أبحاث ودراساتافتتاحية العددحسين محمدمانشيتملف العدد 54

تطور الأنماط المعمارية في سوريا

حسين محمد

تطور الأنماط المعمارية في سوريا

حسين محمد

على الرغم من أنّ سوريا تتمتّع بأهمية حاسمة في الدراسة العلمية لبقايا العصرين البرونزي والحديدي، وتوفر مجموعة غير عادية من المواقع التي تمّ البحث عنها خلال القرن الماضي، فإنّ نطاق هذا الكتاب ينحصر بالبقايا التي يمكن التعرف عليها كمبانٍ أو صروح الماضي الأثرية. يغطي هذا المقال عددًا محدودًا فقط من بقايا هذه الفترات المبكرة، أي تلك التي تتمتع بأهمية تاريخية كبرى (إيبلا وتل حلف( أو حيث توفر البقايا المادية التي كشف الباحثون عنها أدلّة غنيّة على نحو غير عادي على الممارسات المعمارية لتلك الفترة ) على وجه الخصوص أوغاريت وماري وعين دارا(

لا يمثل التسلسل المبكر للمباني في حدّ ذاته تقليدًا مستمرًا، حيث إنّ موجات الغزوات وتيارات التأثيرات المتقاطعة التي اجتاحت سوريا، شوّشت على النمط  باستمرار. ففي حين تُظهر بقايا المعابد في مواقع مثل أوغاريت بدايات اتجاهٍ ثابت (راجع الإطار المتعلق بالمعابد السورية الفينيقية أدناه(، فإنّ جُلّ التطوير المعماري انصبّ على نطاق واسع فقط، على موضوعات مشتركة مثل تطوير الفناء الداخلي كأساس لتصميم المكان. إذا كانت النتائج مرتجلة وتراكمية، فلن تكون الآثار أقلّ إثارة للإعجاب عند رؤيتها على المقياس الذي تمّ تحقيقه في قصر )زمري لي ( في ماري، الذي كان  يتكون من (275) غرفة أو في القصر الرئيسي في أوغاريت بغرفه التسعين أو أكثر من ذلك في الطابق السفلي )المبني بالحجارة( بالإضافة إلى طوابق علوية. وعلى العموم كانت المستوطنات الرئيسية عبارة عن مدن حصون، تحيط بها الأسوار للدفاع ضدّ الأسلحة التي تمّ تطويرها حديثًا مثل سلاح الفرسان الذي كان يرتكز على عربة خفيفة تجرها الخيول ورماة السهام. وكانت القلعة تقع على أعلى أرض، محصنة بجدارين أو ثلاثة جدران خارجية من الطين المشوي أو الحجر، ويحيط بها خندق مخصص لمقاومة أجهزة الحصار مثل الأبراج المتحركة والأكباش،  وكانت المنازل داخل الجدران تتكون عادة من الطوب، وكان بعضها مكوّناً من طابق علوي. وعلى نحوٍ مماثل فإنّ تطور العناصر الزخرفية في تصميم القصر والمعبد، تتمّ رؤيته فقط على نحوٍ عشوائي في مسحنا.  وتوجد في ماري قطعٌ من لوحات جدارية، ويتجلى استخدام العواميد لإنارة بوابات المداخل أو الساحات في العصر الحديدي المبكر، والذي تطور إلى استخدام الألواح المنحوتة من الحجر أو المنحوتات القائمة بذاتها في تل حلف (متحف حلب) أو عين دارة.

المعابد السورية الفينيقية

تحمل العديد من المعابد في سوريا والتي توصف على نحو مختلف على أنها رومانية، أو تدمرية أو فينيقية أو تلك التي تحمل الطراز البعلبكي في الواقع، العديد من السمات التي تدلّ على نسب إلهام مشترك محلي إلى حدّ كبير، لكنها تشبه العديد من السمات الرومانية أو الكلاسيكية. الأمر المشترك الذي يجمع بين معابد اللات وبيل وبعل شامين في تدمر، والمعبد الفينيقي / الفارسي في عمريت، ومجمّع المعبد الروماني في حصن سليمان وحتى معبد جوبيتر في دمشق (دمشق- الجامع الأموي)هو أصل سوري فينيقي مشترك.

ظهرت فكرة عزل هيكل المعبد عن فوضى الفناء المحيط ووضعه في مجمع مفتوح لأول مرة في سوريا) معابد أوغاريت)، ثم أدّت لاحقًا إلى ظهور نسخة المعبد اليونانية القائمة بذاتها . وأقدم مثال واضح على ذلك هو مجمع عمريت الذي يعود إلى  أواخر القرن الخامس أو الرابع قبل الميلاد، وهو موقع غريب جنوب طرطوس يخبرنا عن مزيجٍ انتقائي من التأثيرات الفينيقية المحلية، إلى تأثيرات بلاد ما بين النهرين / بلاد فارس. هنا يمكننا رؤية الفكرة الأساسية وهي الفكرة الأساسية لمجمع معبد كبير مفتوح في وسطه يقف ناووس صغير أو هيكل. وتظل مناطق التجمعات العامة مفتوحة، وتظل الغرفة المخصصة للصورة والعبادة الكهنوتية للآلهة محصورة في مساحة صغيرة نسبيًا. ويمكن رؤية نفس الفكرة في إعادة بناء مباني العهد القديم الدينية، وأمام الناووس يوجد محراب مخصص لطقوس الأضاحي العامة وبركة صغيرة للتطهير. لم يتوفر في أي موقع آخر ما توفر في عمريت، بحيرة مقدسة حول الجزيرة المركزية.  في الأمثلة اللاحقة يزداد حجم الناووس، حتى أنه يتخذ ربع مظهر المعبد الكلاسيكي نفسه إلى حدّ ما الأعمدة المحيطة، إلخ) ولكنه لا يزال صغيرًا مقارنةً بالمساحات الشاسعة للحظيرة المحاطة بالأسوار و/أو المقنطرة. يبقى المذبح وبركة التطهير (تدمر وحصن سليمان). وكذلك برج الزاوية  وهو الشكل الموجود في معبد بل في تدمر وكذلك في المبنى الغريب الشكل في “الضمير”. الإنجاز الأكثر لمعانًا هو معبد جوبيتر هليوبوليتان في بعلبك (لبنان )الذي يقع خارج نطاق هذا الكتاب ولكنه يمثل نسخة مبالغ فيها من الأشكال الموجودة في المواقع الكلاسيكية والفينيقية الرئيسية في المنطقة.

