الدبلوماسية الروحية والإبراهيمية ترسم خارطة الشرق الأوسط
المحامية: شيماء رياض أبو زيد
المحامية: شيماء رياض أبو زيد
جمهورية مصر العربية
مقدمة
في عصر المتغيرات السياسية وانتشار ظواهر تجسّدها أحداث صنعتها أطراف دولية عميقة، ظهر
مصطلح التطرّف بمسميات عديدة ومختلفة، حيث يتم توظيف الإيديولوجيات والأفكار في سبيل تحقيق
الهيمنة على الشعوب والدول، ومع انتشار بؤر التوتر واستمرار النزاعات وتزايد وتيرة الصراعات،
خاصة في منطقة الشرق الأوسط، بات الحديث عن السلم العالمي مجرّد ضرب من الخيال، وأصبح العالم
مهدّداً من جوانب عدة نظراً لخطورة ظاهرة التطرّف وتنامي التنظيمات الإرهابية التكفيرية وتكاثرها،
المرتبطة بأجندات تديرها دول إقليمية ذات صبغة إسلامية راديكالية.
لذلك يمكننا التفكير بشكل مغاير في نوع من الدبلوماسية تحمل في مضمونها مفهوم التسامح بين الأديان
والمعتقدات الدينية، وخلق فرص التواصل الروحي بینهم وفرض احترام الإنسان وقدسيته.
وبالرغم من أن الواقع الحالي لا يعطي وزناً للأديان داخل مسارات الحياة السياسية، لكن يعتبر الدين محركاً
رئیساً حاکماً في العلاقات الدولية، ولە أهميته في صنع السياسة الخارجية وخاصة لتلك الدول التي تحمل
صبغات وتوجهات دينية.
ومن جانبه يمكننا أن نرى أن حوار الأديان الذي يُطرح بين الفترة والأخرى يلعب دوراً مهماً في ترسيخ
التعاون الإقليمي، وخلق المشتركات بين الدول التي تختلف في سياساتها، إنها الدبلوماسية الروحية، نعم
لأنها تمثّل أحد الروافد الحيوية لترسيخ قيم تجمع المشترك الإنساني لمواجهة تحديات تهدّد جميع الشعوب
والدول، واليوم نطرح التساؤل التالي: إلى أي مدى يحتاج الشرق الأوسط الدبلوماسية الروحية؟ وهل يمكن
لهذه الدبلوماسية القيام بالإصلاحات الديمقراطية وحماية البيئة ومبادرات بنّاءة تدعم الحوار والتواصل
الإنسانيين، وتهدف إلى بناء سلام عالمي؟ وهل يمكن لهذه الدبلوماسية القضاء على النزاعات ذات المنبت
الديني ورفع الاقتصاد وتنمية الحسّ الأخلاقي، وتحقيق التنمية المستدامة والمساواة والعدالة الاجتماعية
والسلام وبناء الشراکات الدولية؟
هل يمكن للدبلوماسية الروحية الترکيز على جمع المشترك بين الاختلافات المذهبية والدينية، وتوظيفها في
خدمة القضايا المجتمعية والإنسانية والسياسية؟
وهل يمكن للدبلوماسية الروحية مكافحة الإرهاب عبر تغيير النظرة الدينية في التربية، وتفكيك التطرف
المتراکم في العقول عبر التاريخ الدموي للصراع، وهل يمكن لهذه الدبلوماسية تحويل المجتمعات لقبول
الآخر وتشجيع الدعوة على الانفتاح على العالم، بما يخدم قضايا الإنسان وحمايته من التهويمات
الأيديولوجية المتمثلة في التعامل مع الوقائع بعقلية الأفكار المطلقة.
وهل يمكن للدبلوماسية الروحية المحافظة على السلام العالمي؟
من هذه المقدمة يمكننا البحث عن أهم الأفكار والجهات والمراكز التي روّجت وما تزال تروّج الدبلوماسية
الروحية والإبراهيمية كطريق الحل، باعتبارها تتبنى الدبلوماسية الروحية مذهباً.
