أبحاث ودراساتمانشيتملف العدد 50

معاهدة سيفر و آفاقها

هيئة تحرير المجلة

الحرب العالميّة الأولى (1914 – 1918)

في 11 تشرين الثاني عام 1918م  الساعة الحادية عشرة صباحاً،  تم توقيع الهدنة بين المتحاربين، وأعلن وقف إطلاق النار على جميع الجبهات في تلك الحرب التي اندلعت منذ عام 1914م وحتى 1918م، والتي تسببت في معاناة ملايين البشر، ومات نحو عشرة ملايين جندي برصاص اخترق أجسادهم، أو القنابل التي مزقتهم، أو أحرقتهم، أو مات جوعاً، أو التهمتهم الفئران، أو بسبب الأوبئة التي انتشرت في الأوقات البائسة، وجرح 20 مليون آخر. إنّه الجنون الدولتي الذي أصاب دول النمسا والصرب والروس والألمان والفرنسيين ومستعمراتهم والبريطانيين وإمبراطورياتهم؟

يستطيع الإيطاليون واليابانيون والأمريكيون وغيرهم ممّن نجوا من الموت اعتبار أنفسهم محظوظين، لكن من المؤكد أن الجميع ظل يسأل سؤالاً واحداً: – كيف صنعنا كلّ هذا الدمار والخراب والموت!!

ولكي نفهم أسباب نشوب الحرب العالمية الأولى لا بدّ من العودة بالتاريخ إلى سنة 1871م؛ الحرب السبعينية (19 تموز 1870م إلى 10 أيّار 1871م).

الحرب الفرنسية الألمانية، أو الحرب الفرنسية البروسية: نشب الصراع المسلح ما بين الإمبراطورية الفرنسية الثانية بقيادة نابليون الثالث، والولايات الألمانية للاتحاد الألماني الشمالي بقيادة مملكة بروسيا. وكان سبب الحرب طموح بروسيا بتوحيد المدن الألمانية، وخوف فرنسا من تغيير موازين القوى الأوربية إذا نجحت بروسيا في مسعاها. يقولُ بعض المؤرّخين: إنّ المستشار البروسي (أوتو فون بسمارك) أثار عمداً هجوماً فرنسيّاً من أجل جذب الولايات الألمانية الجنوبية المستقلة دوقية بادن الكبرى، ومملكة فورتمبيرغ، ومملكة بافاريا، ودوقية هسن الكبرى، إلى تحالف مع الاتحاد الألماني الشمالي الذي تسيطر عليه بروسيا، بينما يقول آخرون: إنّ بسمارك لم يخطط لذلك، وأنّه استغل وحسب الظروف التي حدثت.

في 16 تموز 1870م، صوّت البرلمان الفرنسي على إعلان الحرب على مملكة بروسيا، وبدأت الاشتباكات بعد ثلاثة أيّام. جمع التحالف الألمانيّ قوّاته بسرعة أكبر بكثير من الفرنسيين، وغزا بسرعة شمال شرق فرنسا، وكانت القوات الألمانية متفوّقة بالعدد، ولديها تدريب وقيادة أفضل، وقد سخّرت التكنولوجيا الحديثة بشكل أكثر فعّالية، خصوصاً سكك الحديد والمدفعية.

لقد حقّق الألمان والبروسيون انتصارات حاسمة في شرق فرنسا، وقد بلغت ذروتها في حصار ميتز (1870م) وفي معركة سيدان تم أسر نابليون الثالث، وهزيمة جيش الإمبراطورية الثانية بشكل حاسم. وأعلنت حكومة الدفاع الوطني الفرنسية قيام الجمهورية الفرنسية الثالثة في 4 أيلول من نفس السنة، واستمرت في الحرب خمسة أشهر أخرى. وقد قاتلت القوات الألمانية، وهزمت الجيوش الفرنسية الجديدة في شمال فرنسا. بعد حصار باريس، سقطت العاصمة في 28 كانون الثاني 1871م، ثم قامت انتفاضة ثورية تسمى كومونة باريس، واستولت على السلطة في العاصمة لشهرين، حتى قام الجيش الفرنسي بقمعها دموياً في نهاية أيّار 1871م.

