حميد المنصوري
- المقدمة:
على الرغم من أن العلاقات الدولية تتصف بكونها علاقات علمانية معتمدة على المصالح البراجماتية والاعتماد المتبادل بين الدول وأطر القانون الدولي، إلا أن الدين يلعب دوراً مهماً في بعض السياسات، إلى جانب العلاقات بين الدول، علاوة على كونهِ “الدين” سبباً رئيسياً لبعض حالات الصراع والحروب والتعاون. وهنا في هذه الورقة نعرض ونحلل محاور مهمة في هذا الموضوع من أسباب تجاهل الدين في العلاقات الدولية، وعوامل بروز الدين، إلى الفاعلين الدينيين العابرين للوطنية، وأخيراً أثر الدين في السياسة الخارجية.
- لماذا يتم تجاهل الدين في دراسة العلاقات الدولية[1]:
سبب ضعف دراسة الدين في السياسة يرجع إلى نشأة العلوم الاجتماعية، التي واكبت أطر الثورة العلمية في العلوم الطبيعية، حيث قدمت تفسيرات عقلانية للظواهر الطبيعية، وهو ما أثر في العلوم الاجتماعية في تقديم تفسيرات عقلانية للسلوك البشري كبديل عن التفسيرات الثيوقراطية والميتافيزيقية، ففي القرن الثامن عشر رأى فولتير أن عصر التنوير سوف يحل محل النظام الديني ذي الطبيعة السلطوية والتي تسيطر عليه الخرافة، وفي نفس المسار فإن أهم علماء الاجتماع في القرن التاسع عشر من أوجست كونت، إيميل دوركايم، ماكس فيبر، كارل ماركس قد اعتبروا أن تأثير الدين مصيرهُ الزوال مقابل العلمانية والحداثة. وهذا التطور في العلوم الاجتماعية من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين حيث ساد في فترة الخمسينيات والستينيات أيضاً بأن عملية التحول مستمرة من التقليد إلى الحداثة، وإن الحداثة ستقلص من الانتماء الأثني والديني[2]. ومن الأهمية ذكر بأن العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية هي علاقات علمانية أنهت فترة الحروب الدينية، ولكن ذلك لم يمنع من كون الدين مثّل عاملاً مهماً في الحروب الأهلية والدولية وبروز الهويات، مع كونه سبباً في بعض السياسات الداخلية والخارجية الدولية.
- عوامل بروز الدين:[3]
- فشل عمليات التحديث خاصةً في العالم الثالث، قد تسبب في ردة فعل عنيفة من قبل الحركات والجماعات الدينية.
- الحداثة قوضت التقاليد المحلية وقيم المجتمعات.
- وعلى مستوى الأفراد الذين لم يواكبوا الحداثة جعلهم في غربة مما قاد بهم إلى الانتماء للجماعات الدينية.
- الحرية في اختيار المعتقد في المجتمعات الغربية قاد إلى بروز ظاهرة التدين في المجتمع، على الرغم من التنشئة الليبرالية الغربية للأطفال.
- جميع الحركات الدينية أصبحت تستخدم أدوات الحداثة من الاتصالات والدعاية والتنظيم في عملهم السياسي والاجتماعي.
- التفاوت الكبير في مداخيل الدول اقتصادياً ولَّد حالات تتجه إلى الدين بسبب الحاجة والبحث عن العدالة، وولَّد بدوره حالات من التطرف الديني.
- كما أن معلمي الليبرالية يضعون الأسس للتنشئة الأولى من البيت والمدرسة والأسس السياسية أيضاً على أساس أنه من الخطر الأخذ بالدين كمحور سياسي واجتماعي يفسر الظواهر والتحركات الدولية المختلفة في العالم. ولكن لماذا دخل الدين إلى الليبرالية التي لم تتزعزع أيديولوجيتها في مختلف الحقبات؟. لعل ذلك يرجع إلى التحلل والتمزق الذي يعترض الأسرة وكثرة الطلاق والحاجة إلى حقل غيبي للأخلاق والقيم، ومن ذلك فإن بعض الليبراليين يرغبون في دخول الدين في جوانب الحياة الاجتماعية ليكون ملهماً للمثل والأخلاق ويحافظ على المجتمع والإنسان على ألا يخرج عن هذا الإطار، وفي وجه آخر فإن التقدم الصناعي والحياة المادية في المجتمعات المتقدمة ولَّد حالة من الرجوع إلى الدين من حاجة معنوية روحانية.