 

السلوقيون

لقد تمّ فقْد سوريا السلوقية بأكملها فعليًا لصالح لأجيال القادمة، في سياق إعادة البناء اللاحقة، على الرغم من الاتجاه الذي سيطر في الفترة الرومانية والذي قضى باحترام مخطط المدينة اليونانية (استنادًا إلى شبكة هيبوداميان – الشارع المستقيم)  في دمشق، يعني أن المبادئ المستخدمة في تخطيط المدن اليونانية تواصلٌ بقي حتى لو كان النسيج الفعلي مزخرفًا إلى حدّ كبير (عادة بمقياس كبير – تدمر – أفاميا)  وتعتبر دورا أوروبوس مثالًا جيدًا على قلعة يونانية تمّ تكييفها لاحقًا وفقًا للاحتياجات الفارسية والرومانية.

المسارح الرومانية

المسرح          القطر         السعة       الصفوف              القرن

أفاميا             139                           14+؟           أواخر القرن الثاني

بصرى           102        6-9000       14+8+5        أواخر القرن الثاني؟

سيرهوس       115                          14+11           حوالي 150

جبلة              90           7000       11+12+؟             –

تدمر              90                               18             أواسط القرن الثالث

 وفي حقيقة الأمر فحتى وقت قريب، لم يكن هناك أيّ دليل على وجود قلعة هيلينستية كبرى لم يُعد الرومان بناءها، الأمر الذي يشير على الأقل إلى أنّ قدرة اليونانيين على انتقاء مواقع إستراتيجية، لم يتم التمكن من تحسينها على الرغم من فشل بعض مدنهم (مثل بيرويا حلب)  في الازدهار كمراكز مدنية رئيسية في العصر الروماني.

الفترة الرومانية

على الرغم من ندرة بقايا الفترة الإمبراطورية المبكرة، يبدو أنّ القرن الثاني الميلادي قد شهد انحرافًا عن النزعات الشرقية في الحقبة الهلينستية والرومانية المبكرة، وتقيّدًا أوثق بالمعايير الإمبراطورية، إذ تطور مزيج الأنماط التي صنعت المشروع الواسع بدءًا من أواخر القرن الأول، ويعتبر معبد بعل المسوّر في تدمر آخر محاولة لاستخدام المرجع الشرقي المكثف في المشاريع الكبرى. لكن الانشغالات المحلية استمرت على مستوى الرعاية الفردية، على سبيل المثال قبر البرج المستطيل، وفي الفن الجنائزي في تدمر. وسوريا تنعم بوجود (12) نموذجًا من المسارح الرومانية، ستة منها على الأقل في وضع جيد إلى حدّ كبير، بما في ذلك مسرح من أكثر المسارح الذي هو في حالة سليمة في عالم البحر الأبيض المتوسط، وهو المسرح الكائن في بصرى، وعلى الرغم من أن بناءه من البازلت الكئيب يعطي انطباعًا مختلفًا عن الحجر المبهر في ليبيس ماجنا (ليبيا) أو أسبندوس (تركيا)، فإنّ بقاءه سليمًا تقريبًا (كان لابد من إعادة بناء الواجهات الأمامية فقط) وانسياب الفناء السليم تقريبًا يجعل منه نصبًا يتمتع بأهمية فريدة. وعلى الرغم من أنه ليس المسرح الأكبر في سوريا (انظر الإطار أعلاه) إلّا أنّ الأمثلة الأخرى تنجح  فقط في الإيحاء بالنسب السابقة، من خلال الأمثلة الصغيرة في جبلة التي احتفظت بحالة معقولة.

لا يبدو أنّ الازدهار المسرحي في سوريا قد بدأ حتى أواسط القرن الثاني، الأمر الذي يعكس ازدهارًا متزايًدًا للمجتمعات واكتساباً أكثر وضوحًا للأذواق الرومانية. لا يتوفر لدينا أيّ دليل على تشييد المسارح في الفترة الهلنستية على الرغم من أنّ الأدلة المكتوبة تشير إلى وجود مسارح في دمشق وأنطاكية، في أوائل القرن الأول الميلادي). تتبع الأمثلة المتبقية النماذج الرومانية من خلال البنائين السوريين الذين كانوا أكثر ميلًا لاختيار المواقع على أرض مستوية

المدينة المحور الرئيسي العرض عناصر الشبكة التاريخ
حلب (بوريا) .00 km1 20-26 m 120 by 46 ؟
أفاميا 1.85 m 17.5 m 105 by 53 115-180
بصرى 900 m 23 V 105+
سيرهوس 400+m 7 m* ? ؟
دمشق 1.35 km 26 100 by 45 m أواخر القرن 2/3 ميلادي
اللاذقية (لاوديسة) 1.50 km 5-7 m 112 by 57 m 192-211?
تدمر 1.20 km 25 m V أواسط وأواخر القرن الثاني

تجنب مساوئ  بناء الهيكل الضخم في منحدر تل) والبناء دائمًا تقريبًا بالحجر (على عكس الطوب المستخدم في العالم الروماني إلى الغرب.

خطط المدينة

يمكن العثور على مظاهر أخرى من الفترة الكلاسيكية في أشكال متنوعة في سوريا. إذ احترم التوسع في المدن شبكة هيبوداميان الأساسية في العصور الهلنستية بشكل عام (انظر الإطار أعلاه). (تمّت إضافة زخرفة سورية خاصة) تمّ توسيع المحور الرئيسي (الديكومانوس1 أو المفصلة الأكبر) بشكلٍ كبير وكانت تحيط به أقواس كي تقي المارة من حرارة الشمس، وتوفير إطار للأكشاك التجارية أو المحلات التجارية الكائنة في الخلف وإكساب المباني المدنية الرئيسية مشهدًا فخمًا. ولا يزال التأثير ملحوظًا في تدمر وعلى نطاق أكبر في أفاميا، ولكنه كان عادة متبعة على نطاق واسع في معظم المراكز الرومانية الكبرى. الاستثناء هو فيليبوبوليس (شهبا)  وهي محاولة غريبة لتأسيس مدينة نموذجية رومانية لاحقة لإحياء ذكرى سلالة الإمبراطور الحاكم (فيليب العربي)  المحلية.