بداية وبصرف النظر عن نجاح الدبلوماسية الروحية من عدمها، فالواضح أن التدخل الديني دليل على أن
العالم اليوم، بمؤسساته الدولية الراهنة وبعلاقاته الحالية، غير قادر على تدبّر الحلول للأزمات السياسية
الكثيرة المتداخلة، ليس فقط للوهن الشديد الذي أصيبت به المنظومة الدولية، وعجزت من خلاله عن تدبّر
حلول لأزمات تجاوز عمرها عشرات السنين، بل لأن المنظومة الدولية ذاتها، بتشابكاتها الاقتصادية
والإعلامية والسياسية، هي جزء أساسي في صنع هذه الأزمات وتوليدها، بالتظافر مع المعطيات الداخلية.
هنا نتساءل هل تصبح لهذه الدبلوماسية الروحية، رغم كل الاعتراضات التي تواجهها وستواجهها لاحقاً،
محاولة لتعويض القصور الدبلوماسي العالمي في تبيّن الحلول لتصدّعات العالم الكثيرة؟
أولاً: الدبلوماسية الروحية والنظام العالمي الجديد
بعد قرون طويلة من استخدام الدين في العلاقات بين الدول، أصبحت محدّدات العلاقات والتوازنات داخل
السياسة الدولية مختلفة، فالمدرسة السياسة الواقعية التي ترفض وجود أي دور للدين في العملية السياسية،
وتحمل شعار فصل الدين عن الدولة، تأتي اليوم بمفهوم “الدبلوماسية الروحية” كمفهوم يؤكّد أنّ الدين
مصدر الصدام قد تغيّر وتطوّر ليكون مدخلاً للحلّ والتسوية، وبدأ الحديث عن “السلام الديني العالمي”
المقرّر الوصول إليه عبر مفهوم “الدبلوماسية الروحية”، وما ستقدّمه من حلّ غير تقليدي للصراعات
الدينية. فحلّ طرح “المشترك الإبراهيمي” أو “الديانات الإبراهيمية”، يشير إلى الأديان السماوية الثلاثة،
ضمن مفهوم جديد لحل النزاعات والصراعات الممتدة والقائمة على أبعاد دينية متشابكة، أي “الدبلوماسية
الروحية”، لتمثّل خلاله الأديان الإبراهيمية أحد أبرز أركان هذا المفهوم الجديد.
وفي تزاحم التسميات والمصطلحات، التي تُعدّ إحدى أخطر التحدّيات الفكرية والثقافية، كثُر استخدام
مصطلحات مثل “المشترك الإبراهيمي”، و”الدبلوماسية الروحية”، و”السلام الديني العالمي”، خلال
السنوات الأخيرة في خطاب الدبلوماسية العالمية وفي أدبيات بعض مراكز الدراسات والجامعات في
الولايات المتحدة الأميركية و”إسرائيل” وقطر وتركيا، وقد تكون المصطلحات “برّاقة”، ظاهرها رحمة
لكن مضمونها ظُلمة وتضليل، فهي تُستخدم لتوظّف الدين في خدمة السياسة العميقة في المنطقة.
خلال بحث جدّي ومُحكم تُطالعنا به، أنّ الدبلوماسية الروحية و “الإبراهيمية” المزعومة المُنادية
بـ”التسامح”، تُمهّد لتغييب التناقض الوجودي بين المشروع الصهيوني العنصري، وبين الحقوق التاريخية
للشعوب العربية عموماً في المنطقة؛ ومصطلح “الدبلوماسية الروحية” إنّما يروّج لحقوق الإنسان
و”السلام” ولمواجهة العنف والإرهاب ليسامح “إسرائيل” ودول أخرى عن كل ما مارسته ولا تزال
تمارسه من أحقاد ومجازر وانتهاكات لحقوق الإنسان.
ثانياً: الدبلوماسية الروحية والسلام الديني العالمي
جاء الحديث مراراً حول المشترك الإبراهيمي، وفق مرتكزات وركائز تعريف كمدخل فكري مهم، تدعمه
الحكومات الأميركية المتعاقبة بحثياً منذ عام 1990 مع خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش الأب عن
“النظام العالمي الجديد” عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، والحرب الأميركية ضدّ أفغانستان والعراق وحرب
الخليج الثانية. وأخذ الأمر منحى جديداً مع الألفية الجديدة كبداية للتنفيذ والدعم توّجت بتأسيس داخل وزارة
الخارجية الأميركية عام 2013.