أعلنت الولايات الألمانية اتحادها وتكوين الإمبراطورية الألمانية تحت حكم الملك البروسي فيلهلم الأوّل، موحّداً ألمانيا  كدولة قومية واحدة. وقد أعطت معاهدة فرانكفورت التي وقعت في 10 أيار 1871م ألمانيا معظم الإلزاس وبعض أجزاء  اللورين، والتي أصبحتا ضمن المقاطعات الألمانية. لقد أربك الغزو الألماني فرنسا، وأربك توحيد ألمانيا ميزان القوى الأوربية الذي وجد منذ مؤتمر فيينا في 1815م، وحظي أوتو فون بسمارك بسلطة كبيرة في الشؤون الدولية لعقدين من الزمن. كان الإصرار الفرنسي على استعادة الألزاس واللورين، والخوف من حرب فرنسية ألمانية أخرى، إضافة إلى المخاوف البريطانية حول توازن القوى، من أسباب نشوب الحرب العالمية الأولى.

في سراييفو تغير قدر العالم إلى الأبد، في البوسنة التي ضمتها الإمبراطورية النمساوية الهنغارية مؤخّراً، لكنّ صربيا عارضت هذه الخطوة، ورغبت في التوسع من خلال اتحادها مع الشعوب السلافية في البلقان.

في 28 من حزيران 1914م، سراييفو استطاع فرانس فرديناند وريث العرش النمساوية الهنغارية وزوجته، النجاة بصعوبة من أول محاولة لاغتيالهم، وتوقف في دار البلدية ليحتج بشدة، وأثناء مغادرتهم المبنى بعد وقت قصير، قُتل بعدةً رصاصات من مواطن بوسني يدعي غافريلو برينسيب، يبلغ عمره 19 عاماً، وقد زوّده الصرب بالمسدس الذي استخدمه. كان لهذا الاغتيال في سراييفو عواقب لم يتخيلها أحد على الرغم من أنّ هذا النبأ في البداية لم يحظ إلا بتغطية إعلامية بسيطة، وكان السبب المباشر لاندلاع الحرب، لكنّ الأجواء كانت مهيّأة للحرب إثر صعود الدولة القوميّة، ووضع خرائط الدماء.

بدأ النمساويون بالاستعداد في 23 تموز عام 1914م، وأرسلت الحكومة في فيينا  لبلغراد إنذاراً أخيراً تضمّن شرطاً بأن يسمح للشرطة الإمبراطورية بإجراء تحقيقات على الأرض الصربية، وردت بلغراد أنّ صربيا ليست مقاطعة تابعة للإمبراطورية النمساوية الهنغارية، أمّا بالنسبة لبقية العالم فقد كان الأمر يعني إعلان الحرب.

جمعت الحرب جميع القوى العظمى الاقتصادية في تحالفين متعارضين؛ قوات الحلفاء؛ (الوفاق الثلاثي وهم المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا والجمهورية الفرنسية الثالثة والإمبراطورية الروسية) ضد دول المركز (الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، والدولة العثمانية، ومملكة بلغاريا). مع أنّ إيطاليا كانت من ضمن الحلف الثلاثي مع الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية، إلّا أنّها لم تنضم معهما في حلف دول المركز بسبب خرق الإمبراطورية النمساوية المجرية لشروط الحلف الثلاثي. تم إعادة تنظيم هذه التحالفات وتوسيعها مع دخول المزيد من الدول إلى الحرب: إيطاليا واليابان والولايات المتحدة انضموا إلى الحلفاء، بينما انضمّت الدولة العثمانية ومملكة بلغاريا لدول المركز. بين عامي  1908 و 1914م، كانت منطقة البلقان تعاني من عدم  الاستقرار بسبب ضعف الدولة العثمانية، وحروب البلقان 1912-1913م، والمصالح  الروسية والنمساوية المجرية المتنافسة.

