نساء كرديات غيّرن التاريخ
“ الجزء الأول “
جيهان مصطفى
مقدمة
قدم لنا التاريخ قصصاً لنِساء قدّمن الكثير للإنسانية، فكانت رؤيتهن أعمق وأوسع في إحداث تغيير في عالم السياسة والاقتصاد والعلم والبحث والتاريخ ومجالات أخرى، وبعضهن أصبحن نماذج يحتذى بها، وتحولن إلى مصدر للإلهام في يومنا.
لقد لعِبت النساء الكرديات تقليدياً أدواراً هامة في المجتمع والسياسة الكردية، واختلف الوضع المعاصر للمرأة الكردية اختلافًا كبيرًا بين البلدان التي عاش فيها الكرد (تركيا، سوريا، العراق، إيران وأرمينيا) وغيرها نساء لن تنساهن ذاكرة الشعوب، وخلدهن التاريخ بصفحاته بفضل إنجازاتهن التي غيرت مجرى حياة المرأة، فأقل ما يمكن القول عنهن أنهن غيرن التاريخ وسطرن أسماءهن بين أعظم النساء اللواتي عرفها العالم.
ذُكر في الرحلات والمذكرات والكتابات التي خطتها أقلام الرحالة والسواح والتجار الأجانب، الذين مروا بأرض كوردستان دور وفاعلية المرأة الكردية، حيث دونوا ذلك بضمير حي، ويؤكدون على تلك الحقيقة القائلة إن المرأة الكردية أنموذج للمرأة الشرق أوسطية، فهي أكثر حرية و تحركاً من غيرها، ومناضلة تخدم جنباً إلى جنب الرجل في كل الميادين، وقلّ نظيرها في العالم كله في القتال إلى جانب الرجال.
واستطاعت المرأة الكردية عبر التاريخ أن تكون صرحاً ومنارة تذكر وتنير للنساء طريقاً يهتدين به، فكانت الشاعرةَ والأديبة والملكة والحاكمة، وأيضًا المحاربة والحكيمة، ففي صفحات التاريخ ما تزال هناك نساء شهرتهن تذكر إلى يومنا هذا.
إن العديد منهن كسرن أبواب التاريخ، وتمكنّ من الولوج به، حيث أعلن الكفاح بكلا وجهيه الثقافي والعسكري، ليتركن بصمات محالٌ محوها؛ وتحدين أشد العقبات والضغوطات، فالأوابد الأثرية والمخطوطات ما زالت شاهدة على تلك الشخصيات، فكانت المحاربة والمناضلة، وأيضا الشاعرة والكاتبة التي التحم قلمها مع نضالها، لدرجة أن بعض المستشرقين لم تستطع أقلامهم غضّ البصر عنهن أو تجاوزهن، ناهيك عن القصائد والقصص التي حيكت وطرزت من قبل العديد من الكتَّاب والأدباء.
ومن الشخصيات النسائية اللاتي أثرن في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية
1- الشاعرة والمؤرخة الكردية ماه شرف خان المعروفة بـ (مستورة كردستان)
كانت ولادة الشاعرة الكردية ماه شرف خان المعروفة بـ مستورة الأردلانية أو “مستورة الكردية”، سنة 1805م كبرت وعاشت في مدينة سنندج، عاصمة الإمارة الأردلانية في إيران، في فترة حكم أمان الله خان، والد خسرو خان. عرف عنها شغفها بالتاريخ إلى جانب كتاباتها في الشعر والعقائد. وتعتبر أول شاعرة ومؤرخة كردية.
تعود أصول (مستورة) إلى عائلة ارستقراطية، وكان والد مستورة (أبو الحسن بك)، يكرس اهتماماً كبيراً لتربية أولاده، وكانت ابنته الكُبرى (ماه شرف)، موضع فخره وحبه البالغ، وكثيراً ما كانت ترافقه في زياراته للمناطق الأثرية والعشائر، فتصغي لقصص وأساطير وسَّـعَتْ من آفاق خيالها.
وكان جد (مستورة) من طرف والدها (محمد آغا)، أحد وجهاء البلاد الكبار، وكانت حياته الطويلة مليئة بالأحداث، وظل لمدة نصف قرن في فترة حكم أربعة أمراء أردلانيين.