ثالثاً: الدبلوماسية الروحية والمخطط المتمثّل بـ “القوى والمطامع الغربية”
هذه تحرّكها دوافع متطرّفة ترفعها الصهيونية المسيحية الداعمة لـ”إسرائيل” كإطار للقرن الجديد والنسق
العالمي الجديد، الذي أعلنه بوش الأب، حيث لا يمكن قراءة مفهوم الدبلوماسية الروحية بعيداً عن النظام
العالمي الجديد.
هنا، لا بُدّ لنا من الإشارة إلى أنّ مصطلح “المشترك الإبراهيمي” و “السلام الإبراهيمي” يعود استخدامه
لأول مرة، إلى دراسة نشرها الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، في عام 1985 في كتاب حمل
عنوان “دم أبراهام”، بتأثير واضح لما يُعرف بالصهيونية المسيحية التي تُقارب التاريخ من زاوية الروايات
اليهودية التلمودية، وأسهب كارتر في كتابه في مناقشة المشترك الإبراهيمي بين أبناء المنطقة كحلّ
للوصول إلى “السلام”.
رابعاً: الولايات المتحدة الامريكية والدبلوماسية الروحية
إن اهتمام الولايات المتحدة الأميركية بالدين، يمكن تفسيره من خلال آراء العديد من المؤرّخين والمحلّلين
الأميركيين، إنّه نتيجة سيطرة الصهيونية المسيحية على السياسة في الولايات المتحدة التي تؤمن بفكرة
العودة الأصولية المتجدّدة للجذور، كأساس حركة التاريخ بالعالم. وتُعتبر مهمة أعضاء هذه الحركة وأتباعها
تدبير وتهيئة كل الأمور التي تطرح فكرة إمكانية عودة المسيح إلى الأرض، ومن ثم السيطرة على العالم،
ومن ثم تعتبر أن ما يتمّ داخل السياسة الدولية ما هو إلاّ تكليف إلهي، فأضحى الدين مدخلاً لتفسير الدور
الأميركي في العالم، بوصفه محرّكاً ومبرراً ومفسراً.
في السياق ذاته، يعتبر الباحث الأميركي جيمس روزينوه، أن مستقبل العالم سيرتكز على السلام العالمي
الذي سيتحقق عبر الديانات الإبراهيمية والعقائد المتداخلة، كمدخل جديد لحل النزاعات في العلاقات الدولية،
وكطرح بديل لنظرية “صامويل هنتنغتون” حول “صدام الحضارات”، ونظرية “فرانسيس فوكوياما” حول
“نهاية التاريخ”؛ بل ليعكس نهجًا جديدًا داخل علم العلاقات الدولية كانت أهم ملامحه ظهور مفاهيم جديدة؛
كالتسامح العالمي، والأخوّة الإنسانية، والحب، والوئام، كمفاهيم جديدة مطروحة داخل هذا الحقل.
خامساً: حوار الأديان والدبلوماسية الروحية
من الجدير ذكره، أنّ قضية “حوار الأديان” لعبت دوراً كبيراً في بلورة مفهوم الدبلوماسية الروحية، حيث
حضرت القضية منذ مرحلة ما بعد الحرب الباردة كمصطلح يُشير إلى التفاعل البنّاء والإيجابي بين الناس،
وتحويل حوار الأديان إلى خدمات تُقدّمها الأديان من شأنها بناء جسور تربط بين الشعوب، كمكافحة
الملاريا وحملات الإغاثة، فلن يعود دور الأديان مجرّد إدارة النزاع أو الصراع، وإنّما يغدو فاعلاً على
الأرض لخلق سلام ديني عالمي، “الديانة الإبراهيمية”.