كانت الاستراتيجية الألمانية للحرب على جبهتين ضد فرنسا وروسيا هي تركيز الجزء الأكبر من جيشها في الغرب على هزيمة فرنسا في غضون أربعة أسابيع، ثم تحويل القوات إلى الشرق قبل أن تتمكن روسيا من التعبئة بالكامل؛ هذه ستعرف لاحقاً بخطة شليفن. في 2 آب، طالبت ألمانيا بالمرور الحر عبر بلجيكا، وهو عنصر أساسي في تحقيق انتصار سريع على فرنسا. عندما تم رفض ذلك، دخلت القوات الألمانية بلجيكا في وقت مبكر من صباح 3 آب، وأعلنت الحرب على فرنسا في نفس اليوم. واستخدمت الحكومة البلجيكية معاهدة لندن (1839) وامتثالاً لالتزاماتها بموجب المعاهدة، أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا في 4 آب. وفي 12 آب، أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على النمسا – المجر. وفي 23، انضمت الإمبراطورية اليابانية إلى قوات الحلفاء، واغتنمت الفرصة لتوسيع دائرة نفوذها من خلال الاستيلاء على الممتلكات الألمانية في الصين، ومنطقة المحيط الهادي. في 24 آب، حقّقت صربيا انتصاراً كبيراً على النمسا – المجر في معركة سير.

توقف التقدم الألماني إلى فرنسا في معركة مارن، وبحلول نهاية عام 1914م، استقرّت الجبهة الغربية على معركة استنزاف تميزت بسلسلة طويلة من خطوط الخنادق التي تغيّرت قليلاً حتى عام 1917م. على الجبهة الشرقية، دخل جيشان روسيان شرق بروسيا في 17 آب، امتثالاً لاتفاقهما مع فرنسا عام 1912م لمهاجمة ألمانيا خلال 15 يوماً من التعبئة. أجبر الألمان على تحويل قوات من الغرب، لكنّهم نجحوا في صد هذا الغزو بانتصارات في تانينبرغ وبحيرات ماسوريان. ومع ذلك احتل الروس مقاطعة غاليسيا الشرقية في النمسا والمجر.

في تشرين الثاني 1914م، انضمت الدولة العثمانية إلى دول المركز، وفتحت جبهات في القوقاز وبلاد الرافدين وشبه جزيرة سيناء. في عام 1915، انضمت إيطاليا إلى دول الحلفاء، وانضمّت بلغاريا إلى دول المركز. وانضمت رومانيا إلى قوات الحلفاء في عام 1916. وبعد غرق سبع سفن تجارية أمريكية بواسطة غواصات ألمانية، والكشف عن أنّ الألمان كانوا يحاولون تحريض المكسيك على شن حرب على الولايات المتحدة، أعلنت الولايات المتحدة الحرب على ألمانيا في 6 نيسان  1917م. انهارت المقاومة العسكرية الروسية، مما سمح بنقل أعداد كبيرة من القوات الألمانية إلى الجبهة الغربية. وفي نيسان 1918م وقعت روسيا على معاهدة برست ليتوفسك مع القوى المركزية لتخرج من الحرب.

أنهت ثورة شباط 1917م في روسيا الحكم الاستبدادي القيصري، وجاءت بالحكومة المؤقتة، لكن استمرار السخط الشعبي على ثمن الحرب أدى إلى ثورة أكتوبر وإنشاء الجمهورية السوفياتية الاشتراكية. كان الهجوم الألماني في مارس 1918م ناجحًا في البداية، لكنّ الحلفاء احتشدوا ودفعوهم مرة أخرى إلى التراجع في هجوم المئة يوم؛ في 28 أيلول ، طلب قادة الجيش الألماني الهدنة. في 4 تشرين الثاني 1918م، وافقت الإمبراطورية النمساوية المجرية على هدنة فيلا غوستي. ومع حدوث ثورة في الداخل، وعدم رغبة الجيش في الاستمرار بالقتال، تخلّى القيصر فيلهلم عن العرش الألماني في 9 نوفمبر، كما وقعت ألمانيا أيضاً هدنة في 11 تشرين الثاني 1918م، والتي عرفت فيما بعد بهدنة كومبين الأولى.