- الفاعلون الدينيون العابرون للحدود الوطنية:
لعب الدين ” الإسلامي والمسيحي” دوراً في تكوين الحضارات واندلاع الصراعات العالمية حتى معاهدة وستفاليا 1648، التي انتهت معها الحروب الدينية في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، وأصبح النظام الدولي يعكس الدول القومية، وفي نفس الوقت يهمل البعد الديني في السياسة الدولية[4]. ورغم ذلك فإن الدين مازال له أدوار وتأثيرات متعددة ومختلفة في السياسة الدولية.
- الكنيسة الكاثوليكية:
كان ينظر للكنيسة الكاثوليكية الرومانية بصفتها فاعلاً دينياً عابراً للوطنية حتى وقت قريب؛ بأنها ضد الليبرالية والديمقراطية، فخلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم كانت داعمةً ضمنياً للفاشية في أوروبا، وبعد الحرب العالمية الثانية تمتعت الكنيسة بعلاقة وثيقة مع الأحزاب الديمقراطية المسيحية المحافظة في أوروبا الغربية، التي كانت دائماً تحشد الجماهير لهزيمة الأحزاب الاشتراكية[5].
لم يبدأ البابا وغيره من الشخصيات الكاثوليكية البارزة في التعبير علناً عن قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية حتى انعقاد المجلس الفاتيكاني الثاني 1962-1965 وذلك لدواعي الانتقال من الحكم الاستعماري إلى ما بعد الاستعمار في أفريقيا وآسيا، وفي هذه الفترة خرج ما يسمى لاهوت التحرر في أمريكا اللاتينية[6]. وقد شاركت الكنيسة الكاثوليكية في الحرب الباردة ضد الشيوعية، على سبيل المثال، لعبت دوراً في بولندا خاصةً في عام 1980 عندما تم إنشاء حركة التضامن، والتي كشفت وعبرت عن الأخلاق الاجتماعية الكاثوليكية باعتبارها بياناً مضاداً للشيوعية، وهذا الأمر كان له الأثر الكبير أيضاً خارج بولندا في أوروبا الشرقية، ومن الأمثل دور الكنيسة في أفريقيا، حيث شارك كبار الشخصيات الكاثوليكية الأفارقة في عمليات التحول الديمقراطي في بنين والكونغو وتوغو والغابون وزائير”الكونغو الديمقراطية الآن”، وهذه المشاركة جاءت في أعقاب رسالة البابا في يناير 1991 والتي تهدف إلى تخفيف الفقر ومكافحة الاضطهاد السياسي والدفاع عن حقوق الإنسان، وهذه المشاركة كانت تعكس القدرة المالية للكنائس الكاثوليكية التي تساهم في التنمية مع مكانتهم الروحية لدى الناس [7]. ومن الأهمية الإشارة إلى أن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية العابرة للحدود لم تعد تعكس وجهها الأوروبي في هيكل الأساقفة، بل أصبحت عالمية في آسيا وأفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية[8].
- المؤتمر الإسلامي:
أنشئت منظمة المؤتمر الإسلامي من رؤساء الدول الإسلامية في الرباط المغرب عام 1969، وعقد أول مؤتمر لها في جدة عام 1970، وهذه المنظمة تسعى إلى عكس دور الدين الإسلامي في العالم، وتعزيز التعاون والتضامن بين الدول الأعضاء، ويؤخذ على المنظمة عدم الفعالية خاصةً في الصراع بين الدول الأعضاء مثل الحرب العراقية الإيرانية، والتدخل السوفيتي في أفغانستان، واحتلال الكويت وقضية كشمير والبوسنة والهرسك، وأحداث الجزائر 1992 عندما أتى انقلاب عسكري مدعوم من واشنطن وباريس لمنع وصول الجماعات الدينية للسلطة وتكرار ما حدث في إيران، والذي ترتب عليه أحداث دموية مع الإسلاميين والسلطة العسكرية. وعدم الفعالية هذه كانت مؤشراً على إمكانية تلاشي واختفاء هذه المنظمة خاصةً وأن هناك صراعاً على الزعامة الإسلامية بين السعودية السنية الحاضنة للمقدسات الإسلامية وإيران الشيعية وتمددها في المنطقة العربية من البحرين ولبنان والعراق وحتى أفريقيا في السودان ونيجيريا رغم أن معظم المسلمين الأفارقة من المذهب السني، (والآن وصلت إيران إلى اليمن أيضاً عبر الجماعة الحوثية)، وقد اهتم الغرب بهذه المنظمة عام 1980 بسبب الثورة الإيرانية الإسلامية الشيعية. وحاولت المنظمة الإسلامية في قمة 1994 كبح الربط بين الإرهاب والتطرف وبين الدين الإسلامي، وأيضاً سعت المنظمة إلى تأكيد الدول الأعضاء عدم استخدام أراضيها للعمليات والتدريب المتعلقة بالجماعات الإرهابية، ورغم التأكيد فدول مثل السودان وإيران كانت محلاً لتدريب الجماعات المتطرفة[9].