وبعيداً عن نظريات المؤامرة، تبرز تساؤلات كثيرة تحتاج الى البحث والتقصّي حول ماهية النظام العالمي
الجديد ومفهوم “المواطن العالمي”، وعلاقة الأمر بالماسونية التي من أهدافها الوصول إلى “المواطنة
العالمية”، خاصة وأنّ وجود “الباسبور الماسوني” العالمي أصبح واقعاً.
فهدف “المشترك الإبراهيمي”، يتمثّل في خلق ولاءات جديدة رفعت شعارات إزالة الحدود والولاءات،
وترسيخ مفهوم المواطن العالمي على الأرض، ليكون ولاؤه غير مرتبط بالأرض، وإنمّا تحت مدخل محبّب
ومقبول للنفس، ألا وهو المشترك الروحي؛ أي الإبراهيمي، تحت شعارات التسامح والتشارك.
سادساً: تركيا وإسرائيل ودورهما في الدبلوماسية الروحية
إن التشارك في الموارد والتكنولوجيا (إسرائيل وتركيا) يؤدّي إلى إقامة “اتحاد فدرالي يتحكّم في الموارد
بصورة مركزية للسلطة الفدرالية، التي تديريها “إسرائيل” أولاً ثم تركيا ثانياً.
سابعاً: الدبلوماسية الروحية والتنمية المستدامة
تقدّم الدبلوماسية الروحية نفسها كمدخل لتحقيق التنمية المستدامة، وسبق استخدامها أيضاً في مطلع الألفية
كمدخل لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية في الفترة 2000-2015، وذلك عبر الحوار الخدمي القائم على
مبادرات تنموية بين الأديان، بهدف بناء مشترك واقعي يتجسّد في مشروعات تنموية تكافح الفقر وترفع
معدلات التنمية، وبخاصة في الدول النامية، إلاّ أنّ تطويرها جاء بعد عام 2015، عقب انقضاء أجل
الأهداف الإنمائية للألفية، ودخول العالم إلى حقبة تنموية جديدة وهي أهداف التنمية المستدامة لعام 2030
تحت رعاية الأمم المتحدة.
في سبيل تطبيق المفهوم، يتمّ استحداث عدد من الأدوات العالمية التي توظّف على أرض الواقع، منها:
المنظمات الأممية وفي مقدمتها منظمة اليونيسكو، المؤتمرات الدولية والقمم العالمية، القوى العظمى
والمعسكر الغربي، السياحة الدينية المشتركة، مشروعات ريادة الأعمال، التواصل مع الشباب، التعاونيات النسائية.
أمّا مؤسسات “الدبلوماسية الروحية”، فتتنوّع بين برامج أو معاهد أكاديمية، مؤسسات مجتمع مدني،
جمعيات دوائر طلابية لبناء الكوادر الجديدة، وجميعها تهتم بالتأصيل النظري للفكر الجديد عبر تأويل
النصوص بالأديان الثلاثة، ومن أبرز تلك المؤسسات: المركز العالمي للدبلوماسية الروحية، منظمة الأديان
من أجل السلام، مشروع الأرض الجديدة.
أمّا تمويل هذه المؤسسات ومشاريعها في مختلف مناطق العالم، فيتمّ من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا
وقطر، من خلال التمويل الحكومي والتبرعات الخاصة والمنح وتمويل الجامعات.
ثامناً: الدبلوماسية الروحية مسار من مسارات التفاوض
وهي تستهدف حلّ النزاع أو منع حدوثه من أجل بناء سلام ديني عالمي، ويتم الترويج عبر الجمع بين القادة
الروحيين والساسة داخل آلية المسار الثاني للمفاوضات، باستخدام المدخل النفسي لدحض الأصولية في
الأديان الثلاثة، والتباحث حول القضايا الحسّاسة محلّ النزاع بهدف التوصّل إلى مشترك عبر تقارب
الأديان السماوية الثلاثة (الإسلام، المسيحية، اليهودية) أو ما يُسمّى الديانات الإبراهيمية أو الدين الإبراهيمي
(الدين العالمي الواحد)، للقضاء على الاختلافات والوصول إلى متّفق يقبله المجتمع، عبر ترجمته لخدمات
ملموسة يشعر بها المواطن (الحوار الخدمي) ليكون ولاؤه للدين الإبراهيمي، ويتم نقله إلى الخريطة
السياسية، لأنّ هذا المسار سيكون مركز صنع القرار السياسي في العالم، بهدف خلق السلام الديني
العالمي”.