نتيجة للحرب استبدلت الإمبراطوريات الروسية والألمانية والنمساوية المجرية والعثمانية بدول جديدة قائمة على القوميات. فرضت القوى الأربع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا شروطها في سلسلة من المعاهدات المتفق عليها في مؤتمر باريس للسلام عام 1919م. كان الهدف من تشكيل عصبة الأمم هو منع حرب عالمية أخرى، لكن لأسباب مختلفة فشلت في القيام بذلك. الشروط القاسية التي فرضتها معاهدة فرساي على ألمانيا ساهمت في صعود الحزب النازي ونشوب الحرب العالمية الثانية.

معاهدة سيفر ونتائجها على الدولة العثمانية

مصطلح الرجل المريض لم يُطلق جزافاً على السلطنة العثمانية في أواخر عهدها, وهذا العهد الهزيل الضعيف لا يمكن حصره في بضع سنوات من حياة هذه السلطنة, وإنما كانت هذه الصفة “الرجل المريض” نتيجة طبيعية لأسباب موضوعية وُجدت في جسم وكيان الدولة العثمانية, منها اتساع رقعة الدولة وصعوبة فرض السيطرة وإحكام القبضة عليها, إلى جانب عدم التجانس ما بين الأقوام والشعوب المنضوية تحت لواء هذه الدولة وخاصة أن النسبة الأكبر منها لم تكن منضوية بحرّية إرادتها بل كانت تابعة وهي مكرهة, أضف إلى ذلك الثورات المتتالية المناهضة لها في مختلف المناطق التي كانت خاضعة لحكمها, إما لأسباب قائمة على سوء الأحوال من جميع نواحيها, أو بسبب القمع والمظالم التي كان الولاة يمارسونها بحق الشعوب المقهورة المغلوبة على أمرها, أو لأسباب قومية عرقية, ولذا فإن بوادر الضعف ومن ثم الانهيار كانت قد ظهرت قبل عقود من انهيارها نهائياً كسلطنة أو خلافة إسلامية إثر معاهدة سيفر التي جاءت بمثابة الضربة القاضية, وأساساً كانت بهدف تقسيم تركة ذلك الرجل المريض نتيجة الهزيمة النهائية في الحرب العالمية الأولى على يد دول الحلفاء.

والإمبراطورية العثمانية بوصفها طرفاً أساسياً في تلك الحرب الطاحنة الخاسرة ـ إذ لا رابح في الحروب ـ ولكن بالنتيجة العسكرية كانت الهزيمة لدول المركز (المحور) التي كانت الدولة العثمانية تحارب في صفها, فإنها كانت في المعاهدة “سيفر” من الأطراف الكبيرة المهزومة, إذ كانت الخاسر الأكبر بعد مصادقتها على المعاهدة التي جاءت كالمسمار الأخير الذي دُقّ في نعشها, وذلك بسبب الشروط التي حملتها المعاهدة والتي لم تأتِ في مصلحة الأتراك والدولة العثمانية, ويمكن الحديث هنا عن أهم الشروط التي نصت عليها المعاهدة فيما يتعلق بالدولة العثمانية من قِبل الحلفاء:

ـ إذ فرضت عليها التخلي عن جميع الأراضي التي لا ينطق أصحابها باللغة التركية, بمعنى؛ استقلال جميع تلك الشعوب غير الناطقة بالتركية عن الدولة العثمانية.

ـ وضع مضيقي البوسفور والدردنيل تحت إدارة دولية.

ـ  إخراج جزر دوديكانيسا من تحت النفوذ العثماني وإعطائها لإيطاليا والتي كانت بالفعل تحت السيطرة الإيطالية قبل الحرب العالمية الأولى.

وعلى هذا انقضى عهد الإمبراطوريات و ولّى في الشرق الأوسط, وبدأت ملامح الدولة القومية تلوح في الآفاق, وكذا الحال بالنسبة لتركيا التي أنشأت جمهوريتها على أنقاض ما تبقّى لها من تركة جدّها المريض (الإمبراطورية العثمانية).

و بالفعل استقلت الشعوب معظم الشعوب التي لا تنطق اللغة التركية عن السلطنة العثمانية التي تخلت عن أراضي تلك الشعوب, وكان من المفترض أن يسلك الشعب الكردي أيضاّ طريق تقرير مصيره أسوة بباقي الشعوب التي حازت على استقلالها, وهذا هو بيت القصيد من المعاهدة فيما يتعلق بالشعب الكردي, لولا أن عاداهم القدر قبل البشر ليضيع ما جاء في “سيفر” ويصبح سراباً في “لوزان”, والأمر ليس بهذه السذاجة أو كما يُقال ذهب مع الريح, فثمة ظروف موضوعية خارجة عن إرادة الكرد تمثّلت في الدول المنتصرة التي لم تنظر بجدية للقضية الكردية حينذاك, وكيف ينصفون أصحاب القضية و هم أنفسهم قد قسّموهم بين دول أربع في الأمس القريب؟

ولا يمكن التغاضي عن الظروف الذاتية للشعب الكردي وقتها, الذي لم يكن ليمتلك أدنى درجة من الجهوزية السياسية والدبلوماسية للخوض في غمار المساومات  والمهادنات مع الدول الكبرى التي كانت وما زالت تمسك بزمام الأمور في جميع أصقاع الأرض.

 

آفاق معاهدة سيفر

لا شكّ أنّ “معاهدة سيفر” كانت فيها ثغرات واضحة، فلم توضّح السبب في وضع خيار (تقديم الكرد القاطنين في المنطقة التي حدّدتها المادّة (62) إلى عصبة الأمم عريضةً قائلين فيها: – إنّ غالبيّة سكان هذه المنطقة ينشدون الاستقلال عن تركيّا) مقارنة باستقلال أرمينيا غير المقيّد بشروط على سبيل المثال، أو استقلال سوريا والعراق… دون ذكر مادة تقديم العرب مثلاً إنّ غالبيّة سكان هذه منطقة سوريا أو العراق أو شبه الجزيرة العربيّة… ينشدون فيها الاستقلال عن تركيّا) وقد مهّدت هذه المعاهدة لِنشوء الجمهورية التركيّة، وبروز التيار القومي الذي انتشر في الشرق الأوسط بشكل عام، وبروز الدولة القوميّة، وانتهاء عهد الإمبراطوريّات.

تكمن أهمية معاهدة سيفر بالنسبة للكرد لِأنّهم سيكون لهم الحق في تقرير مصيرهم أسوة بالشعوب الأخرى، وبما أنّ الكرد في شمال كردستان (الجزء التركي) يعتبرون الأكثرية الساحقة للكرد، فكان هذا سيعطي الدفع والقوّة للأجزاء المقتطعة إثر اتفاقيّة سايكس بيكو بين سوريا والعراق وإيران، أي قبل عامين من معاهدة سيفر.

 

 

ولم تطبّق هذه معاهدة الصلح في سيفر لعوامل عدّة:

– لم يكن الكرد حينها متطوّرين سياسياً وتنظيميّاً وعسكريّاً، فكان الكثير من الأمراء الكرد مؤيّداً للسلطان العثماني، وكذلك كان للتأثير الديني دور كبير في ذلك، وقد بدأ هذا الارتباط بالسلطان منذ وصول السلطان سليم إلى الحكم حنى سقوط الإمبراطورية العثمانية.

– لم تكن هناك نية جدّيّة للتحالف المنتصر في الحرب العالمية الأولى آنذاك (فرنسا – بريطانيا – إيطاليا – الولايات المتحدة) لاستقلال كردستان، وإنّما كانت هناك ثغرات واضحة كم أسلفنا.

– كان اليهود الصهاينة يتخوّفون من الكرد، ومن المساحة التي يشغلونها، والتي تتضارب مع مصالحهم في الحلم اليهودي من النيل إلى الفرات، إذْ رأس الوفد التركي إلى لوزان كلٌّ من (عصمت إينونو وحاخام يهودي).

– الحذر البريطانيّ الفرنسيّ من ارتماء تركيا بالكامل في حضن الاتحاد السوفيتي، كما يقلّد أردوغان نفس سياسة أتاتورك حينذاك.

– بالطبع كانت لوزان طيّاً لمعاهدة سيفر، فلم يكن هناك حينها وفدٌ كرديٌّ مستقلٌّ يمثّل الكرد في مؤتمر لوزان بعد عامين من سيفر، ولم تطرح القضية الكردية فيه.

– رغبة أوربا وأميركا في خلق شرخ ما بين الكرد والترك، فتوحّدهم يعني أمل استعادة أمجاد العثمانيين، وخطر عودتهم مرّة أخرى.