المعابد والأعمال المدنية

توجد المعابد الرومانية في مواقع مختلفة، وفي الغالب تكون بعيدة عن المراكز السكانية والتي ربما أعادت استخدام أحجارها في عملية البناء اللاحقة. هناك العديد من الأمثلة عن الحمامات الرومانية (باراد  وشهبا  وبصرى)  ولكن يوجد القليل من الأمثلة الباقية عن المنازل. كما بقيت بعض الإنجازات الهندسية المتفرقة والمثيرة للإعجاب (مثل سد حربقة، وأجزاء من الطرق الرومانية المرصوفة بالحجارة، والطريق الروماني في باب الهوى، والجسور الكائنة شرق سيرهوس، وصهريج بصرى) الأمر الذي يشهد على الطبيعة الواسعة للتطور الروماني في هذه المقاطعة الثمينة والمسالمة إلى حدٍ كبير. وربما يكون الأمر الأكثر إثارة للإعجاب هو نمط الحراسة المنعزلة على الحدود الخارجية – المخافر الأمامية في دورا أوروبوس وسيرهوس، وكلا مدينتي الحصون من أصول يونانية. لكن مركز إنجازات روما في تحقيق الاستقرار في المنطقة هو تدمر التي تشهد أيضًا على المحاولة المكثفة و (المأساوية في النهاية)  لبناء ثقافة تمزج بين الأنماط الشرقية والغربية من مدينة معزولة عن طريق الاعتراف بالمزايا التجارية ل باكس. رومانا.2

الفترة البيزنطية

كان الموضوع الذي امتدّ من القرن الرابع إلى الخامس في سوريا هو الانتقال إلى الفترة البيزنطية بتركيزه على العمارة في خدمة المسيحية. فبغض النظر عن حصون الرصافة وقصر بن وردان وحليبية البارزة فإنّ الفترة البيزنطية تقاس إلى حدّ كبير بتنوع غير عادي من الكنائس التي تمّ منحها لسوريا على نحوٍ استثنائي. ولهذا السبب، وبالنظر إلى وفرة مواقع في هذه الفئة، يتمّ فحص التطور المعماري لأنماط الكنيسة هنا بشيء من التفصيل.

الكنائس

بسبب حقيقة كون سوريا مفترق طرقٍ للتأثيرات المتنوعة، فإن أكثر من تقليد معماري انعكس في تطور الأساليب المعمارية للكنائس المسيحية المبكرة. وتشمل تلك التقاليد: نموذج البازيليكا الرومانية، والمتكيّف مع الاستخدام الديني، والعمارة المحلية، والأنماط الشرقية بما في ذلك القبة العُلوية، وعمارة المعبد. كما يجب أيضًا أخذ الاختلافات الإقليمية بعين الاعتبار ، والتي غالبًا ما تعكس مدى توفر المواد. وبعد القرن الرابع كانت تعكس الانقسامات الطقوسية والعقائدية داخل التسلسل الهرمي المسيحي والتي أثرت على الممارسة المعمارية.

الأنماط الأولى

كانت أقدم الكنائس التي نملك دليلاً عنها منازل خاصة تمّ تحويلها إلى كنائس. مثال دورا أوروبوس وهي المثال الأكثر شهرة (تمّ نقل الكنيسة في ثلاثينيات القرن الماضي إلى متحف في جامعة ييل) والمثال الأقدم (أوائل القرن الثالث – قبل أن يعترف قسطنطين بالكنيسة رسميًا. فابتداءً من القرن التالي أخذ المنزل يتحول إلى كنيسة في قرية “هزقيبقر”.

أصبح التقليد فيما بعد أكثر تنوعًا، حيث لعب توافر مواد البناء دورًا كبيرًا في التباينات الإقليمية. ففي الشمال كان من السهل استنباط الحجر الجيري المحلي الكلسي. وعادة ما اتبعت التصميم الأساسي تقليد البازيليكا. وفي حوران كان البازلت المحلي ثقيلاً وغير مطواع، إذ فرض نقص الخشب والحاجة إلى تحويل البازلت إلى ألواح أسقف لا يزيد طولها عن 2 إلى 3 أمتار نطاقًا مختلفًا من الاحتياجات الفنية بما في ذلك القوس المستعرض وتصميم القبة المركزية. الأمر الذي أدّى إلى ظهور تقليد محليّ مبتكر يختلف عن تقليد الشمال وبعيد كل البعد عن تقليد أيّ مركز حضري كبير مثل أنطاكية.

تطور تصميم الكنيسة

تمّ تأريخ معظم الكنائس الأولى في سوريا، الأمر الذي يسهل تتبع الاختلافات في تصميمها. وحتى أن بعض الكنائس سجلت اسم المهندس المعماري الذي قام ببنائها. وبحلول نهاية القرن الرابع بدأت الكنائس السورية تبدي إمارات على تجارب جريئة ،كانت جليّة في أجزاء أخرى من عالم البحر الأبيض المتوسط. ففي قلب لوزه أصبح التصميم كبير الحجم لدرجة نشأت معها الحاجة إلى حيل معمارية جديدة خاصة للسماح بفتح الممرات الجانبية الخاصة بالكنيسة. فحيثما كان صفٌ من الأعمدة سابقًا يفصل ممرات الكنيسة الخارجية عن الصحن المركزي، كان يتمّ استبدال ذلك بطبقات قصيرة والتي تدعم أقواسًا واسعة، أضيفت إليه حيل إضافية مثل الممر المثير الذي يطوق صحن الكنيسة والأبراج الصلبة التي تحيط بالمدخل الغربي (الفكرة التي لها سوابق في المباني الهلنستية).

كنيسة القديس سمعان

وبعد فترة وجيزة، تمّ تنفيذ مشروع ذي أبعاد ضخمة في اتجاه الشمال قليلاً في كنيسةالقديس سمعان، لإحياء ذكرى الراهب الذي أمضى الجزء الأخير من حياته كناسك على منصة صغيرة فوق عمود. انطلق الحج لإحياء ذكرى القديس سمعان بقوة كبيرة حتى قبل وفاته. ربما سعت السلطات الإمبراطورية إلى استخدامها لتحويل السكان المحليين من ارتباطهم الهرطقي بعقيدة الطبيعة الواحدة، وبالتالي أنفقوا الأموال الطائلة في المشروع الطموح – مركز حج مكون من أربع باسيليكا – والذي تمّ بناؤه في العقود الأخيرة من العقد الخامس. أعاد هذا البناء الضخم إدخال العديد من جوانب الزخرفة الكلاسيكية إلى المخزون السوري، وقد تمّ ذلك على الأرجح على أيدي مهندسين معماريين وحرفيين تمّ استيرادهم من أنطاكية أو من مناطق أبعد من ذلك.

ألهمت رحلات الحج إلى مزارات الشهداء العديد من الكنائس التي شُيدت خلال الفترة المتبقية من الفترة المسيحية في سوريا. تمثل الكاتدرائية التي تمّ تزيينها للقديس سرجيوس في الرصافة، المراحل النهائية للسلطة السحرية لتصميم البازيليكا. فمن القرن السادس يبرز ذلك التصميم و المفاهيم الجريئة التي تمّ استخدامها في الفترة التي أعقبت قلب لوزه لفصل المركز عن الممرات، عن طريق أقواس محمولة على طبقات صلبة . تمّ استخدام نفس المبدأ في كنيسة بيسوس في رويحة (القرن السادس) على الرغم من أن كلاهما يظهر ضعفًا معمارياً في التصميم الذي فشل في توفير دعم جانبي كافٍ لتثبيت الأقواس الشاهقة والمباني الدينية المحيطة بها.

المواد والديكور

قدّم استخدام الجص المزخرف والجص تشطيبًا لمعظم الكنائس مختلفًا تمامًا عن تلك التي يتمّ نقلها الآن بواسطة الحجر المرقش والملبس،  ففي الجنوب كان يتمّ تلبيس معظم الكنائس من الداخل والخارج، وفي الشمال تمّ استخدام التجصيص الداخلي وربما تطبيق اللوحات الجدارية، كما تمّ العثور على آثار فسيفساء الأرضية في بعض الكنائس وتمّ تحويلها  إلى المتاحف بهدف الحفاظ عليها. كان استخدام الزخرفة الخارجية مقيدًا في الفترة المبكرة، وفي الجنوب لم يكن المظهر الخارجي والنسب تعتبر مهمة، بسبب كون البازلت المورد المعماري والزخرفي الوحيد.  وفي الشمال تمّ نحت الحجر الجيري وتشكيله في أشكال متقنة من القرن السادس عشر فصاعدًا، إما في المخزون الكلاسيكي (سانت سيمون) أو في أمثلة متعددة من الذوق.

الكنائس الممركزة

وفي تيار مختلف ثمّة تقليد الكنيسة المركزية، وعادة ما كان يرتكز على هيكل مقبب دائري يوضع إلى الأعلى من جدران برج مربعة. وأقدم مثال مؤرخ عن ذلك تمّ العثور عليه في سوريا هو كاتدرائية بصرى التي يعود تاريخها إلى (511-2). والطريقة الأساسية لتصميم غرفة مستديرة داخل مبنى مربع هو استخدام ركن محاط بكوىً كانت قد استخدمت في العمارة الرومانية، لا سيما في بناء الحمامات (في بصرى نفسها) ولكن ترجمتها إلى مباني مسيحية هي مبادرة سورية جنوبية. وتمّ العثور على أمثلة لاحقة في جرش (القريبة في شمال الأردن) وفي القسطنطينية (كنيسة القديسين سرجيوس وباخوس (518-527) ومعمودية آيا صوفيا.

العنصر الثاني الملحوظ في تصميم بصرى هو الممرات الدائرية المركزية ، والتي تسمى تقنيًا رباعي الفصوص ذي الأعمدة. كان مصدر الحيلة أيضًا المصادر الكلاسيكية وكانت قد انتقلت بالفعل إلى هندسة الكنيسة المعمارية بحلول الوقت الذي تمّ فيه بناء كاتدرائية بصرى. وتمّ العثور على مثل هذه الأمثلة في كنيسة القديس لورنزو في ميلانو، والشهداء في سلوقية في بلاد فارس (بالقرب من أنطاكية) و (لاحقًا) في الكنائس المركزية في الرصافة وأفاميا.

وبالتالي فإنّ كنيسة بصرى تضرب جذورها واضحة في التقاليد الهيلينستية لعالم البحر الأبيض المتوسط والتقاليد المحلية لهيكل القبة المركزية. ومضى هذا الاتجاه شوطا أبعد من ذلك، على سبيل المثال كنيسة آيا صوفيا بمجرد أن تمّ حلّ المشاكل التقنية لتوسيع التصميم المركزي من خلال التطوير اللاحق للمثلثات والدعامات الطائرة لنشر الوزن الزائد الذي يضغط على النقاط الضعيفة.

ثمّة تصميم رائع آخر غير بازيليكي ألا وهو كنيسة القديس جورج في إزرع في جنوب سوريا، وهي أقدم كنيسة مستخدمة باستمرار في سوريا تعود أصولها إلى عام( 515) بعد الميلاد. وهي تختلف عن الكنائس المركزية الأخرى في أن شكلها الأساسي ثماني الأضلاع، مما يجعل مشكلة حلّ الانتقال إلى القبة الدائرية أقل صعوبة. فالشكل ثقيل وصلب، والتأثير في الداخل معتم مع قليل من الضوء الطبيعي لكن الانطباع رائع لقوة البقاء المطلقة للمبنى.

المحلي الصارخ للزخرفة المقولبة، والتي تربط إطارات الأبواب والنوافذ على طول واجهات كاملة، تشبه السباغيتي المزينة.

الأديرة

على العموم كانت الأديرة داكنة اللون وعملية أكثر، وكانت تعكس بشكل خاص الطفرة الرهبانية، التي تطورت في المناطق البعيدة عن أنطاكية بعد منتصف القرن الرابع (كان هناك ستون في المنطقة بحلول نهاية القرن السادس) ولم تكن ثمّة خطة قياسية، ولكن العناصر التي غالبًا ما كانت متضمنة كانت بمثابة كنيسة صغيرة، برج رهباني  مكون من مكان للنوم يصل ارتفاعه إلى ثلاثة طوابق وقبر جماعي، وعادة ما كان يتمّ ترتيبه حول الفناء.

أدّت الفتوحات الإسلامية في الثلاثينيات من القرن السابع إلى توقف بناء كنائس جديدة في سوريا ولعدة قرون، على الرغم من أنّ عددًا قليلاً من الكنائس تمّ تحويلها لاحقًا لتصبح مساجد (على سبيل كاتدرائية القديسة هيلين- حلب- المسجد الكبير) ومع ذلك بقيت العديد من الكنائس الأخرى قيد الاستخدام وتمّ تكييفها وتوسيعها باستمرار على مرّ القرون (مثل كنيسة إليان في حمص ودير مار موسى بالقرب من النبك)، لكن معظم الكنائس والكاتدرائيات الأكبر المستخدمة الآن تمّ تشييدها خلال القرنين التاسع عشر والقرن العشرين.

أعمال جوستنيان الدفاعية

كان الشغل الشاغل والمتزايد في الفترة البيزنطية بعد القرن الخامس، هو الدفاع عن سوريا ضد التهديد الفارسي القادم من الشرق، فبعد فترة من الهدوء النسبي في القرن الخامس، وبحلول زمن حكم جوستنيان (527-565)، أدت محاولة وقف التوغلات ضد الإمبراطورية على عدة جبهات، إلى تسخير كبير للموارد في سوريا، حيث كلّف جنراله “بيليسانوس” بخطة إستراتيجية بذلك الخصوص.  تظهر النتائج اليوم في بقايا حصن جوستنيان أو برنامج إعادة التحصين لاحتواء التهديد الفارسي المتجدد – مجمع القصر / الثكنات في قصر ابن وردان، ومركز الحج المحصن في الرصافة، والقلعة في حليبية والتي ما تزال تحتفظ بمركز مراقبة في منتصف نهر الفرات. كما تمّ تحديث عدد من المراكز الأخرى خلال نفس الفترة بما في ذلك باليس (مسكنة) وقصر الحير الغربي وتدمر وسيريسيوم وأندرين و نبي حوري.

العمارة الإسلامية

ازدهرت العمارة الإسلامية في سوريا بزخم استثنائي، خلال عقود تأسيس الإمبراطورية الأموية، فليس ثمّة نصب تذكاري واحد في سوريا ينافس الجامع الأموي في قدرته على تلخيص الطاقة والتيارات المتقاطعة لعصر ما بالطريقة التي يلخصها هذا المبنى، بسبب جميع العيوب التي ظهرت عليه من خلال عمليات النهب اللاحقة التي تعرض لها، والزلازل والحرائق وعمليات إعادة البناء.

خطط الكنيسة السورية البيزنطية

بحلول أوائل القرن الخامس، كانت عناصر خطط الكنيسة النموذجية في شمال سوريا متوفرة إلى حد كبير منذ الذروة التي بلغتها المسيحية. يتألف التصميم، والذي كان يتكرر في عشرات القرى الواقعة في منطقة “المدن الميتة”، والذي يتكون من مخطط البازيليكا  وانتهاء صحن الكنيسة إلى الشرق بشبه قبة ترتكز على الحرم الموجود في حنية نصف دائرية. وعلى جانبي الحرم كانت توجد غرفة صغيرة – في الشمال، غرفة الشماس أو غرفة المقدسات وملابس الكهنة/ حجرة الاجتماعات الكنسية وغرفة جنوبية غالبًا ما تستخدم كغرفة شهداء تستخدم لتبجيل رفات القديسين. (وقد تدعم إحدى هذه الغرف برجًا). كان السقف فوق الصحن يتكون عادةً من الخشب المائل، وكان يتجنب الحجر المقوس أو القباب الموجودة في الجنوب. وفي العديد من الكنائس، كان يحتل مركز الصحن المقدس على شكل حذاء حصان، وهو منصة مرتفعة مخصصة للمحكمة، ربما كان الغرض منها خدمة الاحتفال بطقس القربان  الذي له صبغة عالمية.

غالبًا ما كان مدخل الكنيسة يمرّ عبر مدخل على الجانب الجنوبي، خاصة في الكنائس المبكرة. وفي وقت لاحق كان هناك اتجاه لتطوير الجبهة الغربية برواق عريض أو دهليز ضيق بين الأبراج المجاورة. كانت التقاليد الاجتماعية تنصّ في العديد من المجالات (ولكن بشكل خاص في جوار أنطاكية حيث كانت تسود أرثوذكسية أقوى) على الفصل بين النساء والرجال، حيث كان يقتصر النساء إما على الطرف الغربي للكنيسة أو في الرواق المنفصل فوق صحن الكنيسة.

على الرغم من أنه كان عبارة عن توليفة من التأثيرات المعمارية والزخرفية القائمة، فقد كان الغرض الرئيسي منه هو أن يكون شاهدًا على أمجاد الدين الجديد، وإضفاء الطابع الإسلامي على الأشكال القديمة في هيكل يحمل الجدة والروعة . وحقيقة أنّ العديد من الأجزاء (الهيكل الخارجي، والفسيفساء، وقاعة الصلاة البازيليكية وقبة الكنيسة الجانبية) تمّ اقتباسها من مخزون قديم هو جزء من الهدف الواعي للمبنى الذي يستوعب الماضي في نظام جديد.

الأمويون

بصرف النظر عن المسجد الأموي، فإنّ الهندسة المعمارية في القرون الإسلامية المبكرة هي إلى حدّ كبير بمثابة لغز لا تتوفر سوى القليل من القرائن لفكّ رموزه. طمس العباسيون معظم قبور وقصور أسلافهم، وسعوا لجعل سوريا أرضًا قفر. ولحسن الحظ أغفلوا طمس الدليل على القلاع الأموية أو المستوطنات النموذجية الكائنة في المناطق الصحراوية النائية، كما هو موضح في موقعين: قصر الحير الشرقًي والغربي وفي بقايا الآثار المتفرقة في جبل سيس. والجانب الأكثر إثارة للاهتمام في هذه المشاريع العلمانية ليس خطتها الأساسية، والتي مشتقة إلى حدّ كبير من النماذج العسكرية الرومانية، ولكن الطبيعة الدائمة للزخرفة، وكونها أفضل العينات المتوفرة لدينا من مخطط البناء الإسلامي الزخرفي.  يبدو أنّ الشغل الشاغل كان تغطية كل جزء من السطح  بذخيرة مضطربة من الألماس والأقواس المزيفة، والحلى المعمارية ورديّة الشكل، وأفاريز ومثلثات مستوحاة من كل تقليد معروف محليًا بدءًا من الرومان إلى الساسانيين، وهو تأثير يمكن رؤيته بسهولة على واجهة قصر الحير الغربي، التي أعيد بناؤها والتي تشكل المدخل الرئيسي لمتحف دمشق الوطني.

العصر العباسي

بما أنّ العباسيين تبنوا سياسة متعمدة واعية بتجاهل سوريا، فإنّ ثقافتهم غائبة عن المدن الرئيسية، والاستثناء الأبرز هو الرقة التي أعيد استعمارها في محاولة لإحياء دور الجزيرة المركزي المتمثل بربط قرني الهلال الخصيب.  وعلى نحو مماثل، فإنّ قرونًا من الفوضى والتي امتدت من القرن التاسع إلى القرن الحادي عشر، قد تسببت في القليل الذي نجا ما عدا قليل من بقايا الحصون السلجوقية، والتي تمّ دمجها في عمليات إعادة البناء اللاحقة. وأول مثال بارز على ظهور نمط معماري سوري جديد هو مئذنة الجامع الكبير في حلب. ولكن فقط في أواخر العصر الأيوبي (خاصة مع ظهور المدرسة – انظر المربع في الصفحة التالية) تمّ العثور على مجموعة كبيرة من المباني التي بقيت سليمة.

الصليبيون

تشهد سوريا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر على شدة الصراع الكبير الذي كان محتدمًا بين الصليبيين والسلالات الإسلامية، التي أسست في سوريا القواعد الأمامية ضد الوجود الفرنجي.

قَدِم الصليبيون وهم يحملون في جعبتهم القليل من التقاليد الفعّالة للتحصين باستخدام الحجر، ولكن في غضون عقود أسّسوا مجموعة هائلة من القلاع استناداً على إرث أسلافهم البيزنطيين، وأضافوا إليها أفكارًا جديدة تمّ تجريبها في فرنسا في القرن الثاني عشر في نفس الفترة.  حافظت سوريا في ظلّ الحكم الفرنسي فعليًا على أحد أعظم الأمثلة عن التحصينات التي تعود للعصور الوسطى “قلعة الحصن”  والتي نادرًا ما  يضاهيها حصن آخر في دقة التصميم والبناء. والأمثلة الأخرى مثل قلعة صلاح الدين تكشف عن أصلٍ أكثر تنوعًا ،ولكن القليل منها يضاهي ثبات تحصينات قلعة المرقب الضخمة والكالحة، والتي تطلّ على المتوسط وتحرس الخيط الواهي الذي يربط أوروبا بالأرض المقدسة.

النهضة الإسلامية

حفّز الصراع الكبير بين أوروبا والشرق على تطوير العمارة العسكرية العربية، والتي هي إلى حدّ كبير تكيّف سوري للعمارة العسكرية التركية والفارسية والمحلية، فأعيد بناء أسوار دمشق وحلب في ظل حكم الزنكيين والأيوبيين، وكانت النتيجة الأكثر إثارة هي البوابة الأثرية لقلعة حلب والتي تمّ بناؤها في عهد الظاهر غازي، أوائل القرن الثالث عشر والتي ما تزال تمثل المثال الأسمى للطراز العربي.  وكان الحصن في بصرى يقع بالقرب من المسرح الروماني المحيط  ذي الأبراج والمعاقل. كما يمكن العثور على العمارة العسكرية العربية على نطاق أصغر في حارم وقلعة الرحبة وقلعة نجم وقلعة جابر والقلعة في دمشق (قلعة دمشق الأسوار الشماليةـ

المئذنة).

أصل المئذنة هو موضع تنازع بين الخبراء، حيث تعطي الحسابات وزناً مختلفاً للأبنية التي سبقت المئذنة والتي وضعتها أبراج الكنائس المسيحية أو المنارات أو الأبراج الفردية، ومن أوائل استخدامات البرج في الجامع كان في الجامع الأموي بدمشق، وانصرمت عدة قرون قبل أن يصبح ربط الأبراج بالمساجد ممارسة ثابتة. فخلال فترة التوسع الشيعي (القرن العاشر إلى الحادي عشر) لم يكن برج المسجد محبّذًّا، ولكن مع عودة ظهور الأرثوذكسية السنية تحت تأثير السلاجقة، عادت المئذنة إلى الوجود بقوة متجددة. وبرج الجامع الكبير في حلب الذي يعود بناؤه لأواخر القرن الثاني عشر والذي تمّت الإشارة إليه سابقًا، هو مثال صارخ عن تمكّن الأسلوب الإسلامي المحلي الواثق. ومنذئذٍ توجد المآذن في كل نمط افتراضي يمكن تصوره تقريبًا في سوريا، من التنوع المملوكي الغني إلى البساطة الشديدة للمخطط العثماني والتي غالبًا ما انتشر في تشكيلات متعددة.

المواد والزخرفة

كانت المواد المستخدمة في البناء تعتمد مرة أخرى على الموارد المحلية، إذ كان الطوب شائعًا في المناطق المتأثرة بتقاليد بلاد ما بين النهرين (الرقة وقلعة جعبر) لكن البناء الحجري كان أكثر انتشارًا في أماكن أخرى. توجد الأقواس المدببة في وقت مبكر يعود إلى القرن الثامن، وأصبحت عالمية تقريبًا بحلول القرن العاشر باستخدام قطع اللبن الصغيرة والتي كان يتمّ التلاعب بها بإتقان، بهدف التأثير الزخرفي الذي تمّ تطويره إلى درجة عالية في فترة الزنكي. كان الدبش المبني بالملاط هو التقنية الشائعة بالنسبة للأعمال المعمارية غير المتميزة كفنادق القوافل.

المدرسة

بلغ الترويج للأرثوذكسية السنية (والذي بدأ في أواخر القرن العاشر) ذروة طاقته الجديدة في ظل حكم الزنكيين والأيوبيين (القرنان الثاني عشر والثالث عشر). وشهد هذا العصر إدخال المدرسة، وهي مدرسة في المسجد كان ينشئها  زعيم مدني أو سياسي لتعزيز التفسير أو الفقه الإسلامي. كان يتمّ تمويل  المدرسة من خلال أملاك الوقف وعادة ما يكون الدخل من قطعة أرض أو بستان أو سوق أو حمام. (كانت المؤسسة المقابلة للصوفيين هي الخانقاه )التي لم يبق منها سوى القليل في سوريا الحديثة). تمّ تشييد( 82) مدرسة في دمشق وتمّ تشييد (47) مدرسة في حلب خلال هذه الفترة ، لكن تمّ العثور على المثال الأول عن المدارس في الإضافات الملحقة بمسجد مبرك في بصرى الشام.

اتبعت المدرسة في شكلها الكلاسيكي (والذي اشتق من بلاد فارس في القرن العاشر) مخططًا صليبيًا مكونًا من أربعة أواوين تقابل فناءًا داخليًا، لكن لم يكن ثمة التزام صارم بهذا الطراز في العديد من الطرز المختلفة والتي تمّ تطويرها في سوريا. إذ تضمنت الأمثلة المبكرة غرفًا مخصصة لمعيشة الطلاب والأساتذة على الرغم من أنه في الفترة المملوكية ، كانت أقسام المعيشة عادة في مبنى تجاري منفصل كان يدرّ دخلًا للمؤسسة الدينية. بحلول ذلك الوقت كانت المدرسة التي تستخدم كسلاحٍ دعاوي قد لاقت إهمالًا. وصارت المدرسة الآن تميل  لأن يكون لها وظيفة مدنية أوسع إذ كانت تعمل كمسجد جماعي للحي، حيث تمّ استبدال الموضة السابقة لمسجد جماعي مركزي كبير الآن بجوامع أحياء في جميع أنحاء المدن.

على الرغم من وجود المدارس على شكل ما في معظم أرجاء العالم الإسلامي، إلّا أنّ انتشارها في سوريا كان ملحوظًا بشكل خاص. ومع ذلك، كان حجم المدرسة صغيرًا نسبيًا وموقعها منفصلًا، وربما يعكس ذلك حقيقة أن أفراد النخبة الأكثر ثراءً هم الذين كانوا يمولونها في كثير من الأحيان بل القادة المحليين أو زوجاتهم أو أمهاتهم وأسباب أصيلة تتعلق بالتقوى وليس بالمكانة.

إنّ إحياء المدرسة كما هو الحال في العصر العثماني يتجلى في سوريا من خلال وعي بالأهداف السامية لمسجد التكية.

 

تمّ تبنّي القباب في سوريا والتي تمّ استقاؤها من مجموعة متنوعة من المصادر، ليس أقلها التقاليد المحلية التي تعود إلى العصر المسيحي البيزنطي، حيث تمّ استخدام التقنيات الرومانية والفارسية . وقد انتشر المفهوم الأساسي للقبة المرتكزة على المكعب في استخدامات متنوعة، تتراوح بين  أنظمة غرف الصلاة المتعددة في المساجد الكبرى والأمثلة المنفردة وغير المصنفة التي تستخدم كمقابر بسيطة لرجال يتصفون بالقداسة.

بدأ البناؤون في العصر الأيوبي باستخدام المقرنصات كأداة لتحويل القبة التقليدية أو المعلقة، إلى وسيلة منسجمة أكثر تعقيدًا ومعمارية،  بهدف التوفيق بين قاعدة القبة الدائرية ومخطط الجدران الداعمة المربعة، وتمّ استخدام المقرنصات أيضًا كزخرفة منمّقة حول البوابات، والتي تمّ تطويرها لأول مرة بطريقة متقنة في سوريا في القرن الثاني عشر، وربما من خلال تأثير بلاد ما بين النهرين والذي تمّ نقله عبر شمال سوريا. وعلى نحوٍ مماثل فإنّ استخدام الأعمال الحجرية المخططة أو البلقاء (والتي تتناقض مع الأشرطة السوداء والبيضاء / الكريمية) التي ظهرت في الأصل في سوريا في القرن الثالث عشر، ومن هناك أصبحت جزءًا لا يتجزأ من ذخيرة الطراز المملوكي. وغالبًا ما كان الخط العربي يستخدم في أنماط منمنمة للغاية، وعادةً بهدف التأثير الزخرفي كأطواق حول أو فوق المداخل أو النوافذ. كانت الزخرفة بالحجر المنحوت أو الرخام المرصّع أو الجص محدودة على نحو ملحوظ ، حيث اقتصرت على أماكن مثل النوافذ والمداخل وشرائط الكتابة أو على المحراب، وبشكل عام تجنبت العمارة الإسلامية ما قبل المملوكية في سوريا الإفراط في التأثير الموجود في أماكن أخرى، عن طريق استخدام الزخارف المتعددة والأشكال الملتوية.  لقد كانت المباني تُبنى عادة بناءً على منظور إنساني، ولا تسعى للهيمنة على محيطها كما هو الحال في بعض مشاريع القاهرة الأكثر هيبة، فاقتصرت الزخرفة على عدد قليل من الأسطح أو المساحات، وكانت الزخرفة عادة مقصورة على الحيل المعمارية المتداخلة أو الفسيفساء أو تأثيرات المقامات. استمر بقاء التقليد الهلنستي في الزخرفة خلال معظم الفترة الإسلامية، نظرًا للتأثير المستمر للجامع الأموي على الذخيرة الإبداعية السورية.

المباني المتخصصة

تصنف المشاهد في سوريا، والتي هي أصلاً ظاهرة شيعية على شكل مؤسسات تذكارية مكرّسة لأحفاد النبي، على أنها أبنية تقليدية، فبحلول القرنين الثالث عشر والرابع عشر كان هناك مشهد الحسين ومشهد الشيخ محاسن القريب.

أشكال بناء أخرى بارزة نجت من كوارث الزمن على نحو يمكن معه التعرف إليها هي مشفى المدرسة الطبية (ماريستان نور الدين في خانات دمشق والحمام العام. (لم يحتفظ أي من هذه الأبنية الأخيرة بزخارفه الأصلية نظرًا لعمليات إعادة البناء اللاحقة، لكن يمكننا العثور على أمثلة جيدة حافظت على الكثير من المخططات الأصلية) كحمام نور الدين(  خانات دمشق) وحمام نصري (في جنوب دمشق.

الفترة المملوكية

أصبح النمط السوري الشعبي أكثر تبعية لذوق القيادة الكائن في القاهرة خلال الفترة المملوكية، حيث كان الحرفيون السوريون أقلّ حرية في اختيار ما يحلو لهم من بين مجموعة الأساليب التقليدية المحلية، وكانوا واقعين تحت ضغط أكبر لتقليد ذخيرة المماليك الأكثر تباهياً بطريقة متحيزة، وبالتالي إقليمية.  فعلى العموم أحضروا القليل من الأشياء الجديدة أو المبتكرة إلى المدينة، مفضلين في فترة نهاية حكمهم الحصول على الأشياء الجميلة الرائعة، فلقد تمّت التضحية بكل شيء من أجل المظاهر الخارجية، ولم يكن النصب التذكاري أكثر من دعم للزخرفة المبهرجة.

الفترة العثمانية

قدّم العثمانيون والذين اعتمد أسلوبهم إلى حدّ كبير على تلك الأساليب السائدة في تركيا، لفترة من الوقت تأثيرًا مظهرًا مع إظهارهم تفضيلًا للأشكال الأكثر نظافة والأكثر بساطة، وعلى وجه الخصوص في المآذن. ولكن كانت معظم الأمثلة على المباني العثمانية في سوريا أيضًا إقليمية من حيث الحجم والإلهام.  وكانت المشاريع المنقولة جزئياً من السياق الحضري الاستثناءات في مجال المباني العامة، على سبيل المثال مسجد التكية بدمشق والذي قام بتصميمه مهندس البلاط الشهير) سنان)

عادت التكية والتي هي خليفة الخانقاه المملوكية، لتقليد سلسلة الحجيرات التي تحيط بفناء يوجد به جناح مركزي لإعطاء الدروس.

الخانات

كانت تكمن أهمية سوريا بالنسبة للعثمانيين في تعزيز فرص التصدير ودورها التجاري، الذي كانت تلعبه في تجارة بلاد الشام، وكذلك دورها في توفير وحماية رحلة الحج السنوية من آسيا الصغرى إلى مكة . بقي من الفترة العثمانية على قيد الحياة الأسواق والخانات (المستودعات والنُزل) في دمشق وحلب وفي سلسلة بيوت القوافل (الإقامة الليلية للقوافل المتنقلة) التي كانت تنتشر على طول الطريق الذي كان يتجه من الشمال إلى الجنوب.  ولا يزال من الممكن رؤية بيوت القوافل في مراكز مثل اللاذقية ومعرة النعمان وأفاميا، حيث تمّ تحويلها إلى متاحف . لكن يشكل العديد من الأسواق والخانات جزءًا لا يتجزأ من بنية المدن التجارية التحتية، وغالبًا ما يكون من الصعب اختيار المعالم العملية التي تمّ وصفها في جولات مشينا في عالم عمل الأسواق الحديثة اليومي.

توجد أفضل الأمثلة على أسواق العصور الوسطى الإسلامية في حلب، حيث تحوي المدينة المحاطة بالأسوار على أكثر أسواق الشرق الأوسط نشاطًا.  ولا تزال الأساليب ذات القيمة العالية تتبع نمط الشبكة الهلنستية (مع أنه لحق بها العديد من التعديلات اللاحقة وتضييق المحاور). يعود تاريخ البناء الحالي لمناطق السوق المقنطرة إلى الفترة الواقعة بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر.

كان الخان العثماني أضخم نطاقًا بكثير من الخانات في العصر المملوكي حيث كانوا يتركون الفناء المركزي مشرعًا للسماء. وبشكل عام كان الفناء ـ حيث كان يتمّ تخزين البضائع وكانت تتمّ المقايضةـ مغطًى في الفترة العثمانية أصلًا إما بقبة واحدة أو قبتين أو سلسلة من القباب المحيطة بقبة مركزية، كما هو الحال في خان أسعد باشا المثير للإعجاب في دمشق. تمّ تزويد غرف التخزين الواقعة حول الفناء بغرف أخرى منفصلة عن صالات العرض العلوية، والتي كانت غالبًا ما تستخدم لإيواء التجار المسافرين. وفي حين أن بعض الديكورات تُظهر أصولًا سورية، فإنّ التصميم الأساسي للقاعات الأكبر حجمًا كان مستمدًا من أسلافهم العثمانيين الحضريين.  ومما يدعو للأسف أنّ العديد من هذه المساحات المقبّبة مكشوفة الآن، حيث تعرضت الأسقف لأضرار ناجمة عن الطقس والزلزال، لكن يمكن رؤية بعض من حجم هذه المعابد التجارية الافتراضية، في عمليات الترميم التي جرت لخان أسعد باشا في الفترة الأخيرة.

 

 

المنازل

كانت الفترة العثمانية في مجال المساكن الخاصة أيضًا أكثر حذاقة، فبالنسبة لعائلات النخبة التي كان العثمانيون يفضلونها، ألهمت فرص الفترات المتعاقبة لوالي أو لحاكم المدن الرئيسية، بناء المنازل على نطاق واسع، إذ يُعتبر قصر العظم في دمشق، ونظيره في حماة والذي هو الآن متحف المدينة أو منازل حي الجديدة في حلب، أمثلة جيدة على مزج الممارسات السورية والتركية في العمارة المحلية، مع إيلاء التركيز المشترك على الفناء الداخلي المزود بنافورة وتكييف الإيوان، كمنطقة استقبال مفتوحة عادة ما تكون في جنوب الفناء مع غرفة استقبال شتوية (قاعة) والتي تكون في الشمال). وما تبقّى من الطابق الأرضي يشمل عادة مكتبًا وغرفًا / مطابخ خدمة وكانت غرف النوم تقع في الطابق العلوي. واتبعت جميع أنماط العمارة المحلية النمط العربي المكون من واجهة مخطط إلى الشارع، مزوّد بجدران عالية بما يكفي للحفاظ على الخصوصية من خلال النوافذ الموجودة في الطابق العلوي، والتي أصبحت شائعة نسبيًا في أواخر القرن التاسع عشر.

كانت توفر منازل المسلمين الأكثر ثراءً مكانًا منفصلًا (السلملك) لاستقبال الزوار الذكور منفصلاً عن القسم العائلي (الحرملك).

القرن العشرون

ينتهي بحثنا  ببداية الفترة الفرنسية، وشهدت تلك الفترة استمرار المحاولات خلال العهد العثماني المتأخر لتحسين المرافق العامة وفتح المدن أمام المواصلات العامة، وتطوير أحياء جديدة خاصة بعمليات الحكومات واحتياجات قوات الدفاع. ولحسن الحظ، تمّ إنجاز الكثير من هذا التطوير مع إهمال المدن الأخرى التي كانت تخترق المراكز المحاطة بالأسوار أو بالأحرى تركها تتلاشى في كثير من الأحيان، ولحسن الحظ، تمّ تنفيذ الكثير من هذا التطوير على حوافّ المدن الأخرى مع الحفاظ على المراكز المحاطة بأسوار (أو بالأحرى تركها تتلاشى في كثير من الأحيان)،  بينما تمّ افتتاح المرافق الأحدث في ضواحي الحدائق التي ستظل تضفي روعة وإحساسًا بالرحابة على دمشق وحلب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى