جاسم العبيد
تعريف الأقليّة:
هي مجموعة من الناس يتعايشون بشكل مشترك مع مجموعة أخرى أكثر هيمنة وسيطرة، حيث أنّ مجموعة الأقليّات تكون تابعة وليست مسيطِرة. وللأقليّات خصائص ومميّزات ثقافيّة ودينيّة أحياناً ورُبّما إثنيّة.
تعريف الموسوعة البريطانيّة للأقليّات:
الأقليّات جماعة من الأفراد يتمايزون عرقيّاً أو دينيّاً أو لغويّاً أو قوميّاً عن بقيّة أفراد المجتمع الذي يعيشون فيه. ولا يكاد يخلو بلد في العالم من وجود الأغلبيّة والأقليّات المختلفة والتي قد تعتبر أقليّة في نوع معيّن، أو في أكثر من نوع من الاختلافات الدّاعية لتسميتهم بالأقليّات.
ومصطلح الأقليّات ليس دقيقاً ولا يجوز اعتماده في دراسة علميّة جادّة، فهناك جماعات تُصنّف في خانة الأقليّات وتُعدّ بعشرات الملايين ومنهم (الكُرد) على المستوى العرقيّ، وهم يتوزّعون ما بين تركيّا والعراق وإيران وسوريّا، ويُقدّر عددهم بخمسين مليون نسمة. وهناك الأقباط في مصر على المستوى الدّينيّ، ويُقدّر عددهم بـ/10/ مليون نسمة. وهناك الأمازيغ في دول شمال إفريقيا، ويُقدّر عددهم بـ/20/ مليون نسمة. فخارطة الشّرق الأوسط تضمُّ عدداً هائلاً وكبيراً من الطوائف المسيحيّة والإسلاميّة واليهوديّة والصابئة والإيزيديّة، وأقليّات عرقيّة مثل الأرمن والشركس والكلدان والتركمان وبقايا جاليات أوروبيّة.
ومفهوم الأقليّة والأغلبيّة حديث العهد نسبيّاً في القانون الدّوليّ، رغم أنّه من الواضح وجود الاختلافات بين المجتمعات المحلّيّة على مرّ التاريخ. ومنحت بعض النُّظم السّياسيّة في الواقع حقوقاً مجتمعيّة خاصّة لأقليّاتها.
فالأقليّات تُثري المجتمعات في كلّ بلدان العالم، بلا استثناء، ويجب أن تتمثّل أهدافها الرّئيسة من خلال العمل على ضمان حقوقها؛ في ألّا يخشى أحد الاعتراف بهُويّته كفرد في أقليّة خوفا من أن يترتّب على قراره هذا حرمان، وأن تضمن الحماية لوجود الأشخاص المنتمين لأقليّات، والحفاظ على هُويّتهم، وأن يفيدوا من مبدأي المشاركة الفعليّة وعدم التميّز.
في دول الشّرق القديم عموماً، والتي تعاقبت عليها الحضارات القديمة والأمم، وخاضت صراعات وحروباً، وفي مختلف العصور، تكون الأقليّات أكثر تواجداً وتداخلاً وتنوّعاً.
لم يكن للأقليّات في الأزمنة القديمة أيّ نوع من الحقوق، فما حدث في زمن العبودية – أوضح أنواع الأقليّات – وصمة عار في جبين الإنسانيّة بالتّعامل مع هذه الأقليّة أو تلك بأقسى وأبشع الطرق المجحفة المذلّة، حتّى أنّ بعض الحيوانات كانت تجد رعاية وحقوقاً أكثر ممّا كان يلاقيه المغلوب على أمره.
لكن بعد انقضاء الحرب العالميّة الثّانيّة؛ زاد الاهتمام بحقوق الإنسان عامّة وحقوق الأقليّات خاصّة، وأثمرت جهود المجتمع الدّوليّ عن ميلاد ميثاق الأمم المتّحدة، والذي صدر في مدينة سان فرانسيسكو عام 1945م، فكان معبّراً عن رغبة الدّول في إقامة عالم جديد أكثر إنسانيّة ومبنيّاً على أسس حضاريّة تهدف لاحترام إرادة الشّعوب وحقوقها في التّعايش السّلميّ والاستقرار. وقد حضّ القانون الدّوليّ الدّول التي توجد فيها أقليّات إثنيّة أو دينيّة أو لغويّة، ألا تُحرم الأشخاص المنتسبين إلى تلك الأقليّات من حقوق التمتّع بثقافتهم الخاصّة وحُرّيّتهم في التفكير والضمير، والحقّ في الإعراب عن عقيدتهم وديانتهم، وبالتّعليم والممارسة وإقامة الشّعائر، ومراعاتها بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم.
حقوق الأقليّات:
1- الحقّ في حماية الوجود وعدم التمييز.
2- الحقّ في حماية الهُويّة.
3- الحقّ في المشاركة السّياسيّة.
ومع هذا فستظلّ الأقليّات وخاصّة في الشّرق الأوسط تواجه مخاطر جسيمة وتمييزاً وعنصريّة، وتُستَبعد من المشاركة الكاملة في الحياة الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة المُتاحة للأغلبيّة في بلدان الشّرق الأوسط أو المجتمعات التي يعيشون فيها. فالأقليّات في مجتمعات الشّرق الأوسط تواجه حالة استقطاب من أطراف وقوى خارجيّة؛ بهدف الشّعور بـ”المظلوميّة” أحياناً. لكنّ العقلاء من أبناء الأقليّات في الدول الشّرق أوسطيّة يرفضون أيَّ انتماء غير وطنيّ. وحالة الصراع الرّاهنة؛ تتطلّب مجتمعاً متماسكاً ومتّحداً يؤمِنُ بأنّ مصلحة الوطن فوق كلّ مصلحة.
تبرز مسألة الأقليّات في منطقة الشّرق الأوسط، التي لاقت اهتماماً كبيراً لدى العديد من الدّارسين والبّاحثين في السّياسة الدّوليّة بشكل لافت. وتجدر الإشارة إلى أنّ المسألة الكُرديّة تُعدُّ من بين القضايا التي عرفت – ولا تزال – تشهد اختلافات عديدة في إطار تحديد أصل الكُرد وتوزّعهم الجغرافيّ، إضافة إلى أهميّة التطوّرات التي تشهدها هذه القضيّة في علاقاتها مع الدّول التي تتعايش معها ومع أبنائها، واندماجهم مع الشّعوب التي تساندها، الأمر الذي أضفى على القضيّة الكُرديّة أهميّة مختلفة عن باقي الأقليّات في الشّرق الأوسط. وكذلك تمكين الطوائف المهمّشة سياسيّاً كما حدث مع شيعة جنوب العراق، وهذا ليس حُبّاً في الأقليّة أو الطائفة، ولكن لغرض توظيف كامل لتحقيق الإستراتيجيّة الأكبر في شنّ حرب استباقيّة على مصادر العنف الذي قد يصل يوماً ما إلى أراضي أوروبا أو أمريكا.
الأقليّات في إيران مضطّهدة لأبعد الحدود، ومحالٌ أن تنطبق عليها إستراتيجيّة “الأقليّة الوظيفيّة”. هذه الأقليّات لا تحلم بالدّعم أو التمكين والتّوظيف من الدّول الكبرى المعنيّة بلعبة الشّرق الأوسط الجديد، ليس لأنّها بعيدة عن محور العمليّات الإستراتيجيّ؛ بل لأنّها تعمل في عمق دولة هي إيران، والتي تساعد – أي إيران – كلّ من أمريكا وروسيّا على تنفيذ إستراتيجيّتهما وتحقيق مصالحهما على أتمّ وجه في سوريّا وغيرها، حتّى لو فنيت سوريّا والشّرق الأوسط، على حدٍّ سواء.
وهناك أقليّات تسعى وتحرص على بقاء شخصيّتها الذّاتيّة مستقلّة عن مكوّنات الدّولة التي تنتمي إليها، وتمارس نشاطاً سياسيّاً بهذا الاتّجاه، ورُبَّما تصطدم مع مصالح وتوجّهات الدّولة التي تشكّل جزءاً منها.
وقد بدأ التّفاعل التّاريخيّ بين الأقليّات في الشّرق الأوسط بعد الحرب العالميّة الأولى وانهيار الامبراطورية العثمانيّة، التي ادّعت أنّها تمثّل الإطار الجامع لكلّ الأديان والطوائف والمِلَلْ التي تسكن جغرافيّة الشّرق الأوسط، فيما فرضت نموذجاً سُنيّاً طبع الإمبراطوريّة بها، إلى جانب تنامي النّزعة “التركيّة” أواسط القرن الثّامن عشر. ونتيجة لتدخّل الاستعمار الغربيّ للدّول الامبرياليّة في الشّرق الأوسط ونشوء الدّول القوميّة، وسيطرة حكومات شموليّة على مقاليد الحكم بالحديد، وتهميش أغلبيّة السكّان، ممّا خنق الأصوات المطالبة بالحُرّيّات، فتدهورت الأوضاع الاقتصاديّة وأدّت إلى انعدام التنمية البشريّة وتكرار الهزائم العسكريّة أمام العدو.
بالأصل بُنِيَ الشّرق الأوسط على نظريّة سطوة الدّولة الإقليميّة أو الدّولة الوظيفيّة، كما تُسمّى في بعض الأدبيّات. وتقضي الإستراتيجيّة بتنظيم هذه الدّولة على السيطرة وتحويل مسار الأحداث دائماً لصالح القوى الاستعماريّة التي رحلت والتي لم ترحل.
أمّا الشّرق الأوسط الجديد؛ فمن الجليّ أنّه يُطبَخ على نار مشتعلة، باستخدام فنّ نظريّة الأقليّة الوظيفيّة! وللحقّ أقول: إنّ عمليّة اعادة تركيب الشّرق الاوسط بدأت في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وجرى تطبيق مفهوم تمكين الأقليّات كما حدث للقضيّة الكُرديّة في العراق، حيث قال رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني في حوار مع صحيفة الحياة اللندنيّة في 6 فبراير/ شباط عام 2015: “إنّ الحدود الموروثة من اتّفاقيّات سايكس – بيكو هي حدود مصطنعة، وإنّ الحدود الجديدة في المنطقة ترسم بالدم داخل الدّول أو بينها”. وقال الكاتب الصحفيّ “غسّان شربل”: “لا العودة إلى الحدود السّابقة مطروحة، ولا الاعتراف بالحدود الجديدة واردة”. فقد يتمّ تشكيل دول قائمة على أسس جديدة، أو توسيع دول قديمة بشكل مختلف عن التصوّرات الأمريكيّة السّابقة، التي جسّدها مشروع الشّرق الأوسط الجديد أو الفوضى الخلاّقة الرّامية إلى التفتيت أو التقسيم. فلم تَعُدْ هناك أهميّة محوريّة لما يطلق عليها “ديكتاتوريّة الجغرافية” أو “السّيادة المطلقة” للدّول في الإقليم. هناك مجموعة من التحوّلات الرّئيسيّة التي تبرهن على تحوّل جغرافيّة الصراع داخل منطقة الشّرق الاوسط على نحو ما تعكسه النّقاط التّالية:
1- استحالة عودة الدّولة المركزيّة الموحّدة إلى ما كانت عليه.
2- استعادة المطامع التّاريخيّة للقوى الإقليميّة.
3- تزايد التدخّلات الإيرانيّة في شؤون دول الشّرق الأوسط.
4- تنامي الممارسات الانفصاليّة للأقليّات المسلّحة.
5- تغيّر التّوازنات الجغرافيّة الجديدة للقوى الدّوليّة.
ومن هنا يأتي دور الأقليّات وينبثق عملها الفاعل ونشاطها للوقوف بوجه كلّ المخطّطات والتطوّرات والمطامع الدّوليّة، فإمّا أن تكون فاعلة في دورها بقياداتها الحكيمة، أو تذوب في هامش المخطّطات والتصوّرات الدّوليّة .فدور الأقليّات أخذ يبرز وبشكل هام على السّاحة الدّوليّة، وذلك من زمن بعيد، ويستمر إلى الوقت الحالي؛ نظراً للتطوّرات التي عرفها العالم، وكذلك التغييرات التي يشهدها النّظام الدّوليّ من خلال أحداث وحروب، كان لها الأثر في ظهور هذه المسألة، بشكل يوضّح الدّور الذي باتت تلعبه الأقليّات في المشهد الدّوليّ والإقليميّ، خاصّة وأنّها أصبحت لا تُعدُّ فقط من الشؤون الدّاخليّة للدّول التي تتواجد فيها، بل تَعدّى الأمر إلى نطاق جغرافيّ وسياسيّ أوسع، ممّا أدّى إلى اتّخاذ هذه المسائل بُعداً داخليّاً وآخر خارجيّاً، سواءً على المستوى الإقليمي أو الدّوليّ.
لعلّ أهمّ نقطة تُثارُ عند الحديث عن مسألة الأقليّات؛ هي ارتباطها بمسألة الوحدة الوطنيّة واستقرار الدّول التي توجد فيها، وحتّى بالاستقرار الدّوليّ والإقليميّ. كما أنّ الأقليّات تُعدُّ ضمن العوامل المؤدّية إلى إثارة النّزاعات الدّاخليّة والدّوليّة أحياناً، وذلك كلُّه يرجع إلى طبيعة الأقليّات ومطالبها وأهميّتها وأساليبها. من جهة أخرى إلى جانب سياسة تعامل الدّولة معها؛ فدورها القوميّ فاعل ومحرّك وثابت ومحوريّ أيضاً.