– ظلّت الشعوب (الكرديّة – التركيّة – العربيّة – الفارسيّة – الأرمنيّة) هي المسيطرة على خارطة الشرق الأوسط، وفي سبيل وضع خلل فيما بينها، وتمرير الفكر القوميّ، فكان لا بدّ من إقصاء بعض الشعوب من المعادلة، فوقع الاختيار على الكرد، ولم يهتمّ الكرد بتأسيس كيان دولتي له، ولم تكن ركائز الدولة واضحة فيها، واختصر الأرمن في وطن بعيد لهم، وأبيد وتشرذم الباقون.

لكلّ قرن دلائله ومؤشّراته، إذْ تتغيّر المفاهيم لدى الدول المؤثّرة، ونظام العالم المهيمن، وتستبدل الخطط بخطط (ب أو ج…) أو تضاف إليها بعض الخطط الإضافية، وتحذف بعض الخطط، وقد أثبت الكرد في روجآفا قدرتهم على إدارة المدن، وتنظيم المناطق التي تسود فيها الصراعات الأثنية والعرقيّة، وخاصة في بؤر التوتر، وأثبتوا أنّهم قادرون على تأسيس كيان سياسي اجتماعي عسكريّ مواكبٍ للنظام العالمي وبطرق مغايرة للنظرة الاستشراقيّة.

فكرد الآن غير كرد سيفر، ولدى دول المركز وخاصّة الولايات المتّحدة نيّة لتطبيق المعاهدات السابقة بطرق جديدة، وبرؤى جديدة، وقد بات مشروع نفي الكرد من المعادلات السياسية والاستراتيجيّة القادمة مستحيلاً، وإنّ أيّ طيّ آخر لصفحة الكرد يعني تفرّد الدول القاسمة كردستان بامتلاك زمام أمور الشرق الأوسط، وبالتالي خروج النظام العالمي رويداً رويداً من أغنى منطقة في العالم من كلّ النواحي.

إنّ رسالة معاهدة سيفر ترسل لنا رسائل عن الواقع الحالي، وكيفية حرص أردوغان لتطبيق كل الممارسات التي مورست ما بين 1920 وعام 1922 من خلال التحالف مع روسيا، ورفض وصول الكرد إلى جنيف وغيرها، للبحث عن حلٍّ للكرد وسوريا بشكل عام.

لقد استنفدت الحرب كلّ الطاقات في الشرق الأوسط، وفي سوريا على وجه الخصوص، وأيّ حرب أخرى أو إشعال فتيل أزمة أخرى، يعني عدم القدرة على ضبط الأمور، وفقدان لزمام الأمور، وفلتان من القدرة على ضبطها، وهذا ما لا تريده القوى العظمى، ولم تستطع تركيا أردوغان أن تكون الحلّ المناسب لاستقرار المنطقة، بل باتت تشكّل خطراً عن الأمن العالميّ، وعلى الخطط الجديدة المرسومة للشرق الأوسط، وإن كان أردوغان متحالفاً مع اليهودية الصهيونيّة، ويتماشى مع بعض خططها، لكن هناك تخوّفاً كبيراً من تصرّفاته غير المدروسة، والخارجة عن المنطق السياسيّ العام.

إنّ جنيف أو أي مكان آخر يبحث عن حلٍّ للقضيّة الكرديّة، أو يبحث عن حلٍّ لمشاكل سوريا والشرق الأوسط بشكل عام، سيكون استكمالاً لمعاهدة سيفر، فمعاهدة لوزان قد أثبتت فشلها من خلال خلق كيان تركيا التي أقضّت مضاجع أوروبا وأميركا في بعض الأحيان.

لا بدّ من أن عصر التأسيس لدول قوميّة قد ولّى، وبات العالم يبحث عن حلول بديلة للدول القوميّة في عصر العولمة، وتزعزع الهويّة الوطنيّة والدينيّة، ومن خلال الاعتماد على بدائل إداريّة أخرى، فمشروع كردستان كجغرافيّة كوموناليّة لا مركزيّة إداريّة هي الأطروحة الأقوى التي تفرض وجودها من خلال التجربة الروجآفايّة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى