الاستشراق بمفهوم حداثي
نوزاد جعدان
كلّ محاولة لإعادة تداول واستحضار الاستشراق إلى حيّز الواقع الراهن في ظل ما يشهده العالم من تقلبات في البنية السياسية والاجتماعية والثقافية، تبدو محاولة ميؤوساً منها؛ وذلك لعدة أسباب أبرزها أنّ الاستشراق لم يعد جلياً كما في مفهومه التقليدي عن طريق المبشّرين والعسكريين والأكاديميين، إذ انفصل الاستشراق عن نشأته التقليدية، وأصبح مبطّناً ومستتراً لدرجة أنه تفاعل مع كيمياء الشرق، عن طريق التغلغل في وعي الشعوب واستخدام وقود من غابات الشعب نفسه يدفئ أرجل الغرباء ويحرق غابات الوطن، ولكن هل بدأ الاستشراق يرجع إلى مفهومه التقليدي بمنظور آخر عن طريق تجنيد عناصر عسكرية من طينة الشعوب نفسها, تخدم ما تقوم به القوى العظمى؟
تنظيم «داعش» والامتداد الواسع الذي شهده، ناهيك عن سرعته في السيطرة على المساحات الشاسعة؛ الأمر الذي تتفرع عنه مسائل كثيرة تقف وراءها أبعاد شتى وأهداف عديدة, إذ أن تنظيم «القاعدة» ألّب العالم الغربي كله على الإنسان الشرقي، وغيّر خرائط الدول، كما بدل ديموغرافية شعوب كثيرة، والآن «داعش» يمارس فعله كتوزيع جديد للحن الأساسي، من خلال حقد الشرقي على أخيه الشرقي، وإظهار الشرق الذي كان عجائبياً وغرائبياً فيما مضى, إلى شرق إجرامي ومتوحش.
ما يفعله «داعش» الآن من طمس لمعالم الشرق من آثار وحضارات ومزارات, ما هو إلا رسالة ضمنية بأن شعوب الشرق غير قادرة على حماية آثارها وأسرارها، أليس هذا إشارة خبيثة إلى أن الشرق غير قادر على أن يبقي أسراره أمينة بين يديه، وذلك في ظل بهيمية الإنسان الشرقي كما يظهرها «داعش» على أقل تقدير؟. وإن تأملنا على سبيل المثال لا الحصر, فالانزياح والإحالات الضمنية الجلية في قصة علاء الدين والمصباح السحري, الجني الذي يرمز إلى الشرق النائم والمنفذ لكل الأوامر والمنقذ هي شخصية الإنسان الغربي – كما ظهر في نسخة الفيلم السينمائي عام 1992 – الذي سينقذ الجني ويسخره لخدمته.
ربما «داعش» والقاعدة تابوهات ثابتة تكرس فكرة واحدة هي سيطرة الغرب, كما فعلت الطباعة ومسرحية فاوست، حين فصلت العالم إلى شرقي وغربي، وأكدت تفوق الغربي على جهل الشرق, إذ كان لا بد من إعادة إنتاج حدث يثبت تفوقهم بكل شيء، فاوست الذي جسّد حب الاطلاع والمعرفة اللامحدودة، حاول الاستشراقُ استثماره كأي منتَج تجاري مثل شاي ليبتون؛ يظهر تفوق الإنسان الغربي وسيطرته على الرغم من أصوله الشرقية. إن ما يمارسه حالياً الإعلام في خدمة الاستشراق يظهر جلياً من خلال ثيمات ثابتة ومحضّرة مسبقاً عبر سنوات طويلة من تفحّص الأرض التي يرغبون في امتلاكها, وكيفية السيطرة عليها وإخضاعها عن طريق الثقافة والتاريخ وتحليل كيمياء الشعوب، فظهرت أسماء جديدة وفتاوى أخرى، كجهاد النكاح وتحليل قطع الرؤوس والأيدي، وما إلى ذلك من سيناريوهات، مع أن المستشرقين لم يذكروا يوماً ما كان يفعله نابليون في مصر، أو على أقل تقدير إثر خسارته في الحرب البروسية الفرنسية عام 1870 وعن أسباب خسارة جيشه، الذي عزا السبب فيها إلى انعدام الفحولة, فشرّع نوعاً من النكاح أشبه ما يكون بجهاد النكاح في يومنا هذا.