- الملحق الديني في البعثات الدبلوماسية:
من معطيات أحداث متعددة من الحادي عشر من سبتمبر 2001 والهجوم على أفغانستان في شهر رمضان، وعدم قدرة إدارة الرئيس كارتر التنبؤ بالثورة الإيرانية الإسلامية واحتجاز العاملين في السفارة الأمريكية، وقيام حرب 1973 بين مصر وسوريا وبين إسرائيل في شهر رمضان، وغيرها من الأحداث المرتبطة بالدين، يقترح دوجلاس جونسون استحداث منصب جديد في البعثات الدبلوماسية تحت مسمى وعمل الملحق الديني، خاصةً في الدول التي يلعب الدين فيها دوراً محورياً، ومن المهام المقترحة للملحق النهوض بالعلاقات مع الجماعات والزعماء الدينيين، وإصدار تقارير بشأن الحركات الدينية وتطوراتها، ومساندة الدبلوماسيين على التعامل مع القضايا الدينية المعقدة بشكل فعال ومؤثر، ويطرح جونسون بعض العقبات حول هذا الملحق الديني المفترض، حيث قد ينظر إليه بأنهُ تدخل في الشؤون الداخلية للدول[10].
- البرلمان العالمي للأديان:
بدأت فكرة إنشاء برلمان للأديان عام 1893 في معرض شيكاغو العالمي بمناسبة مرور 400 سنة لاكتشاف كريستوف كولومبوس قارة أميركا، وفي هذا المعرض تم عرض الابتكارات الأميركية من محركات وهواتف ومصابيح كهربائية، إلى جانب عقد مؤتمرات حول الطب والهندسة وتقدم المرأة، وقد صرح مؤسس البرلمان جون هنري باروز بأن برلمان الأديان ضرورة العصر، ثم جاء اجتماع بوسطن سنة 1900 باسم الرابطة الدولية للحرية الدينية، وفي القرن العشرين، عاد البرلمان مرة أخرى في ذكراه المئوية سنة 1993 وعاود تنظيم هيكله وأفكاره، التي تدعو إلى العيش بسلام وفي عالم أفضل من خلال الاستفادة من ثروة المجتمعات الدينية والروحية المتمثلة في الحكمة والرحمة، وضرورة استبدال المخاوف الدينية والثقافية والكراهية بالتفاهم والاحترام. وأصبح المقر الرئيس لمجلس برلمان أديان العالم في شيكاغو، ويتكون مجلس أمنائه من 25 عضواً من مختلف الديانات، ومن أهدافهِ مناصرة الأخلاق العالمية، ورفض اضطهاد المرأة والأقليات، والاهتمام بالبيئة، وإشراك الشباب في القضايا العادلة مع تنوع ثقافاتهم، ومكافحة العنف والكراهية والحرب، وأصبح لهذا البرلمان مؤتمرات دولية تعقد في مختلف الدول[11].
- البيت الإبراهيمي:
تقول ديباجة المنظمة بأن: “بيت العائلة الإبراهيمية رمز فريد للتفاهم المتبادَل والتعايش المتناغم والسلام بين مختلف أبناء الديانات وأصحاب النوايا الحسنة. ويضم المشروع مسجداً وكنيسةً وكنيساً يهودياً ومركزا تعليمياً، ويُقام على جزيرة السعديات التي تمثل مركز الثقافة وقلبها النابض في إمارة أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة. يجسِّد تصميم بيت العائلة الإبراهيمية القيَم المشتركة بين اليهودية والمسيحية والإسلام، كذلك يُعَد منصةً قوية لإلهام التفاهم والقبول بين أصحاب المساعي الطيبة. ويستلهم بيت العائلة الإبراهيمية رؤيته من حدث توقيع قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الإمام الأكبر، الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك في فبراير من عام 2019م. وسوف يكون هذا المعلم الحضاري مكاناً للتعلم والحوار والعبادة، وسوف يفتح أبوابه أمام الجميع ليعكس بذلك إيمان دولة الإمارات العربية المتحدة بأهمية قيم التسامح وكرم الضيافة. وستُتَاح للزوَّار فرصة التعرُّف على الخدمات الدينية وممارسة الشعائر المقدسة داخل جميع أماكن العبادة. أما المبنى الرابع، فهو لا ينتمي إلى أي دين محدَّد، وإنما سيكون مركزًا تعليميًا يلتقِي فيه الناس كافة كمجتمع واحد مكرَّس للتفاهم والسلام المتبادلين. وسوف يستضيف بيت العائلة الإبراهيمية مجموعة متنوعة من البرامج والفعاليات، بدءًا من الخدمات الدينية اليومية ووصولاً إلى مؤتمرات القمة الدولية. ومن المتوقع أن يكتمل المشروع في عام 2022م. وسيكون أحد المشروعات العديدة التي ستساعد اللجنة العليا للأخوة الإنسانية على توجيه جهودها”[12].
- الدين في السياسة الخارجية:
نعرض هنا نماذج وأمثلة مهمة في دور وأثر الدين في تكوّن الدول وتفسير بعض السياسات الخارجية وحتى بعض الحروب والصراعات الدولية
دعم إسرائيل:
يعتبر العامل الديني أساساً لتحفيز هجرة اليهود إلى فلسطين، كما أن المعتقدات المسيحية التي كانت تربط فكرة عودة المسيح بالصراع بين الخير والشر وعودة اليهود إلى فلسطين شكلت داعماً كبيراً لقيام دولة إسرائيل، ويرى “وليم دال” بأن الحركة الصهيونية نجحت بفضل مساعدة من الساسة البريطانيين الذين كانوا يؤمنون بهذه المعتقدات “عودة المسيح المشروطة بعودة اليهود إلى فلسطين والصراع بين الخير والشر”، ومن أبرز هؤلاء اللورد شافتسبيري الذي شجع على العودة في القرن الثامن عشر، واللورد بالميرستون وديفيد لويد جورج وأيضاً اللورد بلفور صاحب وعد بلفور 1917، كما أن هذه الأفكار مازالت سبباً رئيساً لدعم إسرائيل من قبل الولايات المتحدة إلى يومنا هذا عبر المحافظين[13].
حقيقةً، لإسرائيل وجهان يغالب أحدهما الآخر في فترة معينة وفي ظروف خاصة؛ وجهَ الدولة العلمانية والدولة ذات البعد الديني الأصولي، ففي بداية قيام إسرائيل كان الوجه الديني هو العامل الأول الذي ساعد على الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها، فقد خلقت إسرائيل أساس الدولة في فترة العشرينيات إلى قيامها كدولة في أواخر الأربعينيات، وعند قيامها كانت النخبة السياسية تريد من إسرائيل أن تكون دولة علمانية، وأخذ “بن جوريون” هذا البعد الذي تجسّد في الكثير من سياساته، فقد كان على سبيل المثال يمنع وصول الأسلحة التي تُنقل بحراً إلى المليشيات الأصولية، ولكنه كان يساير أصحاب الخطاب الديني الأصولي في المجتمع الإسرائيلي، فالنخبة السياسية الإسرائيلية آنذاك كانت تجيد قراءة العالم من غرب أوروبا وشرقها ومن القارة الأميركية وحتى الشرق الأوسط بحكم خبرة المهاجرين إلى فلسطين من مختلف البقاع التي كانت تضمهم. وغلب على هذه النخبة السياسية سيطرة المهاجرين من شرق أوروبا، فقد امتدت بوضوح الحكومات “اليسارية” في إسرائيل من 1948 إلى 1977، وعلى مدار ثلاثين عاماً جرت أحداث مهمة في تقليب الوجهين وإعادة الوجه الديني الذي أخذ يغالب الوجه العلماني بعد حرب 1967 وانتصار إسرائيل وضمها أراضي هي أكبر من الأرض التي أقيمت عليها دولة إسرائيل عام 1948، ولم تكن النخبة السياسية العلمانية تحمل تصوراً أو استراتيجية لكيفية التعامل مع هذه الأرض الجديدة، علماً أنها أعلنت في أعقاب حرب 1967 أنها سوف تطبق القانون الدولي الإنساني (قانون الحرب) في الأراضي الجديدة، وهو الأمر الذي مكَّن بدوره من بروز الأصولية الدينية من جديد ومزاحمة النخبة العلمانية. لقد برزت الأصولية عبر الخطابات العقدية الموجهة للمجتمع الإسرائيلي، واستطاعت تكوين مجالس المستوطنات ومجالس حاخامات المستوطنات، وهي عبارة عن مؤسسات مجتمع مدني تحولت إلى السياسة في كل ما يخص عمليات الاستيطان أو التنازل عن الأراضي الجديدة التي ضُمت إلى إسرائيل بعد نكسة 1967، وتدّعي هذه المجالس أن هذه الأرض هبة من الله لشعب الله المختار، وذلك لما تحمله الضفة الغربية من مكانة دينية، وبذلك فإن إسرائيل في هذه الفترة كانت بين العلمانية التي نجحت في إقامة علاقات دولية واعتراف بها وبين الأصولية، التي لها رواج خطابي في المجتمع وتدير شؤون المستوطنات. ولم تكن العلمانية تحاول كبح جماح هذا البروز بقدر ما أصبحت تتعامل وتتعاطى معه، ففي حرب 1973 التي مثلت هزيمة لإسرائيل عملت الأصولية على استغلالها شعبياً بأنها غضبٌ من الله، ولذلك غادر “اليسار” الحكومة عام 1977، وهنا نكتشف أن الأصولية الدينية تستغل الأحداث بكل تجلياتها الإيجابية والسلبية[14].
الدين يحمل تأثيراً على إقامة السلام، فبعد معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية، اغتيل الرئيس المصري أنور السادات باسم الدين، كما لحقهُ وباسم الدين أيضاً إسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي، لأنه كان يتجه إلى السلام مع الفلسطينيين، وهو ما يصطدم مع توجهات المتطرفين اليهود. وهذه الحادثة كانت أحد أهم أسباب ولادة فكرة إنشاء منظومة أمنية مشتركة في الشرق الأوسط، فحسب دوري غولد – السفير الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة- إلى عام 1996، فبعد اغتيال إسحاق رابين في 4 نوفمبر 1995 على يد متطرف بسبب الاتجاه نحو السلام مع الفلسطينيين، اقترحت حكومة بيريز آنذاك على واشنطن مجموعة عمل ثنائية لاختبار إمكانية إقامة تحالفات أمنية إقليمية لدعم عملية السلام، واتفق البلدان في يناير 1996 على إنشائها[15].
وهذه الحوادث تحفزنا لمعرفة مدى قوة حضور وتأثير المعتقدات الدينية في الشعوب والمجتمعات، وهنا على سبيل المثال، يقدم دانيال العازر”Daniel Elazar” أثر المعتقد الديني اليهودي في إسرائيل في هذا الجدول[16]:
لا أصدق | غير متأكد | معتقد بالكامل | إلى أي مدى تعتقد أو تؤمن بالتالي: |
13% | 24% | 63% | هناك رب |
14% | 31% | 55% | أعطيت التوراة لموسى على جبل سيناء. |
20% | 29% | 50% | تم اختيار الشعب اليهودي بين الشعوب |
20% | 35% | 45% | الصلاة تساعد المرء في الحياة |
37% | 36% | 27% | هناك عقاب على الغير ملتزمون بالوصايا العشر للتشريع اليهودي. |
32% | 29% | 39% | مجيء المسيح |
50% | 29% | 21% | يهودي غير ملتزم يعرض الشعب اليهودي للخطر |
لا شك بأن هذا الجدول يعكس حقيقة وجود تيارات يهودية من المحافظة المتدينة إلى الأقل تديناً وصولاً إلى العلمانية، كما يؤكد هذا الجدول أهمية الدين في المجتمع اليهودي بإسرائيل، والذي يؤثر دائماً على الانتخابات ووصول الأحزاب القومية واليمينية إلى السلطة في إسرائيل من 1977. حقيقةً، الدين في المجتمعات والشعوب يلعب دوراً في الحياة الاجتماعية والسياسية، فهذا الجدول يدفعنا لعرض تقسيم مؤسسة راند للإسلاميين على الشكل التالي[17]:
- الأصوليون: يسعون إلى دولة سلطوية تقوم على التشريع الديني والأخلاق الإسلامية، ويرفضون القيم الديمقراطية والثقافة الغربية الحديثة، رغم أنهم يستخدمون كل أدوات الحداثة المادية والاختراعات.
- التقليديون: يفضلون مجتمعاً محافظاً، وينظرون ويتصرفون بهواجس وريبة من الحداثة والتجديد والتغيير.
- الحداثيون: يتطلعون بأن يصبح العالم الإسلامي جزءاً من الحداثة العالمية، وهم يريدون التحديث والإصلاح والتغيير.
- العلمانيون: يحاولون تطبيق ما حدث في الغرب في فصل الكنيسة عن الدولة، حيث يرون من الحتمية التاريخية والتطور تحول الدين إلى الشؤون الخاصة الفردية بعيداً عن الدولة والمؤسسات والقوانين.
- إيران:
تعتبر القومية الإيرانية مرتبطة بالدين عبر تعدد الهويات فيها، فالدولة الصفوية الفارسية قامت على تدعيم التماسك الاجتماعي الثقافي فيها عبر المذهب الشيعي في القرن السادس عشر رغم تعدد هويات وأعراق ولغات الشعب الفارسي، وأمدت الدولة الإيرانية الحديثة كدولة متعددة الإثنيات والهويات مع كون معظم سكانها على المذهب الشيعي[18]. ونشهد منذ نجاح الثورة الإيرانية الإسلامية 1979 حتى يومنا هذا محاولة تصدير الثورة الإيرانية الشيعية نحو المجتمعات الشيعية في الدول العربية، والتي نتج عنها السيطرة على العراق والنفوذ القوي في لبنان عبر حزب الله، وفي اليمن عبر الحوثيين، وفي سوريا عبر التحالف مع نظام بشار، ناهيك عن زعزعة أمن دول عديدة مثل الكويت والبحرين. رغم كل ذلك، إيران في منظور المستقبل القريب، لن تكون موحدة في أقاليمها لأن قدرة المذهب الشيعي على خلق تماسك بين مختلف العرقيات والثقافات والهويات داخل إيران قد فقد فعاليتهُ مع تنامي وبروز الهويات نحو خلق فدرالية أو كونفدرالية تعكس الوحدة العرقية والثقافية بعيداً عن العامل الديني في المذهب الشيعي وعن اللغة الفارسية.
- روسيا الاتحادية:
نشهد اليوم استمرار الحرب الروسية الأوكرانية والتي يرجع سببها الرئيسي إلى البعد الديني والثقافي والحضاري الروسي المتصادم مع الهيمنة الغربية الليبرالية. استناداً إلى الفيلسوف والمفكر ألكسندر دوغين، الذي يطلعنا عن حقائق مهمة، بأن هناك ثلاث نظريات أثرت وسادت في العالم، وفي المحصلة هذه النظريات المتصارعة انتصرت الليبرالية على الفاشية ثم على الشيوعية. وعند “دوغين” الصراع مع الليبرالية الغربية بقيمها المادية الرأسمالية والحرية الفردية بدأ من روسيا أولاً، فقد تغيرت الهوية الروسية خلال مئة عام من روسيا القيصرية والكنيسة الأرثوذكسية إلى روسيا البلشفية الشيوعية، ثم مرحلة الهوية الليبرالية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والآن تأتي روسيا الوطنية القومية ذات الطابع الروسي الحضاري والاجتماعي والثقافي والديني. فالجغرافيا مرتبطة بالمكان والإنسان مؤثرةً على السياسة، فالدول من هويتها الرئيسية في وجود شعب والسيادة على إقليم، إلى الهوية الاجتماعية للدول بكل ما تحتوي من اللغة والدين والأعراق والقيم والمعتقدات والأيدولوجيات السائدة والمتصارعة والقدرات البشرية المادية والمعنوية، تعكس أدواراً مشتركة ومتعاونة وأخرى متصارعة، على سبيل المثال الهوية الليبرالية بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة كونت حلف الناتو. فحسب رؤية عالِم السياسة الجغرافية دوغين “الذي يصف نفسه بأنه بعيد عن بوتين ولكن أفكارهُ هي القريبة من عقل بوتين” يجب على روسيا خلق فضاء أوراسي لها حيث تكون هناك مصالح وقواسم مشتركة مع تأييد روسي لتيارات شعبية وأحزاب سياسية مناهضة للهيمنة الغربية الليبرالية في دول آسيا إلى جانب أفريقيا وأوروبا. ففي أوروبا تركز أهداف موسكو في منع تطويقها عبر تمدد حلف الناتو، إلى جانب التحفيز على بروز القومية الأوروبية المحافظة. وعلى الرغم من أن صعود اليمين المتطرف والتيارات القومية والشعبوية في أوروبا يشكل منعطفاً سياسياً خطيراً، إلا أنهُ ستقود حتماً إلى حالة أخرى معاكسة نحو إيجاد حلول عبر منظومة سياسية وقانونية وثقافية تعمل على تجدد الدولة القومية. حقيقة، تُبصر مع المفكر دوغين العديد من الرؤى الجيوبوليتيكية كالإيرانية المذهبية المرتبطة بجغرافية التجمعات الشيعية خارج إيران، والهندية القومية الأمنية، ومكامن الجيوبوليتيكية الألمانية، وفي الشأن الإلماني تتوقع مؤسسة راند أن تقوم ألمانيا الاتحادية بخلق منظومة اقتصادية وسياسية وثقافية مع أوروبا الشرقية ومتعاونة مع روسيا، لأن مقومات ألمانيا الاقتصادية والصناعية والعلمية يجعلها مؤهلة لقيادة كتلة اقتصادية أمام الصين والولايات المتحدة. ويفتح فكر وفلسفة دوغين عن حقيقة كون دول الخليج العربية تمتلك قدرات جيوسياسية كبيرة، فهي مركز للدين الإسلامي، ومنبع للغة العربية، وتتميز بأنظمة سياسية ملكية، ولها قدرات اقتصادية ضخمة وقيم وثقافة يحتاجها العالم في تعزيز التعاون الإنساني والتراحم والتسامح والبناء، ناهيك عن فعاليتها الدولية في شتى المجالات، وقدرتها على رفع جوانب الأدب والفن والقدرات البشرية والتنموية والإبداعية في العالم العربي والشرق نحو العالم عبر شراكات معينة، ولها أن تأخذ من الهوية الليبرالية ما يعزز ويحسن من هويتها الاجتماعية وأدوارها الاقتصادية والثقافية والسياسية.[19]
- النموذج السعودي:
يقوم النظام في المملكة العربية السعودية على قاعدتي التوريث والمذهب السلفي الوهابي الذي لعب دوراً في تأسيس المملكة وفي إضفاء الشرعية على النظام السياسي الحاكم. ودليل هذا التداخل ما صدر إعلامياً عندما رحل الملك فهد بأن المبايعة أتت على البيعة للملك عبد الله، أي أن النظام وإن كان ملكيا وراثياً فإنه يستمد شرعيتهُ من شرعية دينية سنية. وفي هذا التداخل نجد أن السعودية كانت في السابق لا تقيم علاقة قوية مع الشيوعية كما لعبت دوراً في محاربة التدخل السوفيتي بأفغانستان في نهاية السبعينيات من القرن العشرين، وها هي تلعب دوراً ضد المذهب الشيعي في العراق. إذن المذهبية الوهابية متداخلة حتماً مع النظام السياسي السعودي الذي جعل بعض الدراسات الأمريكية تستشرف ما يحدث لو تصادمت التوجهات والسياسات السعودية مع المذهب الوهابي أو مع شرعية النظام. ولكي تتجنب السعودية هذا السؤال فإنها سوف تظل ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً أن تحافظ على المعادلة القائمة بين خصائص كونها ملكية بشرعية دينية وبين كون العلاقات الدولية تتطلب منها لعبة السياسات العلمانية بقدر ما.
- الهوية الدينية في حالات متعددة:
من الأمثلة المهمة هنا باكستان ويوغسلافيا سابقاً وأفغانستان والعراق وإيران، حيث تكمن دلالات مهمة في دور الهوية الدينية والمذاهب والقوميات، فبعد انسحاب بريطانيا برز النزاع بين الهندوس والمسلمين الذي تجلى في ظهور دولة باكستان، لكن باكستان نفسها أفرزت النزاع بين الهوية الإسلامية والبنغالية مما نتج عنه بروز دولة بنجلادش، ثم نرى نزاعاً اليوم في باكستان بين تنامي القومية البلوشية في إقليم وزيرستان[20]، وبين السيخ والهندوس في الهند. كذلك يمكن التوقف عند النموذج الأفغاني الذي تصارعت تياراته الدينية مع القوات السوفيتية لترتد بعد الحرب لتتشكل على أسس عرقية وتتصارع فيما بينها، لأن الولاء الأدنى في مواجهة السوفيت كان للدين بينما في المواجهة الداخلية أصبحت القبلية هي التعبير القوي عن الولاء الأدنى، والآن تحكم أفغانستان حكومة طالبان الإسلامية بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الأمر الذي يحمل تداعيات خطيرة على تحفيز الجماعات الإسلامية المتطرفة المختلفة في إيران وآسيا الوسطى والعالم العربي. وفي يوغسلافيا انقسم الصرب والكروات وخاضوا حروباً قاسية ضد بعضهم رغم أنهم مسيحيون أرثوذكس، ولكنهم من قوميتين مختلفتين، مما يعني أن القومية تغلبت على الدين. أما العراق بعد الغزو الأمريكي وبعد انهيار النظام الشمولي البعثي القومي، فقد تمخض العراق عن خريطة تعبّر عن الهويات المكونة أو الأساسية للعراق، فالملاحظ في الجنوب تمركز الشيعة وفي الوسط السنة وفي الشمال الكُرد، فالدين الإسلامي لم يستطع جمع الهويات الثلاث الرئيسية وذلك لوجود دور للمذهب السني والشيعي ودور للقومية لدى الكُرد رغم أنهم في المعظم سنة، كما أن العراق أصبح تحت تأثير دول معينة كإيران والسعودية من خلال المذهب السني والشيعي والخوف التركي والإيراني والسوري من تمدد القومية الكردية بعد تكوّن الفدرالية العراقية.
- الخاتمة:
قدمت هذه الورقة محاولة لفهم وتأكيد كيف يؤثر الدين في العلاقات الدولية وفي حالات الصراع والحروب والتعاون، ومازال هذا الموضوع يحتاج إلى المزيد من الدراسات والبحوث، خاصةً في ظل تنامي حضور الدين والقوميات والهويات في العالم، وهذا البروز بدورهِ يؤكد عدم استمرار الليبرالية الغربية في تقليص دور الدين والثقافة في حياة الأمم والشعوب، وبالتالي في العلاقات الدولية وتكوين وولادة دول جديدة مع حالات عديدة من الفدرالية والكونفدرالية، فحتى معقل الليبرالية الغربية في أوروبا الغربية أصبح مهدداً مع بروز المحافظين والقوميين الذين يعتمدون على الدين بشكل ما في سياساتهم التي تعكس خاصيتهم الثقافية والعرقية.
- الهوامش:
[1]Jonathan Fox, religion as an Overlooked Element of International Relations pp53-73.
[2] Ibid, p54- 55.
[3] Ibid, p56.
[4] Jeff Haynes, Transnational religious actors and international politics, p 144.
[5] Ibid, p148.
[6] Ibid, p148.
[7] Ibid, p 149.
[8] Ibid, p 150-151
[9] Ibid, pp 153-156.
[10] Douglas M. Johnston, Religion and international relations: The case for a religion attaché, 24 July 2002.
[11] البرلمان العالمي للأديان، https://bit.ly/41ojL8q
[12] بيت العائلة الإبراهيمية https://bit.ly/3EEVUaC
[13] William N. Dale, The Impact of Christian Zionism on American Policy, American Diplomacy, 22 April 2004.
[14] حميد المنصوري، أصولية إسرائيل العلمانية،29-07-2008، https://bit.ly/3EBaf7W
[15] – Dore Gold, ”Israel and the Gulf: New Security Frameworks for the Middle East”, Washington Institute: Nov 1, 1996.
[16] Daniel J. Elazar, Religion in Israel: A Consensus for Jewish Tradition.
[17] Cheryl Benard, Civil Democratic Islamic: Partners, Resources, and Strategies, National Security Research Division: 2005.
[18] ميشيل برونو، من آسيا الصغرى إلى تركيا: الأقليات، فرص التجانس الإثني-القومي، جماعات الشتات، ترجمة معاوية سعيدوني، (الكويت: عالم المعرفة-سلسلة كتب ثقافية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، يوليو 2019، ص 442-443.
[19] انظر في فكرألكسندر دوغين كلا من:
- الكسندر دوغين، أسس الجيوبولتيكا: مستقبل روسيا الجيوبولتيكي، ترجمة الدكتور عماد حاتم، (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2004.
- لقاء مع المفكر ألكسندر دوغين، قناة الجزيرة، برنامج المقابلة: تأثير نظريات المفكر الروسي ألكسندر دوغين على سياسات بوتين في الحكم، جزئين الرابط: https://youtu.be/t1hTmdy1fe8
[20] أبها دكسيت، المشاكل القومية والعرقية في باكستان، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، سلسلة دراسات عالمية، العدد التاسع،1997، ص 15-20.