وفي عمر 21 عاماً تزوجت “ماه شرف” من الأمير /خسرو خان / الذي استلم حكم الإمارة الأردلانية عام 1826م، وكانت تقوم بمرافقة زوجها في أعماله وزياراته لتَفَقُّد القلاع والآثار التاريخية، والرعية، والاستماع إلى حكاياتهم، وشؤون حياتهم المختلفة، مما مكَّنها وساعدها من تأليف كتابها التاريخي “تاريخ أردلان”، المصدر المهم لدراسة التاريخ الكردي في تلك الحقبة.
وقد ساعدت البيئة الثقافية والأدبية وازدهارها في عاصمة الأردلانيين، “سنندج” لكتابة وتدوين التاريخ، بإشراف عدد من المؤلفين اللامعين في مجالات العلم والأدب، وماه شرف خان بدورها مارست كتابة التاريخ وبرعت فيه، واشتهرت كشاعرة عُرفت في قصائد الغزل والرثاء، كما كانت خطاطة بارعة، فجمعت في شخصيتها الجذابة بين الأصالة والنبل والنبوغ وتعدد المواهب والاهتمامات.
ديوان (مستورة)، والذي يتضمن (20) ألف بيت كتب باللغتين الفارسية والكردية، وتم جمع وطبع وإصدار قصائدها بالفارسية في العام 1926، تحت عنوان (ديوان ماه شرف خانم كردستاني – مستورة). وبعد عشرين عاماً، أي في 1946، تم طباعة كتاب (تاريخ أردلان)، من تأليفها أيضاً، الذي ضم تفاصيل واسعة عن سيرة حياة مستورة وعائلتها.
إن المهتمين والدارسين لشعر مستورة يقولون إنها تستوحي أفكار أشعارها من تحولات الحياة في مداراتها الكثيرة، مازجة بين الحلم والرؤية، في متخيل رومانسي، مفعم بنفحات روحها الهائمة، ويمكننا اعتبار ديوانها، شهادة نصر للأنثى في خِضم مجتمعٍ لا صوتَ يعلو فيه على صوتِ الرَّجُل.
والتعبير الأمثل عن مدى ما تختزن في داخلها من رقة أنثوية وإنسانية، وتدفّق في المشاعر والأحاسيس، يكمن في قصائدها الغزلية، حيث تتقطع الجمل والتراكيب كاللهاث، محدثة موجات متكررة من المناجاة والتأمل والمونولوج الداخلي، ويبدو ذلك جلياً وهي تخاطب شريك حياتها الفقيد بأبيات كهذه:
وحدي و بعيون خسرو …. أتأمل الربيع
أروي بدموعي الزهور …. وقدمَي المكسورتين
ووجنات التهبت آهات …. يضحك لها الشامتون
وتتوجع الأشجار ….. فحتى العشب في الصباح يبكي لكثرة غيابك
وكان الرصيد الثقافي والروحي في تجاربها يعتمد على ما كان سائداً في عصرها من شعر كردي وفارسي، وثقافة مختلطة بطابع شرقي، إذ تلقت علومها عن أشهر علماء عصرها، كما تبين من خلال سيرتها الواردة في كتاب “مجمع الفصحاء” لمؤلفه (رضا قلي خان هدايت)، مما مهد لها ذلك الارتقاء إلى منزلة رفيعة نالت بها حظوة كبيرة لدى العلماء والشعراء، فالشاعر الكبير (مولوي)، يقول فيها في قصيدة له:
“شمسُ الحُسنِ والدَّلال، جالسة على عرش ملكوت الطُّهرِ والعفَّة، تفيضُ دفئاً ونوراً على الجميع”.
فالشاعرة والمؤرخة؛ مستورة أردلاني تركت إرثاً غنياً في القرن الثامن عشر، وكانت صاحبة القلم الذي كسر القيود الذهنية في مجتمع ذكوري بكل تفاصيله، وعندما أرّخت بلادها في كتاب أسمته (تاريخ أردلان) ذاع صيتها أكثر فأكثر، لشدة حسّها القومي.
وصفت رحلتها المؤلمة ببعض كلمات لدى ترحيلهم من بلادهم؛ أمارة أردلان إلى إمارة بابان، قائلة:
لو حلق النسر فوقنا، وحدّق فينا … لسقط كل ريش جسمه.
ولو كان البدر ساطعاً في سمائنا … لهوى في أعماق الأرض.
تلك الحقبة التي عاشتها توجتها بأعمالها الأدبية، لتخطّ ديواناً كاملاً، نظمت قصائده شعراً ونثراً باللغتين الكردية والفارسية، حيث أضحت رمزاً للمرأة المثقفة والمتنورة وبالأخص المرأة الكردية، وله من الأعمال الأدبية التي شكلت زخما وإرثا ثقافيا وتاريخيا للأجيال القادمة، كتاب رسالة في العقائد، وكتاب مجمع الأدباء.
ومن المحطات الهامة في حياة مستورة أردلاني (ماه شرف خانم)، أنها تقلدت منصب وزيرة (الأندرون)، لتكون المسؤولة عن شؤون العائلة الحاكمة دوناً عن باقي نساء البلاط، إلى جانب تفقدها القلاع والآثار التاريخية برفقة خسرو خان، وكل ذلك يعود إلى اتصافها بفيض ثقافتها ومتانة العلاقة بينها وبين زوجها خسرو خان، الذي لامس فيها حرصها القومي الدؤوب في إعلاء شأن بلادها وتسلحها بالوعي الثوري، وتسخير قلمها لخدمة شعبها. ناهيك عن؛ الاستماع لأحاديث الرعية والوقوف على مشاكلهم، وبالتالي استمدت خامات موادها الكتابية من أفواههم، ودونتها في كتاباتها ولتصبح على المدى البعيد تاريخ شعب مقهور ومسلوب الحقوق.
وتتطرق في كتاباتها إلى أن بلادها تعرضت لعشرات الغزوات، وتحولت لميدان تشتعل فيها المعارك، كما عاث الأعداء فيها نهباً وتخريباً طال كافة معالمها، ولم يستثنَ علماءُ وشعراء وتجار بلادها من البطش، بغية إمحاء آثار حضارتها، لكن تلك الحضارة غزلت في قصائد أشهر نسائها، وغدت منارة للأدب الكردي الثوري نسجتها أنامل امرأة كردية صاحبة أدب ثوري مؤرخ، لتنال لقب لؤلؤة الشعر الكردي بجدارة.
ويُروي أن الشاعرة مستورة نظّمتْ حوالي عشرين ألف بيت شعر، ضاع أكثره، ولم يبق منه سوى ثلاثة آلاف بيت بالفارسية، وباللهجتين الكرديتين السورانية والكورانية.
كانت وفاة الأمير خسرو خان عام 1835 م صدمة عنيفة للشاعرة، إذ شعرت بأنها فقدت بموته أعز وأفضل صديق ومعلم، إذ كان ينظم الشعر بالفارسية، وكان هذا من أقوى أسباب العشق والهيام بينهما، ولعل قصائدها الغزلية، هي التعبير الأمثل عن مدى ما تختزن في داخلها من رقة وإنسانية، وتدفق في المشاعر والأحاسيس.
توفيت الشاعرة والمؤرخة مستورة الكردية إثر مرض ألم بها في عام 1847 بالسليمانية (كردستان العراق )، ودُفنت في مقبرة “كردي سةيوان”، إلى جانب الكثير من المشاهير والمثقفين الكرد.
2- غدام خير قلافند (الأميرة قدم خير)
ولدت الأميرة قدم خير قلافند عام 1899م في مقاطعة الفار غرمسيري من أنديمشك، وتنحدر بأصولها من قبيلة قلاواند، و تعتبر من مشاهير نساء الكورد، فهي البطلة والقائدة الثائرة الكوردية الصلدة، وهي الفارسة المقدامة الشجاعة الهمامة، وكان أملها أن تتحرر كوردستان من المحتلين العنصريين، ولم تخشَ التضحية والفداء والجود بالنفس من أجل هذا الهدف المقدس، فما عادت تطيق الظلم والجور والاضطهاد الذي تعرّض له الكورد على يد شاه إيران رضا بهلوي، وجسدت المثل الكوردى الذي يقول “عش قليلاً ولكن عش عظيماً” فكانت تفضل ذلك على حياة الأسر والعبودية، وحملت سلاح (الكوردايتي) والرجولة و قامت بإعلان الانتفاضة والثورة في منطقة لورستان، وقد تزامنت هذه الثورة مع ثورة القائد الكبير سمكو الشكاك (إسماعيل خان الشكاك)، وثورة الأذريين في إيران.
وبالمقارنة مع القائدة الثورية الفرنسية (جاندارك) ضد الإنكليز الذين احتلوا بلادها، نجد أن قدم خير الكورد أشجع منها، ولكن الاثنتين قضتا غدراً.
الأميرة (قدم خير) ابنة الأمير (قند القلاوندي)، الذي كان أحد أمراء إمارة لورستان الصغرى، من قبيلة لورية فيلية، معروفة بالبطولة والشجاعة وحب وعشق الكورد وكوردستان. وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولدت قدم خير (المؤسف أنه ليس هناك مصدر يشير إلى سنة ولادتها وموتها).
كانت غدام خير فتاة جميلة وناضجة وشجاعة ممشوقة القوام ذكية وواعية وذات فكر لماع، وفارسة شجاعة، وصارت مادة للعديد من الأشعار والأغاني خصوصاً باللهجة الفيلية، التي بقي صداها حتى يومنا هذا على لسان الكورد الفيليين، والتي تتحدث عن شجاعتها وبطولتها وثوريتها.
قضت فترة مراهقتها في ظروف قبلية وبدوية مع إخوتها، وفي صراعات بين القبائل وكذلك صراعات قبلية مع الحكومات في ذلك الوقت.
قام الشاه رضا البهلوي بقتل شامراد خان، آخر أمراء إمارة لورستان الصغرى غدراً وذلك عام 1925، وهو شقيق قدم خير، وهذا الأمر أثار غضبها الشديد على الشاه، ودفعها ذلك أن قطعت على نفسها عهداً ألاّ تقبل بالظلم والاضطهاد، وألاّ تدع بلادها لقمة سائغة يقوم الشاه بالتهامها.
وخلال فترة قصيرة تمكنت تجهيز جيش من الكورد الفيليين، وأعلنت الانتفاضة والثورة وقادتها بنفسها، وأرادت أن تعلن استقلال لورستان، وجعلت من جبال لورستان الحصينة معقلاً للثورة، وهاجمت أكثر من مرة قوات الشاه من عدة جهات وألحقت بها خسائر كبيرة، وغنمت الكثير من الأسلحة والعتاد، وبسبب ذلك كانت محاولة الشاه أن يخدع العشائر الكوردية بإغرائها بالمال والمناصب، ويجعل منها جحوشاً مرتزقة لمواجهة الثورة، لكن موقف العشائر جاء بخلاف ما كان الشاه يتمنى، ولم تقبل أن تلطخ أيديها بدماء بني جلدتها، فقامت قوات الشاه بهجمات أخرى ضد الثورة ولكنها قوبلت بالإرادة التي لا تقهر من جانب الثوار، حيث أوقعت بهم أفدح الخسائر، واستطاعوا في مدة وجيزة تطهير كامل مناطق لورستان من جيش الاحتلال.
وعلى أثر ذلك أرسلت الأميرة قدم خير وفداً إلى الشيخ محمود الحفيد يحمل له رسالة شرحت فيها المظالم التي وقعت وما تزال تقع عليهم، وكيف أن الشاه رضا البهلوي قتل أخاها الأكبر الأمير شاه مراد خان غدراً، وطلبت من الشيخ الحفيد توحيد جيشيهما وتشكيل قوة واحدة لمواجهة المحتلين في شرق وجنوب كوردستان، وكتبت له أيضاً أنها على استعداد أن تكون بإمرته، هي وجميع الثوار مع كامل أسلحتهم وعتادهم، بما فيها مؤونة قتال تكفي لسنتين كاملتين، لكن الشيخ لم يصغِ لطلبها، ويقال بأنه خشي إن اتفق معها فسيبتعد عنه فرسانه لاعتقاده بأنهم سيسيئون فهمه، ويظنون أن الشيخ إنما يفعل ذلك طمعاً في ثروة وجاه أميرة غنية.
وبعد أن تكبدت قوات الشاه هزائم عديدة، لجأ إلى التحايل و الكذب، فأرسل وفداً إلى الأميرة قدم خير مع مجموعة من الهدايا القيمة، ووعدها من أن يقوم بإصلاحات وعمليات إعمار في لورستان، وأن يرفع المستوى المعيشي لسكانها، وأعلن عفواً عاماً عن جميع الذين رفعوا السلاح ضده، وطلب يد قدم خير للزواج، فغضبت قدم خير من الوفد وأمرتهم أن يحملوا كل ما جلبوه من هدايا، وأن ينقلوا للشاه نص كلامها الآتي:”أنا لست امرأة لأتزوج، إنما أنت امرأة”.
لقد كانت قدم خير على علم بنوايا وأهداف الشاه الخبيثة، ولكن وللأسف صدّق عدد من الثوار العفو الذي أصدره الشاه، فسلموا أنفسهم مع أسلحتهم للشاه، الأمر الذي أضر كثيراً بالثورة.
وحين علم الشاه بموقف الأميرة قدم خير استشاط غضباً وتوتراً، وجهّز جيشاً جراراً مزوّداً بأقوى الأسلحة وتوجّهَ به نحو لورستان، ولم يدع هذا الجيش أمراً شائناً إلا وفعله، فقام بقتل المئات من الأطفال والنساء والكهول الأبرياء، وخرب ودمّر عشرات القرى وأحرقها، وسلب ونهب ماكانت تحتويه البيوت، ولكن ورغم كل هذا لم يستطع أن يحتل جبال لورستان.. فقام الثوار بتنظيم صفوفهم في الجانب الجنوبي من منطقة كَرميان، وعبروا تارة أخرى إلى لورستان، وهاجموا جيش الشاه من عدة جوانب وألحقوا به أنكر الهزائم والخسائر والأضرار.
وحينما أدرك الشاه أنه من المحال أن يسيطر على المنطقة بقوة الجيش والسلاح وينهي ثورة قدم خير، لجأ مرة أخرى للمكر والخديعة والأيمان الكاذبة والوعود العسلية، في مؤامرة أكبر من سابقتها، وعلى الرغم من أنها لم تكن المرة الأولى التي يقوم الأعداء بخداع الكورد عبر التستر بستار الدين الإسلامي، فقد أرسل الشاه الغادر وفداً آخر إلى قدم خير محملاً إياها رسالة أخرى مع نسخة من القرآن الكريم، دوّن على جلدها الأول توقيعه مع طبعة يده، حتى يصدقوا بأنه مسلم يخشى الله، وقد وضع يده على هذا القرآن دلالة على حسن نيته، وجاعلاً القرآن شاهداً على ذلك، وكتب لهم عفواً عاماً بلا قيد أو شرط، وأن يعود كل مسلح لداره وعياله، واعداً أن يعمّر لورستان أفضل من السابق.
وعندما وقعت أعينهم على القرآن الكريم صدّق أغلب الثوار وعود الشاه وانطلت حيلته عليهم، فسلموا أنفسهم بأسلحتهم لجيش الشاه، عدا قدم خير وعدد قليل من الأشخاص الذين أدركوا، فلا حيلة لديهم وليس بمقدورهم فعل شيء أمام جيش الشاه، فسلموا أنفسهم أيضاً، وإن كانوا غير مطمئنين للعفو الذي أصدره الشاه، فقام جيش الشاه الغادر في أول ليلة بقتل معظم الثوار واعتقل الأميرة قدم خير و17 من قادة الثورة وأرسلهم إلى طهران، وبعد وصولهم بيوم واحد أعدموا جميعاً. ويروي البعض، وفي فعل مشين وغادر أنهم قاموا بربط ضفائر قدم خير لذيل بغل، فتحطم جسمها وتقاطرت دماؤها ومن ثَم رموها في زنزانة.
توفيت قدم خير في عام 1933 م، بعد أربع سنوات من وفاة إخوتها وزوجها في سوزا، ودفنت في مقبرة بجوار الجسر القديم فيها دزفول، حزينة على فقدان إخوتها.
الخاتمة
إن الحديث عن النساء الكرديات عبر التاريخ، وخاصة تلكم اللواتي خلّدن أسماءهن في صفحات التاريخ بفضل إنجازاتهن وأعمالهن وتضحياتهن، لحديث متواصل ومستمر، ففي كلّ زاوية يجري الحديث عن امرأة أثبتت أنّها قادرة على كتابة التاريخ وصنع الحاضر والمستقبل، وترك بصمة وأثر يدوم أجيالاً متعاقبة.
إن واقع الشعب الكردي، حتَّم على المرأة الكردية بعض الخصال وأكسبها هوية نضالية، لتغدو خصلة متجذرة ومتوارثة، ولتميزها أيضا عن باقي نساء الشعوب الأخرى، الأمر الذي دفع بها لتلعب أدواراً هامة وقيادية في كافة ميادين الحياة، وعلى رأسها تسلحها بسلاح المقاومة الفكرية من خلال التبّحر في العلم، وتوظيفه لأجل إيصال آلام شعبها للعالم أجمع.
المراجع
1- التاريخ الجغرافي والاجتماعي لرستان، حميد إزبانة، طهران، جمعية الأعمال الثقافية والتكريم، 1997
2- كتاب لورستان، جهد سيد فريد قاسمي، طهران، الهروفيه، 1999
3- مقالة، أيقونة الأدب الكردي… مستورة أردلاني (كردستاني) – ثناء حاجي، أبريل 2019.
4- كتاب مجمع الفصحاء، رضا قلي خان هدايت، مقال رضا شوان، ترجمة: ماجد السوره ميري.