افتتاحية العددزيرين محمد خيرمانشيتملف العدد 58

الشرق الأوسط وأزمة المواطنة

زيرين محمد خير

الشرق الأوسط وأزمة المواطنة

زيرين محمد خير 

تُظهر منطقة الشرق الأوسط تعابير دقيقة ومتنوعة للانتماء والهوية والمواطنة، ويحتاج الأمر إلى فهم تلك

التعابير، فبصورتها التقليدية كانت مفاهيم المواطنة والانتماء مرتبطة بمفهوم المواطنة السياسية كما يحدث

في الديمقراطيات الليبرالية، وبالتالي تم تجاهل العديد من أشكال المواطنة الأخرى المختلفة والمتنوعة التي

تطورت في سياقات أخرى.

حيث «ترتبط الكثير من القضايا التي نتعامل معها، من الجغرافيا السياسية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية

إلى التغيير الاجتماعي إلى الهجرات، ارتباطاً وثيقاً بمفاهيم المواطنة المتطورة، ولذلك فإن فهم هذه العلاقة

وتجاوز التبسيط، أمر بالغ الأهمية لفهم الاتجاهات والتحديات الحالية التي تواجهها المنطقة».

إن تطبيق منظور المواطنة لدراسة الديناميكيات الاجتماعية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط يُحدث

التركيزَ على الأشخاص الذين يعيشون في هذه البلدان.

هناك تساؤلات مستمرة تخطر على بال الكثيرين ممن عاشوا ولا يزالون، وأولئك الذين فضّلوا الابتعاد

والهجرة ومغادرة أوطانهم. وأهم هذه التساؤلات هي:

١. ماذا يعني أن تكون من مواطني منطقة الشرق الأوسط؟

٢. ما هي أهم قيم المواطنة والانتماء لمكان ما أو لدولة ما؟

٣. لماذا لا تلعب المواطنة دوراً مهماً في تحليل الدولة والمجتمع والسياسة في منطقة الشرق الأوسط؟

٤. لماذا لا يشعر المواطن في الشرق الأوسط بانتمائه إلى وطنه؟

المواطنة ليست هي الكلمة الأولى التي تتبادر إلى الذهن عند تحليل السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط.

يتحدث الباحثون عن المواطنين، ولكن بطريقة مضللة بشكل عام “مواطنو هذا البلد أو ذاك يفعلون هذا أو

يفعلون ذاك، ويتفاعلون مع هذا أو ذاك”.

تعتبر المواطنة أمرًا مفروغاً منه، لكن لا يتم تحليلها حقاً.

“نيلز بودينشون” طرح هذه الأسئلة حول من هو المواطن، وما هي حقوقه، وكيف تتشكل المواطنة؟

وتصوَّرها ضرورية لفهم منطقة الشرق الأوسط.

هناك عناصر كثيرة تدخل في المواطنة: الشعور بالانتماء والهوية، أفكار حول الحقوق والعمالة والعدالة

والأمن، وتقديم خدمات مثل التعليم والصحة والسلامة. القاعدة العامة هي أن المواطنة تتطور بمجرد ظهور

الدولة الحديثة، والعلاقة بين الاثنين عقد اجتماعي تحصل فيه الدولة على الشرعية مقابل الخدمات والأمن

والعدالة.

ومن منظور الدراسات المدنية يمكن تحليل منطقة الشرق الأوسط، كمحاولة مستمرة لإنشاء عقد اجتماعي

يشمل جميع المجموعات العرقية والدينية والأقليات، واحترام حقوق الشعوب واحترام المرأة والقانون، لكنه

فشل في جلب مجموعات محددة. فالعقد الاجتماعي يلبي العديد من المطالب.

ولو عدنا إلى مفهوم المواطنة فهي تعني التمتع بالحقوق المختلفة، سواء كانت مادية أو معنوية والالتزام

بالواجبات الوطنية، الشعور بالانتماء والولاء للوطن والدولة، التي تعدّ مصدر إشباع للحاجات الأساسية

وحماية الحقوق العامة للمجتمع، كما أن المفهوم الحيوي للمواطنة أشمل من الولاء للعشيرة أو القبيلة أو

الطبقة، بل يتجاوز الولاء الأطر الضيقة.

