويم أن تكون تلك المسألة تحتمل الخطأ والصواب في آنٍ معاً, أو أن يكون أولئك الخائضين في تلك المسألة ـ وهم من المفترض أنهم رجال علم وبحث وتخصص ـ أن يكونوا جميعاً على هذه الدرجة من سطحية التفكير وسذاجة الموقف لولا بعض الأسباب التي تدفع بالبعض منهم إلى الاستقتال من أجل أحقّية وعدالة قضية ما, وعلى الجانب الآخر وجود من يستقتل لإثبات ضلالتها وعدم أحقّيتها.
ولكن؛ من الجدير بالذكر ههنا أن نشير إلى أن الدفاع المستميت عن موضوع أو فكرة أو قضية ما من قبل البعض؛ سواء من الباحثين بشكل شخصي أو من مراكز الفكر والأبحاث التي يعملون لديها بشكل اعتباري؛ قد يكون دفاعاً نابعاً من الإيمان بتلك القضية وعدالتها وأحقّيتها, بعيداً عن مجانبة الصواب أو الانحياز, وهذا الموقف قد نراه بكثرة لدى المدافعين عن قضايا الشعوب المظلومة والمحتلة, وقد يكون صاحب فكرة الدفاع ينتمي إلى ذلك الشعب أو ربما يكون صديقاً غير منتمٍ لذلك الشعب وقضيته, لكن إيمانه بعدالة تلك القضية قد جعله يتخذ موقف المحامي المدافع عنها في مواجهة المتطاولين والمهاجمين, والأمثلة في هذا الخصوص تتجاوز المؤرخين والباحثين ورجال الإعلام والسياسة لتصل إلى الثائرين الذي تجاوزوا حدود بلدانهم وشعوبهم التي ينتمون إليها, في سبيل نصرة قضية شعوب أخرى خارج حدودهم, وهذه الصورة هي على عكس الذين يتجاوزون حدود بلدانهم إلى بلدان أخرى بهدف احتلالها وإخضاعها ونهبها وإفسادها.
إن الحاجة الملحّة والضرورية إلى الرؤية الموضوعية والنظرة الحيادية في مراجعة التاريخ ودراسة أحداثه ووقائعه, تكون في الوقوف على بعض التعريفات الإشكالية مثل مصلحات (الاحتلال, الاستعمار, الفتح, الوصاية, الانتداب), فما يعتبره المهاجم فتحاً يعتبره المدافع احتلالاً, وما يعتبره المهاجم انتداباً يعتبره المدافع استعماراً, وهكذا… ولذلك لا بدّ من سماع عبارة “التاريخ يكتبه الأقوياء والمنتصرون”, والأمر نفسه يمكن أن ينطبق على الثائر, ففي حال انتصاره سيصفه التاريخ بالبطل والثائر المنتصر, وفي حال فشله فإنه سيكون في قائمة الخائنين والمتخاذلين, وبكل تأكيد نحن نتحدث عن ثائر في قضية عادلة, لا عن معتدٍ اتخذ لنفسه هذه الصفة وأيّده آخرون ممن هم في نفس الدرجة من الاعتداء.
في جميع الأحوال تبقى فكرة موضوعية البحث التاريخي وحيادية المواقف والرؤى, من المسائل الشائكة والحساسة التي لا يمكن حلها بوصفة خارقة أو عصا سحرية, أو معالجتها بتوجيهات فلسفية أو إرشادات أخلاقية, ولكن على أقلّ تقدير ينبغي أن تكون مراكز الدراسات والفكر والأبحاث قريبة من موضوعية القراءة التاريخية وحيادية طرحها.