لم تكن صورة الغرب يوماً ناصعة البياض ولا كانت أليفة، ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ظهرت عدة قصص تشمئزّ منها الأبدان، تشبه الشخصيات التي ظهرت في سوريا وهي تأكل القلوب والأكباد، فالمستكشف والقائد جون سميث الفرجيني تباهى بقتله للأتراك في هنغاريا، وتم منحه وساماً عليه صورة رؤوس ثلاثة أتراك.
وفي الجانب الآخر، أظهر الغرب عامة في أفلامه صورة الإنسان من الشرق الأقصى على أنه تاجر مافيا وشهواني يتعاطى الكحول، مع أن بريطانيا هي من صدّرت الأفيون إلى الصين عن طريق مستعمراتها في الهند، فلماذا الآن وصل وامتد هذا الداء إلى بلدان الحضارات مثل سوريا والعراق؟ ولماذا بدأت دول الهامش تطفو على السطح وتضمحل بلدان الحضارات؟
إن أردنا إيجاد الجواب لهذا السؤال فلا بدّ من مرجعية تاريخية وإحالات سابقة واستخدام نوع من الإبدال، فمثلاً أفغانستان وباكستان وبنغلاديش وأوزبكستان، كانت من أعظم الدول في الشرق قبل السبعينيات من القرن الماضي، والآن استشرى فيها الفساد لدرجة لا تطاق وأصبحت دولاً تخرّج أجيالاً من النخبة والصفوة تحولت إلى دول تتبوأ الصدارة في تصدير الخدم ومعدلات الأمية، بنغلاديش التي كان لها باع طويل وتاريخ روائي مكتنز من روائيين وسينمائيين وشعراء، وأوزبكستان بحضارتها من بخارى وخوارزم وطشقند، وباكستان بعلمائها وشعرائها، وأفغانستان التي قال عنها الإسكندر المقدوني إنها أجمل البلاد في العالم بطبيعتها ونسائها.
إذن السؤال الذي يطرح نفسه للنقاش؛ ما الذي حصل لهذه البلدان؟ بنغلاديش تعرضت لمذبحة مروّعة عام 1971 وقُتل فيها ما يفوق المليون شخص من الصفوة من فلاسفة وأساتذة جامعيين، كما أُعدِم رئيس وزرائها شيخ مجيب رحمن، وتبدّلت البنية الديموغرافية للبلاد كلياً، وفتحت الدول الغربية ذراعيها لطالبي اللجوء السياسي خاصة من الصفوة، كي تنصهر مكونات الشرق في الغرب اليوم، ولا يبقى في البلاد إلا من يشكلون عبئاً استهلاكياً عليها، كما حدث أيضاً مع أفغانستان إثر الغزو السوفييتي وتغيير ديموغرافية البلاد. هذه الدول كانت في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي تفوق فيها نسبة المناصب الإدارية والمستشارات من النساء نسبتها في الغرب، كما كانت نسبة النساء المحاضرات وطالبات الجامعات يكاد يزيد عددهن عن هولندا وبريطانيا، الآن والكليشيهات التعميمية التي تشهدها دول الشرق ممثلة بداعش وحركة طالبان ستكون لها تبِعاتُها الخطيرة على المدى الطويل، وربما تشهد تغييراً مفصلياً في بنية الشعوب الشرق أوسطية أيضاً.
لو تحدثنا عما حصل في باكستان مؤخراً فسنجده خير دليل على ذلك، لماذا عادت طالبان الآن ولماذا جرى إقصاء رئيس الوزراء المعتدل عمران خان؟ فهل يكون السبب لإضعاف “الروس” القطب اليساري وصنع ورقة ضغط عليهم لاسيما أنهم يمثلون الجناح المتطرف في تصدير الإرهاب، وهل حان وقت ابتلاع الدول الكبيرة للصغيرة لاسيما في ظل الغزو الروسي لأوكرانيا والتوترات الجارية بين الصين وتايوان، وعلى الجانب الآخر بين الأتراك واليونانيين؟
بالمقابل، لماذا نجحت دول كاليابان بالتصدي لكل محاولة في ضرب بنيتها الثقافية ونسيجها الاجتماعي، فعلى الصعيد العسكري حققت اليابان انتصاراً عسكرياً مهمّاً على دولة عظمى كروسيا، وعلى الصعيد الأدبي والفكري، يتربّع كتّابها وأنماطها الأدبية الصدارة، نظراً لما تمتاز به قصائد الهايكو من فرادة وخصوصية عالية، علاوة على شهرة الروائيين فيها وتميُّز أساليبهم، إلى جانب جمالية الزخرفة والنقش والرسم الياباني، كما قال فينست فان كوخ: “أكاد أن أقول إن عملي بأكمله يقوم على أعمال اليابانيين”. كما نجحت اليابان في إنتاج أفلام الرسوم المتحركة التي حاربت الغرب فكرياً عن طريق تشبيههم بغزاة الفضاء الذين يهددون سلم العالم، ربما الجواب بسبب تمسكهم بعاداتهم وجذورهم وثقافتهم, ونبذ أيّ أيادٍ غريبة للتطفل عبر نسيجها.
ولكن عندما تفشل الدول الغربية في السيطرة الفكرية تميل إلى استخدام وسائل عنيفة حين يسري يقين الخسارة في صفوفها وعدم قدرتها على المقاومة، فتبدأ باستخدام أساليب تنافي الإنسانية، كما فعلت في هيروشيما وفيتنام.
كيف وصل الموضوع إلى هذا الحد، فعلى الرغم ممّا يتمتع به الشرق من ثقافة وحضارة، يتحوّل الآن إلى الشرق المتخلف، كانت القصور الفخمة والأحياء الجميلة في مدينة حلب رمزاً جمالياً وعجائبياً، إلى جانب الأناقة السائدة في بلاد فارس، كموادّ للفخامة والأبهة، إلى أن انقلبت الصورة الآن لتحلّ محلها صورة مدينة حلب كأخطر مدينة في العالم، وتنتشر فيها الأوبئة وآكلو لحوم البشر، لتشكل مادة خصبة لهوليوود مستقبلاً، أما بلاد فارس فالصورة المتداولة أصبحت إظهار الأحياء الفقيرة ورجال كدواب يجرّون العربات.
على سبيل المثال زهرة التوليب “شلير” التي تنبت في كردستان تركيا, يرتبط موطنها الأصلي الآن بهولندا، والمرأة التي كانت مثقفة وحافظة للعلوم، كما تظهر شخصية شهرزاد تعرضت لإقصاء تامّ لدورها، كما أن النساء كن يشاركن الرجال في الحروب والصيد والسفر، هذه هي الحال التي تمرّ بها أقدم قارة في العالم، علاوة على كونها مهد الأديان، وهي التي صدّرت كافة أنواع العلوم القديمة، وحتى العلوم الاجتماعية الجديدة، إذ يُقال إن أصول العلاقات العامة والإعلام كانت متداولة في العصر العباسي، حيث كان الموسيقار الكردي زرياب (ماء الذهب بالكردية) أول من وضع أسس تنظيم طاولات الطعام, بالإضافة إلى دوره المفصلي في الموسيقا، هذا إلى جانب أن الثقافة الجنسية لم تغب يوماً عن حياة الشرق، إذ ظهر كتاب مهم تعتمد عليه معظم كتب الغرب في الثقافة الجنسية في عصرنا الحالي، مثلاً كتاب “الروض العاطر في نزهة الخاطر” للنفراوي عام 1410، كما أنه في عام 1826 أرسل محمد علي زرافات إلى باريس ولندن وفيينا حيث توافدت طوابير الناس لرؤيتها، لقد شكلت موجة خرافية رقصت حول هذه الزرافات.
والآن ومن خلال ما شهدته مدننا من دمار على سبيل المثال وليس الحصر كمدينة تدمر التاريخية, وما سبقتها من مدن الحضارات, قد تعرضت لأبشع جريمة في تاريخ البشرية، فاللصوص من «داعش» سرقوا آثارها لنجدها غداً في متاحف الغرب، وتتحول بلدان الهامش هذه التي تعاني خواءً روحياً وجسدياً إلى بلدان لها تاريخ وحضارة، فهي تحارب لأنه ليس لديها شيء تخسره؛ على حد قول الشاعر الألماني ريلكه: “لماذا تخافين يا أمريكا؟” فلا آثار قديمة عندك ولا أبنية حضارية، فافعلي ما تشائين، لا شيء تحزنين عليه.