وتتمثّل أبرز مقوّمات الدبلوماسية الروحية، بـ:
*محورية النبي إبراهيم المشترك بين الأديان.
*الديانات الإبراهيمية: ستتحاور لتصل إلى وضع ميثاق تكون له القدسية الدينية كبديل من المقدسات
السماوية ويُنحّي الخلاف والفواصل.
*آلية دبلوماسية المفاوضات غير الرسمية: “دبلوماسية المسار الثاني” كساحة مهيئة لعمل وتعاون رجال
الدين والساسة والدبلوماسيين، ليعملوا معاً لحلّ الصراعات المتشابكة.
*أُسر السلام (جماعات قاعدية)، الحوار الخدمي، نشر الأفكار عبر تقديم خدمات تنموية.
*الكيانات العلمية الداعمة كالجامعات الدولية وفي مقدمتها جامعة هارفرد.
أمّا أولويات التدخّل لتحقيق السلام الديني العالمي، فسيتمّ تقسيم مناطق الصراع والنزاع في العالم وإعطاء
الأولوية للمناطق التي توجد فيها الأديان الإبراهيمية، ويقوم طرح التصدّي للنزاعات العنيفة الممتدة القائمة
على أسباب دينية متشابكة كقضية الصراع العربي- الإسرائيلي، كون المنطقة الجغرافية مكان النزاع هي
محور العالم، وكون السلام العالمي لن يتحقّق إلاّ بسلام تلك المنطقة. وعن آلية حلّ الصراع في الشرق
الأوسط، سيتم عبر استغلال الإمكانات التي تتيحها الأديان لتكون مصدراً للتفاهم المشترك.
تاسعاً: القوى الدولية الفاعلة لتطبيق الدبلوماسية الروحية والإبراهيمية
مع عملية رصد القوى الفاعلة المنوطة بالانتشار القاعدي للدبلوماسية الروحية، والتمهيد للقبول بالمشترك
الإبراهيمي، تبيّن أنّ حركة “الصوفية العالمية” إحدى أهم تلك القوى، إلى جانب مراكز البحث الإبراهيمية.
إنّه وعلى الرغم من أنّ إرهاصات التيارات الصوفية تعود إلى عام 1910، فإنّ تطويعها سياسياً كحركة
على الأرض جاء مع مطلع الألفية، عبر إنشائها أطراً مؤسسية لتطبيق ونشر أفكارها في العالم، وبخاصة
في منطقة الشرق الأوسط، واستقطاب أتباع جدد وبدء الحوار مع القيادات الروحية الصوفية الإسلامية في
منطقة الشرق الأوسط، من خلال المؤتمرات الدولية والمحافل العالمية تحت إطار الأمم المتحدة، ومن هنا
نشير إلى أنّ الرابطة الدولية للصوفية كمنظمة غير حكومية، تشارك في الاجتماعات والقمم العالمية في مقرّ
الأمم المتحدة في جلسات حوار مع قادة دينيين آخرين، في شأن القضايا ذات الاهتمام العالمي كقضايا حقوق
الإنسان والعدالة والتعليم وقضايا المرأة.
إنّ خطورة التيارات الصوفية ليس فقط في الأفكار التي تروّج لها، لكن انتقالها من مستوى الفكر إلى
الحركة، وانتشارها عبر المجتمعات المحلية، ناشرة مفهوم “دبلوماسية المواطن” والحديث عن “المواطن
العالمي”، الذي لا يؤمن بالحدود، والحشد والتعبئة من أجل التغيّر السلمي للتشبيك مع المجتمع المحلي.
إنّ الصوفية العالمية ترفع شعار الماسونية القديمة، حيث يُزعم أن “جورج سوروس” أبرز القيادات
الصهيونية اليهودية في العالم، يُعدّ من أبرز مموّلي “الصوفية العالمية”.
عاشراً: الدبلوماسية الروحية والمشروعات والمبادرات المطروحة:
يُمثّل مشروع “مسار إبراهيم”، ترجمة لمفهوم الدبلوماسية الروحية على الأرض، يُستثمر لبناء ذاكرة
تاريخية جديدة تتكامل خلالها طرائق الحج المشتركة بشعار “معاً نصلّي”، يأخذ شكلاً تجميعياً للبشر عبر
مسيرات السير المشترك، لا يرفع أي شعارات سياسية وإنّما دينية وثقافية وسياحية. والمقصود بـ”مسار
إبراهيم”، هو الطريق الذي سلكه نبي الله إبراهيم وعائلته منذ 4000 عام مضت، الذي بدأ من حرّان- تركيا
حيث كلّفه الرب بالخروج، وانتقل للمرور بالعديد من المدن التي تتقاطع مع تسع دول غير تركيا وفقاً
للمسيرات السماوية الثلاث، وتنتهي بمدينة هبرون (الخليل الآن) حيث دُفن وفقاً لسفر التكوين. وتمرّ رحلة
المسار بسوريا والعراق ومصر والأردن ولبنان والسعودية وفلسطين والأراضي المحتلة (التي يطلق عليها
إسرائيل)، وإيران.
المشروع طرحته جامعة “هارفرد” مطلع الألفية، والولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الأولى الراعية
للمسار، وتتشارك مع فرنسا في مسار “فرسان المعبد” وتدعم تركيا في “المسار الصوفي”، وتدعمه في
إطار مشروع كبير “على خُطا إبراهيم الخليل” لتموّله وزارة الخارجية الأميركية وتُنفّذه جامعة “هارفرد”.
وقع اختيار المسارات الثلاثة على الأراضي العربية ومنطقة الشرق الأوسط، وتتلاقى جميعاً في الهدف
لتحقيق “السلام الديني العالمي” عبر بوتقة صهر تتواءم مع أنصار الأديان المختلفة الإسلامية، كالمسار
الصوفي التركي، والمسيحية كمسار” فرسان الهيكل”. والمُلفت، أنّ المسار الأكبر، “مسار إبراهيم”، حدوده
الجغرافية تتشابه مع الحدود الجغرافية لخريطة أرض “إسرائيل الكبرى”.
حادي عشر: الكيان المؤسسي لـ “مبادرة مسار إبراهيم”
هي عبارة عن منظمة غير سياسية وغير طائفية مفتوحة أمام الجميع، ترفع شعار “نحن نعيش ببساطة..
نزيل الغبار عن خُطا قديمة” لتؤكّد أنّ هدفها بالأساس هو إحياء التاريخ المشترك وبناء الثقافة التاريخية
المشتركة لأتباع الأديان الإبراهيمية”. في عام 2006، نُظّمت زيارات لوفود من 10 دول حُرص خلالها
على الترويج الإعلامي للزيارة، وفي الوقت عينه بدأت عملية التفاوض مع حكومات الدول لنشر المفهوم
للحصول على الدعم السياسي للمسار. ومثّل عام 2007، بداية مأسسة المسار عن طريق إنشاء مؤسسة
“مبادرة طريق إبراهيم” كمبادرة أهلية تحت مظلّة جامعة هارفرد.
يقع المقر الرئيسي للمؤسسة في بولدر، في ولاية كولورادو الأميركية، ويديرها “ويليم أوري”، وتتم
الأنشطة من خلال جامعة هارفرد التي استطاعت بناء شبكة من الجمعيات الشريكة، وتمّ قبول تعاونها وفقاً
لميثاق عمل يُنظّم أسس التعاون، فلا تُقبل عضوية أي جمعية إلاّ قبل التأكّد من التزامها بفكر العمل المؤسسي للمبادرة.
من أبرز أصدقاء “مسار إبراهيم”، في البرازيل مدينة ساو باولو منذ عام 2006، حيث نظّمت مسيرة
افتراضية للمسار في تموز/يوليو 2009 في وسط المدينة شارك فيها أكثر من 2000 عدّاء حولهم تعلو
صور القدس ودمشق وبيروت وحلب والخليل، وتمّ تصويرها إعلامياً وبثّها بالقمر الصناعي، وكانت بمثابة
أهم أنشطة تنمية الموارد للمبادرة والطريق، وتمّ خلالها تحصيل مبالغ كبيرة.
بلغ طول “مسار إبراهيم” على الأرض عام 2014 أكثر من 1500 كيلومتر، ومن المخطط أن يصل طول
المسار الى 5000 كيلو متر ليكون قابلاً للسفر في جميع الدول التي مرّ بها النبي إبراهيم وفقاً للأديان
الثلاثة، بشكل متكامل من دون استبعاد أي رواية، وفقاً لإصدار 2016 من جانب المبادرة. أمّا الجهات
المانحة للمسار، فهي تمثّل 18 دولة، وكانت المؤسسة السعودية التابعة للوليد بن طلال للأعمال الإنسانية من أوائل المانحين.
*الدروب المُنفّذة على الأرض: درب سيناء، درب “إسرائيل”، درب/إبراهيم الخليل فلسطين، درب الأردن،
درب لبنان، درب سوريا (جُمّد العمل به مع بدء “ثورات الربيع العربي”)، درب السعودية.
مسارات إبراهيم في الخليج وشبه الجزيرة العربية: (سوريا، العراق، مسارات في دول الخليج، اليمن).
*المسار الصوفي: يروّج كبوتقة تشمل الديانات الثلاث والملحدين أيضاَ، ويتلاقى سير المسار مع الرؤية
التركية لنطاق السيادة الذي تحلم به لاستعادة أمجاد الدولة العثمانية، ويتقاطع مع المسارات الأخرى. ويمر
مسار “فرسان الهيكل” أيضاً بالتوازي معه، لا سيما أنّه يعبر الأراضي التركية وصولاً الى القدس.
*مسار “فرسان الهيكل”: تمّ تدشينه بمبادرة أميركية- فرنسية عام 2006، يبدأ من فرنسا ويرفع شعار
مسار الحج الديني المقدس من أجل السلام العالمي، يأخذ خمسة أشهر للوصول من فرنسا إلى القدس سيراً
على الأقدام أو عبر ركوب العجلات، ويمرّ بإحدى عشرة دولة وقارتين، يبلغ طوله نحو 4220 كيلو متراً،
ويشمل عدة طرق ونقاط عبور: (فرنسا، سويسرا، ألمانيا، النمسا، المجر، سلوفاكيا، صربيا، بلغاريا، تركيا،
قبرص والكيان الإسرائيلي)، إذ لا تعترف المبادرة بفلسطين وإنما بـ”إسرائيل” برغم أنّ المقدسات المسيحية
هي في القدس الشرقية).
مبادرات مطروحة: الولايات المتحدة الإبراهيمية
تطرح جامعة فلوريدا الأميركية، مشروع “الولايات المتحدة الإبراهيمية” عبر مركزها البحثي
(EMERGY) المعني بدراسة القضايا البيئية والمستقبلية ومستقبل الطاقة، واستدامة الموارد الطبيعية
المتاحة، حيث نوقش المقترح في المؤتمر السنوي للمركز عام 2015.
لم يُقدّم المشروع بوصفه مبادرة سياسية، بل كرؤية استشرافية من أجل بقاء المنطقة المهدّدة بالجفاف وندرة
الموارد خلال المستقبل القريب، مع الإشارة الى أنّ منطقة الشرق الأوسط هي منطقة شديدة الجفاف في
العالم. وتُقدّم الرؤية نموذجاً لهيكل سياسي عملي، ورمزاً موحّداً يجمع كل الأطراف في الأرض بين نهري
دجلة والفرات ونهر النيل، عبر إقامة اتحاد فيدرالي يجمع 18 دولة عربية و”إسرائيل” وتركيا وإيران معاً.
أي ما سيُعرف باسم الولايات المتحدة الإبراهيمية، أو ببساطة “الأرض المقدسة”.
تقود عملية التكامل الفيدرالي، “إسرائيل” ثم تركيا بحكم امتلاكهما الموارد والتكنولوجيا في ظل “جهل”
عربي، أمّا التمويل لإقامة الدولة، والربط الإقليمي فسيكون من جانب دول الخليج بسبب “التهديد”، ويُلاحظ
في المقترح غياب القضية الفلسطينية، وإدراجها ضمن الطرح الإقليمي الذي سيتمّ في إطار إزالة الحواجز
وإعادة تقسيم الولايات والمحافظات والوحدات التابعة.
إرهاصات “الاتحاد” تعود الى تسعينيات القرن الماضي، ورغم عدم دقة المعلومات في هذا الشأن،
استطاعت الباحثة الوقوف على صاحب الفكرة والمخطط المطروح من جانب مراكز الفكر الأميركية، ألا
وهو الأصولي المصري “سيد نصير” المتهم بقتل الحاخام الإسرائيلي المتطرّف “مائير كاهانا”؛ زعيم
حركة “كاخ” الصهيونية الأكثر تطرّفاً، والقابع في السجون الأميركية منذ عام 1990، حيث وضع فكرة
تسييس استخدام النبي إبراهيم لحلّ الصراعات السياسية، أملاً منه في تقديم فكرة جديدة تشجّع الأميركيين
للموافقة على الإفراج عنه بسبب عدم إدانته في جريمة القتل وفقاً للقضاء الأميركي، مع مفارقة بقائه في
السجن المشدّد، فقدّم إلى “هيلاري كلنتون” خلال حكم الرئيس بيل كلنتون مشروعاً يحمل اسم “دولة
إبراهيم الفيدرالية”، كمشروع يهدف إلى خدمة الأمن القومي الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، بوصفه
الحلّ الأمثل لضمان “السلام”.
الخاتمة:
يمكننا تقديم رؤية حول الدبلوماسية الروحية واستشراف المستقبل من خلال ما تم نقاشه من قبل الباحثين
المختصين بقضايا الدين والدبلوماسية، من خلال التركيز على قضايا ومحاور تتناول المخطّط المطروح في
إطار النظام العالمي الجديد، وكيفية ترجمته إلى عدد من المفاهيم المتداخلة والمتشابكة، يأتي في إطارها
تحديات خطيرة تتواطأ فيها دول ضد دول أخرى في المنطقة، تُقدَّم في سياق مخطط إقامة الولايات المتحدة
الإبراهيمية. إنّ إرهاصات الإعلان عنه سياسياً بدأت من خلال ملامح مشروع “صفقة القرن” الذي طرحه
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عندما أعلن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، الأمر الذي يدعو إلى طرح
عدد من التساؤلات التي تتطلّب وضع سياسات تصحيحية مهمة من أجل مواجهته.
إن كل ما يُخطط لمنطقتنا ويُروّج له “هدفه ليس السلام العالمي، وإنما ضياع المنطقة وحقوق الشعوب معاً،
ونحن كشعوب يجب ألاّ ننخدع خلف الشعارات الدينية الجذّابة والأخوّة الإنسانية والتسامح المزيّف. إنّ
الوعي والمقاومة المجتمعية هو الأساس، والتماسك واللحمة هي المدخل الرئيسي للتصدّي للأفكار الهدّامة،
والعودة إلى فكرة التعايش الحقيقي للشعوب التي تم طرحها في مفهوم وفلسفة الأمة الديمقراطية الحقّة، التي
طرحها المفكر الأممي عبد الله أوجلان ودفع ثمنها سنوات عمره في معتقل إمرالي.
…………………….
المراجع:
١. الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي: المخطط الاستعماري للقرن الجديد، هبة جمال الدين محمد
العزب، مركز دراسات الوحدة العربية، ٢٠٢١
٢. “لاهوت الغلبة”-التأسيس الديني للفلسفة السياسية الأميركية”، محمود حيدر، دار الفارابي).
٣. الصراع العربي-الإسرائيلي، ياسمين قعيق. بيروت. 2021
٤. الدبلوماسية الروحية مدخل لخلط الدين بالسياسة، موقع العرب 2021
٥. الدبلوماسية الروحية لماذا، موقع شفق 2020
٦. الدبلوماسية والدين، البحث عن مصالح مشتركة، آلن كويستنر، والأسقف جون شاين، مركز الدوحة للنشر ٢٠٢٠.