2ـ مراكز الفكر والأبحاث والدراسات الاستراتيجية وقدرتها على قراءة الحاضر واستشراف المستقبل
بحسب السيرورة الزمنية للأحداث فإن الحاضر امتداد للماضي, وبالمثل تماماً يكون المستقبل وليد الحاضر, والجامع بين الأزمنة الثلاثة هو خط الزمان, طبعاً هذا توصيف كلاسيكي عام, ولكن إن كان الأمر متعلقاً بشيء اسمه (مراكز صنع القرار, مراكز الأبحاث والدراسات, مراكز صناعة الفكر, مراكز العمل السياسي والدبلوماسي)؛ فإن ارتباط هذه المراكز سيكون مرتبطاً بالجهات الرسمية, وبناءً على ذلك فإنها ستعمل وفق التوجّهات والأنظمة والتشريعات التي تربطها بالجهة الرسمية وضمن إطار رخصة العمل المصرّح بها, وفي هذه الحالة من الطبيعي والمنطقي الخروج على التوصيف الكلاسيكي للتراتبية الزمانية لسير الأحداث, ذلك بسبب دخول عنصر المكان على خط الزمان, بالإضافة إلى الظروف الموضوعية والذاتية التي تتحكم في عمليات مثل صناعة القرار أو توجيه السياسة أو عملية البحث في موضوع ما.
“ظهرت مراكز البحوث والدراسات بعد انتشار الثورة الصناعية في أوروبا, ومن ثم انتشرت في الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبقية دول العالم,… لا يوجد تعريف عام وشامل لهذه المؤسسات كون أغلبيتها لا تعلن عن نفسها في وثائق تعريف الهوية الذاتية, وإنما تعلن عن نفسها كمنظمات غير حكومية أو منظمات غير ربحية… يتوزع ارتباط مراكز البحوث والدراسات بين الجهات الحكومية, وعندئذ ستعمل حسب التوجّهات الحكومية المرتبطة بها وفقاً للتشريعات والأنظمة والتعليمات المبلّغة إليها من مراجعها الرسمية, كما يمكن ارتباط هذه المراكز بالقطاع الخاص مما يكسبها مرونة عالية في التحرك لاختيار الموادّ العلمية المطلوبة, وثمة ارتباط ثالث مختلط لهذه المراكز في القطاع الحكومي والخاص للاستفادة من مزايا الملكية الحكومية والفردية” (1).
ومهما يكن من أمر مراكز البحوث من حيث جهة العمل والارتباط والتوجّه, فإنها تساهم بشكل كبير في تزويد مراكز صنع القرار بالمعلومات والتحليلات المطلوبة, وهذا الدور نابع من تطور الخبرة العلمية والمعرفة الثقافية في مختلف المجالات, وبالتالي فإن هذا الأمر يعزز من موقعها وتجعلها لاعباً فاعلاً وذا تأثير في القراءة والتحليل لنفسها أولاً, وتزويد الجهات المعنية بالأخبار والدراسات والمعلومات المختلفة بحسب التوجّه والاهتمام. والجدير بالذكر أن مراكز البحوث والدراسات ليست حكراً على الحكومات والجهات الرسمية, وإنما يمكن أن تدخل إلى القطاع الخاص, وهذا ربما يذكّرنا بـ “الحوكمة أوالإدارة الرشيدة” التي بدأت في القطاع الخاص والشركات الخاصة ثم انتقلت إلى ميدان القطاع العام والقطاع الحكومي, وهذا بطبيعة الحال يمكّنها ـ أي مراكز الأبحاث والدراسات ـ من الخوض في الميادين العلمية والثقافية والفنية والأدبية.
قراءة الحاضر
تنطلق مراكز الفكر والأبحاث والدراسات في عملية قراءة الحاضر من التخصص والتركيز على المواضيع والمسائل السيادية التي باتت كالمحرّك لهذا العالم, وتأتي على رأس هذه القضايا صناعة القرارات السياسية والاقتصادية والعسكرية,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجلة آراء حول الخليج: مراكز البحوث والدراسات, الدكتور خضير عباس النداوي ـ أيلول 2007
وهذه المراكز تساهم بشكل أو بآخر في التأثير على صناعة تلك القرارات بما تملكها من معلومات ودراسات مهمة في كل مجال, وبما أن تلك المراكز ـ كما سبق الإشارة من قبل ـ تعمل في الميدان الرسمي أو الحكومي؛ فإنها تقوم بتزويد صانعي القرار بما يلزم حيال كل مجال. كما تعمل مراكز الدراسات والبحوث هذه على طريق رسم البرامج والخطط المنظمة التي ترتبط بشكل مباشر بخطط ومشاريع المؤسسات الحكومية, ومن جانب آخر تسعى إلى الاستثمار الفاعل والناجح للخبرات والكفاءات العلمية وتشجيعها في نفس الوقت, ومن ثم وضع كل تلك الثروات والطاقات البشرية في الخدمة العامة للدولة أو الحكومة.
ومن الجوانب المهمة التي تضطلع بها مراكز الدراسات والأبحاث؛ تثقيف الجمهور وتوجيهه إلى تكوين رأي عام حول بعض المسائل, وقد يصل بها الأمر إلى العمل على حشد التأييد السياسي لدى الجماهير تجاه أمور ومسائل بعينها, كما أنها تعمل أحياناً كمراكز تقوم بدور استباقي أو وقائي في المجال الدبلوماسي, بهدف إيجاد الحلول لمشاكل دولية أو إقليمية معقدة, وكمثال على ذلك “مؤسسة كارنيجي لأبحاث السلام الأمريكية” التي قامت بسلسلة من الدراسات واللقاءات في ثمانينات القرن الماضي مع رجال السياسة والدين والأعمال وممثلين عن حركة تحرير جنوب إفريقيا, إلى جانب أعضاء من الكونغرس وموظفين من وزارة الخارجية الأمريكية ومجلس الأمن القومي الأمريكي, حيث أفضت تلك اللقاءات والمساعي لاحقاً إلى حل المشكلة في جنوب إفريقيا.
استشراف المستقبل
البحث العلمي من أهم مزايا العقل البشري الطامح إلى اكتشاف مجاهيل الكون وأسرار الطبيعة, وهذا البحث العلمي يُعتبر كذلك من النشاطات ذات الأهمية التي يمارسها الفكر البشري في سعيه إلى الارتقاء والنهضة, ومن هنا تأتي أهمية إيلاء الأبحاث والدراسات العلمية الاهتمام الواسع بأدواته ووسائله المتمثلة بالجامعات ومراكز الفكر والأبحاث والدراسات, وكأحد الأمثلة على هذا الدور الفعّال والحسّاس أن المراكز البحثية المهمة تقوم بتنبيه صنّاع القرار في دولها حول الطريقة المثلى لكيفية اتخاذ القرارات بعيداً عن الارتجال أو التسرّع الذي قد يفضي في النهاية إلى الوقوع في الأخطاء, ذلك أن المعلومات والدراسات التي توفرها وتضعها بين أيدي صانعي القرار, تمرّ بمراحل وفلاتر حساسة للغاية, الأمر الذي يكسبها الدقة في عملية دراسة ما ستؤول إليه الأوضاع حول قضايا ومسائل موضوعة تحت المجهر, وهذا كله من شأنه إضفاء نوع من العلمية والموضوعية على التنبؤ بالأحداث القادمة واستشراف المستقبل وخاصة في المسائل السياسية والاقتصادية.
بعبارة أخرى يمكن القول: إنّ الأفكار والحلول التي تُطرح من قبل مراكز الدراسات, تقوم بطريقة ما بالتأثير على أداء الحكومة في رسم خارطة طريق مستقبلية لأداء مهامها إزاء التعامل مع الأمور المستقبلية الغامضة, والعمل على ترتيب الأولويات الداخلية والخارجية, واللجوء إلى المقارنة والقياس مع المشاكل والقضايا المتشابهة في مناطق ودول أخرى, وبالتالي الخروج بأفضل النتائج وأقلّ الأضرار. وفي سبيل الوصول إلى هذه الغاية فإنها تعمل بجدّ لجذب انتباه فئة صانعي القرار والسياسة, لأنه معروف أن هذه الفئة مشغولة بل غارقة في التفكير والمتابعة والعمل, ولذلك نرى أن العاملين في حقل الدراسات والأبحاث يلجؤون إلى وسائل لتسويق أفكارهم, وإلى استراتيجيات لجذب انتباه أصحاب القرار, ومن تلك الوسائل والطرق نشر الدراسات ذات الصلة بالنقاط الساخنة التي تشغل فكر صانع القرار, أو الظهور المكثّف عبر مختلف وسائل الإعلام بهدف إثارة المواضيع الساخنة التي تحتاج إلى حلول مستعجلة أو دقيقة, وقد يصل بهم الأمر إلى تقديم دراساتهم وأبحاثهم إلى المؤسسات الحكومية بشكل مباشر ووضعها تحت تصرفهم.
منطقة الشرق الأوسط الغنية من كل جانب (الأديان والجغرافيا والشعوب والتاريخ والثروات والميثولوجيا والشرائع ….), لا بدّ وأن تكون وجهة لمراكز الدراسات والأبحاث من كل بقاع العالم, والاستشراق وكتابات المستشرقين وجولاتهم وصولاتهم ما هي إلا نوع من دراسة المنطقة وفهمها عن كثب ومن ثم الاقتراب منها والتعامل معها.
لا بدّ من التسليم بفكرة أن دراسة المأكل والملبس والمسكن في منطقة ما أو لدى شعب ما, لا تتوقف عند تلك النقطة التي تبدو سطحية إلى حدّ ما, علينا معرفة أن تلك الخطوة تنطوي على الدراسة النفسية السيكولوجية لتلك الشعوب, وطريقة عيشهم التي تعكس مدى تجاوبهم مع الآخر, ومستوى ثقافتهم التي تعطي انطباعاً عن وعيهم بما يدور من حولهم, وأيضاً أعرافهم وتقاليدهم ودرجة تمسّكهم بها, الأمر الذي يعكس في النهاية عن المرونة أو الصلابة في قبول إحداث أو إدخال تغييرات على أنماط حياتهم وتفكيرهم, وبعبارة أكثر دقة ووضوحاً؛ كيفية الدخول إلى الغرف الخلفية للبيت, وكيفية الولوج إلى ساحة المعتقدات والأفكار والتوجّهات, ومدى تقبّل كل ذلك لكل وافدٍ جديد أو دخيل.
بالعودة إلى الشرق الأوسط؛ فإنه شهد أزمات اقتصادية وحروباً كبيرة في العقود الأربعة الأخيرة, وخاصة المنطقة العربية ومحيطها والشعوب التي تعيش فيها, ومن منا لا يتابع توقعات الفلكيين المتعلقة بالأحداث السياسية والاقتصادية, وعلى فرض أن هؤلاء الفلكيين هم بمعزل عن الإملاءات والتوجيهات من جهات مختلفة بحسب الموضوع؛ فإنهم في جميع الأحوال يصبّون نتائج تنبّؤاتهم وتوقعاتهم في فلك المستقبل, إذ لا فائدة من قراءة الحاضر الملموس أو الماضي المعروف. إن الدراسات المستقبلية لمراكز الأبحاث تسعى هي الأخرى إلى لفت الانتباه إلى مسائل حساسة وقضايا عالقة بحاجة إلى وضع الحلول, خاصة وهي التي تعزف على وتر جذب انتباه أصحاب القرار كما أسلفنا, وليس بغريب أن تعتمد في قراءة المستقبل واستشرافه على تسريبات مقصودة من مراكز اتخاذ القرار, لتهيئة النفوس والرأي العام لتقبّل فكرة ما عندما يحين أوانها, والأمر لا يختلف سواء في مجال التغييرات السياسية أو الأزمات والانفراجات الاقتصادية, وحتى نشوب حرب في مكان ما أو توقيع اتفاقية سلام في مكان آخر, وليس خافياً على أحد أن بيئة الشرق الأوسط غنية بكل المواضيع التي أشرنا إليها.
بقي أن نشير إلى الاستشراف والتوقع العلمي للأحداث والكوارث الطبيعية, وخير مثال على ذلك ما نعيشه هذه الأيام من خلال زلزال تركيا وسوريا (شباط 2023), خاصة مع التوقعات والتحذيرات التي سبقت حدوثة بأيام من قبل بعض خبراء وعلماء الجيولوجيا, الأمر يضع البعض أمام حالة من الشك ما بين أن تكون هذه الكارثة وكوارث سابقة طبيعية أم مفتعلة.
3ـ تصنيف مراكز الفكر والدراسات والأبحاث من حيث وظائفها
ـ المراكز المتخصصة: تركز في عملها على مواضيع محددة مثل السياسة الخارجية والدبلوماسية والأزمات الدولية, فهي تبدأ أولاً بإثارة موضوعها ومن ثم تسعى إلى لفت انتباه الجهات المعنية.
ـ المراكز الإيديولوجية: تنطلق في وظيفتها وعملها في حل المشكلات على فلسفة إيديولوجية معينة, فهي تسعى إلى قولبة الحلول وفق مقاييس جاهزة.
ـ المراكز العلمية: تقوم بالجهود والدراسات والتجارب العلمية وتمويل المشاريع المتعلقة بها, مثل مراكز أبحاث الفضاء والمناخ والكوارث الطبيعية.
خاتمة
يرى بعض الباحثين أن مراكز الفكر والأبحاث والدراسات يمكن أن تكون معياراً لتقدم وتطور الأمم, فوجودها يعكس القيمة الفكرية والعلمية للمنطقة التي تتواجد فيها, وبمفهوم المخالفة يمكن أن نتصور عدم توفر تلك المراكز في دولة أو مجتمع ما, فالأمر في هذه الحالة سيُفسّر على أنه لا يعكس درجة التطور والتقدم.
ولكن ينبغي أن نلاحظ أيضاً أن وجود مراكز الدراسات قد أصبحت فاعلاً أساسياً ومؤثراً في توجيه الرأي العام وصياغة الاستراتيجيات والتوجهات العامة في الدول والمجتمعات, لأنها تُعتبر بمثابة الخزائن الفكرية التي من شأنها إحداث الفوارق في الانطلاق نحو نهضة مجتمعية في جميع المجالات, وليس فقط في ميادين مثل السياسة والاقتصاد والعسكرة, لأنّ العاملين في هذه الحقول هم من الأدمغة والعقول الفاعلة والمؤثرة, وأقل ما يمكن أن يُقال في هذه المراكز أنها جهات استشارية على درجة عالية من المعرفة والثقافة والاطلاع بمختلف جوانب الحياة الإنسانية, ولكن طبيعة الظروف الدولية والأزمات التي يعيشها العالم والمنابر الإعلامية, جعلت منها وكأنها متخصصة فقط في بعض المجالات التي يكثر ظهور الاستشاريين والباحثين بخصوصها, مثل الحرب والسلم والأزمات الاقتصادية والمشكلات السياسية بين الدول.
ومن المعروف أيضاً أن مراكز الدراسات والأبحاث لم تبدأ بادئ الأمر على هذه الصورة وبهذه التسمية, فقد تطورت مع تقدم الزمن شأنها شأن مختلف المجالات الأخرى, لأنها في البداية كانت عبارة عن فريق من الاستشاريين والمتخصصين والخبراء إلى جانب الحكّام وأصحاب القرار, وظيفتها المساعدة في دراسة خطوات دراسة المسائل قبل الوصول إلى مرحلة اتخاذ القرار, بمعنى أن وظيفتهم كانت النصح وتقديم المشورة قبل أن تتطور الأوضاع لتصل إلى شكل جديد وهيكلية جديدة تحت مسمى “الهيئات الاستشارية” ومنها إلى المؤسسات والمراكز الاستراتيجية للأبحاث والفكر كما هي معروفة اليوم, ويميل البعض إلى تسميتها ونعتها بالسلطة الناعمة لما تمتلكه من خبرات وقدرات وكفاءات تسمح لها بالتأثير في مسارات مثل السياسة والاقتصاد والمواضيع الثقافية والاجتماعية والبيئة, ومن ثم هذا التأثير المبدئي يؤدي في مرحلة ما إلى توجيه تلك المسارات.
المراجع
ـ مركز الخليج للدراسات ـ مجلة آراء حول الخليج
ـ المركز الديمقراطي العربي ـ علاء عريبي غانم ـ مقال