نقصد بالوطن لغوياً مكان الإقامة والحماية للفرد، ومن الناحية السياسية، يعني أن يتمتع المواطن بالحقوق

ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الوطن، وعلى أنه يدل على مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم

بين فرد ونظام سياسي في أي دولة، ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول “المواطن” الولاء، ويتولى

الطرف الثاني “الدولة” الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق أنظمة الحكم القائمة.

إن مفهوم المواطنة يعني العلاقة بين الفرد والدولة كما يحدد قانون أية دولة، وما تتضمن هذه العلاقة من

واجبات وحقوق في ظل دولة القانون.

إن تحقيق صفة المواطنة في ظل الدولة، يعني أن المواطن في هذه الدولة يتمتع بحقوق سياسية، قانونية،

اجتماعية، اقتصادية، ثقافية.

يقوم الدستور على أساس توافق مجتمعي في الدولة، ويكون عبارة عن عقد اجتماعي يمثل مصدراً للحقوق

وحامياً للواجبات بالنسبة لكل مواطن يتمتع بجنسية هذه الدولة، دون تمييز عنصري أو عرقي أو طبقي.

وبالنسبة لبناء الدولة، فهناك من يسعى إلى تجاوز مؤسسة القبيلة وبناء دولة وطنية تقوم على مؤسسات

ديمقراطية، تضفي الشرعية على العمل السياسي داخل الدولة.

مازالت الدول في الشرق الأوسط تفتقد إلى ديمقراطية تصنعها الشعوب من خلال الشراكة السياسية الواسعة

والرقابة السياسية القانونية.

تفتقد الدول في الشرق الأوسط إلى استراتيجيات وطنية تتجاوز الذهنيات السياسية القائمة على القبلية

والعروشية والجهلوية والعرقية والدينية، وتكرس ثقافة سياسية ديمقراطية، يشارك في بلورتها الفئات

الاجتماعية المختلفة للمجتمع، من أحزاب المجتمع المدني والجامعات ومراكز البحث والمثقفين والسياسيين،

بالاعتماد خاصة على مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية، فبعد عقود على الاستقلال السياسي لدول

الشرق الأوسط، مازالت هشاشة العلاقات بين الدولة والمجتمع بادية وظاهرة، إذ أن ذلك البلاء هو الإخفاق

في تأسيس سلطة ناجحة في صهر تلك التباينات في هوية وطنية، لأن كل السلطات المتعاقبة فشلت في صياغة

علاقة قائمة على أساس المواطنة، بل لجأت إلى اختزال هذه العلاقة الواسعة في أطر إيديولوجية أو مناطقية

أو طائفية ضيقة، استخدمت في تكريسها أشكالاً من الاستبداد والقمع والترهيب أو الفساد بمختلف أوجهه.

إن جميع هذه الأشكال يمكن اعتبارها أداة أو وسيلة تحافظ على هيكل السلطة، لكنها عاجزة عن بناء الدولة،

حيث تؤسس المواطنة قاعدة صلبة للانتماء والافتخار، ومن ثم تنطلق مشاعر العطاء.

هكذا عندما انفجرت أزمات الدول وتناقضاتها خلال الهبّات التي سمّيت بالربيع العربي، فكانت في تونس،

مصر، ليبيا واليمن ثم سوريا، لكنها كشفت أنه ما من دولة تجنح لتعذيب مواطنيها قادرة على الثبات والتقدم

مع حركة التاريخ، فالثورات نفسها أكدت أنه ما من وطن يبقى متماسكاً ومواطنوه متنافرون.

خيبة عارمة خيمت على الساحات الشعبية المائجة بالطموحات في دولة المواطنة الكاملة، إذ اكتشفت أنها

استبدلت قصص معاناة مكرورة بخفايا فلكلورية عتيقة.

المشهد الشرق أوسطي الراهن مصابٌ بأزمة مستفحلة إزاء إمكانية إيجاد سلطة قادرة على معالجة تناقضات

الدولة المزمنة، من الخيبة الإيرانية إلى التونسية التي لا تقل عنها الفاجعة المصرية أو الصدمة الليبية أو

الاحتقان اليمني وصولاً إلى الدوّامة السورية، نعم وهي مشاعر الاكتئاب نفسها المتفشية في السودان، حيث

فرضت التجزئة نفسها ولا تزال تنهش كيان الدولة، وهي مظاهر التفسخ ذاتها في العراق، ثم هي ألسنة اللهب

المتصاعدة في سوريا.

هكذا يفضح المشهد عملية الانتكاس من الدولة إلى الجماعة بغضّ النظر عن انتمائية هذه الفئة، وهكذا تعيش

الشعوب والمواطنون مرحلة إخفاق جماعي إزاء إمكانية بناء دولة قاعدتها مواطَنة ملؤها المساواة بين جميع

المواطنين في الحقوق والواجبات.

كل هذه العناصر تشيع الكراهية بين المواطنين، ومن ثم تفرز جفوة أو فجوة بين الدولة ومواطنيها، والحال

هذه؛ فإنه ما من سبيل لتغيير هذه الصورة القاتمة ما لم تتم معالجة هذه القضايا المزمنة، بعقلية منفتحة على

جذور الأزمة وعلى العصر.

لا يكفي تصنيف الجماعات الخارجة على سلطة الدولة، بالتمرد والتشكيك في انتمائهم الوطني، في غياب

مساءلة السلطة عما تقدمه لهؤلاء من حقوق واعتراف بدورهم في التمثيل السياسي، ومساءلتها عن مساهمتها

في إرساء المواطنة والتقصير الفادح إزاء نشر الخدمات الأساسية وقاعدة إغاثية.

إن تكريس مبدأ المواطنة داخل المجتمعات الشرق أوسطية والأساس الذي يقوم عليه مجتمع الدولة، يعيش

أزمة مواطنة حقيقية، فبعد أكثر من نصف قرن من الزمن، شهدت المجتمعات الشرق أوسطية تحولات عميقة

على المستويين السياسي والشعبي، دون أن يواكب ذلك تطور على مستوى المواطنة.

خلاصة القول يمكننا أن نوضح هذه النقاط:

١. لا يمكن بناء مواطنة حقيقية في المجتمعات الشرق أوسطية إلا بتجاوز المؤسسات القبلية والدينية

ومثيلاتها، وصولاً إلى بناء دولة وطنية تقوم على مؤسسات وطنية تضفي الشرعية على العمل السياسي داخل

الدولة.

٢. إن الأزمات السياسية، الأمنية، الاقتصادية، الاجتماعية التي تعرفها الكثير من الدول الشرق أوسطية، وفي

مقدمتها الدول العربية التي تتنوع فيها المذاهب والتيارات والأعراق والأيديولوجيات مثل العراق، سوريا،

تركيا، إيران، تعود أساساً إلى غياب مشروع مجتمع وطني يجسّد التوافق الوطني الشامل.

٣. إن استمرار البناء الاجتماعي التقليدي في المجتمعات الشرق أوسطية، يشكل مقاومة للدولة الوطنية

الحديثة، وبالتالي مقاومة للوطن وللمواطنة.

٤. الربط بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي لحل المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها المواطن

في الشرق الأوسط لمواجهة التحديات المختلفة.

المراجع

١. عبد الوهاب بن خليف، جيوسياسية العلاقات الدولية; التغيرات، القواعد والأدوار. الجزائر; دار قرطبة، ٢٠١٦ م.

٢ -عبد السالم إبراهيم بغدادي، الوحدة الوطنية والمشكلات الأقلية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ٢٠٠٠م.

٣. نعوم تشومسكي، صناعة المستقبل; الاحتلال، التدخلات، الإمبراطورية والمقاومة، ط 5، بيروت شركة

المطبوعات للتوزيع والنشر، ٢٠١٩ م.

٤. زهرة بابار، «دليل روتليدج للمواطنة، جامعة جورج تاون، ٢٠٢١م.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى